باب صَلاة التَّطوُّع
قوله: «صَلاة التَّطُّوع» مِنْ باب إِضافةِ الشَّيء إلى نوعه؛
لأَنَّ الصَّلاةَ جِنسٌ ذو أنواع، فصلاةُ التَّطوُّع، أي: الصلاة
التي تكون تطوُّعاً؛ أي: نافلة.
والتَّطوُّعُ: يُطلق على فِعْلِ الطَّاعة مطلقاً، فيشمل حتى
الواجب، قال الله تعالى: {{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ *}} [البقرة] مع أَنَّ
الطَّوافَ بهما رُكنٌ من أركان الحَجِّ والعُمْرة.
ويُطلق على المعنى الخاص في اصطلاح الفقهاء، فيُراد به كُلُّ طاعةٍ
ليست بواجبة. ومِنْ حِكمةِ الله عزّ وجل ورحمتِهِ بعبادِه أَنْ
شَرَعَ لكلِّ فَرْضٍ تطوُّعاً من جنسه؛ ليزداد المؤمن إيماناً بفعل
هذا التَّطوُّع، ولتكمُلَ به الفرائض يوم القيامة، فإنَّ الفرائضَ
يعتريها النَّقصُ، فتكمُلُ بهذه التَّطوُّعاتِ التي مِنْ جنسها،
فالوُضُوء: واجبٌ وتطوُّعٌ، والصَّلاةُ: واجبٌ وتطوُّعٌ،
والصَّدقة: واجبٌ وتطوُّعٌ، والصيام: واجبٌ وتطوُّعٌ، والحَجُّ:
واجبٌ وتطوُّعٌ، والجهاد: واجبٌ وتطوُّعٌ، والعِلْمُ: واجبٌ
وتطوُّعٌ، وهكذا.
وصلاة التَّطوُّع أنواع:
منها ما يُشرع له الجماعةُ، ومنها ما لا يشرعُ له الجَماعةُ.
ومنها ما هو تابعٌ للفرائض، ومنها ما ليس بتابعٍ.
ومنها ما هو مُؤقَّتٌ، ومنها ما ليس بمُؤقَّتٍ.
ومنها ما هو مُقيَّدٌ بسبب، ومنها ما ليس مقيَّداً بسبب.
وكلُّها يُطلق عليها: صلاةُ تَطوُّعٍ.
وآكدُ ما يُتطوَّعُ به من العبادات البَدنية: الجِهَاد.
وقيل: العِلْم.
والصَّحيح: أنه يختلف باختلاف الفاعل؛ وباختلاف الزَّمن، فقد نقول
لشَخصٍ: الأفضلُ في حَقِّك الجِهادُ، والآخرُ: الأفضلُ في حَقِّكِ
العِلْم، فإذا كان شُجاعاً قويًّا نشيطاً؛ وليس بذاك الذَّكيِّ؛
فالأفضلُ له الجِهاد؛ لأنه أَليقُ به. وإذا كان ذكيًّا حافظاً
قويَّ الحُجَّة؛ فالأفضلُ له العِلْم، وهذا باعتبار الفاعل.
وأما باعتبار الزَّمن؛ فإننا إذا كُنَّا في زمن تَفَشَّى فيه
الجهلُ والبِدعُ، وكَثُرَ مَنْ يُفتي بلا عِلم؛ فالعِلمُ أفضلُ من
الجهاد، وإنْ كُنَّا في زمن كَثُرَ فيه العُلماءُ؛ واحتاجتِ
الثُّغور إلى مرابطين يدافعون عن البلاد الإسلامية؛ فهنا الأفضل
الجهاد. فإنْ لم يكن مرجِّحٌ، لا لهذا ولا لهذا؛ فالأفضلُ العِلم.
قال الإمام أحمد : العِلمُ لا يَعْدِلُهُ شيء لِمَنْ صَحَّت
نيَّتُهُ. قالوا: كيف تصحُّ النيَّةُ؟ قال: ينوي بتواضع، وينفي عنه
الجهل. وهذا صحيح؛ لأنَّ مَبْنَى الشَّرعِ كُلِّه على العِلم، حتى
الجهاد مَبْنَاهُ على العِلم، ويدلُّ لهذا قوله تعالى: {{وَمَا
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}} [التوبة:
122] فَنَفَى الله أَنْ يَنْفِر المسلمون كلُّهم إلى الجهاد، ولكن
يَنْفِرَ طائفةٌ ويبقى طائفةٌ لتتعلَّم؛ حتى إذا رجع قومُهم إليهم
أخبروهم بما عندهم من الشَّرع، ولكن يجب في الجهاد وفي العِلم
تصحيحُ النِّيَّةِ؛ وإخلاصُها لله عزّ وجل، وهو شرطٌ شديدٌ؛ أعني:
إخلاصَ النِّيَّة، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: شَرْطُ
النِّيَّةِ شَديد؛ لكنه حُبِّبَ إليَّ فجمعتُه.
آكَدُهَا كُسُوفٌ ..........
قوله: «آكدها كسوف» أي: أن آكدَ صلاة التَّطوُّع صلاةُ الكسوف؛
لأَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ بها[(1)]، وخَرَجَ
إليها فَزِعاً[(2)]، وصَلَّى صلاةً غريبةً، وعُرِضت عليه في
صلاتِهِ هذه الجنَّةُ والنَّارُ[(3)]، وخَطَب بعدها خُطبةً بليغةً
عظيمةً[(4)]، وشَرعَ لها الجماعةَ، فأَمَرَ مناديًا أن يُنادي
«الصلاةُ جامعةً»[(5)] ، فهي آكدُ صَلاةِ التطوُّع.
وفُهِمَ من كلام المؤلِّف : أَنَّ صلاة الكُسُوفِ نافلةٌ من باب
التطوُّعِ، وفيها خِلاف بين أهل العلم.
والصحيح : أَنَّ صلاة الكُسُوف فرضٌ واجب، إِمَّا على الأعيان؛
وإِمَّا على الكفاية، وأَنَّه لا يمكن للمسلمين أن يَرَوا إنذارَ
الله بكسُوف الشمسِ والقمرِ، ثم يَدَعوا الصَّلاةَ؛ مع أنَّ
الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ بها، وأَمَرَ بالصدقة
والتكبير والاستغفار والعتق والفزع إلى الصلاة، وحصل منه شيءٌ لم
يكن مألوفاً مِنْ قبلُ، فكيف تقترنُ بها هذه الأحوالُ مع الأمر بها،
ثم نقول: هي سُنةٌ؛ لو تركها المسلمون لم يأثموا. فأقلُّ ما نقول
فيها: إنها فرضُ كفاية.
ثُمَّ اسْتِسْقَاءٌ، ........
قوله: «ثم استسقاء» . يعني: أنَّ صلاة الاستسقاء تلي صلاةَ الكسوفِ
في الآكدية، وعَلَّل الأصحاب ذلك بأنها تُشرع لها صلاةُ الجماعة،
فجعلوا مناطَ الأفضلية الاجتماعَ على الصَّلاة، فما شُرع له
الاجتماعُ فهو أفضلُ مما لم يُشرع له الاجتماعُ، فالاستسقاء عندهم
أفضل من الوِتر مثلاً؛ لأن صلاة الاستسقاء تُشرع لها الجماعةُ
بخلاف الوِتر، وما شُرعت له الجماعةُ فهو آكد من غيره.
ولكن؛ في هذا نَظَرٌ.
والصواب : أَنَّ الوِترَ أوكدُ مِن الاستسقاء؛ لأن الوِترَ داومَ
عليه النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وأَمَرَ به فقال: «اجْعَلُوا
آخِرَ صَلاتِكُمْ باللَّيلِ وِتْراً» [(6)] وقال: «إِذا خَشِيَ
أحدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى ركعةً واحدةً، تُوتِرُ له ما قد صَلَّى»
[(7)] وقال: «يا أهلَ القُرآن، أوتِرُوا...» [(8)].
وأما صلاةُ الاستسقاء؛ فإنه لم يَرِدِ الأمرُ بها، ولكنها ثَبتتْ
مِنْ فِعْل الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن يقتصرُ في
الاستسقاء على الصَّلاة، فقد كان يستسقي بالدُّعاء في خُطبةِ
الجُمُعةِ وفي غيرها.
والاستسقاء هو : أَنَّ النَّاسَ إذا أجدبتِ الأرضُ، وقَحِطَ
المطرُ، وتضرَّروا بذلك؛ خرجوا إلى مُصَلَّى العيدِ؛ فصَلُّوا
كصلاة العيدِ، ثم دعوا الله عزّ وجل. وستأتي مفصَّلة في بابٍ
مستقلٍّ إن شاء الله.
ثُمَّ تَراوِيْح، ثُمَّ وِترٌ .........
قوله: «ثم تراويح، ثم وتر» أي: أَنَّ التراويحَ تلي الاستسقاءَ في
الآكدية، فهي في المرتبة الثالثة، فقدَّمَ التراويحَ على الوِتر
بناءً على أنَّ مَنَاطَ الأفضليَّة هو الجماعة، والتراويحُ تُشرعُ
لها الجماعةُ بفعل الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم، فإنه عليه
الصَّلاة والسَّلام صَلَّى بالناس في رمضان ثلاث ليال، ثم تخلَّفَ
في الثالثة أو في الرابعة، وقال: «إِنِّي خَشيتُ أَن تُفْرَضَ
عليكم» [(9)] فبقيت الأُمَّةُ الإسلاميةُ لا تُقَام فيها صلاةُ
التراويح جماعةً، حتى جمعهم أميرُ المؤمنين عُمرُ بنُ الخطاب على
تَمِيمٍ الدَّاريِّ وأُبيِّ بنِ كعب[(10)]، فالمؤلِّفُ يرى أن
التراويحَ مقدَّمةٌ على الوِتر.
والصَّحيحُ: أَنَّ الوِترَ مقدَّمٌ عليها، وعلى الاستسقاء؛ لأنَّ
الوِتر أَمَرَ به وداوم عليه النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، حتى
قال بعضُ أهلِ العِلمِ: إنَّ الوِترَ واجبٌ.
وقال بعضُ العُلماء: إنَّهُ واجبٌ على مَنْ له وِرْدٌ مِن اللَّيل.
يعني: على مَنْ يقومُ اللَّيل.
وقال آخرون: إنه سُنَّةٌ مطلقة.
وصلاةٌ هذا شأنها في السُّنَّةِ، وعند أهل العِلم، كيف تُجعل
التراويحُ التي اختُلِفَ في استحباب الجماعة لها أفضلُ منها؟
إذاً؛ فترتيب صَلاة التطوُّع: الكسوف، ثم الوِتر، ثم الاستسقاء، ثم
التراويح، هذا هو القول الراجح؛ لأن الاستسقاء صلاة يقصد بها رَفْع
الضرر، فالناس في حاجة إليها أكثر من التراويح.
والتراويح: هو قيامُ اللَّيلِ في رمضان، وسُمِّيَ تروايحُ؛ لأن
النَّاسَ كانوا يُطيلون القيامَ فيه والرُّكوعَ والسُّجودَ، فإذا
صَلُّوا أربعاً استراحوا، ثم استأنفوا الصَّلاةَ أربعاً، ثم
استراحوا، ثم صَلُّوا ثلاثاً، على حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
«كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لا يزيدُ في رمضانَ ولا غيره
على إحدى عَشْرَة رَكْعةً، يُصلِّي أربعاً؛ فلا تسألْ عن حُسْنهنَّ
وطُولِهنَّ، ثم يُصلِّي أربعاً؛ فلا تسألْ عن حُسْنهنَّ
وطُولِهِنَّ، ثم يُصلِّي ثلاثاً» [(11)]، وهذه الأربع التي كان
يُصلِّيها أولاً؛ ثم ثانياً؛ يُسلِّمُ فيها من ركعتين؛ كما جاء ذلك
مفسَّراً عنها رضي الله عنها قالت: «كان النَّبيُّ صلّى الله عليه
وسلّم يُصَلِّي في الليل إِحدى عَشْرَة رَكْعة، يُسلِّمُ من كُلِّ
رَكعتين» [(12)]، وبه نعرف أنَّ القائِلَ بأنّ هذه الإحدى عَشْرة،
تُجمعُ الأربعُ فيها في سَلامٍ واحدٍ، والأربعُ في سَلامٍ واحدٍ لم
يُصِبْ، ولعلَّه لم يَطَّلعْ على الحديث الذي صَرَّحتْ فيه بأنَّه
يُسلِّمُ من كُلِّ رَكعتينِ.
وعلى فَرَضِ أَنَّ عائشةَ لم تُفصِّلْ؛ فإنَّ قولَ الرَّسول صلّى
الله عليه وسلّم: «صلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى» [(13)] يَحْكم
على هذه الأربع بأنَّهُ يُسلَّم فيها مِن كُلِّ رَكعتين؛ لأنَّ
فِعْلَ الرَّسولِ المُجْمَلَ يفسِّرُه قولُهُ المفصَّلُ.
أما الوِتر؛ فإنَّه سيأتينا ـ إنْ شاء الله ـ أَنَّ أقلَّهُ
رَكْعة، وأكثره إحدى عَشْرة رَكعة، ويأتي بيان صِفته أيضاً.
والوِترُ سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ، وهو ـ عند القائلين بأنه سُنَّةٌ ـ مِن
السُّنَنِ المؤكَّدةِ جداً، حتى إنَّ الإمامَ أحمدَ رحمه الله قال:
«مَنْ تَرَكَ الوِترَ فهو رَجُلُ سُوءٍ لا ينبغي أن تُقبل له
شَهادة» ـ فَوَصَفَه بأنه رَجُلُ سُوءٍ، وحَكَم عليه بأنه غيرُ
مَقبول الشَّهادة، وهذا يدلُّ على تأكُّدِ صَلاة الوِتْرِ.
يُفْعَلُ بَيْنَ العِشَاءِ وَالفَجْرِ، .........
قوله: «يفعل بين صلاة العشاء والفجر» ، هذا وقته بين صلاة العشاء
والفجر، وسواء صَلَّى العشاء في وقتها، أو صلاها مجموعة إلى المغرب
تقديماً، فإن وقت الوِتر يدخل من حين أن يصلي العشاء لما يُروى عن
النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إنَّ اللهَ أَمَدَّكُم بصلاةٍ
هيَ خيرٌ لكم مِنْ حُمْرِ النَّـعَـمِ، صلاة الوِتْرِ، ما بين
صلاةِ العِشَاء إلى أَنْ يَطْلُع الفَجْرُ» [(14)]. والسُّنة
الصحيحة تشهد له، ولأن صلاة الوِتر تُختم بها صلاة الليل، وإذا
انتهت صلاة العشاء فقد انتهت صلاة الليل المفروضة، ولم يبق إلا
صلاة التطوع، فللإنسان أن يوتر من بعد صلاة العشاء مباشرة، ولو
كانت مجموعة إلى المغرب تقديماً.
قوله: «والفجر» يعني: طلوع الفجر؛ لقول رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: «فإذا خَشِيَ أحدُكُم الصُّبْحَ صَلَّى واحدةً، تُوتِرُ له
ما قد صَلَّى» [(15)] فإذا طَلَعَ الفجرُ فلا وِتْرَ، وأما ما
يُروى عن بعضِ السَّلفِ؛ أَنَّه كان يُوتِرُ بين أذانِ الفَجرِ،
وإقامةِ الفَجرِ[(16)] فإنَّه عَمَلٌ مُخالفٌ لما تقتضيه
السُّنَّة، ولا حُجَّةَ في قولِ أحدٍ بعد رسولِ الله صلّى الله
عليه وسلّم.
فالوِتْرُ ينتهي بطُلوعِ الفَجرِ، فإذا طَلَعَ الفجرُ وأنت لم
تُوتِرْ؛ فلا تُوتِر، لكن ماذا تصنعُ؟
الجواب : تُصلِّي في الضُّحى وِتراً مشفوعاً بركعة، فإذا كان مِن
عادتك أن توتر بثلاث صلَّيتَ أربعاً، وإذا كان مِن عادتك أن توتر
بخمس فصل ستاً؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم «كان إذا غَلَبَهُ نومٌ أَو وَجَعٌ عن قيامِ اللَّيلِ؛
صَلَّى من النَّهارِ ثِنْتَي عَشْرَةَ رَكْعةً» [(17)].
ولم يتكلم المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ هل الأفضل تقديمه في أول الوقت
أو تأخيره؟ ولكن دلَّت السُّنَّةُ على أن مَنْ طَمِعَ أن يقوم من
آخر الليل فالأفضل تأخيره؛ لأن صلاة آخر الليل أفضل وهي مشهودةً،
ومن خاف أن لا يقوم أوتر قبل أن ينام.
وَأَقَلُّهُ رَكْعَةٌ، وَأَكْثَرُهُ إِحْدَى عَشرَة
رَكْعَةً،..........
قوله: «وأقله ركعة» يعني: أقل الوتر ركعة؛ لقول النبي صلّى الله
عليه وسلّم: «الوِتْرُ رَكْعَةٌ من آخرِ اللَّيلِ» أخرجه
مسلم[(18)]، وقوله : «صَلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى، فإِذا
خَشِيَ أحدُكُم الصُّبْحَ صَلَّى ركعةً واحدةً تُوتِرُ له ما قد
صَلَّى» وهو في «الصحيحين»[(19)] فقوله: «صَلَّى ركعةً واحدةً»
يدلُّ على أن أقل الوتر ركعة واحدة، فإذا اقتصر الإنسان عليها فقد
أتى بالسُّنَّةِ.
مَثْنَى، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ أَوْ
سَبْعٍ لَمْ يَجْلِسْ إِلاَّ فِي آخِرِهَا، وَبِتِسْعٍ يَجْلِسُ
عَقِبَ الثَّامِنَةِ فَيَتَشَهَّدُ وَلاَ يُسَلِّم، ثُمَّ يُصَلِّي
التَّاسِعَةَ، وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ........
قوله: «مثنى مثنى» أي: يصليها اثنتين اثنتين.
قوله: «ويوتر بواحدة، وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها،
وبتسع يجلس عقب الثامنة فيتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد
ويسلم» لقول عائشة: «كان رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم
يُصَلِّي باللَّيلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكعةً، يُوتِرُ منها
بواحدةٍ» وفي لفظ: «يُسلِّمُ بين كُلِّ رَكعتين، ويوتِرُ
بواحدةٍ»[(20)].
فيجوزُ الوِترُ بثلاثٍ، ويجوزُ بخمسٍ، ويجوزُ بسبعٍ، ويجوزُ بتسعٍ،
فإنْ أوترَ بثلاثٍ فله صِفتان كِلتاهُما مشروعة:
الصفة الأولى : أنْ يَسْرُدَ الثَّلاثَ بِتَشهدٍ واحدٍ[(21)].
الصفة الثانية : أنْ يُسلِّمَ مِن رَكعتين، ثم يُوتِرَ
بواحدة[(22)].
كلُّ هذا جَاءت به السُّنةُ، فإذا فَعَلَ هذا مرَّةً، وهذا مرَّةً
فَحَسَنٌ.
أمَّا إذا أوتَرَ بخمسٍ؛ فإنَّه لا يَتَشَهَّدُ إلا مرَّةً واحدةً
في آخرها ويُسلِّمُ[(23)].
وإذا أوتَرَ بسبعٍ[(24)]؛ فكذلك لا يَتَشَهَّدُ إلا مرَّةً واحدةً
في آخرها[(25)]. وإن تَشَهَّدَ في السَّادسة بدون سلام ثم صَلَّى
السَّابعةَ وسَلَّمَ فلا بأس[(26)].
وإذا أوترَ بتسعٍ؛ تَشهَّدَ مرَّتينِ، مرَّةً في الثَّامنةِ، ثم
يقومُ ولا يُسلِّمُ، ومرَّةً في التاسعة يتشهَّدُ ويُسلِّمُ[(27)].
وإنْ أوترَ بإحدى عَشْرَة، فإنه ليس له إلا صِفةٌ واحدةٌ؛ يُسلِّمُ
من كُلِّ ركعتين، ويُوترُ منها بواحدة[(28)].
وَأَدْنَى الكَمَالِ ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ بِسَلاَميْنِ يَقْرَأُ فِي
الأُولى «سَبِّح»، وَفِي الثَّانِيَةِ «الكَافِرُونَ»، وَفِي
الثَّالِثَةِ «الإِخْلاَصِ» ...........
قوله: «وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين» أي: أدنى الكمال في
الوِتْرِ أنْ يُصلِّيَ ركعتين ويُسَلِّمَ، ثم يأتي بواحدة
ويُسلِّمَ[(29)].
ويجوز أن يجعلها بسلام واحدٍ، لكن بتشهُّدٍ واحدٍ لا بتشهُّدين؛
لأنه لو جعلها بتشهُّدين لأشبهت صلاةَ المغربِ، وقد نهى النبيُّ
صلّى الله عليه وسلّم أن تُشَبَّهَ بصلاةِ المغربِ[(30)].
قوله: «يقرَأُ في الأُولى «سَبِّح»، وفي الثَّانيةِ «الكافرون» وفي
الثالثة «الإخلاص» أي: يقرأ في الرَّكعة الأُولى مِنَ الثَّلاث
سورةَ «سَبِّحِ اسمَ ربك الأعلى» كاملة، وفي الثانية «الكافرون»؛
وفي الثالثة «الإخلاص»[(31)].
وذلك بعد الفاتحة، ولم يذكره المؤلّفُ لأنَّه معلومٌ، فلا صلاة لمن
لم يقرأ بفاتحةِ الكتابِ.
وقوله: «الكافرون» بالواو على وَجْهِ الحِكاية؛ لأن لفظ «الكافرين»
نفسِهِ لا يُقرأ، ولا يُمكن أنْ يُسَلَّطَ الفعلُ عليه. إذن؛
يُسلَّطُ الفعلُ على اسمِ هذه السُّورةِ، وهذه السُّورةُ تُسمَّى:
سورةُ «الكافرون» على الحِكاية.
وقوله: «وفي الثالثة الإخلاص» وهي: «قل هو الله أحد» وسُمِّيتْ
بالإخلاصِ؛ لأنَّ اللهَ أخلَصَها لنفسِه، ليس فيها شيءٌ إلا
التحدُّث عن صفات الله، ولأنها تُخلِّصُ قارِئَها من الشِّرك
والتَّعطيل؛ لأن الإقرارَ بها يُنافي الشِّركَ والتعطيل.
وَيَقْنُتُ فِيْهَا بَعْدَ الرُّكُوعِ .........
قوله: «ويقنت فيها» أي: في الثالثة.
والقُنُوتُ يُطلق على معانٍ منها:
1 ـ الخُشوعُ، كما في قوله تعالى: {{وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ}} [البقرة: 238] وكما في قوله: {{وَصَدَّقَتْ
بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}}
[التحريم: 12] .
2 ـ الدُّعاءُ، كما هنا «يَقْنُتُ فيها بعد الرُّكوع» .
قوله: «بَعْدَ الرُّكُوعِ» أي: بعدَ الرُّكوعِ في الثَّالثةِ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ : أنَّه يدعو بعد أن يقول: «رَبَّنَا ولك
الحَمْدُ» بدون أنْ يُكمل التَّحميدَ، ولكن لو كَمَّلهُ فلا
حَرَجَ؛ لأن التَّحميدَ مفتاحُ الدُّعاءِ، فإنَّ الحَمْدَ
والثَّناءَ على الله؛ والصَّلاةَ على نبيِّهِ صلّى الله عليه وسلّم
من أسباب إجابةِ الدُّعاءِ.
وظاهر كلامه : أنَّه لا يَرفعُ يديه، وهو أحدُ قولي العُلماء، ولكن
قد يُقال: إنَّ الكتابَ مُختصرٌ، وتَرَكَ ذِكْرَ رَفْعِ اليدين
اختصاراً لا اعتباراً. يعني: لم يَتْرُكْ ذِكْرَه اعتباراً بأنها
لا تُرفع، ولكن اقتصاراً على ذِكْرِ الدُّعاءِ فقط.
والصحيح : أنَّه يرفعُ يديه؛ لأن ذلك صَحَّ عن عُمرَ بنِ الخطَّابِ
رضي الله عنه[(32)]. وعُمرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه أحدُ
الخُلفاءِ الرَّاشدين الذين لهم سُنَّةٌ متَّبعةٌ بأمرِ النَّبيِّ
صلّى الله عليه وسلّم[(33)]، فيَرفَعُ يديهِ.
ولكن كيف يَرفعُ يديه؟
الجواب: قال العُلماءُ: يَرفعُ يديه إلى صَدرِهِ، ولا يرفَعُها
كثيراً؛ لأنَّ هذا الدُّعاءَ ليس دُعاءَ ابتهالٍ يُبالِغُ فيه
الإنسانُ بالرَّفْعِ، بل دُعاءُ رَغْبَةٍ، ويبسُطُ يديْهِ
وبطونَهما إلى السَّماءِ. هكذا قال أصحابُنَا رحمهم الله.
وظاهر كلام أهل العلم : أنه يضمُّ اليدين بعضهما إلى بعض، كحالِ
المُستجدي الذي يطلب مِن غيره أن يُعطيه شيئاً، وأمَّا التَّفْريجُ
والمباعدةُ بينهما فلا أعلمُ له أصلاً؛ لا في السُّنَّةِ، ولا في
كلامِ العُلماءِ.
وقوله: «فيها» أي: في الرَّكعةِ الثَّالثةِ بعد الرُّكوعِ، هذا هو
الأفضلُ[(34)]، وإنْ قَنَتَ قبلَه فلا بأس، فإذا أتمَّ القِراءة
قَنَتَ ثم كبَّرَ ورَكَع، فهذا جائزٌ أيضاً.
وقوله: «يقنتُ فيها» أفادنا رحمه الله: أَنَّ القنوتَ سُنَّةٌ في
الوِترِ. وإلى هذا ذهب أصحابُ الإمامِ أحمدَ، وقالوا: إنه يُسَنُّ
أن يَقْنُتَ في الوِترِ في كلِّ ليلةٍ.
وقال بعضُ أهل العلم: لا يقنتُ إلا في رمضان.
وقال آخرون: يَقْنُتُ في رمضان في آخرِه.
ولم يثبت عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم حديثٌ صحيحٌ في
القُنوتِ في الوِتر. لكن؛ فيه حديث أخرجه ابنُ ماجه بسندٍ ضعيف،
حسّنه بعضُهم لشواهده[(35)]: «أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه
وسلّم قَنَتَ في الوِتْرِ» [(36)]. أما الإمام أحمد فقال: إنه لم
يصحَّ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في القُنُوتِ في الوِترِ
قبل الرُّكوع ولا بعده شيءٌ، لكن صَحَّ عن عُمرَ رضي الله عنه أنه
كان يَقْنُتُ[(37)]. والمتأمِّلُ لصلاة النَّبيِّ صلّى الله عليه
وسلّم في الليل يرى أنه لا يقنت في الوِترِ، وإنَّما يُصلِّي ركعةً
يُوتِرُ بها ما صَلَّى. وهذا هو الأحسن؛ أنْ لا تداوم على قُنُوتِ
الوِترِ؛ لأن ذلك لم يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
ولكنه عَلَّمَ الحسنَ بنَ عليّ رضي الله عنه دعاءً يدعو به في
قُنُوتِ الوِتْرِ[(38)]، فيدلُّ على أنَّه سُنَّةٌ، لكن ليس من
فِعْلِهِ؛ بل من قَوْلِهِ، على أنَّ بعض أهل العِلْمِ أعلَّ حديث
الحسن بعِلَّة، وهي أنَّ الحسن حين ماتَ الرسولُ صلّى الله عليه
وسلّم كان له ثمانِ سنوات، ولكن هذه العِلَّة ليست بقادحة؛ لأن
مَنْ له ثمانِ سنوات يمكن أنْ يُعَلَّمَ ويُلَقَّنَ ويَحفظَ، فها
هو عَمرُو بنُ سَلَمَة الجَرْمِي رضي الله عنه كان يؤمُّ قومَهُ
وله سبعُ أو سِتُّ سنين؛ لأنه كان أقرأهم[(39)].
وقوله: «بعد الرُّكُوعِ» ظاهرُ كلامِ المؤلِّف: أنَّه لا يُشرعُ
القُنُوت قبل الرُّكوعِ، ولكن المشهور مِن المذهب: أنَّه يجوزُ
القُنُوتُ قبل الرُّكوعِ وبعد القِراءة؛ فإذا انتهى مِن قراءته
قَنَتَ ثم رَكَعَ، وبعد الرُّكوعِ؛ لأنه وَرَدَ ذلك عن النَّبيِّ
عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في قُنُوتِهِ في الفَرائضِ[(40)].
وعليه؛ فيكون موضعُ القُنُوتِ مِن السُّننِ المتنوِّعةِ؛ التي
يَفعلُها أحياناً هكذا، وأحياناً هكذا.
ويقول: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيتَ،..........
قوله: «اللهم اهدني فيمن هديت» ظاهر كلامه: أنه لا يبدأُ بشيءٍ قبل
هذا الدُّعاءِ، لكن الصَّحيحُ أنَّه يبدأ بقوله: «اللَّهمَّ إِنَّا
نَستعينُكَ، ونَستهديكَ، ونستغِفرُكَ، ونتوبُ إليكَ، ونؤمنُ بك،
ونَتوكَّلُ عليك، ونُثْنِي عليكَ الخيرَ كُلَّه، ونَشْكُرُكَ ولا
نَكْفُرُكَ. اللَّهمَّ إياك نعبدُ، ولك نُصلِّي ونسجدُ، وإِليكَ
نَسعَى ونَحْفِدُ، نَرجو رحمَتَكَ، ونخشى عذابَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ
الجِدَّ بالكُفَّار مُلحِق» [(41)] ثم يقول: «اللَّهمَّ اهدني فيمن
هَدَيتَ» إلخ، هكذا قال الإمامُ أحمدُ رحمه الله؛ لأنه ثناءٌ على
الله، والثناءُ مقدَّمٌ على الدُّعاءِ؛ لأنه فَتْحُ بابِ
الدُّعاءِ.
وقوله: «اللَّهُمَّ» أصلُه: يا اللهُ، لكن حُذِفت ياءُ النِّداءِ،
وعُوِّضَ عنها الميمُ وبقيت «الله»، وإنما حُذفت الياءُ لكثرةِ
الاستعمالِ وعُوِّضَ عنها الميمُ للدّلالةِ عليها، وأُخِّرت
للبَدَاءة باسم الله، وجُعلت ميماً للإشارة إلى جَمْعِ القلب على
هذا الدُّعاءِ؛ لأن الميم تدلُّ على الجَمْعِ.
وقوله: «اهْدِني فِيمَنْ هَدَيتَ» الذي يقول: «اللَّهُمَّ اهْدِني»
هو المنفردُ، أما الإمام فيقول: «اللَّهُمَّ اهْدِنَا» وقد رُوي عن
رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أمَّ قوماً فَخَصَّ نفسَه
بالدُّعاءِ فقد خَانَهم» [(42)] لأنَّه إذا دعا الإمامُ فقال:
«اللَّهُمَّ اهْدِني» والمأمومون يقولون: آمين؛ صار الدُّعاءُ له،
والمأموم ليس له شيء، إلا أنه يؤمِّنُ على دُعاءِ الإمامِ لنفسِهِ،
وهذا نوعُ خِيانةٍ.
وقوله: «اللهم اهْدِني فِيمَنْ هَدَيتَ» أي: في جُمْلة مَنْ هديتَ،
وهذا فيه نوعٌ مِن التوسُّلِ بفِعْلِ الله سبحانه وتعالى، وهو
هدايتُه مَنْ هَدى، فكأنَّك تتوسَّلُ إلى الله الذي هَدى غيرَك أنْ
يهديَكَ في جُملتِهم، كأنَّكَ تقول: كما هَديتَ غيري فَاهْدِني.
والهداية هنا يُرادُ بها: هدايةُ الإرشاد، وهدايةُ التوفيق.
فهدايةُ الإرشادِ: ضِدّها الضَّلالُ.
وهدايةُ التوفيقِ: ضِدُّها الغَيُّ.
فأنت إذا قلتَ: «اللَّهُمَّ اهْدِني» تسألُ الله سبحانه وتعالى
الهِدايتين: هدايةَ الإرشادِ وذلك بالعِلْمِ، وهدايةَ التوفيقِ
وذلك بالعمل؛ لأنه ليس كلُّ مَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وليس كلُّ مَنْ
عَمِلَ يكون عملُه عن عِلْمٍ وتمامٍ، فالتَّوفيقُ أن تعلَمَ
وتعمَلَ.
وَعَافِنِي فِيْمَنْ عَافَيْتَ،..........
قوله: «وعافني فيمن عافيت» أي: في جُملةِ مَنْ عافيتَ، وهذا ـ كما
قلتُ آنفاً ـ مِنَ التَّوسُّلِ إلى الله تعالى بفِعْلِه في غيرِك،
فكأنَّكَ تقول: كما عافيتَ غيري فعافِني. والمعافاة: المُراد بها
المعافاةُ في الدِّين والدُّنيا، فتشملَ الأمرين: أنْ يعافيكَ مِنْ
أسقام الدِّين، وهي أمراضُ القلوب التي مدارُها على الشَّهوات
والشُّبُهاتِ، ويعافيك من أمراضِ الأبدان، وهي اعتلال صِحَّةِ
البَدَنِ.
والإنسانُ مُحتاجٌ إلى هذا وإلى هذا، وحاجتُه إلى المُعافاةِ مِن
مَرَضِ القلبِ أعظمُ مِن حاجتِهِ إلى المُعافاةِ مِن مَرَضِ
البَدَنِ. ولهذا؛ يجبُ علينا أنْ نُلاحِظَ دائماً قلوبَنَا،
وننظُرَ: هل هي مريضةٌ أو صحيحةٌ؟ وهل صَدِئتْ أو هي نظيفةٌ؟ فإذا
كنت تنظِّفُ قلبَكَ دائماً في معاملتِكِ مع الله، وفي معاملتِكِ مع
الخَلْقِ؛ حَصَّلتَ خيراً كثيراً، وإلا؛ فإنَّكَ سوف تَغْفُلُ،
وتَفْقِدُ الصِّلةَ بالله، وحينئذٍ يَصْعُبُ عليكَ التراجعُ.
فحافظْ على أنْ تُفتِّشَ قلبَكَ دائماً، فقد يكون فيه مَرَضُ
شُبْهةٍ أو مَرَضُ شهوةٍ، وكلُّ شيءٍ ولله الحمدُ له دَواءٌ،
فالقرآن دواءٌ للشُّبُهاتِ والشَّهواتِ، فالترغيبُ في الجَنَّةِ
والتحذيرُ مِن النَّارِ دواءُ الشَّهواتِ.
وأيضاً: إذا خِفْتَ أنْ تميلَ إلى الشَّهواتِ في الدُّنيا التي
فيها المُتْعَةُ؛ فتذكَّرْ مُتْعَةَ الآخرة.
ولهذا كان نبيُّنَا صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى ما يعجِبُه مِن
الدُّنيا قال: «لبيَّكَ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرةِ» [(43)]
فيقول: «لبيَّكَ» يعني: إجابةً لك، مِن أجلِ أنْ يكبَحَ جِمَاحَ
النَّفْسِ؛ حتى لا تغترَّ بما شاهدت مِن مُتَعِ الدُّنيا، فَيُقبل
على الله، ثم يوطِّن النَّفسَ ويقول: «إن العَيْشَ عَيْشُ الآخرة»
لا عيشُ الدُّنيا. وصَدَقَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم،
والله؛ إنَّ العيشَ عيشُ الآخِرةِ، فإنه عيشٌ دائمٌ ونعيمٌ لا
تنغيصَ فيه، بخِلافِ عيشِ الدُّنيا فإنه ناقصٌ منغَّصٌ زائِلٌ.
وأما دواءُ القُلوبِ مِن أمراضِ الشُّبُهَاتِ؛ فالقُرآنُ كلُّه
بيانٌ وفُرقانٌ تزولُ به جميعُ الشُّبهاتِ، فكتابُ الله كلُّه
مملوءٌ بالعِلْمِ والبيانِ الذي يزولُ به داءُ الشُّبهاتِ، ومملوءٌ
بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ الذي يَزولُ به داءُ الشَّهواتِ، ولكنَّنا
في غَفْلةٍ عن هذا الكتاب العزيز؛ الذي كلُّه خيرٌ، وكذلك ما في
السُّنَّةِ المطهَّرَةِ الثابتةِ عن رسولِ الله صلّى الله عليه
وسلّم.
أما عافيةُ الأبدانِ، فَطِبُّهَا نوعان:
النوع الأول : طِبٌّ جاءت به الشَّريعةُ، فهو أكملُ الطِّبِّ
وأوثقُهُ؛ لأنه مِن عند الله الذي خَلَقَ الأبدانَ؛ وعَلِمَ
أدواءَها وأدويتَها، والطِّبُّ الذي جاءت به الشريعة ضربان:
الأول : طب مادي، كقول الله تعالى في «النحل»: {{يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ
لِلنَّاسِ}} [النحل: 69] وكقول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في
الحَبَّةِ السَّوداءِ «إنها شفاء من كل داء إلا السام»[(44)] يعني:
الموتَ، وكقوله صلّى الله عليه وسلّم في الكَمْأَةِ: «الكَمْأَةُ
مِنَ المَنِّ وماؤُهَا شِفاءٌ للعَيْنِ» [(45)] وأمثالُ ذلك، وكلُّ
هذا طِبٌّ ماديٌّ قرآنيٌّ ونبويٌّ.
الضرب الثاني : طِبٌّ معنويٌّ رُوحيٌّ: وذلك بالقِراءة على
المَرضى، وهذا قد يكون أقوى وأسرعَ تأثيراً، انظر إلى رُقيَةِ
النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم للمَرضَى، تَجِدُ أنَّ المريضَ
يُشفى في الحَالِ، فإنَّه لما قال في يوم خيبر: «لأُعْطِيَنَّ
الرَّايةَ غداً رَجلاً يَفْتحُ اللهُ على يَدَيْه، يُحِبُّ اللهَ
ورسولَهُ، ويحبُّهُ اللهُ ورسولُهُ» باتَ النَّاسُ تلك الليلة
يخوضون في هذا الرَّجُلِ؟ فلما أصبحوا غَدَوا إلى رسولِ اللهِ صلّى
الله عليه وسلّم كلُّ واحدٍ متشوِّفٍ لها؛ لأنه سوف ينالُ هذا
الوصف، وهو أنَّه «يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُه»
فقال: أين عليُّ بنُ أبي طالب؟ فقالوا: يشتكي عينيه، فدعا به فجيء
به فبصَقَ في عينيه، ودعا له فبَرِىءَ في الحال؛ كأنْ لم يكن به
أثرٌ؛ فأعطاه الرَّايةَ[(46)].
وكذلك أيضاً في قِصَّةِ السَّرِيَّةِ الذين استضافوا قوماً فلم
يُضيِّفُوهم فتنحُّوا ناحيةً، فقدَّرَ اللهُ عزّ وجل أنْ تلدغَ
عقربٌ زعيمَ هؤلاء القومِ الذين أَبَوا أن يضيِّفُوا الصَّحَابة،
فلما لُدِغَ قالوا: مَنْ يرقي؟ قال بعضُهم لبعضٍ: انظروا الجماعةَ
ـ الذين نزلوا عليكم ضيوفاً، ولم تضيِّفوهم ـ لعلَّ فيهم قارئاً،
فذهبوا إليهم، فقالوا: نعم؛ فينا مَنْ يقرأُ، لكن لقد استضفناكم
فلم تضيِّفُونا؛ فما نقرأُ عليكم إلا بجُعْلٍ، فجعلوا لهم قطيعاً
مِنَ الغَنَمِ، فذهب أحدُهم يَتْفُلُ؛ ويقرأ على هذا اللَّديغِ
سورةَ الفاتحة فقط يكرِّرُها، فقامَ اللَّديغُ الذي لدغته عقربٌ
كأنما نَشِطَ من عِقَالٍ، فلما غدوا إلى رسُولِ الله صلّى الله
عليه وسلّم وأخبروه فقال للقارئ: «وما يُدْرِيكَ أَنَّها رُقيةٌ»
[(47)]. وهذا طِبٌّ نبويٌّ، لكنَّه معنويٌّ بالقِراءة، وما أكثرُ
الذين نشاهدهم ونسمعُ بهم يُؤثِّرونَ تأثيراً بالغاً في المرضى،
أشدَّ من تأثير الطِّبِّ الماديِّ الذي يُدركُ بالتَّجاربِ.
النوع الثاني : طِبٌّ ماديٌّ يُعرفُ بالتَّجاربِ، وهو ما يكون على
أيدي الأطبَّاءِ، سواء درسوا في المدارس الرَّاقيةِ وعرفوا، أو
أخذوه بالتَّجارب، لأنه يوجد أُناسٌ من عامَّة النَّاس يُجْرُون
تَجَارِبَ على بعض الأعشاب، ويحصُل منها فائدةٌ، ويكونون بذلك
أطبَّاءَ بدون دراسة؛ لأن هذا يُدرك بالتَّجَاربِ.
وَتَوَلَّنِي فِيمَن تَوَلَّيتَ ...........
قوله: «وتولني فيمن توليت» هل هي من «الوَلي» بفتح الواو، وسكون
اللام مخفَّفة، بمعنى القُرب. أو هي من التَّولِّي بمعنى الولاية
والنُّصرة. أو هي منهما جميعاً؟
الجواب : هي منهما جميعاً، فعلى المعنى الأوَّل: اجعلني قريباً
منك، كما يُقال: وليَ فلانٌ فلاناً، وقال النَّبيُّ عليه الصَّلاة
والسَّلام: «ليلنِي منكم أُولُو الأحْلامِ والنُّهَى» [(48)] أي:
مِنَ الوَلْي، وهو القُرْبُ.
وعلَى المعنى الثاني: اعْتَنِ بي فكن لي وَلِيًّا وناصراً ومعيناً
لي في أموري، فيشمَل الأمرين، وإنْ كان المُتبادر إلى الذِّهن أنه
مِنَ الموالاة وهي النُّصرةِ.
والمراد بالولاية هنا الولاية الخاصَّة؛ لأنَّ الولايةَ العامَّةَ
شاملةٌ لكلِّ أحدٍ مؤمنٍ وكافرٍ؛ بَرٍّ وفاجرٍ، فكلُّ أحدٍ فاللهُ
تعالى مولاه، قال الله تعالى: {{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ
مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ
الْحَاسِبِينَ *}} [الأنعام] فقوله: {{رُدُّوا إِلَى اللَّهِ
مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ}} يشمَلُ كلَّ مَنْ ماتَ مِن مؤمنٍ وكافرٍ،
وبَرٍّ وفاجرٍ، وهذه هي الوِلاية العامَّة؛ لأن الله يتولَّى شؤون
جميع الخَلْقِ.
أما الوِلاية الخاصَّة فهي المذكورة في قوله تعالى: {{اللَّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}} [البقرة: 257] وفي قوله: {{أَلاَ
إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *}} [يونس]
والسَّائل الذي قال: «تولَّني فِيمَنْ تولَّيتَ» يريد الولاية
الخاصَّة.
وَبَارِكْ لِي فِيْمَا أَعْطَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيْمَنْ
تَوَلَّيْتَ،.............
قوله: «وبارك لي فيما أعطيت» أي: أنزل البركةَ لي فيما أعطيتني
مِنَ المال، والعِلْمِ، والجاه، والولد، ومِنْ كُلِّ ما أعطيتني
{{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}} [النحل: 53] إذاً؛
باركْ لي في جميع ما أنعمتَ به عليَّ، وإذا أنزل اللهُ البركةَ
لشخص فيما أعطاه صار القليلُ منه كثيراً، وإذا نُزعت البركةُ صار
الكثيرُ قليلاً، وكم مِن إنسانٍ يجعلُ اللهُ على يديه مِنَ الخير
في أيامٍ قليلة ما لا يجعلُ على يدِ غيرِه في أيَّام كثيرةٍ؟، وكم
مِن إنسانٍ يكون المالُ عنده قليلاً لكنه متنعِّمٌ في بيته، قد
بارك اللهُ له في مالِهِ، ولا تكون البركةُ عند شخصٍ آخرَ أكثرَ
منه مالاً؟ وأحياناً تُحِسُّ بأن الله باركَ لك في هذا الشيء بحيث
يبقى عندك مُدَّةً طويلةً.
وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ ........
قوله: «وقِنِي شَرَّ ما قضيتَ» ما قَضَاهُ الله عزّ وجل قد يكون
خيراً، وقد يكون شرًّا، فما كان يُلائمُ الإنسانَ وفِطرتَه فإن ذلك
خير، وما كان لا يُلائِمه فذلك شرٌّ، فالصِّحَّةُ والقوةُ
والعِلْمُ والمالُ والولدُ الصَّالحُ وما أشبه ذلك خير، والمَرَضُ
والجهل والضَّعف والولد الطالحُ وما أشبه ذلك شرٌّ؛ لأنه لا يُلائم
الإنسانَ.
وقوله: «ما قضيت» «ما» هنا بمعنى الذي، أي: الذي قضيتُه، ويجوز أن
تكون مصدريَّة، أي: شَرَّ قضائِكَ.
والمراد: قضاؤه الذي هو مقضيَّه؛ لأن قضاءَ الله الذي هو فِعْلُه
كلُّه خير. وإنْ كان المقضيُّ شرًّا؛ لأنه لا يُراد إلا لحكمةٍ
عظيمةٍ، فالمرضُ مثلاً قد لا يَعرفُ الإنسانُ قَدْرَ نِعمة الله
عليه بالصِّحَّة إلا إذا مَرِضَ، وقد يُحْدِثُ له المرضُ توبةً
ورجوعاً إلى الله، ومعرفةً لِقَدْرِ نفسِهِ، وأنه ضعيفٌ، ومُحتاجٌ
إلى الله عزّ وجل، بخلاف ما لو بقيَ الإنسانُ صحيحاً معافى، فإنه
قد ينسى قَدْرَ هذه النِّعمة، ويفتخرُ كما قال الله تعالى:
{{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ
نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ *وَلَئِنْ
أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ
ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ *}} [هود] .
فإن قال قائلٌ: كيف نجمعُ بين قوله: «قِني شرَ ما قضيتَ» وقوله
صلّى الله عليه وسلّم: «والشرُّ ليس إليكَ» [(49)]؟.
فالجواب عن ذلك : أنَّ الشَّرَّ لا يُنسب إليه تعالى؛ لأن ما قضاه
وإنْ كان شرًّا فهو خير، بخلاف غيره، فإن غيرَ الله رُبَّما يقضي
بالشَّرِّ لشرٍّ محضٍ، فربما يعتدي إنسانٌ على مالكَ أو بدنكَ أو
أهلكَ لقصد الشَّرِّ والإضرار بك، لا لقصدِ مصلحتِكَ، وحينئذٍ يكون
فِعْلُهُ شرًّا محضاً.
وفي قوله: «ما قضيتَ» إثباتُ القضاءِ لله.
وقضاءُ الله: شرعيٌّ، وقَدَريٌّ.
فالشَّرعيُّ مثل قوله تعالى: {{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا
إِلاَّ إِيَّاهُ}} [الإسراء: 23] .
والقدريُّ مثل قوله تعالى: {{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا *}} [الإسراء] والفَرْقُ بينهما
مِن وجهين:
الوجه الأول : أنَّ القضاءَ الكونيَّ لا بُدَّ مِن وقوعِهِ، وأما
القضاءُ الشَّرعيُّ فقد يقع مِن المقضيِّ عليه وقد لا يقعُ.
الوجه الثاني : أنَّ القضاءَ الشَّرعيَّ لا يكون إلا فيما أحبَّه
الله، سواءٌ أحبَّ فِعْلَه أو أحبَّ تَرْكَهُ، وأما القضاءُ
الكونيُّ فيكون فيما أحبَّ وفيما لم يحبَّ:
وقوله: «ما قضيت» يشمَلُ ما قضاه مِن خيرٍ وشرٍّ.
فإن قيل: وهل في الخير من شرٍّ؟
فالجواب: نعم؛ قد يكون فيه شرٌّ، فتكون النِّعَمُ سبباً للأَشَرِ
والبَطَرِ؛ فتنقلبُ شرًّا، فكم من إنسانٍ كان مستقيماً؛ أنعمَ
اللهُ عليه، فحملته النِّعَمُ على الاستكبار عن الحقِّ وعلى
الخَلْقِ فهَلك. واقرأْ قول الله تعالى: {{وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}} [الأنبياء: 35] .
إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ
وَالَيْتَ، وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ ......
قوله: «إنكَ تَقضي ولا يُقضى عليك» فالله سبحانه وتعالى يَقضي بما
أرادَ، ولا أحدٌ يَقضي على الله ويَحكمُ عليه، قال الله تعالى:
{{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ *}} [غافر] .
قوله: «إِنَّهُ لا يَذِلُّ من وَالَيْتَ» أي: لا يلْحَقُ مَنْ
واليتَهُ ذُلٌّ وخُذلان، والمراد: الولاية الخاصَّة المذكورة في
قوله تعالى: { ؤ إ ئ ا ب ة ت ث ج ح ژ پ!{ ! خ د ذ ر }.
قوله: «ولا يَعِزُّ مَنْ عاديت» أي: لا يَغلِبُ مَنْ عاديته، بل هو
ذليلٌ؛ لأَنَّ مَنْ والاه الله فهو منصورٌ، كما قال الله تعالى:
{{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ *}} [غافر] وقال الله
تعالى: {{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ
أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأُمُورِ *}} [الحج] وأمَّا مَنْ عاداه اللهُ فهو ذليلٌ؛ لأنَّ
الله إذا نَصَرَ أولياءَه فعلى أعدائه. إذاً؛ فالعِزُّ للأولياءِ،
والذُّلُّ للأعداء.
فإنْ قال قائلٌ: هل هذا على عُمُومِهِ، لا يَذِلُّ مَنْ وَالاه
الله، ولا يَعِزُّ مَنْ عاداه؟
فالجواب: ليس هذا على عُمُومه، فإنَّ الذُّلَّ قد يعرِضُ لبعض
المؤمنين، والعِزُّ قد يعرِضُ لبعض المشركين، ولكنَّه ليس على سبيل
الإدالة المطلقة الدَّائمة المستمرَّة، فالذي وقع في أُحُدٍ
للنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابِهِ لا شَكَّ أنَّ فيه
عِزًّا للمشركين، ولهذا افتخروا به فقالوا: يومٌ بيومِ بَدْرٍ،
والحربُ سِجَالٌ[(50)]، ولا شَكَّ أنه أصابَ النبيَّ صلّى الله
عليه وسلّم وأصحابَه من الجراح والضَّعف ما لم يسبق مِن قبلُ، ولكن
هذا شيءٌ عارضٌ ليس عِزًّا دائماً مطَّرِداً للمشركين، وليس ذُلًّا
للمؤمنين على وجه الدَّوام والاستمرار، وهذا فيه مصالح عظيمة كثيرة
ذَكَرَها اللهُ تعالى في سورة «آل عمران»، واستوعبَ الكلامَ عليها
ابنُ القيم رحمه الله في «زاد المعاد»[(51)] في فِقْهِ هذه الغزوة،
وذَكَرَ فوائدَ عظيمةً مِن هذا الذي حصَل للنَّبِيِّ صلّى الله
عليه وسلّم وأصحابه.
إذاً؛ فقوله: «لا يذلُّ مَنْ واليتَ ولا يَعِزُّ مَنْ عَاديتَ»،
لنا أنْ نقول: هذا ليس على عُمُومه، ويُخصَّص بالأحوال العارضة،
ولنا أن نقول: إنه عامٌّ؛ باقٍ على عُمُومه لا يُخصَّص منه شيء،
لكنه عامٌّ أُريد به الخُصوص، يعني: أنَّ المراد: لا يَذِلُّ
ذُلًّا دائماً، ولا يَعِزُّ عِزًّا دائماً.
تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ،...........
قوله: «تباركت رَبَّنَا» التقدير: تباركتَ يا رَبَّنَا، والبركة:
كثرةُ الخير وسعته. مشتقٌّ من «بِرْكَةَ الماء» وهي حوض الماء
الكبير ومعنى التَّبارك في الله عزّ وجل: أنه سبحانه وتعالى عظيمُ
البَركة واسعها، ومنزِّلُ البَرَكة، وأن بذِكْرِه تحصُلُ
البَرَكةُ، وباسمِهِ تحصُلُ البركةُ، ولذلك نجد أن الرَّجُل لو قال
على الذَّبيحة: «بسم الله» صارت حلالاً، ولو لم يقل: «بسم الله»
صارت حراماً، ولو قال: «بسم الله» على وُضُوئه صار صحيحاً، ولو لم
يقل: «بسم الله» صار غيرَ صَحيح عند كثير من أهل العِلْمِ.
وإنْ كان الصَّحيح أنَّ التَّسمية في الوُضُوء لا تجب، لكن على
القول بأنها واجبة إذا تَركَها عمداً لم يصحَّ وُضُوؤه[(52)].
وقوله: «رَبَّنَا» أي: يا ربَّنا، وحُذِفَت «ياء النداء» لسببين:
1 ـ لكثرة الاستعمال.
2 ـ وللتَّبرُّك بالبَدَاءَة باسم الله عزّ وجل.
وقوله: «رَبَّنا» اسم من أسماء الله: يأتي مضافاً أحياناً كما هنا
وكما في قوله تعالى: {{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ
الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}} [الزخرف: 82] ويأتي غير مضاف
مُحَلاًّ بأل؛ مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فأمَّا الرُّكوع
فَعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ» [(53)] وقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«السِّواك مطهرةٌ للفَمِ مرضاةٌ للرَّبِّ» [(54)].
قوله: «تعاليت» من التَّعالي وهو العُلو، وزِيدت التَّاء للمبالغة
في عُلوه.
وعُلوُّ الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: عُلوِّ الذِّات،
وعُلوِّ الصِّفَة.
فأما عُلوُّ الذَّات فمعناه: أنَّ الله نَفْسَهُ فوقَ كُلِّ شيء.
وأمَّا عُلوُّ الصِّفة فمعناه: أنَّ الله تعالى موصوفٌ بكلِّ صفاتٍ
عُليا.
أما الأول : فقد أنكره حُلولية الجهمية وأتباعهم الذين قالوا: إنَّ
الله في كُلِّ مكان بذاته، وأنكره أيضاً الغالون في التَّعطيل حيث
قالوا: إنَّ الله ليس فوقَ العالم ولا تحتَ العالم، ولا يمينَ ولا
شِمالَ، ولا أمامَ ولا خلفَ، ولا متَّصل ولا منفصل إذاً هي عَدَمٌ!
ولهذا أنكر محمودُ بن سُبُكْتِكين[(55)] رحمه الله على مَنْ وَصَفَ
اللهَ بهذه الصِّفَة، وقال: هذا هو العَدَمُ[(56)]. وصَدَق؛ فهذا
هو العَدم.
أمَّا أهلُ السُّنَّة والجَمَاعَة، فقالوا: إنَّ الله سبحانه
وتعالى فوقَ كُلِّ شيءٍ بذاتِهِ.
واستدلُّوا لذلك بأدلةٍ خمسة: الكتابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ،
والعقلِ، والفِطْرَةِ.
فالكتاب: كلُّ ما يمكن مِن أجناس الأدلَّةِ فهي موجودة في إثبات
عُلوِّ الله.
فتارة بلفظ العُلوِّ مثل: {{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}}
[الأعلى] .
وتارة بلَفْظِ الفَوقيَّةِ مثل: {{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ
عِبَادِهِ}} [الأنعام: 18] .
وتارة بذِكْرِ عُروجِ الأشياء وصُعُودِها إليه مثل: {{تَعْرُجُ
الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}} [المعارج: 4] وقوله:
{{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}} [فاطر: 10] .
وتارة بنزول الأشياء منه كقوله تعالى: {{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ
السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ}} [السجدة: 5] .
وأمَّا السُّنَّة: فقد اجتمع فيها أنواع السُّنَّة الثَّلاثة:
القولُ، والفِعْلُ، والإقرارُ.
أما القول: فكان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في سجوده:
«سبحان رَبِّيَ الأعلى» [(57)].
وأما الفعل: فإنه لما خَطَبَ النَّاسَ يومَ عَرَفَة، فقال: «ألا هل
بَلَّغْتُ، قالوا: نعم، قال: اللَّهُمَّ فاشهدْ، يرفعُ إصبَعَهُ
السَّبَّابَةَ إلى السَّماء ويَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ» [(58)]
وهذا إثبات للعلوِّ بالفعل.
وأما إقراره: فبإقراره للجَارية حين سألها: «أينَ اللهُ؟» قالت: في
السَّماءِ [(59)].
وأما الإِجماع: فإن السَّلف من الصَّحابة والتَّابعين، والأئمة
كلّهم مجمعون على هذا، وطريق إجماعهم أنهم لم يَرِدْ عنهم صَرْفٌ
للكلام عن ظاهره فيما ذُكْرِ مِن أدلَّة العُلوِّ، وقد مَرَّ علينا
أن هذا طريق جيد، وهو أنه إذا قال لك قائل: مَنِ الذي يقول إنهم
أجمعوا؟ فمن قال: إنَّ أبا بكر ذَكَر أن الله في العُلوِّ بذاته؟
ومَنْ قال: إنَّ عُمَرَ قال هذا؟ ومَنْ قال: إنَّ عثمانَ قال هذا؟
ومَنْ قال: إنَّ علياً قال هذا؟
فالجواب : أنه لمّا لم يَرِدْ عنهم ما يُخالف النُّصوصَ، عُلِمَ
أنهم أثبتوها على ظاهرها.
وأما العقل : فلأننا نقول: إنَّ العلوَّ صفةُ كمالٍ، وضِدَّه صفة
نقص، واللهُ منزَّهٌ عن النَّقص، وهو من تمام السُّلطان، ولهذا
نَجِدُ في الدُّنيا أنَّ الملوك يُوضع لهم منصَّة يجلسون عليها.
وأما الفِطرة : فَحَدِّثْ ولا حَرَجٌ، فالعجوز التي لا تعرف القرآن
قراءة تامةً، ولا تعرف السُّنَّة، ولا راجعت «فتاوى شيخ الإسلام
ابن تيمية» ولا غيره من كتب السَّلف تعرف أنَّ اللهَ في السَّماء،
وكلُّ المسلمين إذا دعوا اللهَ يرفعون أيديَهُمْ إلى السَّماء، لا
أحدَ من النَّاس يقول: اللهم اغفِرْ لي، ويحطُّ يديه إلى الأرض
أبداً.
ولهذا احتجَّ بهذه الفِطرةِ الضَّروريةِ الهَمَذانيُّ على أبي
المعالي الجُوَيني، فقد كان أبو المعالي الجُوينيُّ يقول: كان
اللهُ ولم يكن شيءٌ غيرُه، وهو الآن على ما كان عليه. يريد بذلك أن
يُنكرَ استواءَ اللهِ على العرش.
فقال له أبو جعفر الهَمَذانيُّ رحمه الله: يا شيخُ، دعنا من ذِكْرِ
العرش ـ لأن استواء الله على العرش دليله سَمْعِيٌّ، لولا أن الله
أخبرنا بذلك ما أثبتناه ـ فما تقول في هذه الضَّرورة؛ ما قال عارف
قطُّ: «يا اللهُ» إلا وَجَدَ مِنْ قلبه ضرورةً بطلب العُلوِّ؟ فجعل
أبو المعالي يضرِبُ على رأسه، ويقول: «حَيَّرني حَيَّرني»[(60)].
ما لقي جواباً على هذا لأن هذا دليلٌ فِطريٌّ.
حتى إنَّ الحيوان مفطورٌ على ذلك؛ كما يُروى في قِصَّة سليمان عليه
الصَّلاة والسَّلام حين خَرَجَ يستسقي، وإذا بنَمْلَةٍ مستلقيةٍ
على ظهرها؛ رافعةٍ قوائمَها نحوَ السماءِ تقول: اللَّهُمَّ إنَّا
خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكِ، ليس بنا غِنًى عن رِزْقِكِ، فقال: ارْجِعُوا
فقد سُقيتُم بدعوةِ غيرِكم[(61)]، وسُقوا بدعوة هذه النَّملة.
فهذه النَّملةُ مَنِ الذي أعلمها أنَّ الله في السَّماء؟
فطرتُها التي فَطَرَ اللهُ عليها الخَلْقَ دلَّتها على أنَّ اللهَ
في السَّماء.
والعجب : أنَّه مع ظهور هذه الأدلَّةِ؛ فقد أعمى اللهُ عنها بصائرَ
قومٍ؛ فأنكروا عُلوَّ الله، وقالوا: لا يمكن عُلوُّ الله بذاته...
فأيُّ إنسانٍ يقول: إنَّ اللهَ بذاتِهِ فوق كلِّ شيءٍ فهو كافرٌ
عندهم! لأنه حَدَّدَ الله.
والذي يقول: إن اللهَ فوقُ، هل هو محدِّدٌ لله؟ أبداً؛ فهو فوقُ
ولم يُحطْ به شيءٌ، والذي يُحدِّد الله هو الذي يقول: إنَّ الله في
كلِّ مكان، إنْ كنت في المسجد فاللهُ في المسجد، وإن كنت في
السُّوق فاللهُ في السُّوق، وهكذا.
أما قولُ أهلِ السُّنَّة: إنَّ الله في السَّماء؛ لا يُحيطُ به شيء
مِن مخلوقاته. فهذا غايةُ التَّنزيه.
أمَّا عُلوُّ الصِّفة فدليلُه قوله تعالى: {{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ
الأَعْلَى}} [النحل: 60] أي: الوصف الأكمل، وهذا دليل سمعيٌّ.
وأما العقل: فلأن العقل يقطع بأن الرَّبَّ لا بُدَّ أن يكون كاملَ
الصِّفات.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ
مِنْ عُقُوبَتِكَ ..........
قوله: «أعوذ برضاك مِن سَخَطك» هذا من باب التَّوسُّل برضاء الله
أنْ يُعيذك مِن سَخَطِهِ، فأنت الآن استجرت مِن الشَّيء بضدِّه،
فجعلت الرِّضاءَ وسيلةً تتخلَّصُ به من السُّخط.
قوله: «وبعفوك مِن عقوبتك» الحديث: «وبمعافاتك من عقوبتك»[(62)].
والمعافاة هي: أنْ يعافيكَ اللهُ مِن كُلِّ بَلِيَّة في الدِّين،
أو في الدُّنيا، وضِدُّ المعافاة: العقوبةُ، والعقوبةُ لا تكون إلا
بذَنْبٍ، وإذا استعذت بمعافاة الله مِن عقوبته، فإنك تستعيذُ مِن
ذنوبك حتى يعفوَ اللهُ عنك، إما بمجرَّدِ فضله، وإما بالهداية إلى
أسباب التَّوبة.
والتعوُّذ بالرضا من السُّخط، وبالمعافاة مِن العقوبة، تعوُّذ
بالشيء مِن ضِدِّه، كما أن معالجة الأمراض تكون بأدوية تضادُّها.
وَبِكَ مِنْكَ............
قوله: «وبك منك» لا يمكن أن تستعيذ مِنَ الله إلا بالله، إذ لا
أحدَ يُعيذك مِن اللهِ إلا اللهُ، فهو الذي يُعيذني مما أرادَ بي
مِن سوءٍ، ومعلومٌ أنَّ الله سبحانه وتعالى قد يريد بك سوءاً، ولكن
إذا استعذت به منه أعاذك، وفي هذا غاية اللجوء إلى الله، وأنَّ
الإنسان يُقِرُّ بقلبه ولسانِهِ أنه لا مرجعَ له إلا رَبُّهُ
سبحانه وتعالى.
لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى
نَفْسِكَ، ..........
قوله: «لا نحصي ثناء عليك» أي: لا نُدْرِكُهُ، ولا نبلغُه، ولا
نصلُ إليه.
والثناء هو: تَكْرَارُ الوصف بالكمال، ودليلُ ذلك: قوله تعالى في
الحديث القُدسيِّ: «إذا قال العبدُ: الحمدُ لله رَبِّ العالمين.
قال اللهُ تعالى: حَمَدَني عبدي. وإذا قال العبدُ: الرَّحمن
الرحيم. قال اللهُ تعالى: أثنى عَلَيَّ عبدي» [(63)] فلا يمكن أن
تُحصي الثناءَ على الله أبداً، ولو بقيت أبد الآبدين، وذلك لأن
أفعال الله غير محصورة، وكلُّ فعلٍ مِن أفعال الله فهو كمالٌ،
وأقوالُه غيرُ محصورة، وكلُّ قولٍ من أقواله فهو كمالٌ، وما يدافع
عن عباده أيضاً غير محصور. فالثناءُ على الله لا يمكن أنْ يَصِلَ
الإنسانُ منه إلى غاية ما يجب لله مِنَ الثَّناء؛ مهما بلغ مِنَ
الثَّناء على الله.
وغايةُ الإنسان أنْ يعترفَ بالنَّقص والتقصيرِ، فيقول: «لا أُحصِي
ثناءً عليكَ؛ أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك» أي: أنت يا رَبَّنَا كما
أثنيت على نفسِكَ، أمَّا نحنُ فلا نستطيع أنْ نحصيَ الثَّناءَ
عليك. وفي هذا مِنَ الإقرار بكمال صفات الله ما هو ظاهرٌ معلومٌ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَيَمْسَحُ
وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ...........
قوله: «اللهم صل على محمد» أي: يختم الدُّعاء بالصَّلاة على
النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن ذلك مِنْ أسباب الإجابةِ؛ كما
يُروى ذلك في حديثٍ فيه مقال: أنَّ الدُّعاءَ موقوفٌ بين السَّماء
والأرض حتى تُصلِّي على نَبيِّكِ[(64)].
وظاهرُ كلامِ المؤلِّف : الاقتصارُ على هذا الدُّعاء. ولكن لو زاد
إنسانٌ على ذلك فلا بأس، لأنَّ المقامَ مقامُ دُعاءٍ، وكان أبو
هريرة رضي الله عنه يقنتُ بلعن الكافرين، فيقول: اللَّهُمَّ الْعَن
الكفرة» [(65)] وفي هذا ما يدلُّ على أن الأمر في ذلك واسع.
وأيضاً: لو فُرِضَ أنَّ الإنسان لا يستطيع أنْ يدعوَ بهذا
الدُّعاءِ؛ فله أنْ يدعوَ بما يشاء مما يحضره. ولكن إذا كان إماماً
فلا ينبغي أن يطيلَ الدُّعاء بحيث يشقُّ على مَن وراءَه أو
يملُّهم، إلا أن يكونوا جماعة محصورةً يرغبون ذلك.
وصلاةُ اللهِ على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: الثناءُ عليه في
الملأ الأعلى. أي: أن الله تعالى يُبيِّنُ صفاته الكاملة عند
الملائكة. هكذا نُقل عن أبي العالية[(66)] رحمه الله.
قوله: «وعلى آل محمد» آله: أتباعُه على دِيْنِهِ؛ لقوله تعالى:
{{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ}} [غافر: 46] أي: أتباعه على دِيْنِهِ. فإن قيل: وعلى
آلِهِ وأتباعِهِ، صار المرادُ بالآل المؤمنين مِن أهل بيته، وأمَّا
غيرُ المؤمنين فليسوا مِن آلِهِ، وقد قال الشَّاعرُ مبيِّناً أنَّ
المرادَ بالآل الأتباع:
آلُ النَّبيِّ همو أتباعُ مِلَّتِهِ
مِن الأعاجم والسُّودان والعَرب
لو لم يكن آلهُ إلا قرابتُه
صَلَّى المصلِّي على الطَّاغي أبي لهب
قوله: «ويمسح وجهه بيديه» . ظاهرُ كلام المؤلِّف : أنَّه سُنَّة،
أي: أنَّ مَسْحَ الوجه باليدين بعد دُعاء القُنُوت سُنَّة.
ودليل ذلك: حديث عُمَرَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه
وسلّم كان إذا رَفَعَ يديه لا يردُّهما حتى يمسح بهما
وجهَهُ[(67)]. لكن هذا الحديث ضعيف، والشَّواهد التي له ضعيفة،
ولهذا رَدَّ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية هذا القول، وقال: إنه لا
يمسحُ الدَّاعي وجهه بيديه[(68)]؛ لأن المسحَ باليدين عبادة تحتاج
إلى دليل صحيح، يكون حُجَّةً للإنسان عند الله إذا عمل به، أما
حديث ضعيف فإنه لا تثبت به حُجَّة، لكن ابن حَجَر في «بلوغ المرام»
قال: «إن مجموع الأحاديث الشاهدة لهذا تقضي بأنه حديث حسن»[(69)].
فَمَن حَسَّنَه كان العملُ بذلك سُنَّة عنده، ومَن لم يُحَسِّنُه
بل بقي ضعيفاً عنده كان العملُ بذلك بدعة، ولهذا كانت الأقوال في
هذه المسألة ثلاثة:
القول الأول : أنه سُنَّة.
القول الثاني : أنه بدعة.
القول الثالث : أنه لا سُنَّة ولا بدعة، أي: أنَّه مباح؛ إنْ
فَعَلَ لم نُبدِّعه، وإنْ تَرَك لم نُنقِصْ عَمَله.
والأقرب: أنه ليس بسُنَّة؛ لأنَّ الأحاديثَ الواردة في هذا ضعيفة،
ولا يمكن أنْ نُثبتَ سُنَّة بحديث ضعيف، وهذا ما ذهب إليه شيخ
الإسلام ابن تيمية؛ لأن فيه أحاديث كثيرة في «الصحيحين» وغيرهما
تثبت أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدعو ويرفع يديه[(70)] ولا
يمسحُ بهما وجهه، ومثل هذه السُّنَّة التي تَرِدُ كثيراً؛ وتتوافر
الدَّواعي على نَقْلِها إذا لم تكن معلومةً في مثل هذه المؤلَّفات
المعتبرة كالصحيحين وغيرهما، فإن ذلك يَدلُّ على أنها لا أصل لها.
وعلى هذا؛ فالأفضل أنْ لا يمسح، ولكن لا نُنكرُ على مَن مَسَحَ
اعتماداً على تحسين الأحاديثِ الواردة في ذلك؛ لأنَّ هذا مما يختلف
فيه النَّاسُ.
وَيُكْرَهُ قُنُوْتُهُ فِي غَيْرِ الوِتْرِ ..........
قوله: «ويُكره قنوته» أي: المصلِّي، والمراد: القُنُوت الخاصّ لا
مطلق الدُّعاء، فإنَّ الدُّعاء في الصَّلاة مشروع في مواضعه.
قوله: «في غير الوتر» يشمَلُ القُنُوت في الفرائضِ، والرَّواتبِ،
وفي النَّوافل الأُخرى، فكلُّها لا يَقْنُتُ فيها مهما كان الأمرُ؛
وذلك لأنَّ القُنُوتَ دُعاءٌ خاصٌّ في مكانٍ خاصٍّ في عبادةٍ
خاصَّةٍ، وهذه الخصوصيات الثلاث تحتاج إلى دليل، أي: أنها لا تدخل
في عموم استحباب الدُّعاء، فلو قال قائل: أليس القُنُوت دُعاء
فليكن مستحبًّا؟..
فالجواب : نقول: هو دعاءٌ خاصٌّ في مكان خاصٍّ في عبادة خاصَّة،
ومثل هذا يحتاج إلى دليل، فإنَّ الشيءَ الذي يُستحبُّ على سبيل
الإطلاق لا يمكن أنْ تجعله مُستحبًّا على سبيل التَّخصيص والتقييد
إلا بدليل. ولهذا لو قال قائل: سأدعو في ليلةِ مولدِ الرَّسولِ
صلواتٍ على الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم بأدعية واردة جاءت بها
السُّنَّةُ؟
قلنا: لا تفعلْ؛ لأنك قيَّدت العامَّ بزمنٍ خاصٍّ، وهذا يحتاج إلى
دليل، فليس كُلُّ ما شُرع على سبيل العُموم يمكن أنْ نجعله مشروعاً
على سبيل الخُصوص.
ومِن ثَمَّ قلنا: إنَّ دُعاء خَتْمِ القرآن في الصَّلاة لا شَكَّ
أنه غير مشروع؛ لأنه وإنْ وَرَدَ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه
كان يجمعُ أهلَه عند خَتْمِ القُرآن ويدعو [(71)]، فهذا خارجُ
الصَّلاة، وفَرْقٌ بين ما يكون خارجَ الصلاة وداخلها، فلهذا يمكن
أنْ نقول: إنَّ الدُّعاء عند خَتْمِ القرآن في الصَّلاة لا أصلَ
له، ولا ينبغي فِعْلُه حتى يقومَ دليلٌ مِن الشَّرعِ على أنَّ هذا
مشروعٌ في الصَّلاة.
إِلاَّ أَنْ تَنْزِلَ بِالمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ غَيْرَ
الطَّاعُونَ، فَيَقْنُتُ الإِمَامُ فِي الفَرَائِضِ..........
قوله: «إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة...» هذه الجملة استثناء من
قوله: «ويُكره قُنُوتُهُ في غير الوِتْرِ» . والنَّازلة: هي ما
يحدث من شدائد الدَّهر.
قوله: «غير الطَّاعون» الطَّاعون: وباءٌ معروف فَتَّاكٌّ مُعْدٍ،
إذا نَزَلَ بأرضٍ فإنه لا يجوز الذَّهابُ إليها، ولا يجوز الخُروجُ
منها فِراراً منه؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا
سَمعتُم به في أرضٍ فلا تَقْدَمُوا عليها، وإنْ وَقَعَ وأنتم فيها
فلا تخرجوا منها فِراراً منه» [(72)] وهذا الطَّاعون ـ نسأل الله
العافية ـ إذا نَزَلَ أهلك أُمماً كثيرة، كما في «طاعون عَموَاس»
الذي وقع في الشَّام، في عهد عُمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه.
وهذا النَّوع من الوباء إذا نَزَلَ بالمسلمين فقد اختلف العُلماءُ
رحمهم الله هل يُدعى بِرَفْعِهِ أم لا؟
فقال بعضُ العلماءِ : إنه يُدْعَى برَفْعِهِ؛ لأنَّه نازلةٌ مِن
نوازل الدَّهر، وأيُّ شيءٍ أعظمُ مِن أنْ يُفني هذا الوباءُ أمَّةَ
محمَّدٍ، ولا مَلجأ للنَّاس إلا إلى الله عزّ وجل، فيدعون الله
ويسألونه رَفْعَهُ.
وقال بعضُ العلماءِ: لا يُدعَى برَفْعِهِ. وعلَّل ذلك: بأنه شهادة،
فإن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر: «بأنَّ المَطْعُونَ
شَهيدٌ» [(73)] قالوا: ولا ينبغي أنْ نَقْنُتَ مِن أجْلِ رَفْعِ
شيءٍ يكون سبباً لنا في الشَّهادة، بل نُسَلِّمُ الأمرَ إلى الله،
وإذا شاء اللهُ واقتضت حكمتُه أنْ يرفعَه رَفَعَهُ، وإلا أبقاه،
ومَن فنيَ بهذا المرض فإنَّه يموت على الشَّهادة التي أخبر عنها
النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: «فيقنُتُ الإمامُ في الفرائض» . «فيقنتُ» برفع الفعل
استئنافاً، أي: إلا أنْ تَنْزِلَ فحينئذٍ يقنتُ الإمامُ في
الفرائض، ولم يبيّن المؤلِّفُ حُكْمَ هذا القُنُوتِ، لكنه استثناه
مِن الكراهة، وإذا استُثْنِيَ مِن الكراهة، وثبت فعلُه في الصَّلاة
فإنه يكون مستحبًّا، لأنه إذا ثبت فعلُه في الصَّلاة لَزِمَ أنْ
يكون مِن أذكار الصَّلاة وحينئذٍ يكون مستحبًّا.
وعلى هذا؛ فقول المؤلِّفِ: «فيقنتُ الإمامُ» أي: استحباباً، وقد
أجمعَ العلماءُ على أنَّ هذا القُنُوت ليس بواجب، لكن الأفضل أنْ
يقنتَ الإمامُ.
وقوله: «الإمام» مَنْ يعني بالإمام؟
إذا أطلقَ الفقهاءُ «الإمامَ» فالمرادُ به: القائدُ الأعلى في
الدَّولة، فيكون القانتَ الإمامُ وحدَه، أما بقيَّة النَّاس فلا
يقنتون، قالوا: لأنَّ الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم قَنَتَ عند
النَّوازل [(74)] ولم يأمر أحداً بالقنوت، ولم يقنتْ أحدٌ من
المساجد في عهده صلّى الله عليه وسلّم؛ ولأن هذا القنوت لأمر نزل
بالمسلمين عامَّة، والذي له الولاية العامَّة على المسلمين هو
الإمام فيختصُّ الحكم به، ولا يُشرع لغيره. وهذا هو المشهور من
مذهب الإمام أحمد.
القول الثاني في المسألة : أنه يقنت كلُّ إمام.
القول الثالث : أنه يقنت كلُّ مصلٍّ، الإمام والمأموم والمنفرد.
والأخير اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واستدلَّ بعموم
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كما رأيتُمُوني أُصَلِّي»
[(75)] وهذا العمومُ يشمَلُ ما كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
يفعلُه في صلاتِهِ على سبيل الاستمرار، وما يفعلُه في صلاتِهِ على
سبيل الحوادث النَّازلةِ، فيكون القنوتُ عند النَّوازِلِ مشروعاً
لكلِّ أحد.
ولكن الذي أرى في هذه المسألة: أنْ يُقتصرَ على أَمْرِ وليِّ
الأمْرِ، فإن أَمَرَ بالقُنُوتِ قنتنا، وإن سكتَ سكتنا، ولنا ـ
ولله الحمد ـ مكانٌ آخر في الصَّلاة ندعو فيه؛ وهو السُّجودُ
والتَّشَهُّدُ، وهذا فيه خيرٌ وبَرَكَةٌ، فأقرب ما يكون العبدُ مِن
رَبِّهِ وهو ساجد، لكن؛ لو قَنَتَ المنفردُ لذلك بنفسه لم نُنْكر
عليه؛ لأنه لم يخالف الجماعة.
وقوله: «يقنتُ الإمامُ في الفرائض» ليس المراد أنْ يدعو بدعاء
القُنُوتِ الذي عَلَّمه الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم
الحَسَن[(76)]، بل يقنتُ بدُعاءٍ مناسبٍ للنَّازلة التي نزلت،
ولهذا كان الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم يدعو في هذا القُنُوتِ
بما يناسب النَّازلة ، ولا يدعو فيقول: «اللَّهُمَّ اهْدِني فيمن
هَديت» كما يفعله بعضُ العامَّة، ولم يَرِدْ عن الرَّسول صلّى الله
عليه وسلّم أبداً لا في حديث صحيح ولا ضعيف أنه كان يقول: «اللهم
اهْدِني فِيمَنْ هَدَيت» في الفرائض، إنما يدعو بالدُّعاء المناسب
لتلك النَّازلة، فمرَّةً دعا صلّى الله عليه وسلّم لقوم مِن
المستضعفين أنْ ينجِّيهم اللهُ عزّ وجل حتى قدموا[(77)].
ورُويَ أنه قَنَتَ مِن النصف مِن رمضان؛ حتى صَبيحة يوم العيد، حيث
قدموا في صَبيحة يوم العيد، فيكون مدَّةُ قنوتِه لهم خمسةَ عَشَرَ
يوماً.
وقَنَتَ على قوم دعا عليهم، على رِعْل وذَكْوان وعُصَيَّة شهراً
كاملاً[(78)] فقيل: إنهم قدموا مسلمين تائبين فأمسك[(79)].
ودعا على قوم معيَّنين باللعن فقال: اللهم الْعَنْ فلاناً وفلاناً
حتى نَزَلَ قولُه تعالى: {{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}} [آل عمران: 128 ] [(80)]
فأمسك فصار دعاء النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بالقُنُوتِ دُعاءً
مناسباً، وعلى قَدْرِ الحاجة، ولم يستمرَّ.
وقوله: «في الفرائض» «أل» دخلت على جَمْعٍ فتفيد العمومَ، أي: في
الفجر والظُّهر والعَصر والمَغرب والعِشاء، وليس خاصًّا بصلاة
الفجر، بل في كُلِّ الصَّلوت، هكذا صَحَّ عن النبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم أنَّه قَنَتَ في جميع الصَّلوات[(81)].
واستثنى بعضُ العلماءِ الجُمعةَ وقال: إنَّه لا يقنتُ فيها؛ لأن
الأحاديثَ الواردةَ عن رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم أنَّه
قَنَتَ في الصَّلوات الخمسِ الفجرِ والظُّهرِ والعصرِ والمغربِ
والعشاءِ. ولم تذكر الجُمُعَةَ. والجُمُعَةُ صلاةٌ مستقلَّة لا
تدخل في مُسَمَّى الظُّهر عند الإطلاق، ولهذا لا تُجمع العصرُ
إليها فيما لو كان الإنسان مسافراً وصَلَّى الجُمُعَة، وهو يريد أن
يمشي وأراد أنْ يجمعَ العصرَ إلى الجُمُعَةِ فلا يجوز، لأنها صلاةٌ
من جنس آخر مستقلَّة.
وعلَّلَ بعضُهم أيضاً ذلك: بأن الإمام يدعو في خُطبة الجُمُعَةِ
دُعاءً عامًّا يؤمِّنُ النَّاسُ عليه، فيدعو لرفع النَّازلة في
خُطبة الجُمُعة، ويُكتفى بهذا الدُّعاء عن القنوت في صلاة
الجُمُعة.
ويرى بعضُ أهلِ العِلم: أنَّه لا وجه للاستثناء، وإنَّما لم ينصَّ
عليها في الأحاديث الواردة عن رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم؛
لأنها يومٌ واحد في الأسبوع فلهذا تُركت، ويدلُّ لهذا: أنَّ
الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر الصَّلاة المفروضة لا يذكر
إلا الصَّلوات الخمس؛ لأنها هي الرَّاتبة التي تَرِدُ على الإنسان
في كُلِّ يوم، بخلاف الجُمُعة.
فالظَّاهر: أنه يَقْنُتُ حتى في صلاة الجُمُعة.
وإذا قلنا بالقُنُوت في الصَّلوات الخمس، فإنْ كان في الجهرية
فَمِنَ المعلوم أنَّه يجهرُ به، وإنْ كان في السِّريَّة فإنه يجهر
به أيضاً؛ كما ثبتت به السُّنَّةُ: أنه كان يقنتُ ويؤمِّنُ
النَّاسُ وراءَه [(82)]. ولا يمكن أن يؤمِّنُوا إلا إذا كان يجهرُ.
وعلى هذا؛ فيُسَنُّ أنْ يجهرَ ولو في الصَّلاة السِّريَّة.
مسألة : القُنُوت هل يكون قبل الرُّكوع، أو بعد الرُّكوع؟
أكثرُ الأحاديث؛ والذي عليه أكثرُ أهل العِلم: أنَّ القُنُوتَ بعدَ
الرُّكوع، وإن قَنَتَ قبل الرُّكوع فلا حَرَج، فهو مُخَيَّرٌ بين
أنْ يركعَ إذا أكملَ القِراءة، فإذا رَفَعَ وقال: «ربَّنا ولك
الحمدُ» قَنَتَ، كما هو أكثر الرِّوايات عن النَّبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم[(83)] وعليه أكثرُ أهل العِلم، وبين أنْ يقنتَ إذا
أتمَّ القِراءة ثم يكبِّرُ ويركع، كلُّ هذا جاءت به
السُّنَّةُ[(84)].
(تنبيه) قول المؤلِّف رحمه الله: «إلا أن تنزل ما بالمسلمين نازلة»
عُلم منه أنه إن نزلت بغير المسلمين نازلة لم يُقنت لها.
وَالتَّرَاوِيْحُ عِشْرُونَ رَكْعَةً ............
قوله: «والتراويح عشرون» . «التراويح» مبتدأ، و«عشرون» خبر
المبتدأ، والتراويح سُنَّة مؤكَّدة؛ لأنها من قيام رمضان، وقد قال
النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ قامَ رمضانَ إيماناً
واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم مِن ذَنْبِهِ» ، وسُمِّيت تراويح؛
لأنَّ مِن عادتهم أنَّهم إذا صَلُّوا أربعَ ركعات جلسوا قليلاً
ليستريحوا؛ بناءً على حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلّى
الله عليه وسلّم كان يُصلِّي أربعاً فلا تسألْ عن حُسنِهِنَّ
وطولِهِنَّ، ثم يُصلِّي أربعاً فلا تسألْ عن حُسنِهِنَّ وطُولِهنَّ
ثم يُصلِّي ثلاثاً [(85)]، ووَجْهُ ذلك أنَّها قالت: «يُصلِّي
أربعاً ثم» و«ثم» تدلُّ على التَّرتيب بمُهْلَة، وأنَّه هناك
فاصلاً بين الأربع الأُولى والأربع الثانية والثَّلاث الأخيرة،
وهذه الأربع يُسَلِّمُ مِن كلِّ رَكعتين كما جاءَ ذلك مصرَّحاً به
في حديث عائشة: أنه كان يُصلِّي إحدى عشرة ركعة يُسَلِّمُ مِن
كُلِّ ركعتين [(86)].
خلافاً لمن تَوهَّم مِن بعض طلبة العِلم أنَّ الأربعَ الأُولى
تُجمع بتسليمٍ واحدٍ، والأربعَ الثانية تُجمع كذلك، فإنَّ ذلك
وَهْمٌ، سببُه عدم تتبُّعِ طُرقِ الحديث مِن وجه، وعدم النَّظر إلى
الحديث العام حديث ابن عُمرَ رضي الله عنهما مِن وجهٍ آخر، وهو
أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم سُئل عن صلاة الليل فقال:
«مَثْنَى مَثْنَى» [(87)].
وعلى هذا؛ فكلُّ حديث مطلق في عدد الرَّكعات في الليل يجب أنْ
يُحملَ على هذا الحديث المقيَّد، وهو أنها مَثْنَى مَثْنَى.
أما ما صُرِّحَ فيه بعدم ذلك كالوِتر بخمس أو سبع أو تسع[(88)]،
فهذا يكون مُخصِّصاً لعموم هذا الحديث.
فإن قيل: لماذا قالت عائشة: «يُصلِّي أربعاً، ثم يُصلِّي أربعاً»
؟.
فالجواب : أن نقول: لأنَّه جَمَعَ الأربع الأُولى في آنٍ واحد،
فصَلَّى ركعتين، ثم وَصَلَهُمَا فوراً بالرَّكعتين الأُخريين، ثم
جَلَسَ وأمهل، ثم استأنف وصَلَّى ركعتين، ثم أَتبعَهُمَا بركعتين،
ثم جَلَسَ فأمهل، ثم صَلَّى ثلاثاً، فأخذ السَّلف مِن هذا أن
يُصلُّوا أربع ركعات بتسليمتين، ثم يستريحوا، ثم يصلُّوا أربعاً
بتسليمتين، ثم يستريحوا، ثم يصلُّوا ثلاثاً إذا قاموا بإحدى عشرة
ركعة.
وقوله: «عشرون ركعة» فإذا أضفنا إليها أدنى الكمال في الوِتر تكون
ثلاثاً وعشرين، فيُصلِّي التَّراويح عشرين رَكعة، ثم يُصلِّي
الوِتر ثلاث ركعات، ويكون الجميعُ ثلاثاً وعشرين رَكعة، فهذا قيامُ
رمضان.
والدَّليلُ: ما روى أبو بكر عبد العزيز في «الشَّافي» عن ابن عباس
أن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يُصلِّي في شهر رمضان
عِشرين رَكعة [(89)]، لكن هذا الحديث ضعيف لا يصحُّ عن النَّبيِّ
صلّى الله عليه وسلّم، والذي صَحَّ عنه ما روته عائشةُ أمُّ
المؤمنين رضي الله عنها أنه كان لا يزيدُ على إحدى عشرة رَكعةً.
فقد سُئلت: كيف كانت صلاةُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في
رمضان؟ فقالت: كان لا يزيدُ في رمضانَ ولا غيره على إحدى عشرة ركعة
[(90)]. وهذا نصٌّ صريحٌ مِن عائشةَ، وهي مِن أعلم النَّاس به فيما
يفعله ليلاً.
فإنْ قال قائل: قد ذُكر عن عُمرَ أنه أمر أُبيَّ بنَ كعب أنْ
يُصلِّي بالنَّاس بثلاث وعشرين ركعة؟ .
قلنا: هذا أيضا ليس بصحيح، وإنما روى يزيدُ بنُ رومان قال: «كان
النَّاسُ يصلُّون في عهد عُمرَ في رمضان ثلاثاً وعِشرين ركعةً»
[(91)] ويزيد بنُ رُومان لم يدركْ عهدَ عُمرَ، فيكون في الحديث
انقطاعٌ. ثم الحديث ليس فيه نصٌّ على أنَّ عُمرَ اطَّلعَ على ذلك
فأَقرَّه، ولا يَرِدُ على هذا أنَّ ما فُعل في عهد النَّبيَّ صلّى
الله عليه وسلّم ولم يُنكرْه فإنه يكون مرفوعاً حكماً؛ لأن الرسول
صلّى الله عليه وسلّم إنْ كان عَلِمَه فقد أقرَّه، وإنْ لم يكن
عَلِمَه فقد أقرَّه الله تعالى، ولكن روى مالكٌ في «الموطأ»
بإسنادٍ مِن أصحِّ الأسانيد أن عُمرَ بن الخطاب رضي الله عنه
أَمَرَ تَميماً الدَّاريَّ وأُبيَّ بنَ كعب أنْ يقوما بالنَّاس
بإحدى عشرةَ ركعةً[(92)]. وهذا نصٌّ صريحٌ، وأَمْرٌ مِن عُمرَ رضي
الله عنه، وهو اللائقُ به رضي الله عنه، لأنَّه مِن أشدِّ النَّاسِ
تمسُّكاً بالسُّنَّةِ، وإذا كان الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم لم
يَزِدْ على إحدى عشرةَ ركعةً، فإنَّنا نعتقد بأن عُمرَ بنَ
الخطَّاب رضي الله عنه سوف يتمسَّك بهذا العدد.
وعلى هذا؛ فيكون الصحيح في هذه المسألة: أنَّ السُّنَّة في
التَّراويح أن تكون إحدى عشرة ركعة، يُصلِّي عشراً شَفْعاً،
يُسَلِّم مِن كُلِّ ركعتين، ويُوتِر بواحدة. والوِترِ كما قال ابنُ
القيم: هو الواحدة ليس الرَّكعات التي قَبْله[(93)]، فالتي قَبْله
مِن صلاة الليل، والوِتر هو الواحدة، وإنْ أوترَ بثلاث بعد العشر
وجعلها ثلاثَ عشرةَ ركعةً فلا بأس، لأن هذا أيضاً صَحَّ مِن حديث
عبدِ الله بنِ عباس رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه
وسلّم صَلَّى ثلاثَ عَشْرةَ ركعةً» [(94)].
فهذه هي السُّنَّةُ، ومع ذلك لو أنَّ أحداً من النَّاس صَلَّى
بثلاثَ وعشرين، أو بأكثرَ مِن ذلك فإنه لا يُنكر عليه؛ ولكن لو
طالب أهلُ المسجد بأن لا يتجاوز عددَ السُّنَّةِ كانوا أحقَّ منه
بالموافقة؛ لأن الدَّليل معهم. ولو سكتوا ورضوا؛ فَصَلَّى بهم أكثر
من ذلك فلا مانع.
ولا فَرْقَ في هذا العدد بين أوَّلِ الشَّهرِ وآخره. وعلى هذا؛
فيكون قيامُ العشرِ الأخيرة كالقيام في أوَّل الشَّهر.
فإذا قلنا: إنَّ الأفضل إحدى عشرةَ في العشرين الأُولى، قلنا: إنَّ
الأفضل إحدى عشرة في العشر الأخيرة ولا فَرْقَ؛ لأنَّ عائشة رضي
الله عنها تقول: «ما كان يزيد في رمضان ولا غيره» [(95)] ولم
تَسْتَثْنِ العشرَ الأواخرَ، لكن تختصُّ العشر الأواخر بالإطالة
فإن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم كان يقومُ فيها الليلَ كلَّه
[(96)]. وعلى هذا؛ فيطيل.
لكن لو اختارَ أهلُ المسجد أنْ يقصرَ بهم القراءةَ والرُّكوعَ
والسُّجودَ، ويكثِرَ مِن عددِ الرَّكعات، وقالوا له: إنَّ هذا
أرفقُ بنا، فلا حرج عليه إذا وافقهم؛ لعموم قولِ النَّبيِّ صلّى
الله عليه وسلّم: «يَسِّروا ولا تُعسِّروا» [(97)] وعموم قوله عليه
الصَّلاة والسَّلام: «إذا أمَّ أحدُكم الناسَ فَلْيُخَفِّفْ»
[(98)] وما دام الأمرُ غيرَ محظور علينا، فإن تيسيرنا على مَنْ
ولاَّنا اللهُ عليه أَولى وأحسنُ، والإِمامُ وَلِيُّ المسجد؛
مُولَّى على المأمومين، ولهذا يُقال: إمام، والإمامُ مَنْ له
الإمرة عليهم فيما يتعلَّق بالصَّلاة؛ فيأمرهم باعتدال الصُّفوف،
وتسويتها، فإذا طَلَبَ المُولَّى عليهم أنْ يرفقَ بهم بكثرة العدد
مع تخفيف الرُّكوع والسُّجود والقِراءة فليس في هذا بأس.
وهنا نقول: لا ينبغي لنا أنْ نغلوَ أو نُفَرِّطَ، فبعضُ النَّاس
يغلو من حيث التزامُ السُّنَّة في العدد، فيقول: لا تجوز الزيادة
على العدد الذي جاءت به السُّنَّةُ، وينكرُ أشدَّ النَّكير على مَن
زادَ على ذلك، ويقول: إنه آثمٌ عاصي. وهذا لا شَكَّ أنَّه خطأ،
وكيف يكون آثماً عاصياً وقد سُئِلَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
عن صلاة الليل؟ فقال: «مثنى مثنى» [(99)] ولم يُحدِّد بعدد، ومِن
المعلوم أنَّ الذي سأله عن صَلاة الليل لا يعلم العَدَد، لأنَّ
مَنْ لا يعلم الكيفيَّة فجهلُه بالعدد مِن باب أَولى، وهو ليس ممن
خَدَمَ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم حتى نقول: إنَّه يعلمُ ما
يحدثُ داخلَ بيته، فإذا كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
بَيَّنَ له كيفيَّة الصَّلاة دون أن يحدِّد له بعدد؛ عُلِمَ أنَّ
الأمرَ في هذا واسع، وأنَّ للإنسان أنْ يُصلِّيَ مِئةَ ركعة ويُوتر
بواحدة، وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كما رأيتموني
أُصَلِّي» [(100)]، فهذا ليس على عُمومِه حتى عند هؤلاء، ولهذا لا
يوجبون على الإنسان أنْ يُوتِرَ مرَّةً بخمس، ومرَّةً بسبعٍ، ومرةً
بتسع، ولو أخذنا بالعموم لقلنا: يجب أن تُوتِرَ مرَّةً بخمسٍ،
ومرَّةً بسبعِ، ومرَّةً بتسعٍ سرداً، وإنما المُرادُ: «صَلُّوا
كلَّما رأيتموني أُصلِّي» في الكيفيَّة، أما في العدد فلا، إلا ما
ثبت النَّصُّ بتحديده.
وعلى كُلٍّ؛ ينبغي للإنسان أن لا يُشدِّدَ على النَّاس في أمرٍ
واسع، حتى إنَّا رأينا مِن الإخوة الذين يشدِّدون في هذا مَنْ
يُبدِّعون الأئمة الذين يزيدون على إحدى عشرةَ، ويخرجون مِن المسجد
فيفوتهم الأجر الذي قال فيه الرَّسُولُ صلّى الله عليه وسلّم:
«مَنْ قامَ مع الإِمامِ حتى ينصرفَ كُتب له قيامُ ليلةٍ» [(101)]
وقد يجلسون إذا صَلُّوا عشرَ ركعاتٍ فتتقطَّع الصُّفوف بجلوسهم،
وربما يتحدَّثون أحياناً فَيُشوِّشون على المصلِّين، وكُلُّ هذا
مِن الخطأ، ونحن لا نشكُّ بأنهم يريدون الخير، وأنهم مجتهدون، لكن
ليس كُلُّ مجتهدٍ يكون مصيباً.
والطَّرف الثاني : عكس هؤلاء، أنكروا على مَن اقتصر على إحدى عشرة
ركعةً إنكاراً عظيماً، وقالوا: خرجت عن الإجماع وقد قال تعالى:
{{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *}} [النساء]
فكلُّ مَن قبلك لا يعرفون إلا ثلاثاً وعشرين رَكعةً، ثم يشدِّدون
في النَّكير. وهذا أيضاً خطأ.
ولكن لو فرضنا أننا في بَلدٍ لا يعرفون إلا ثلاثاً وعِشرين رَكعةً،
فليس مِن الحكمة أنْ نجابههم، فنصلِّي إحدى عشرة ركعة مِن أوَّلِ
ليلة، وإنما نُصلِّي ثلاثاً وعشرين رَكعةً، ثم نتحدَّث إليهم بما
جاءت به السُّنَّة، وأنَّ الأفضلَ إحدى عشرة، ثم يُقال: ما ترون؟
هل يقتصر على هذا العدد مع الطُّمأنينة وإطالةِ الرُّكوع والسُّجود
نوعاً ما؛ لنتمكَّن مِن الدُّعاء، ونُكثِرَ مِن الذِّكْرِ، أو أنْ
نبقى على حالنا؟ فحينئذٍ سوف يوافقون، أو يخالفون، أو يختلفون. فلا
تخلو الحال مِن واحد مِن ثلاثة أمور.
فإذا رأى أنَّ الأكثرَ على عدم الموافقة، بقي على ما هو عليه؛
لأنَّ الأمرَ واسع، وما دام الأمرُ فيه التأليف فهو خير، لكن لا
ييأس؛ يعيد الكَرَّة مَرَّة ثانية، فإن أبوا وأصرُّوا على الثلاث
والعشرين يستعمل معهم ما يراه مِن الحِكمة في إقناعهم.
ومع هذا؛ لو أنهم أبوا إلا ثلاثاً وعشرين فليتوكَّل على الله،
وليُصلِّ بهم ثلاثاً وعشرين، لكن ليحذر مما يصنعُه بعضُ الأئمة مِن
السُّرعة العظيمة في الرُّكوع والسُّجود، حتى إنَّ الواحد لا
يتمكَّن وهو شابٌّ مِن متابعة الإمام، فكيف بكبير السِّنِّ أو
المريض أو ما أشبه ذلك؟! وقد حدثني مَن أثقُ به أنه دخل مسجداً في
ليلة من ليالي رمضان، ودخل مع الإمام في صلاة التَّراويح،
وعَجَـِزَ عن إدراك المتابعة وهو نشيطٌ شابٌّ، يقول: فلما نمتُ في
الليل؛ رأيت كأنِّي دخلت على هذا المسجد، وإذا أهلُه يرقصون.
والقصد مِن هذا: أنَّ بعضَ الأئمة ـ نسأل الله لنا ولهم الهداية ـ
يتلاعبون في التَّراويح، فيصرُّون على العدد ثلاث وعشرين،
والسُّنَّة إحدى عشرة ركعةً، ويقصِّرُون في الواجب بالسُّرعة
العظيمة، والعلماءُ ـ رحمهم الله ـ يقولون: يُكره للإمام أنْ
يُسرعَ سرعةً تمنع المأموم فِعْلَ ما يُسَنُّ. وعليه؛ يَحرمُ أنْ
يُسرعَ سرعة تمنعُ المأمومَ فِعْلَ ما يجب؛ لأنَّه مؤتمن، والأمين
يجب أنْ يُراعي حال المؤتمن عليه.
مسألة : لو أنَّ أحداً صَلَّى مع هذا الإمام الذي يُسرعُ سرعةً
تمنع المأمومَ فِعْلَ ما يجب، فهل له أنْ يَخرجَ وينفردَ، أي:
ينفصلُ عن الإمام؟
الجواب : نعم، بل يجب عليه أنْ يَنفصلَ عن الإمام، سواء في
التَّراويح أو في الفريضة، فإذا أسرع سُرعةً تَعْجِزُ أنْ تُدركَ
معه الواجب، ففي هذه الحال نقول: انْفَصِلْ، وانْوِ الانفراد،
وأتمَّ وحدَك، لأنه لا يمكن أنْ تجمعَ بين المتابعة وبين القيام
بالرُّكن وهو الطُّمأنينة، فلا بُدَّ مِن أحد الأمرين، وإذا كان
النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أقرَّ الرَّجُلَ على الانفراد مِن
أجل تطويل الإمام [(102)]، فالانفرادُ مِن أجل القيام بالرُّكن مِن
باب أَوْلَى.
وقوله: «عشرون ركعة» هل بَيَّنَ المؤلِّفُ حكم التَّراويح، أم لا؟
الجواب : نعم، بَيَّنَ حكمها أولَ البابِ حيث قال: «آكدُها كسوف،
ثم استسقاء، ثم تراويح» إذاً؛ فالتَّراويحُ سُنَّةٌ.
(تنبيه) هل الجماعة في التراويح مما سَنَّهُ النَّبيُّ صلّى الله
عليه وسلّم، أم ممَّا فَعَلَه عُمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه؟
الجواب : ادَّعى بعضُ النَّاس أنها مِن سُنَنِ عُمرَ بن الخطاب،
واستدلَّ لذلك بأنَّ عُمرَ بنَ الخطَّاب أَمَرَ أُبيَّ بنَ كعب
وتميماً الدَّارِيَّ أنْ يقوما للنَّاس بإحدى عشرةَ رَكعةً[(103)].
وَخَرَجَ ذات ليلة والنَّاسُ يصلُّون، فقال: نِعْمَتِ البِدْعةُ
هذه[(104)] ، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يسبقْ لها مشروعية. وعلى
هذا؛ فتكون مِن سُنَنِ عُمرَ لا مِن سُننِ النَّبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم، وحينئذٍ لنا أنْ نعارضَ فنقول: إنها ليست بسُنَّة؛ لأن
سببها وُجِدَ في عهد الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم ولم يفعله،
والقاعدة: أنَّ ما وُجِدَ سبُبُه في عهد النَّبيِّ صلّى الله عليه
وسلّم ولم يفعلْه فإنَّه ليس بسُنَّة، لأنه كيف يتركه الرَّسولُ
والسببُ موجود؟ والسبب هنا رمضان؛ وهو موجود في عهد الرَّسول صلّى
الله عليه وسلّم، فلمَّا لم يفعلها لم تكن سُنَّة، وعلى هذا؛ فإذا
صَلَّيت الفريضة في رمضان، فاذهبْ إلى بيتك وصَلِّ، ولا تصلِّ مع
النَّاس.
ولكن؛ هذا قولٌ ضعيف، غَفَلَ قائلُه عمَّا ثَبَتَ في «الصَّحيحين»
وغيرهما أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قام بأصحابه ثلاثَ
ليالٍ، وفي الثالثة أو في الرَّابعة تخلَّف لم يُصَلِّ، وقال:
«إنِّي خشيتُ أنْ تُفرضَ عليكم» [(105)] فثبتتِ التَّراويحُ
بسُنَّة النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وذَكَرَ النَّبيُّ صلّى
الله عليه وسلّم المانعَ مِن الاستمرار فيها، لا مِن مشروعيَّتها،
وهو خَوْفُ أنْ تُفرضَ، وهذا الخوف قد زال بوفاة الرَّسولِ صلّى
الله عليه وسلّم؛ لأنه لمَّا مات صلّى الله عليه وسلّم انقطع الوحي
فأُمِنَ مِن فرضيتها، فلمَّا زالت العِلَّةُ وهو خَوْفُ الفرضية
بانقطاع الوحي ثَبَتَ زوال المعلول، وحينئذٍ تعود السُّنيَّة
النبويَّة لها، ويبقى النَّظرُ؛ لماذا لم يفعل هذا أبو بكر؟
والجواب عن ذلك : أنْ يُقال: إن مُدَّة أبي بكر رضي الله عنه كانت
سنتين وأشهراً، وكان مشغولاً بتجهيز الجيوش لقتال المرتدِّين
وغيرهم، فكان مِن النَّاس مَن يُصلِّي وحدَه، ومنهم مَن يُصلِّي مع
الرَّجُلين، ومنهم مَن يُصلِّي مع الثَّلاثة، فلما كان عُمرُ خرج
ذات ليلة فوجدهم يُصلُّون أوزاعاً، فلم يعجبه هذا التَّفرُّق، وأمر
تميماً الدَّاريَّ وأُبيَّ بنَ كعب أنْ يقوما للنَّاس جميعاً،
ويُصلِّيا بالنَّاس إحدى عشرة ركعة[(106)]، وبهذا عرفنا أنَّ
فِعْلَ عُمرَ ما هو إلا إعادة لأمرٍ كان مشروعاً.
فإن قال قائل: ما تقولون في قول عُمرَ: «نِعْمَتِ البِدعةُ» وهذا
يدلُّ على أنها مبتدعة؟
فالجواب : أنَّ هذه البِدعةَ نسبيَّةٌ، فهي بِدعةٌ باعتبار ما
سبقها، لا باعتبار أصل المشروعيَّة؛ لأنها بقيت في آخر حياة
الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم وفي خلافة أبي بكر لم تُقَمْ، فلما
استُؤنِفتْ إقامتُها، صارت كأنَّها ابتداء مِن جديد، ولا يمكن
لعُمرَ بنِ الخطَّاب أنْ يُثني على بِدعةٍ شرعيَّةٍ أبداً، وقد قال
النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: «كُلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ»
[(107)].
والعجبُ أنَّ بعضَ أهل البِدع أخذ مِن قول عُمرَ: «نِعْمتِ
البِدعةُ» باباً للبدعة، وصار يبتدع ما شاء ويقول: «نِعْمَت
البِدعةُ هذه» ، ولا شَكَّ أن هذا مِن الأخذ بالمتشابه، حتى لو
فُرضَ أنَّ عُمرَ رضي الله عنه ابتدعَ ـ وحاشاه مِن ذلك ـ فإنَّ له
سُنَّة مُتَّبعة لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسُنَّتي
وسُنَّةِ الخُلفاءِ الراشدين مِن بعدي» [(108)] فلستَ مثله، فكيف
تقول: أبتدعُ، ونِعْمتِ البِدعةُ! فَعُمَر له سُنَّة متَّبعة.
مع أنَّنَا لا نعلم أنَّ عُمَرَ ابتدع شريعةً، إنَّما ابتدع
سياساتٍ؛ لم تكن في عهد الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم؛ يرى أنَّ
فيها مصلحة.
مثل: إلزامُه بالطلاق الثَّلاث أنْ يكون ثلاثاً[(109)].
ومثل: مَنْعُه مِن بَيْعِ أمهات الأولاد، مع أنَّهُنَّ يُبعنَ في
عهد الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام[(110)].
ومثل: زيادة العقوبة في شُرب الخمر من نحو أربعين إلى
ثمانين[(111)].
فهذه سياسات يرى أنها تُحقِّقُ المصلحةَ، لكن هل زاد عُمرُ في
الصَّلوات وجعلها سِتًّا؟ لا، أو جعل ركعات الظُّهر خمساً؟ لا.
تُفْعَلُ فِي جَمَاعَةٍ .........
قوله: «تفعل في جماعةٍ» أي: تُصَلَّى التَّراويح جماعة، فإنْ
صلاَّها الإنسانُ منفرداً في بيته لم يدرك السُّنَّة.
والدَّليل : فِعلُ الرَّسول[(112)] صلّى الله عليه وسلّم، وأَمْرُ
عُمرَ رضي الله عنه، وموافقةُ أكثرِ الصَّحابة على ذلك[(113)].
مَعَ الوِتْرِ بَعْدَ العِشَاءِ فِي رَمَضَانَ ...........
قوله: «مع الوتر» أي: أنهم يُوتِرون معها.
ودليل ذلك : أنَّ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم صَلَّى
بالصَّحابة في ليلة ثلاثٍ وعشرين، وخمسٍ وعشرين، وسبعٍ وعشرين، في
الليلة الأُولى ثُلث الليل، وفي الثانية نصف الليل، وفي الثالثة
إلى قريب الفجر، ولمَّا قالوا له: لو نَفَّلْتَنَا بقيةَ ليلتنا
قال: «مَنْ قامَ مع الإمام حتى ينصرفَ كُتب له قيامُ ليلةٍ»
[(114)].
وهذا يدلُّ على أنَّه يُوتِر، فينبغي أنْ يكون الوِترُ مع
التَّراويح جماعة.
قوله: «بعد العشاء» أي: بعد صلاة العشاء، فلو صَلُّوا التَّراويحَ
بين المغرب والعِشاء لم يدركوا السُّنَّة، وكذلك أيضاً ينبغي أن
تكون بعد العِشاء وسنّتها، فإذا صَلُّوا العِشاء صَلُّوا
السُّنَّة، ثم صَلُّوا التَّراويح، ثم الوِتر.
قوله: «في رمضان» لأنَّ التَّراويحَ في غير رمضان بِدْعةٌ، فلو
أراد النَّاس أنْ يجتمعوا على قيام الليل في المساجد جماعة في غير
رمضان لكان هذا من البِدع.
ولا بأس أن يُصلِّي الإنسانُ جماعة في غير رمضان في بيته أحياناً؛
لفعل الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم: «فقد صَلَّى مرَّةً بابن
عبَّاس[(115)]، ومرَّةً بابن مسعود[(116)] ومرَّةً بحذيفة بن
اليمان[(117)]، جماعة في بيته» لكن لم يتَّخذْ ذلك سُنَّة راتبةً،
ولم يكن أيضاً يفعله في المسجد.
مسألة : إذا قال قائل: صَحَّحتُم أنها إحدى عشرة ركعة، فما رأيكم
لو صَلَّينا خلف إمام يُصلِّيها ثلاثاً وعشرين، أو أكثر، هل إذا
قام إلى التَّسليمة السَّادسة نجلسُ وَنَدَعُهُ، أو الأفضل أنْ
نكمِلَ معه؟
فالجواب : أنَّ الأفضلَ أنْ نكملَ معه، ودليلُ ذلك من وجهين:
الوجه الأول : قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في قيام رمضان:
«إنَّه مَنْ قَامَ مع الإمام حتى ينصرفَ كُتب له قيامُ ليلةٍ»
[(118)] ومَن جَلَسَ ينتظر حتى يَصِلَ الإمامُ إلى الوِتر ثم أوتر
معه، فإنه لم يُصلِّ مع الإمام حتى ينصرفَ؛ لأنه تَرَكَ جُزءاً مِن
صَلاته.
الوجه الثاني : عُموم قَوْلِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم:
«إنما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به» [(119)] وهذا يشمَلُ كلَّ فِعْلٍ
فَعَلَه الإمامُ ما لم يكن منهيًّا عنه، والزيادةُ على إحدى عشرة
ليس منهيًّا عنها، وحينئذٍ نتابع الإمامَ.
أما لو كانت الزِّيادةُ منهيًّا عنها مثل: أنْ يُصلِّيَ الإمامُ
صلاةَ الظُّهر خمساً فإننا لا نتابعُه.
ثم ينبغي أنْ نعلمَ أنَّ اتفاقَ الأُمَّة مقصودٌ قصداً أوَّليًّا
بالنسبة للشَّريعة الإسلامية؛ لأنَّ الله يقول: {{وَإِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}} [المؤمنون: 52] ، والتَّنازع بين
الأمة أَمْرٌ مرفوضٌ، قال الله تعالى: {{وَلاَ تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ}} [آل عمران: 105] ، وقال الله تعالى: {{شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}}
[الشورى: 13] ، وقال تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ
إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *}}
[الأنعام] ، وقال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تختلفوا
فتختلفَ قلوبُكم» [(120)]، يقوله في تساوي النَّاس في الصَّفِّ.
ولما صَلَّى عثمانُ رضي الله عنه في مِنَى في الحَجِّ الرُّباعية
أربعاً ولم يقصر بعد أنْ مَضى مِنْ خِلافته ثماني سنوات، وأنكرَ
النَّاسُ عليه، وقالوا: قَصَرَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
وأبو بكر وعُمرُ[(121)]، يعني: وأنت في أول خِلافتك، لكنه رضي الله
عنه تأوَّل، فكان الصَّحابة الذين ينكرون عليه يصلُّون خلفَه
أربعاً[(122)]، وهم ينكرون عليه، مع أنَّ هذه زيادة متَّصلة
بالصَّلاة مُنكرَة عندهم، ولكن تابعوا الإمام فيها إيثاراً
للاتِّفاق.
فما بالك بزيادة منفصلة، لو تعمَّدها الإنسان لا تؤثِّر على بطلان
الصَّلاة؟ ثم يقول: إننا متمسِّكون بالسُّنَّة ومتَّبعون لآثار
الصَّحابة. مع مخالفته في هذه المسألة.
فإني أقول: إنَّ كلَّ إنسان يقول: إنه متَّبعٌ للسُّنَّة متَّبعٌ
لهدي السَّلف؛ فإنه لا يسعه أن يدعَ الإمامَ إذا صَلَّى ثلاثاً
وعشرين ويقول: أنا سأَتَّبعُ السُّنَّةَ وأصلِّي إحدى عشرة؛ لأنك
مأمورٌ بمتابعة إمامك منهيٌّ عن المخالفة، ولست منهيًّا عن الزيادة
عن إحدى عشرة.
فيجب على طَلَبَةِ العِلم خاصَّة، وعلى النَّاس عامَّة أن
يَحْرِصُوا على الاتفاق مهما أمكن؛ لأن مُنْيَةَ أهل الفِسقِ وأهلِ
الإلحاد أنْ يختلفَ أصحابُ الخير، لأنه لا يوجد سلاحٌ أشدُّ فتكاً
مِن الاختلاف، وقد قال موسى للسَّحرة: {{وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ
افْتَرَى}{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}} [طه:61 ـ 62] ،
فلما تنازعوا فَشِلوا وذهبت ريحُهم.
فهذا الاختلاف الذي نجده من بعض الإخوة الحريصين على اتِّباع
السُّنَّة في هذه المسألة وفي غيرها، أرى أنه خِلاف السُّنَّةِ،
وخِلافُ ما تقصده الشَّريعة مِن توحّدِ الكلمة واجتماعِ الأمَّة،
لأنَّ هذا ـ ولله الحمد ـ ليس أمراً محرَّماً ولا منكراً، بل هو
أمْرٌ يسوغ فيه الاجتهادُ، فكوننا نولِّد الخِلافَ ونشحنُ القلوبَ
بالعداوة والبغضاء والاستهزاء بمن يخالفنا في الرَّأي، مع أنه
سائغٌ ولا يخالف السُّنَّة، فالواجب على الإنسان أنْ يَحْرِصَ على
اجتماع الكلمة ما أمكن.
وحتى المتابعة بالخَتْمَةِ لا بأس بها أيضاً، لأن الخَتْمة نصَّ
الإمام أحمد رضي الله عنه وبعضُ أهل العلم: على أنه يستحبُّ أنْ
يختِمَ بعد انتهاء القرآن قبلَ الرُّكوع. وهي ـ وإنْ كانت مِن
ناحية السُّنَة ليس لها دليل بخصوصها ـ لكن ما دام أنَّ بعضَ
الأئمة قالوا بها ولها مَسَاغ أو اجتهاد، وليكن مخطئاً: ما دام أنه
ليس محرَّماً؛ فلماذا نُخْرِجُ أو نُسفِّهُ أو نُخَطِّىءُ أو
نبدِّعُ مَنْ فَعَلَ شيئاً نحن لا نراه؟ وما دام أنَّ الأمر ليس
إليك، ولكن إمامك يفعلها؛ فلا مانع مِن فِعْلِها.
وانظروا إلى الأئمة الذين يعرفون مقدار الاتفاق، فقد كان الإمام
أحمدُ رحمه الله يرى أنَّ القُنُوتَ في صلاة الفجر بِدْعة، ويقول:
إذا كنت خَلْفَ إمام يقنت فتابعه على قُنُوتِهِ، وأمِّنْ على
دُعائه، كُلُّ ذلك مِن أجل اتِّحاد الكلمة، واتِّفاق القلوب، وعدم
كراهة بعضنا لبعض.
وَيُوتِرُ المُتَهَجِّدُ بَعْدَهُ فَإِنْ تَبعَ إِمَامَهُ شَفَعَهُ
بِرَكْعَةٍ .........
قوله: «ويوتر المتهجد بعده» . «بعده» أي: بعد تهجُّده، أي: إذا كان
الإنسان يحبُّ أنْ يتهجَّدَ بعد التراويح في آخر الليل، فلا يُوتر
مع الإمام؛ لأنه لو أوتر مع الإِمام خالف أمرَ النَّبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم في قوله: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وِتراً» [(123)]،
وعلى هذا يوتر بعد تهجُّده، فإذا قام الإمام ليوتر ينصرف هو، ولا
يوتر معه، هذا ما ذهب إليه المؤلِّفُ رحمه الله.
وقال بعض العلماء : بل يوتر مع الإمام ولا يتهجَّد بعده؛ لأن
الصَّحابة لما طلبوا من النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أن ينفِّلَهم
بقيَّة ليلتهم قال: «مَنْ قامَ مع الإمام حتى ينصرفَ كُتب له قيامُ
ليلةٍ» [(124)] وفي هذا إشارة إلى أن الأَولى الاقتصار على الصلاة
مع الإمام؛ لأنه لم يرشدهم إلى أن يدعوا الوتر مع الإمام، ويصلُّوا
بعده في آخر الليل؛ وذلك لأنه يحصُل له قيام الليل كأنه قامه
فعلاً، فيكتب له أجر العمل مع راحته، وهذه نِعمة.
قوله: «فإن تبع إمامه شفعه بركعة» يعني: إذا تابع المتهجِّدُ إمامه
فصلَّى معه الوتر أتمّه شفعاً، فأضاف إليه ركعة، وهذا هو الطريق
الآخر للمتهجِّد؛ فيتابعُ إمامَهُ في الوِتر، ويشفعه بركعة؛ لتكون
آخر صلاته بالليل وِتراً. فإذاً يتابع الإمام، فإذا سَلَّم الإمام
من الوتر قام فأتى بركعة وسَلَّم، فيكون صَلَّى ركعتين، أي: لم
يُوتر، فإذا تهجَّد في آخر الليل أوتر بعد التهجُّد، فيحصُل له في
هذا العمل متابعة الإمام حتى ينصرف، ويحصُل له أيضاً أن يجعل آخر
صلاته بالليل وِتراً، وهذا عمل طيب.
فإن قال قائل: مِن أين لكم أنَّه يجوزُ أنْ يخالفَ المأمومُ إمامَه
بالزِّيادة على ما صَلَّى إمامُه، وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه
وسلّم: «إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتمَّ به» [(125)]؟
قلنا: دليلنا على هذا: أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم لمَّا
كان يُصلِّي بأهل مَكَّة في غزوة الفتح كان يُصلِّي بهم ركعتين،
ويقول: «يا أهلَ مكَّةَ، أتِمُّوا، فإنَّا قومٌ سَفْرٌ» [(126)]
فكانوا ينوون الأربع وهو ينوي ركعتين، فإذا سَلَّم مِنَ الرَّكعتين
قاموا فأكملوا، وهذا الذي دَخَلَ مع إمامِهِ في الوِتر لم ينوِ
الوِتر، وإنما نوى الشَّفعَ، فإذا سَلَّمَ إمامُهُ قامَ فأتى
بالرَّكعة، وهذا قياسٌ واضحٌ لا إشكال فيه.
فإنْ قال قائل: ألا يخالفُ هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ
قامَ مع الإمامِ حتى ينصرفَ كُتبَ له قيامُ ليلةٍ» [(127)].
قلنا: لا يخالفه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يقل:
مَنْ قامَ مع الإمام فانصرفَ معه كُتب له قيامُ ليلةٍ، بل جَعل
غاية القيام حتى ينصرفَ الإمامُ، ومَنْ زاد على إمامه بعد سلامِهِ
فقد قامَ معه حتى انصرفَ.
وَيُكْرَهُ التّنَفُّلُ بَيْنَهَا، لاَ التَّعْقِيبُ فِي
جَمَاعَةٍ..........
قوله: «ويكره التنفل بينها» يعني: أنَّ التنفُّلَ بين التَّراويح
مكروه، وهذا يقعُ على وجهين:
الوجه الأول : أن يَتَنفَّلَ والنَّاس يصلُّون، وهذا لا شَكَّ في
كراهته؛ لخروجه عن جماعة النّاس، إذ كيف تُصلِّي وحدك والمسلمون
يصلُّون جماعة؟
فإن قال: أنا لم أُصَلِّ صلاةَ الفريضة، وأريد أنْ أصلِّي العِشاء؟
نقول: لا مانع، ادخلْ مع الإمام في التَّراويح بنيَّة الفريضة، أي:
بنية العشاء، فإذا سَلَّم فَقُمْ وائتِ بركعتين إكمالاً للفريضة،
إلا أن تكون مسافراً فَسلِّم معه، ثم ادخلْ معه في التَّراويح
بنيَّة راتبة العشاء، إن لم تكن مسافراً، فإذا صَلَّيت راتبة
العِشاء ادخلْ معه في التَّراويح، ولا يضرُّ اختلاف نيَّة الإمام
والمأموم، أي: يجوز أن ينوي الإمام النَّافلة والمأموم الفريضة،
وهذا ما نصَّ عليه الإمامُ أحمد: من أنَّه يجوز أن يُصلِّيَ
الإنسان صلاة العشاء خلف من يُصلِّي التَّراويح.
الوجه الثَّاني: أن يُصلِّي بين التَّراويح إذا جلسوا للاستراحة،
فنقول: لا تتنفَّل ولهذا قال: «يُكره التنفُّل بينها» .
قوله: «لا التعقيب في جماعة» أي: لا يُكره التَّعقيب بعد
التَّراويح مع الوِتر، ومعنى التَّعقيب: أن يُصلِّيَ بعدها وبعد
الوِتر في جماعة.
وظاهرُ كلامه: ولو في المسجد.
مثال ذلك: صَلّوا التَّراويح والوتر في المسجد، وقالوا: احضروا في
آخر الليل لنقيم جماعة، فهذا لا يُكره على ما قاله المؤلِّف، ولكن
هذا القول ضعيف، لأنه مستندٌ إلى أثر عن أنس بن مالك رضي الله عنه
أنَّه قال: «لا بأس به إنما يرجعون إلى خير يرجونه...»[(128)] أي:
لا ترجعوا إلى الصَّلاة إلا لخير ترجونه، لكن هذا الأثر ـ إنْ
صَحَّ عن أنس ـ فهو مُعَارِض لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«اجْعَلوا آخِرَ صَلاتِكم بالليل وِتْراً» [(129)] فإنَّ هؤلاء
الجماعة صَلُّوا الوِتر، فلو عادوا للصَّلاة بعدها لم يكن آخرُ
صلاتهم بالليل وِتراً، ولهذا كان القولُ الرَّاجحُ: أنَّ التَّعقيب
المذكور مكروه، وهذا القول إحدى الرِّوايتين عن الإمام أحمد رحمه
الله، وأطلق الروايتين في «المقنع» و«الفروع» و«الفائق» وغيرها،
أي: أنَّ الروايتين متساويتان عن الإمام أحمد، لا يُرَجَّح إحداهما
على الأخرى.
لكن لو أنَّ هذا التَّعقيبَ جاء بعد التَّراويح وقبل الوِتر، لكان
القول بعدم الكراهة صحيحاً، وهو عمل النَّاس اليوم في العشر
الأواخر من رمضان، يُصلِّي النَّاس التَّراويح في أول الليل، ثم
يرجعون في آخر الليل، ويقومون يتهجَّدون.
ثُمَّ السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ: رَكعَتَانِ قَبْلَ الظّهْرِ،
وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ المَغْرِبِ،
وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ العِشَاءِ، ..........
قوله: «ثم السنن» أي: بعد التَّراويح السُّنَن الراتبة، وفي هذا
شيء مِن النَّظر، لأنه مرَّ بنا في أوَّلِ كتابِ التَّطوعِ قولُ
المؤلِّفِ[(130)]: «آكدها كسوف، ثم استسقاء، ثم تراويح، ثم وِتر» ،
فجعل الوِترَ يلي التراويح، ويُجاب عن ذلك بأحد وجهين:
إمَّا أنْ تكون «ثم السُّنَن الراتبة» للتَّرتيب الذِّكري.
وإما أن يكون العطفُ يلي قوله: «ثم وِتر»، أي: ثم يلي الوِتر
السُّنَن الرَّواتب، فتكون السُّنن الرواتب في المرتبة الخامسة.
قوله: «الراتبة...» أي: الدَّائمة المستمِرَّة، وهي تابعة للفرائض:
ركعتان قبل الظُّهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان
بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، هذه عشر ركعات.
إذاً؛ صلاةُ العصر ليس سُنَّة راتبة، وهو كذلك؛ لكن لها سُنَّة
مطلقة، وهي: السُّنَّة الداخلة في عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«بينَ كُلِّ أذانينِ صلاةٌ» [(131)].
وجَعَلَ المؤلِّفُ الرَّواتبَ عَشْراً؛ استناداً في ذلك إلى حديثِ
عبدِ الله بنِ عُمرَ رضي الله عنهما قال: حَفِظْتُ عن رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم عَشْرَ رَكعات»[(132)] وذكرها.
وهذا أحدُ القولين في المسألة.
والقول الثاني في المسألة: أنَّ السُّننَ الرَّواتبَ اثنتا
عَشْرَةَ رَكعةً؛ استناداً إلى ما ثبت في «صحيح البخاري» مِن حديث
عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لا
يَدَعُ أربعاً قبل الظُّهرِ» [(133)] وكذلك صَحَّ عنه: «أنَّ مَنْ
صَلَّى اثنتي عشرة رَكعةً مِن غير الفريضة بنى اللهُ له بِهنَّ
بيتاً في الجنَّة» [(134)] وذكر منها «أربعاً قبل الظُّهر» [(135)]
والباقي كما سبق.
وعلى هذا؛ فالقول الصحيح: أنَّ الرَّواتب اثنتا عشرة ركعة: ركعتان
قبل الفجر، وأربع قبل الظُّهر بسلامين وركعتان بعدها، وركعتان بعد
المغرب، وركعتان بعد العِشاء.
وفائدة هذه الرَّواتب: أنها تُرقِّعُ الخَللَ الذي يحصُلُ في هذه
الصَّلوات المفروضة.
وَرَكْعَتَانِ قَبلَ الفَجْرِ وَهُمَا آكَدُهَا،..........
قوله: «وركعتان قبل الفجر وهما آكدها» أي: آكد هذه الرَّواتب.
ودليل آكديتها: قولُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «ركعتا
الفَجْرِ خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها» [(136)] الدُّنيا منذ خُلقت
إلى قيام الساعة بما فيها مِن كُلِّ الزَّخارف مِن ذَهَبٍ وفضَّةٍ
ومَتَاعٍ وقُصور ومراكب وغير ذلك، هاتان الرَّكعتان خيرٌ مِن
الدُّنيا وما فيها؛ لأنَّ هاتين الرَّكعتين باقيتان والدُّنيا
زائلة.
ودليل آخر على آكديتهما: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «كان
لا يدعهما حضراً ولا سفراً»[(137)] .
وتختصُّ هاتان الرَّكعتان ـ أعني ركعتي الفجر بأمور ـ:
أولاً: مشروعيتهما في السَّفر والحضر.
ثانياً: ثوابهما؛ بأنهما خير من الدُّنيا وما فيها.
ثالثاً: أنه يُسَنُّ تخفيفهما، فَخَفِّفْهُمَا بقَدْرِ ما تستطيع،
لكن بشرط أن لا تُخِلَّ بواجب؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها قالت:
«كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يُخَفِّفُ الركعتين اللتين قبل
صَلاةِ الصُّبحِ، حتى إنِّي لأقولُ: هل قَرَأَ بأُمِّ
الكتابِ»؟[(138)] تعني: مِن شدَّة تخفيفه إيَّاهما.
رابعاً: أنْ يقرأ في الرَّكعة الأُولى بـ: {{قُلْ يَاأَيُّهَا
الْكَافِرُونَ *}} [الكافرون] ، وفي الثانية: بـ: {{قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ *}} [الإخلاص] [(139)] ، أو في الأُوْلَى {{قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ}} [البقرة: 136] الآية في سورة البقرة و{{قُلْ
يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا}} [آل عمران: 52] الآية في سورة آل عمران[(140)]. فتقرأ
أحياناً بسورتي الإخلاص، وأحياناً بآيتي البقرة وآل عمران، وإن كنت
لا تحفظ آيتي البقرة وآل عمران، فاقرأ بسورتي الإخلاص والكافرون .
خامساً: أنه يُسَنُّ بعدهما الاضطجاع على الجَنْبِ الأيمن، وهذا
الاضطجاع اخْتَلَفَ العلماءُ فيه:
فمِنْهم مَن قال: إنَّه ليس بسُنَّةٍ مطلقاً.
ومِنْهم مَن قال: إنَّه سُنَّةٌ مطلقاً.
ومِنْهم مَن قال: إنه سُنَّةٌ لِمَن يقوم الليل؛ لأنَّه يحتاج إلى
راحة حتى ينشطَ لصلاة الفجر.
ومِنْهم مَن قال: إنَّه شرط لصحَّة صلاة الفجر، وأنَّ مَنْ لم
يضطجع بعد الرَّكعتين فصلاةُ الفجر باطلة. وهذا ما ذهب إليه ابنُ
حَزْمٍ رحمه الله، وقال: إِنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم
قال: «إِذا صَلَّى أحدُكم ركعتي الفجر فليضطجع بعدهما» [(141)]،
فأمر بالاضطجاع. لكن يُجاب بما يلي:
أولاً: هذا الحديث ضعيف، فلم يصحَّ عن النبيِّ صلّى الله عليه
وسلّم مِن أمْرِه، بل صَحَّ مِن فِعْلِهِ[(142)].
ثانياً : ما علاقةُ هذا بصلاةِ الفَجْرِ! ولكن يدلُّكَ هذا على
أنَّ الإنسانَ مهما بلغ في العلم فلا يسلم من الخطأ.
وأصحُّ ما قيل في هذا: ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو
التفصيل، فيكون سُنَّةً لمن يقوم الليل؛ لأنَّه يحتاج إلى أن
يستريحَ، ولكن إذا كان مِن الذين إذا وضع جَنْبَهُ على الأرض
نام؛ولم يستيقظ إلا بعد مُدَّة طويلة؛ فإنه لا يُسَنُّ له هذا؛ لأن
هذا يُفضي إلى تَرْكِ واجب.
وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْهَا سُنَّ لَهُ قَضَاؤُهُ ............
قوله: «ومن فاته شيء منها سُنَّ له قضاؤه» «مَنْ» اسمُ شَرْطٍ،
وفِعْلُ الشرط «فاته» ، وجوابُه «سُنَّ له قضاؤه» ، أي: مَنْ فاته
شيءٌ مِن هذه الرَّواتب، فإنَّه يُسَنُّ له قضاؤه، بشرط أنْ يكون
الفوات لعُذر.
ودليل ذلك : ما ثَبَتَ مِن حديث أبي هريرة وأبي قتادة في قِصَّة
نَوْمِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وهم في السَّفَر عن
صلاة الفجر، حيث صَلَّى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم راتبة الفجر
أولاً، ثم الفريضة ثانياً[(143)].
وكذلك أيضاً حديث أمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النبيَّ صلّى الله عليه
وسلّم شُغِلَ عن الرَّكعتين بعد صلاة الظُّهر؛ فقضاهما بعد صَلاة
العصر» [(144)] وهذا نَصٌّ في قضاء الرَّواتب.
وأيضاً: عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ نَامَ عن صلاة؛ أو
نسيها؛ فَلْيُصَلِّها إذا ذكرها» [(145)] وهذا يَعمُّ الفريضةَ
والنَّافلةَ، وهذا إذا تركها لعُذر؛ كالنسيان والنوم؛ والانشغال
بما هو أَهَمُّ.
أما إذا تركها عمداً حتى فاتَ وقتُهَا فإنه لا يقضيها، ولو قضاها
لم تصحَّ منه راتبة؛ وذلك لأَنَّ الرَّواتب عبادات مؤقَّتة،
والعبادات المؤقَّتة إذا تعمَّد الإنسانُ إخراجَها عن وقتها لم
تُقبل منه.
ودليل ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليس
عليه أمْرُنَا فهو رَدٌّ» [(146)]، والعبادةُ المؤقَّتَةُ إِذا
أخَّرتَها عن وقتها عمداً فقد عَمِلتَ عمَلاً ليس عليه أمرُ الله
ورسوله، لأنَّ أَمْرَ الله ورسوله أنْ تصلِّيها في هذا الوقت، فلا
تكون مقبولةً[(147)].
وأيضاً: فكما أنَّها لا تصحُّ قبل الوقت فلا تصحُّ كذلك بعدَه؛
لعدم وجود الفَرْقِ الصَّحيح بين أنْ تفعلها قبل دخول وقتها أو بعد
خروج وقتها إذا كان لغير عُذر.
إذاً؛ قوله: «مَنْ فاتَه شيءٌ منها سُنَّ له قضاؤه» يُقيَّد بما
إذا فاته لعُذر، ورُبَّما يُشعر به قوله: «مَنْ فاته شيء» لأن
الفوات: سَبْق لا يدرك، والمؤلِّفُ لم يقل: «ومَنْ لم يصلِّها
فليقضها» بل قال: «مَنْ فاته» ، ومنه قولهم: «مَنْ فاته الوقوف
بعرفة فاته الحجُّ» .
وَصَلاَةُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ النَّهَارِ،...........
قوله: «وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار» . اعلمْ أنَّ صلاة
التطوُّع نوعان: نوعٌ مطلق، ونوعٌ مقيَّد.
أما المقيَّد: فهو أفضل في الوقت الذي قُيِّدَ به، أو في الحال
التي قُيِّدَ بها.
فمثلاً: تحيُّة المسجد، إذا دخلته ولو في النَّهار أفضل من صلاة
الليل؛ لأنها مقيَّدة بحال مِن الأحوال؛ وهي دخول المسجد، وسُنَّة
الوُضُوء ـ إذا توضَّأت فإنه يُسَنُّ لك أن تُصَلِّيَ رَكعتين ـ
أفضل من صلاة الليل ولو كانت في النَّهار؛ لأنها مقيَّدة بسبب مِن
الأسباب.
أما المطلق: فهو في الليل أفضل منه في النَّهار، لقول النبيِّ صلّى
الله عليه وسلّم: «أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ الفريضةِ صلاةُ اللَّيل»
[(148)]، واللَّيلُ يدخل مِن غروب الشَّمس، فالصَّلاة مثلاً بين
المغرب والعِشاء أفضل مِن الصَّلاة بين الظُّهر والعصر؛ لأنها صلاة
ليل فهي أفضل.
والمطلق يُسَنُّ الإكثار منه كلَّ وقت؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم
للرَّجُل الذي قال: أسألك مرافقتك في الجَنَّةِ؛ قال: أَوَ غَيْرَ
ذلك، قال: هو ذاك قال: «فأعنِّي على نفسك بكثرة السُّجود» [(149)].
وَأَفْضَلُهَا ثُلُثُ اللَّيْلِ بَعْدَ نِصْفِهِ ..........
قوله: «وأفضلها» أي: أفضلُ وَقْتِ صلاة اللَّيلِ.
قوله: «ثُلُثُ الليل بعد نصفه» أي: أنك تقسم الليل أنصافاً، ثم
تقوم في الثُّلثِ من النِّصفِ الثَّاني، وفي آخر الليل تنام.
ودليل ذلك: قَولُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «أفضلُ
الصَّلاةِ صلاةُ داود، كان ينامُ نصفَ الليلِ، ويقومُ ثُلُثَه،
وينام سُدُسَه» [(150)] وفي «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها
قالت: «ما ألفاه ـ يعني النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم ـ السَّحَر
عندي إلا نائماً» [(151)] أي: أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم
كان ينام في السَّحَر في آخر الليل.
وهناك تعليل : وهو أنَّ نوم الإنسان بعد القيام يُكسب البدنَ
قُوَّةً ونشاطاً، فيقوم لصلاة الفجر وهو نشيط.
وأيضاً: إذا نامَ سُدُسَ الليلِ الآخرِ؛ نقضت هذه النَّومةُ سهره،
وأصبح أمام النَّاس وكأنه لم يقمِ اللَّيلَ، فيكون في هذا إبعاداً
له عن الرِّياء.
إذاً؛ الأفضل ثُلُث الليل بعد النِّصف؛ لينام في آخرِ الليل.
فإن قال قائل: لماذا لا تجعلون الأفضلَ ثُلُث الليلِ الآخرِ؛ لأنَّ
ذلك وقت النُّزول الإلهي؟.
فالجواب : أنَّ الذي يقوم ثُلُث الليل بعد نصفه سوف يدرك النُّزول
الإلهي؛ لأنه سيدرك النصف الأول مِن الثلث الأخير، فيحصُل
المقصودُ، والنبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام هو الذي قال: «أفضلُ
الصَّلاة صلاة داود» [(152)].
مسألة : ما هو الليلُ المعتبرُ نصفُه؟
الظَّاهر: أنَّه مِن غروب الشَّمس إلى طُلُوع الفجر، فيكون نصف
الليلِ في الشِّتاء بعد مضي سِتِّ ساعات مِن الغُروب؛ لأنَّ ليل
الشِّتاء اثنتا عشرة ساعة، ويكون في بعض الأوقات بعد خمس ساعات مِن
الغُروب؛ لأنَّ الليلَ يكون فيها حوالي عَشْرَ ساعات، فعُدَّ مِن
غروب الشَّمس إلى طُلوع الفجر، ونصفُ ما بينهما هذا هو نصف الليل.
وَصَلاَةُ لَيْلٍ وَنَهَارٍ مَثْنَى مَثْنَى ...........
قوله: «وصلاة ليل ونهار مثنى مثنى» يعني: اثنتين اثنتين فلا
يُصلِّي أربعاً جميعاً، وإنما يُصلِّي اثنتين اثنتين، لما ثبت في
«صحيح» البخاري ومسلم مِن حديث ابن عُمرَ رضي الله عنهما أنَّ
رَجُلاً سأل النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما ترى في صلاةِ
اللَّيلِ؟ قال: «مَثْنى مَثْنى، فإذا خَشِيَ أحدُكم الصّبحَ؛
صَلَّى واحدةً فأوترت له ما قد صَلَّى» [(153)].
وأما «النَّهار» فقد رواه أهل السُّنَن[(154)]، واختلف العلماءُ في
تصحيحه.
والصَّحيح: أنَّه ثابتٌ كما صَحَّح ذلك البخاريُّ رحمه
الله[(155)]. وعلى هذا؛ فتكون صلاةُ الليلِ وصلاةُ النَّهارِ
كلتاهما مَثْنى مَثْنى يُسَلِّمُ مِن كُلِّ اثنتين، ويُبْنَى على
هذه القاعدة كُلُّ حديثٍ وَرَدَ بلفظ الأربع مِن غير أن يُصرِّحَ
فيه بنفي التَّسليم، أي: أنَّه إذا جاءك حديثٌ فيه أربع؛ ولم
يُصرِّحْ بنفي التَّسليم؛ فإنه يجب أنْ يُحملَ على أنَّه يُسَلِّمُ
مِن كُلِّ رَكعتين، لأنَّ هذه هي القاعدة، والقاعدةُ تُحمل
الجزئيات عليها. فقول عائشة رضي الله عنها لما سُئلت عن صلاة
النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في رمضان: «ما كان يزيد في رمضان ولا
غيره على إحدى عشرة ركعة، يُصَلِّي أربعاً، فلا تسأل عن حُسنِهِنَّ
وطُولِهِنَّ» [(156)]، ظاهره: أنَّ الأربع بسلام واحد، ولكن يُحمل
هذا الظَّاهر على القاعدة العامَّة، وهي أنَّ صلاة الليل مَثْنى
مَثْنى، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ويُقال:
إنها ذكرتْ أربعاً وحدها، ثم أربعاً وحدها؛ لأنَّه صَلَّى أربعاً
ثم استراح، بدليل «ثم» التي للترتيب والمهلة. وقد سبقت هذه
المسألة[(157)].
مسألة : إذا كانت صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فما الحكم لو قام
الإنسان إلى ثالثة.
الجواب : صلاته تبطل إذا تعمَّد؛ لأنه إذا تعمَّد الزِّيادة على
اثنتين فقد خالف أمْر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدَّال على
أن صلاة الليل مثنى مثنى، وإذا خالف أَمْرَ رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم فقد قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ عَمِلَ
عملاً ليس عليه أَمْرُنَا فهو رَدٌّ» [(158)]، ولهذا قال الإمام
أحمد: إذا قام إلى ثالثة في صلاة الليل فكأنما قام إلى ثالثة في
صلاة الفجر، ومن المعلوم أنه إذا قام إلى ثالثة في صلاة الفجر
متعمِّداً بطلت صلاته بالإجماع، فكذلك إذا قام إلى ثالثة في
التطوُّع في صلاة الليل فإنَّ صلاته تبطل إنْ كان متعمِّداً، وإنْ
كان ناسياً وَجَبَ عليه الرُّجوع متى ذَكَرَ، ويسجد للسَّهوِ بعد
السَّلام من أجل الزِّيادة، وبه نفهم جهل من يتعمَّد في التَّراويح
في رمضان إذا قام إلى ثالثة ثم ذَكَرَ أن يستمرَّ، ثم يفتي نفسه
ويقول: «إن استتمَّ قائماً كُرهَ الرُّجوع» «وإن شرعَ بالقراءة
حُرِّمَ الرُّجوع» فيكون جاهلاً جهلاً مركَّباً، لأن هذا الحكم
فيمن قام عن التشهُّد الأول، أما من قام إلى زائدة فحكمه وجوب
الرُّجوع مطلقاً.
والجهل المركَّب ضرره عظيم، فإن الجاهل المركَّب يرى أنه على حقٍّ
فهو يمدُّ يداً طويلة، وربما يعتقد أنه أعلمُ من الإمام أحمد وابن
تيمية، وهو كما قال حمار تُوما:
قال حِمَارُ الحكيم تُوما
لو أنصفَ الدَّهرُ كنتُ أَرْكَبْ
وتوما رَجُلٌ يدَّعي الحكمةَ، ويركب على الحِمَار، فقال الحِمَارُ:
لو أنصفَ الدَّهرُ كنت أركبُ، وعَلَّلَ ذلك بقوله:
لأَنَّني جَاهلٌ بَسيط
وصَاحبي جَاهلٌ مُركَّبْ
والجاهلُ البسيط؛ حاله أكمل مِن الجاهل المُركَّب.
وذُكِرَ لي أنَّ بعضَ الناس يطرد هذه القاعدة فيما إذا قام إلى
خامسة في الظُّهر فيقول: إذا شرع بالقراءة حُرِّمَ الرُّجوعُ، وهذا
كُلُّه خطأ، بل مَنْ قام إلى زائدة وجب عليه الرُّجوع متى ذَكَرَ،
وإنْ كان قد شَرَع في القِراءة، وإذا قام إلى ثالثة في النَّهار،
فمقتضى الحديث أنْ يكون كما لو قام إلى ثالثة في الليل، وأنه لو
استمرَّ لبطلت صلاتُه.
وَإِنْ تَطَوَّعَ فِي النَّهَارِ بِأَرْبَعٍ كَالظُّهْرِ فَلاَ
بَأْسَ........
قوله: «وإن تطوَّع» أي: صَلَّى صلاة تطوُّع في النَّهار، أي: لا في
الليل.
قوله: «كالظُّهر» أي: بتشهُّدين، تشهُّد أول وتشهُّد ثاني.
قوله: «فلا بأس» أي: لا حرج؛ فتصحُّ صلاتُه، واستدلَّ في «الرَّوض»
بحديث أبي أيوب: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يُصَلِّي
قَبْلَ الظُّهر أربعاً لا يفصِلُ بينهن بتسليمٍ[(159)] . ولكن
الحديث ليس فيه أنَّ الأربع تكون بتشهُّدين، ولهذا نرى أنه إذا
صَلَّى أربعاً بتشهُّدين فهو إلى الكراهة أقرب، بدليل أنَّ النبيَّ
صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا توتروا بثلاث لا تشبهوا بصلاة
المغرب» [(160)]، وهو الصَّحيح، وهذا يدلُّ على أن الشَّارع يريد
أن لا تلحق النَّوافل بالفرائض، والرَّجُل إذا تطوَّع بأربع وجعلها
كالظُّهر بتشهُّدين فقد ألحق النَّافلة بالفريضة.
وهذا الحديث ـ إن صَحَّ عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام أنه
فَعَلَ هذا ـ فمن المعلوم أنَّ الواجبَ قَبولُه، ويكون مُستثنى مِن
الحديث الذي هو قاعدة عامَّة في أنَّ صلاة الليل والنهار مثنى
مثنى.
وَأَجْرُ صَلاَةِ قَاعِدٍ عَلَى نِصْفِ أَجْرِ صَلاَةِ قَائِمٍ
........
قوله: «وأجر صلاة قاعد على نصف أجر صلاة قائم» أي: تصحُّ صلاة
القاعد لكنها على النِّصف مِن أجر صلاة القائم، والمراد هنا في
النَّفل، ولهذا ساقها المؤلِّفُ رحمه الله في صلاة التطوُّع.
أما الفريضة؛ فصلاةُ القاعدِ القادرِ على القيام ليس فيها أجر؛
لأنها صلاة باطلة، لأنَّ مِن أركان الصَّلاة في الفريضة القيام مع
القدرة.
وقوله: «أجر صلاة قاعد» مراده إذا كان قاعداً بلا عُذر، أما إذا
كان قاعداً لعُذر، وكان من عادته أن يُصلِّي قائماً، فإنَّ له
الأجر كاملاً لقولِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مَرِضَ
العبدُ أو سافرَ؛ كُتب له مثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً»
[(161)].
وهذه مِن نِعَمِ الله التي تستوجب على العاقل أن يُكثر من
النَّوافل ما دام في حال الصِّحَّة؛ لأن جميع النَّوافل التي
يعملها في صحَّته إذا مَرِضَ وعَجِزَ عنها كُتبتْ له كاملة كأنه
يفعلها.
أما إذا كان لغير عُذر فهو على النِّصفِ مِن أَجْرِ صلاة القائم،
فإذا كان أَجْرُ صلاة القائم عشرَ حسناتٍ، كان لهذا القاعد خمسُ
حسناتٍ، ووَرَدَ في الحديث أنَّ أجْرَ صلاةِ المُضْطجعِ على
النِّصفِ من أجْرِ صلاةِ القاعد [(162)]. لكن هذا الشَّطر مِن
الحديث لم يأخذ به جمهورُ العلماء، ولم يروا صِحَّة صلاة المضطجع
إلا إذا كان معذوراً.
وذهب بعضُ العلماء: إلى الأخذ بالحديث. وقالوا: يجوز أنْ يتنفلَ
وهو مضطجع، لكن أجره على النصف من أجر صلاة القاعد، فيكون على
الرُّبع مِن أجر صلاة القائم.
ـ وهذا قولٌ قويٌّ؛ لأن الحديث في «صحيح البخاري»، ولأنَّ فيه
تنشيطاً على صلاة النَّفل؛ لأن الإنسان أحياناً يكون كسلاناً وهو
قادر على أنْ يُصلِّي قاعداً؛ لكن معه شيء مِن الكسل؛ فيُحِبُّ أنْ
يُصلِّي وهو مضطجعٍ، فمن أجل أنْ ننشِّطَهُ على العمل الصَّالح
نَفْلاً نقول: صَلِّ مضطجعاً، وليس لك إلا رُبع صلاة القائم، ونصف
صلاة القاعد، ولهذا رَخَّصَ العلماءُ في صلاة النَّفل أن يشرب
الماء اليسير من أجل تسهيل التطوُّع عليه، والتطوُّع أوسع من
الفرض.
وَتُسَنُّ صَلاَةُ الضّحَى .........
قوله: «وتُسَنُّ صلاة الضُّحى» صلاة الضُّحى من باب إضافة الشيء
إلى وقته، ولك أن تقول: إنها من باب إضافة الشيء إلى سببه، كما
تقول: صلاة الظُّهر؛ نسبة إلى الوقت، والوقت سبب.
وقوله: «تُسَنُّ» من المعلوم: أن السُّنة ما أُمِرَ به لا على وجه
الإلزام.
وحكم السُّنَّة: أنه يُثابُ فاعلُها، ولا يُعاقبُ تاركُها.
ودليل ذلك: أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال للرَّجُلِ
الذي عَلَّمَهُ الصَّلوات الخمس حين سأله: هل عَليَّ غيرُهنَّ؟
قال: «لا، إلا أنْ تطوَّع» [(163)].
ودليل آخر: حديث مُعاذ بنِ جَبَل لما بَعَثَه النَّبيُّ صلّى الله
عليه وسلّم في آخر حياته إلى اليمن قال: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ الله
افترضَ عليهم خمسَ صلوات في اليوم واللَّيلةِ» [(164)] ولم يذكر
صَلاة الضُّحى، ولو كانت واجبة لذَكَرها النَّبيُّ صلّى الله عليه
وسلّم.
وظاهر قوله: «تُسَنُّ صلاة الضُّحى» أنها سُنَّة مطلقاً.
ودليل ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه[(165)]، وأبي
الدرداء[(166)]، وأبي ذَرٍّ[(167)] أن النبيَّ صلّى الله عليه
وسلّم أوصاهم بصلاة ركعتين في الضُّحى، قال أبو هريرة رضي الله
عنه: «أوصاني خليلي صلّى الله عليه وسلّم بثلاثٍ: ركعتي الضُّحى،
وأن أوتر قبل أن أنام، وصيام ثلاثة أيَّام من كلِّ شهر» .
فظاهر هذا أنَّها سُنَّة مطلقاً في كُلِّ يوم.
وذهبَ بعض أهل العلم: إلى أنها ليست بسُنَّة؛ لأن أحاديث كثيرة
وردت عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه كان لا
يصلِّيها[(168)].
وفصَّلَ بعضُهم فقال: أمَّا مَن كان مِن عادته قيامُ الليل؛ فإنه
لا يُسَنُّ له أن يُصلِّيَ الضُّحى، وأمَّا مَن لم تكن له عادة في
صلاة الليل فإنها سُنَّة في حَقِّهِ مطلقاً كلَّ يوم.
والقول الرابع : أنها سُنَّةٌ غيرُ راتبة، يعني: يفعلها أحياناً
وأحياناً لا يفعلها.
والأظهر: أنها سُنَّة مطلقة دائماً، فقد ثبت عن النبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم أنه قال: «يُصبِحُ على كُلِّ سُلامى مِن أحدِكُم
صَدَقةٌ...» الحديث[(169)].
وقد صَحَّ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنَّ الله خلق ابنَ
آدم على ستين وثلثمائة مفصل»[(170)].
والسُّلامى: هي العظام المنفصل بعضها عن بعض. فيكون على كُلِّ واحد
من النَّاس كُلَّ يومٍ ثلاثمائة وستون صدقة، ولكن هذه الصدقة ليست
صدقة مال، بل كُل ما يُقَرِّبُ إلى الله؛ لقول النَّبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم: «فكُلُّ تسبيحةٍ صَدقةٌ، وكُلُّ تحميدةٍ صَدقةٌ،
وكُلُّ تهليلةٍ صَدقةٌ، وكُلُّ تكبيرةٍ صَدقةٌ، وأمرٌ بمعروف
صَدقةٌ، ونَهيٌ عن مُنكرٍ صَدقةٌ، ويجزىء مِن ذلك ركعتان
يركَعُهُما مِن الضُّحى» [(171)] وبناءً على هذا الحديث نقول: إنه
يُسَنُّ أن يُصلِّيهما دائماً؛ لأن أكثر النَّاس لا يستطيعون أن
يأتوا بهذه الصَّدقات التي تبلغ ثلاثمائة وستين صدقة.
وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَان، وَأَكْثَرُهَا ثَمَان .........
قوله: «وأقلها» أي: أقلُّ صلاة الضُّحى ركعتان، لأن الرَّكعتين
أقلُّ ما يُشرع في الصَّلوات غير الوِتر، فلا يُسَنُّ للإنسان أن
يتطوَّع برَكعة، ولا يُشرع له ذلك إلا في الوِتر، ولهذا قال
النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم للرَّجُل الذي دخل وهو يخطب يوم
الجُمُعة: «قُمْ فصَلِّ رَكعتين، وتَجَوَّزْ فيهما» [(172)]، ولو
كان يُشرع شيءٌ أقلُّ من ركعتين؛ لأمره به مِن أجل أنْ يستمع
للخُطبة، ولهذا أمره النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن يتجوَّز في
الرَّكعتين.
ودليلُ ذلك أيضاً: حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال: أوصاني
خليلي صلّى الله عليه وسلّم بثلاثٍ: «صيامُ ثلاثة أيام مِن كُلِّ
شهر، وركعتي الضُّحى، وأنْ أوتِرَ قبل أن أنام» [(173)].
والصَّحيحُ: أنَّ التطوُّع بركعة لا يصحُّ، وإنْ كان بعضُ أهل
العلم قال: إنه يصحُّ أنْ يتطوَّعَ بركعة، لكنه قولٌ ضعيف كما سبق.
قوله: «وأكثرها ثمان» أي: أكثر صلاة الضُّحى ثمانِ ركعات بأربع
تسليمات.
ودليل ذلك: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم دخلَ بيتَ أُمِّ
هانىء في غزوة الفتح حين دخل مَكة فصَلَّى فيه ثماني ركعات[(174)]،
قالوا: وهذا أعلى ما وَرَدَ. وعلى هذا؛ فلو صَلَّى الإنسانُ عشرَ
ركعات بخمس تسليمات؛ صارت التاسعة والعاشرة تطوُّعاً مطلقاً لا مِن
صلاة ضُحى.
والصَّحيح : أنه لا حَدَّ لأكثرها؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها
قالت: «كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي الضُّحى أربعاً،
ويزيد ما شاء الله» أخرجه مسلم[(175)]، ولم تُقَيِّد، ولو صَلَّى
مِن ارتفاع الشَّمس قيدَ رُمْحٍ إلى قبيل الزوَّال أربعين ركعة
مثلاً؛ لكان هذا كلّه داخلاً في صلاة الضُّحى، ويُجاب عن حديث
أُمِّ هانىء بجوابين:
الجواب الأول : أن كثيراً من أهل العلم قال: إن هذه الصَّلاة ليست
صلاة ضُحى، وإنما هي صلاة فتح، واستحبَّ للقائد إذا فتح بلداً أن
يُصَلِّي فيه ثمان ركعات شكراً لله عزّ وجل على فتح البلد؛ لأن من
نعمة الله عليه أن فتح عليه البلد، وهذه النِّعمة تقتضي الخشوع
والذُّل لله والقيام بطاعته، ولهذا لا نعلم أن أحداً فتح بلداً
أعظم من مَكَّة، ولا نعلم فاتحاً أعظم من محمَّد صلّى الله عليه
وسلّم، ومع ذلك دخل مكَّة ـ حين فتحها ـ وقد طأطأ رأسه عليه
الصَّلاة والسَّلام، وهو يقرأ قوله تعالى: {{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِيناً *}} [الفتح] يُرجِّعُ فيها[(176)]، أي: كأنه
يردِّدُ الحرف مرَّتين، وهذا من كمال تواضعه عليه الصَّلاة
والسَّلام؛ لأن من أكبر النِّعم أن يفتحَ اللهُ بلدَ أعدائِك على
يَدِك قال تعالى: {{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ
بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ
صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ *} {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}}
[التوبة: 14 ـ 15] وقال تعالى: {{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا
إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ
يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}}
[التوبة: 52] وما أحلى العذاب إذا كان بأيدينا لأعدائنا!.
الوجه الثاني : أنَّ الاقتصار على الثَّمان لا يستلزم أنْ لا يزيد
عليها؛ لأنَّ هذه قضيةُ عَين، أرأيت لو لم يُصَلِّ إلا ركعتين، هل
نقول: لا تزيد على ركعتين؟.
الجواب : لا؛ لأنَّ قضيةَ العين وما وقع مصادفة فإنه لا يُعَدُّ
تشريعاً. وهذه قاعدةٌ مفيدةٌ جداً، ولهذا لا يستحبُّ للإنسان إذا
دفع مِن «عَرفة» وأتى الشِّعبَ الذي حول مزدلفة؛ أنْ ينزلَ فيبول
ويتوضأ وضوءاً خفيفاً، كما فَعَلَ الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم،
فإنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لما دَفَعَ مِن «عَرفة» في
الحَجِّ؛ ووصل إلى الشِّعبِ نَزَلَ فَبَالَ وتوضَّأ وضوءاً
خفيفاً[(177)] لأن هذا وقع مصادفة، فالنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
احتاج أن يبولَ فنزل فبال وتوضَّأ؛ لأجل أن يكون فعلُه للمناسك على
طهارة.
وقوله: «أكثرها» مبتدأ. و«ثمان» خبر تعرب إعراب المنقوص بياء
مفتوحة في النَّصب منونة، فتقول: اشتريت من الغنم ثمانياً كما
تقول: رأيت قاضياً.
وفي حال الرَّفع والجَرِّ تُحذف الياء وتبقى الكسرة دليلاً عليها،
لكنها منوَّنة، وهذا التنوين تنوين عِوض فتقول: عندي من الضَّأن
ثمانٍ، وعليه فنقول: «ثمان» مرفوعة بضمَّة مقدَّرة على الياء
المحذوفة لالتقاء السَّاكنين، والتنوين تنوين عِوض، هذا إذا لم
تُركَّب مع عشرة، وفيها لغة رديئة قليلة أن تُعرب بالحركات على
النون، فتقول: اشتريت من الضأن ثماناً وعندي من الضَّأن ثمانٌ،
ونظرت في الضأن إلى ثمانٍ.
فلنا في إعرابها وجهان إذا لم تُركَّب.
أما إذا رُكِّبت مع عشرة؛ ففيها وجهان: تُبنى على الفتح، فيُقال:
ثمانيَ عشرة امرأة، ويجوز إسكان الياء، فتقول: ثمانيْ عشرة.
وَوَقْتُهَا مِنْ خُرُوجِ وَقْتِ النَّهِي إِلَى قُبَيْلِ
الزَّوَالِ..........
قوله: «ووقتها من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال» . أي: وقت صلاة
الضُّحى، من خروج وقت النَّهي، والمؤلِّف رحمه الله لم يُبيِّنْ
وقتَ النَّهي هنا، لكن سيبيِّنَهُ ـ إن شاء الله ـ في آخر
الباب[(178)].
ووقتُ النَّهي: من طُلوع الشَّمس إلى أن ترتفع قِيد رُمحٍ، أي:
بعين الرَّائي، وإلا فإن هذا الارتفاع قِيد رُمحٍ بحسب الواقع أكثر
من مساحة الأرض بمئات المرَّات، لكن نحن نراه بالأُفق قِيد رُمحٍ،
أي: نحو متر.
وبالدَّقائق المعروفة: حوالي اثنتي عشرة دقيقة، ولنجعله ربع ساعة
خمس عشرة دقيقة؛ لأنه أحوط فإذا مضى خمس عشرة دقيقة من طلوع
الشَّمس، فإنه يزول وقت النَّهي، ويدخل وقت صلاة الضُّحى.
وقوله: «إلى قبيل وقت الزوال». «قبيل» تصغير قبل، أي: قبل زوال
الشَّمس بزمنٍ قليل حوالي عشر دقائق، لأن ما قبيل الزَّوال وقت نهي
ينهى عن الصَّلاة فيه، لأنه الوقت الذي تُسْجَرُ فيه جهنَّم، فقد
نهى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن يُصَلَّى فيه، قال عُقبةُ بنُ
عَامر رضي الله عنه: «ثلاثُ ساعاتٍ كان رسُولُ الله صلّى الله عليه
وسلّم يَنْهانَا أنْ نُصَلِّيَ فيهنَّ، أو أنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ
موتانا: حين تَطْلعُ الشَّمسُ بازغةً حتى ترتفعَ، وحين يقومُ قائمُ
الظَّهيرة حتى تميلَ الشَّمسُ، وحين تَضَيَّفُ الشَّمسُ للغُروبِ
حتى تَغْرُبَ» [(179)].
وقائمُ الظَّهيرة يكون قُبيل الزَّوال بنحو عشر دقائق، فإذا كان
قُبيل الزوَّال بعشر دقائق دخل وقتُ النَّهي.
إذاً؛ وقتُ صلاة الضُّحى مِن زوال النَّهي في أول النهار إلى وجود
النَّهي في وسط النهار.
وفِعْلُها في آخر الوقت أفضل؛ لأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه
وسلّم قال: «صلاة الأوَّابينَ حين تَرْمَضُ الفِصَالُ» وهذا في
«صحيح مسلم»[(180)].
ومعنى «تَرْمَضُ» أي: تقوم مِن شِدَّة حَرِّ الرَّمضاء، وهذا يكون
قُبيل الزَّوال بنحو عشر دقائق.
وَسُجُودُ التِّلاَوَةِ: صَلاَةٌ .........
قوله: «وسجود التلاوة صلاة» . «سجود» مبتدأ، و«صلاة» خبره، أي:
أنَّ حُكمَه حُكمُ الصَّلاة، بل هو صلاة، والإضافةُ هنا مِن بابِ
إضافةِ الشيء إلى سببِه، لكنه سببٌ غيرُ تامٍّ؛ لأن التِّلاوة
نفسَها ليست سبباً للسُّجود، بل السبب للسُّجود المرور بآية سجدة،
أي: قراءة آية سجدة، فإذا قرأ الإنسانُ آيةَ سَجدة سُنَّ له أنْ
يسجدَ.
وقوله: «صلاة» ووجه ذلك: أنَّ تعريف الصَّلاة ينطبق عليه، فهو:
عبادة ذات أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتَّسليم، إذاً؛
فهو صلاة يُعتبر له ما يُعتبر لصلاة النَّافلة؛ لأنه سُنَّة.
هذا مقتضى كلام المؤلِّفِ، وعلى هذا؛ فتعتبر له الطَّهارةُ من
الحَدَث، والنَّجاسةُ في البدن والثوب والمكان، واستقبالُ
القِبْلة، وسَتْرُ العورة، وكلُّ ما يُشترط لصلاة النَّافلة.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه ليس بصلاة، لأنه لا ينطبق عليه تعريف
الصَّلاة، إذ لم يثبت في السُّنَّة أن له تكبيراً أو تسليماً،
فالأحاديث الواردة في سجود التِّلاوة ليس فيها إلا مجرد السُّجود
فقط «يَسجُدُ ونَسجُدُ معه» [(181)] إلا حديثاً أخرجه أبو داود في
إسناده نظر: أنه كَبَّرَ عند السُّجود[(182)]، ولكن ليس فيه تسليم،
فلم يردْ في حديث ضعيف ولا صحيح أنه سَلَّمَ من سجدة التلاوة، وإذا
لم يصحَّ فيها تسليم لم يكن صلاة؛ لأن الصَّلاة لا بُدَّ أن تكون
مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتَّسليم، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله.
وبناءً على ذلك؛ لا يُشترط له طهارة، ولا سترُ عورة، ولا استقبالُ
قِبلة، فيجوز أن يسجد ولو كان محدثاً حَدَثاً أصغر، بل ولو كان
محدثاً حَدَثاً أكبر إنْ قلنا بجواز القراءة للجُنب، والصَّحيح:
أنه لا يجوز للجُنب قراءة القرآن[(183)]، ومن طالع كلام شيخ
الإسلام رحمه الله في هذه المسألة تبيَّنَ له أن القول الصَّواب ما
ذهب إليه من أن سجود التِّلاوة ليس بصلاة، ولا يُشترط له ما يُشترط
للصَّلاة، فلو كنتَ تقرأ القرآن عن ظهر قلب وأنت غير متوضىء، ومررت
بآية سجدة، فعلى هذا القول تسجد ولا حرج، وكان ابن عُمر رضي الله
عنهما مع شِدَّة وَرَعِهِ ـ يَسجدُ على غيرِ وُضُوءٍ[(184)] لكن
الاحتياط أن لا يسجد إلا متطهِّراً.
يُسَنُّ للقَارِىءِ..........
قوله: «يسن للقارىء» يفيد أن سُجود التِّلاوة ليس بواجب، وإنما هو
سُنَّة؛ وهذه المسألة محلُّ خِلاف بين أهل العِلْمِ.
فَمِنهم مَن قال: إنَّ سجود التِّلاوة واجب؛ لأنَّ الله أَمَرَ به،
وذمَّ مَن تَرَكه، فقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ}} [الحج: 77] فأمَرَ بالسُّجودِ. وقال تعالى: {{وَإِذَا
قُرِىءَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ *}} [الانشقاق]
فذمَّهم لعدم السُّجود. وامتدح السَّاجدين فقال: {{إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ *}} [الأعراف] قالوا: وهذا
يدلُّ على أنَّ السُّجودَ واجبٌ لِمَدْحِ فاعلِهِ وذَمِّ تارِكِه
والأَمْرِ به.
وقال آخرون: بل هو سُنَّة وليس بواجب. وهو الرَّاجح.
واستدلُّوا:
أولاً : أنَّ زيدَ بنَ ثابتٍ رضي الله عنه قَرَأَ على النَّبيِّ
صلّى الله عليه وسلّم سورةَ النَّجم، ولم يسجدْ فيها [(185)]. ولو
كان السُّجود واجباً لم يُقرَّه النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
على تَرْكِ السُّجود.
فإنْ قال قائلٌ: أفلا يُحتمل أنَّ زيداً ليس على وُضُوء؟
فالجواب : هذا احتمال، لكنه ليس بمتعيِّن، بل الظَّاهرُ أنَّه على
وُضُوء، لأنه يبعد أن يقرأَ القُرآنَ على غير وُضُوء.
وأيضاً: لو كان السُّجود واجباً لاستفصلَ منه النَّبيُّ صلّى الله
عليه وسلّم؛ هل كان على وُضُوء فيسجد، أو على غير وُضوء فلا يسجد،
كما استفصلَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم مِن الرَّجل الذي دخل
المسجدَ، والنَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يخطب يومَ الجمعة؛
فجلسَ، فقال له النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: أصليت؟ قال: لا.
قال: قمْ فصلِّ ركعتين[(186)].
ثانياً : أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رضي الله عنه ثَبَتَ عنه في
«صحيح البخاري» وغيره أنه قرأ على المِنْبَرِ سورةَ النَّحل، فلما
أتى على السَّجدة نَزَلَ مِن المِنْبَرِ وسَجَدَ، فسجدَ النَّاس،
ثم قرأها في الجمعة الثَّانية ولم يسجدْ، ثم قال ـ إزالةً للشُّبهة
ـ: «إنَّ اللهَ لم يَفِرضْ علينا السُّجودَ إلا أنْ نشاءَ»
[(187)]، وهذا قولُ عُمرَ ـ وناهيك به ـ الذي قال فيه رسولُ الله
صلّى الله عليه وسلّم: «إنْ يكن فيكم مُحَدَّثُونَ فعُمَرُ»
[(188)] محدَّثون، أي: مُلهمون للصَّواب، ومع هذا فَعَلَهُ بمحضر
الصَّحابة عَلناً على المِنْبَرِ، ولم يُنكرْ عليه أحدٌ، وهذا
يدلُّ على أن السُّجود ليس بواجب.
فإن قيل: ما هو الجواب عن الآيات التي استدلَّ بها مَن قال: إنَّه
واجب؟
فالجواب: أما قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}} [الحج: 77] فقل: يجب الرُّكوع أيضاً عند
التلاوة. أما أن تقول: يجب السُّجود، ولا يجب الرُّكوع؛ فهذا
تناقض؛ لأن الدَّليل واحد.وبه نعرف أنَّ قوله: {{يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}} [الحج: 77] أَمْرٌ
بالصَّلاة التي هي ذات رُكوع وسُجود، وأما قوله: {{وَإِذَا قُرِىءَ
عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ *}} [الإنشقاق] فنقول له:
أنت لا تقول بهذه الآية، وأنَّ كُلَّ مَن قُرِىءَ عليه القُرآنُ
وجب عليه أنْ يسجدَ، مع أنَّ ظاهر الآية أنَّ كُلَّ مَن قُرِىء
عليه القرآن يجب عليه أنْ يسجد، فالسُّجود هنا بمعنى التَّذلُّل،
وليس السُّجود الحَركة المعروفة، أي: إذا قُرِىءَ عليهم القرآن لا
يذلُّون له، وهذا ثابتٌ لكُلِّ القرآن، فكلُّ القرآن يجب أن
تَذِلَّ له.
وأما مَدْحُ الملائكةِ بالسُّجودِ؛ فالمراد بالسُّجود: الصَّلاة؛
لأنَّه ما مِن أربع أصابع في السَّماء إلا وفيه مَلَكٌ قائمٌ لله،
أو راكع، أو ساجد.
وقوله: «يُسَنُّ للقارىء» دليله أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه
وسلّم كان يسجد إذا مَرَّ بآية السَّجدة. وفِعْلُ الرَّسول صلّى
الله عليه وسلّم الشيءَ على سبيل التَّعبُّد يقتضي سُنِّيَّته.
ولهذا مِن قواعد أصول الفقه: أنَّ فِعْلَ الرسول صلّى الله عليه
وسلّم الذي فَعَلَهُ على سبيل التَّعبُّد يكون للاستحباب لا
للوجوب، إلا أنْ يُقْرَنَ بأمرٍ، أو يكون بياناً لأمر، أو ما أشبه
ذلك مِن القرائن التي تدلُّ على الوجوب. أما مجرَّد الفِعْل فإنه
للاستحباب.
فقد روى ابنُ عمر قال: «كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأُ
علينا السُّورةَ فيها السَّجدةُ، فيسجُدُ ونَسجُدُ معه؛ حتى ما
يَجِدُ أحدُنا موضعاً لجبهتِهِ» [(189)] أي: أنهم يسجدون، ولقُربهم
مِن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم يزدحِمون؛ لأن السَّاجد يشغل
مكاناً أكثر مِن الجالس، حتى لا يجد أحدُهم مكاناً لجبهته يسجُدُ
عليه. وهذا دليل استحبابه، وكذلك ما مَرَّ مِن أَثَرِ عُمرَ رضي
الله عنه[(190)].
والمُسْتَمِع دُونَ السَّامع ........
قوله: «والمستمع» دليله: حديثُ ابن عُمر رضي الله عنه وعن أبيه:
حيث كانوا يسجدون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .
قوله: «دون السامع» أي: أنَّ السَّامع لا يُسَنُّ له أنْ يسجدَ،
والفَرْقُ بين المستمع والسَّامع:
أنَّ المستمع: هو الذي يُنصِتُ للقارىء ويتابعه في الاستماع.
والسَّامع: هو الذي يسمعُ الشَّيءَ دون أن يُنصِتَ إليه.
ولهذا لو سَمِعَ الإنسانُ صوتَ مَلهاة «آلة لهو» سماعاً فقط فإنَّه
لا يأثم إذا لم تكن بحضُوره، ولو استمع إليها لأَثِمَ.
مثال السَّامع: إنسانٌ مَرَّ بالسُّوق، وفيه آلة لهو تشتغل بأغانٍ
وغيرها.
ومثال المستمع : إنسان آخر لما سَمِعَ هذه الملاهي جلس يستمع
إليها. فالثَّاني ـ وهو المستمتع ـ آثم، والأول غير آثم.
وكذلك السَّامعُ بالنسبة لقِراءة القرآن؛ هو الذي مَرَّ وقارىءٌ
يقرأُ فمرّ بآية سجدة فلا يُسَنُّ له أنْ يسجُدَ؛ لأنَّه ليس له
حُكم القارىء، أما المُستمع فيسجد؛ لأنَّ له حُكم القارىء.
والدليل على أن المستمع له حكم القارىء أنَّ موسى صلّى الله عليه
وسلّم قال: {{رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأََهُ
زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا
لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الأَلِيمَ} ژ }}! ! {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ
آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأََهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ
فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ *}{قَالَ
قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا}} [يونس: 88، 89] .
وقوله تعالى: «دعوتكما» مُثَنَّى، والدَّاعي واحد، وهو موسى، فمن
أين جاءت التثنية؟
قال العلماء: لأنَّ موسى كان يدعو؛ وهارون يستمِعُ ويؤمِّنُ،
فجَعلَ اللهُ تعالى للمستمِعِ حُكم المتكلِّم الدَّاعي.
فإذا قال قائل: كيف لا يُسَنُّ للسَّامع وقد سَمِعَ آيةَ السُّجود
وسَجَدَ القارىء؟
نقول: لأنَّه لا يلحقه حُكم القارىء، فليس له ثوابه، ولا يطالب بما
يطالب به القارىء، ولهذا قال المؤلِّف: «دون السامع».
وَإِنْ لَمْ يَسْجُدِ القَارِىءُ لَمْ يَسْجُدْ .........
قوله: «وإن لم يسجد القارىء لم يسجد» أي: إنْ لم يسجدِ القارئ لم
يسجدِ المستمعُ؛ لأنَّ سجودَ المستمِعِ تَبَعٌ لسُجودِ القارئِ،
فالقارئُ أصلٌ والمستمعُ فَرْعٌ. ودليل ذلك: حديث زيد بن ثابت:
«أنه قرأ على النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم سورةَ النَّجم فلم
يَسجُدْ فيها» [(191)] فقوله: «قرأ سورةَ النَّجم فلم يسجدْ فيها»
يدلُّ على أنَّ زيدَ بنَ ثابت لم يسجدْ؛ لأنه لو سَجَد لسجدَ
النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، كما كان الصَّحابة يسجدون مع
الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يُنكر عليهم، فلم يقل: لا
تسجدوا؛ لأنكم لم تقرأوا.بل كان يُقِرُّهم.
فحديثُ زيدِ بن ثابت يُستدلُّ به على أنه إذا لم يسجدِ القارئُ لم
يسجدِ المستمِعُ، ولا يصحُّ أن يُستدلَّ به على نَسْخِ سُجود
التِّلاوة في «المُفَصَّل» كما قال به بعضُ العلماء؛ لأنه ثبت في
«صحيح مسلم» عن أبي هريرة أنَّ الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم
سَجَدَ في «إذا السماء انشقت» وفي سورة «اقرأ» [(192)]. وهما من
«المُفَصَّل».
مسألة : هل للمستمع أن يُذَكِّرَ القارئَ فيقول: اسجدْ؟
نقول: إن احتمل الأمرُ أنَّه ناسٍ فَلْيُذكِّرْهُ، أما إذا لم
يحتمل النِّسيان كأن يكون ذاكراً فلا يُذكِّرْه؛ لأنه تركها عن
عَمْدٍ؛ ليُبيِّن مثلاً ـ إذا كان طالب علم ـ أنَّ سجودَ التِّلاوة
ليس بواجب.
قوله: «وهو» أي: سُجودَ التِّلاوة.
وَهُوَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الحَجِّ مِنْهَا اثْنَتَانِ
.........
قوله: «أربع عشرة سجدة» يعني: أنَّ آيات السُّجود التي في القرآن
أربع عشرة سَجدة فقط لا تزيد ولا تنقص.
والدليل : السُّنَّة؛ فإن أهل العلم تتَّبعُوا آياتِ السُّجودِ،
فمنها ما صَحَّ مرفوعاً، ومنها ما صَحَّ موقوفاً؛ والذي صَحَّ
موقوفاً له حكمُ الرَّفعِ؛ لأن هذا مِن الأمور التي لا يسوغُ فيها
الاجتهاد، فهي توقيفيَّة.
قوله: «في الحج منها اثنتان» وقد عَدَّ في «الرَّوض» آياتِ
السُّجود كُلَّها.
وتفصيلها كما يأتي:
في «الأعراف»: {{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ *}} ووجه كون ذلك مَحَلَّ سجدة: أنَّ اللهَ امتدحَ
هؤلاء الذين عنده بكونهم لا يستكبرون عن عبادة الله، ويسبِّحونه
ويسجدون له، وما امتدحَ اللهُ فاعلَه فهو محبوبٌ إليه.
وفي «الرَّعد»: {{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ *}}.
وفي «النَّحل»: {{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الأَرْضِ مِنْ دَآبَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ *يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *}}.
وفي «الإسراء» {{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا *وَيَقُولُونَ
سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً
*وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا *}}.
وفي «مريم»: {{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ
خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}}.
وفي «الحَجِّ» منها اثنتان: {{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ
لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ *}}.
والثانية: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ *}} وإنَّما نَصَّ المؤلِّفُ على أنَّ في «الحج»
اثنتين؛ للخِلاف في ذلك.
وفي «الفرقان»: {{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ
قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا
وَزَادَهُمْ نُفُورًا *}}.
وفي «النَّمل»: {{أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ
الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ
وَمَا تُعْلِنُونَ *اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *}}.
وفي «الم تنزيل السَّجدة»: {{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا
الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ *}} [السجدة] .
وفي «فُصِّلَت»: {{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ *فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ
يَسْأَمُونَ *}}.
وفي «النَّجم»: {{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا *}} [النجم] .
وفي «الانشقاق»: {{فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *}{وَإِذَا
قُرِىءَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ *}}.
وفي «اقرأ باسم ربك» {{كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ
*}}.
فهذه أربع عشرة سجدة: في «الأعراف» و«الرعد» و«النحل» و«الإسراء»
و«مريم» و«الحج» اثنتان، و«الفرقان» و«النمل» و«الم تنزيل السجدة»
و«حم السجدة» و«النجم» و«الانشقاق» و«اقرأ باسم ربك».
وأما سجدة «ص» فإنها سجدة شُكْرٍ، ولكن صَحَّ عن ابن عباس رضي الله
عنهما أنه رأى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يسجدُ فيها [(193)].
والصَّحيح: أنها سجدة تِلاوة. وعلى هذا؛ فتكون السَّجدات خمسَ عشرة
سجدة، وأنه يسجدُ في «ص» في الصَّلاة وخارج الصَّلاة.
فإن قال قائل : في القرآن آياتٌ فيها سُجود، ولم يُشرع فيها
السُّجود، مثل قوله تعالى: {{وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}{وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ *}} [الحجر] قال: {{وَكُنْ
مِنَ السَّاجِدِينَ}} وليس فيها سجدة؟
قلنا: لأن هذا أُمِرَ به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في حال
معينة كما قال تعالى: {{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ
صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ *} 1 2 3 4 5 6 } [الحجر] وذلك إذا ضاق
صدره وآذاه المشركون، ولأنَّ الظَّاهر أنَّ المراد بذلك الصَّلاة،
لا مجرد السُّجود، لأنَّ الصَّلاة قُرَّةُ عين النبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم، وبها يزولُ همُّه وكربُه. وهذا لا يقتضي السُّجود على
الإطلاق، ولكن قد ينقض هذا التَّعليل بسجدة اقرأ: { : ؛ ژ (ص)ـ! !
چ = ژ }ـ! ! عع ؟ ژ ء آ } وهذا أمرٌ بالسُّجود في حال معينة، وهو
إذا قام ذلك الرجل يتكلَّم على الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم
وينهاه عن الصلاة: قال تعالى: {{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى
*عَبْدًا إِذَا صَلَّى *أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى
*أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى *أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى
*أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى *كَلاَّ لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ *نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ
خَاطِئَةٍ *فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ *سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ *كَلاَّ
لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ *}} [اقرأ] ومع هذا؛ فالسُّجود
فيها مشروع، وحينئذٍ يكون المرجع هو التوقيف، فنقول: وردت
السُّنَّة بالسُّجود في آيات معيَّنة، فنتوقَّفُ على ما جاءت به
السُّنَّة.
وَيُكَبِّرُ إِذَا سَجَدَ، وَإِذَا رَفَعَ،.........
قوله: «ويكبر إذا سجد وإذا رفع» ، بيانٌ لصِفَةِ سُجود التلاوة
يكبر إذا سَجَد؛ لأنها صلاة، والصَّلاة لا بُدَّ لها مِن تحريمة،
وتحريمها التكبير، وأما عند مَنْ يقول إنها ليست بصلاة فلا
يُكبِّر؛ لأنه سجود مجرَّد، لكن وَرَدَ عن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم أنه كان يُكبِّرُ عند السُّجُود[(194)]، فإنْ صَحَّ
الحديث عُمِلَ به سواء قلنا إنها صلاة أم لا، وليس في الحديث أنه
كان يقوم ثم يَخِرُّ.
وعليه؛ فيسجدُ مِن حيث كانت حاله فإن كان قائماً سجد عن قيام، وإن
كان قاعداً سجد عن قُعود لأنَّ القيام تعبُّد لله يحتاج إلى دليل.
فالتكبير في سجود التِّلاوة إذا كان خارج الصَّلاة فيه ثلاثة
أقوال:
القول الأول : يُكبِّر إذا سَجَدَ، وإذا رَفَعَ.
القول الثاني : يُكبِّر إذا سَجَدَ فقط.
القول الثالث : لا يُكبِّر مطلقاً.
وَيَجْلِسُ وَيُسَلِّمُ، وَلاَ يَتَشَهَّدُ، ...........
قوله: «ويجلس ويُسلم ولا يتشهد» «يجلس» أي: وجوباً؛ لكنه جلوس لا
ذِكْرَ فيه إلا شيئاً واحداً، وهو السَّلام مَرَّة عن يمينه، ولهذا
قال: «ويُسلِّمُ ولا يتشهَّد» فصار السُّجود فيه تكبيرٌ قبلَه
وتكبيرٌ بعدَه، وجلوسٌ وتسليمٌ، وليس فيه تشهُّدٌ؛ لأنَّ التشهُّدَ
إنَّما وَرَدَ في الصَّلاة، ولكن السُّنَّة تدلُّ على أنه ليس فيه
تكبير عند الرَّفع ولا سلام إلا إذا كان في صلاة، فإنه يجب أن
يُكبِّرَ إذا سَجَدَ ويُكبِّرَ إذا رَفَعَ؛ لأنه إذا كان في
الصَّلاة ثَبَتَ له حُكم الصَّلاة، حتى الذين قالوا بجواز السُّجود
إلى غير القِبْلَة إذا كان في الصَّلاة لا يقولون بذلك.
ودليل ذلك : ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ الرَّسولَ صلّى
الله عليه وسلّم «سَجَدَ في {{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ *}} في
صلاة العشاء» [(195)].
وثَبَتَ عنه أنَّه كان يُكبِّر في كُلِّ رَفْعٍ وخَفْضٍ [(196)]
فيدخل في هذا العموم سُجودُ التِّلاوة، وأما ما يفعله بعضُ الأئمةِ
إذا سَجَدَ في الصَّلاة مِن التكبير إذا سَجَدَ دون ما إذا رَفَعَ
فهو مَبنيٌّ على فَهْمٍ خاطىءٍ ليس على عِلْمٍ؛ لأنه لمَّا رأى
بعضَ أهل العِلْمِ اختارَ في سُجودِ التِّلاوة أن يُكبِّر إذا
سَجَدَ دون ما إذا رَفَعَ ظَنَّ أنَّ هذا في الصَّلاة وغيرها، وليس
كذلك. بل إذا كان السُّجودُ في الصَّلاة فإنه يُكبِّر إذا سَجَدَ
وإذا رَفَعَ كما سَبَقَ.
«تنبيه» : لم يذكر المؤلِّفُ رحمه الله ماذا يقول في هذا السُّجود.
فماذا يقول؟
الجواب : يقول في هذا السُّجود: «سبحان رَبِّي الأعلى» لأنَّ
النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لما نزل قوله تعالى: {{سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}} [الأعلى] قال: «اجعلوها في سجودكم»
[(197)] وهذا يشمَلُ السُّجودَ في الصلاة وسجودَ التِّلاوة، ويقول
أيضاً: «سبحانك اللَّهُمَّ ربَّنا وبحمدك اللَّهُمَّ اغفِرْ لي»
لدليلين:
الدليل الأول : قوله تعالى: {{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا
الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}} [السجدة: 15] وهذه آية سجدة.
والدَّليل الثَّاني : حديث عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم يُكثر أن يقول في رُكوعه وسُجوده: سُبحانك
اللَّهُمَّ رَبَّنا وبحمدك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي» [(198)].
ووَرَدَ أيضاً حديثٌ أخرجَه بعضُ أهلِ السُّنَنِ يقول: «اللَّهُمَّ
لك سَجَدتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكَّلتُ، سَجَدَ وجهي لله الذي
خَلَقَهُ وصَوَّره وشَقَّ سَمْعَه وبصرَه بحوله وقوَّته، فتبارك
اللهُ أحسنُ الخالقين» [(199)] «اللهم اكْتُبْ لي بها أجراً، وضَعْ
عَنِّي بها وِزراً، واجْعَلْها لي عندكَ ذُخراً، وتقبَّلْها مَنِّي
كما تقبَّلتها مِن عبدِكَ داودَ» [(200)] فإن قال هذا فَحَسَنٌ.
وإنْ زادَ على ذلك دعاءً فلا بأس.
وَيُكْرَهُ للإِمَامِ قِرَاءَةُ سَجْدَةٍ فِي صَلاَةِ سِرٍّ
وَسُجُودُهُ فِيْهَا ..........
قوله: «ويُكره للإِمامِ قراءةُ سجدة في صلاة سر وسجوده فيها» .
الكراهة عند المتأخرين: تُطلق على ما يُثاب تاركُهُ امتثالاً، ولا
يُعاقب فاعلُهُ.
وتُطلق في عُرْفِ المتقدِّمين على التَّحريم. فإذا رأيتَ في كلام
النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم والصَّحابةِ والتابعين «أَكْرَهُ»
فهو للتَّحريم. وحتى في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {{وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً}} [الإسراء: 23] ثم ذَكَرَ أشياءَ كثيرةً مأمورات
ومنهيَّات، ثم قال: {{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ
مَكْرُوهًا *}} وهي حرامٌ بلا شَكٍّ.
ووجه الكراهة : أن الإمام إذا قرأ سجدةً في صلاة السِّرِّ فهو بين
أمرين، إمَّا أن يقرأ الآية، ولا يسجد فَيُفَوِّت على نفسِهِ
الخيرَ، وإمَّا أنْ يقرأها ويسجدُ فيُشوِّشُ على مَنْ خلفَه، ولكن
هذا تعليل عليل؛ لأن الكراهة حكمٌ شرعيٌّ يحتاج إلى دليلٍ من
السَّمع، أو تعليلٍ مبنيٍّ على نظر صحيح تقتضيه قواعد الشرع.
أما قولهم: إما أنْ يقرأها ويتركَ السُّجودَ، فنقول: حتى لو تَرَكَ
السُّجودَ فإن ذلك لا يقتضي الكراهةَ؛ لأنَّ تَرْكَ المَسنون ليس
مكروهاً، وإلا لقلنا: إنَّ صلاتنا في غير النِّعال مكروهة. ولقلنا:
إنَّ الإنسان إذا لم يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام فقد فعل
مكروهاً. ولقلنا: إن الإنسان إذا لم يجهر في الجهرية فقد فعل
مكروهاً. وما أشبه ذلك. وهذا ليس بصحيح. وأيضاً: أليس إذا قرأها
خارجَ الصَّلاة ولم يسجد لم يفعل مكروهاً؟
وأما قولهم : أو يسجدُ ويشوِّشُ على المأمومين، فنقول: هذا قد
يكون؛ ولهذا لو سَجَدَ سَبَّحوا به، ظَنًّا منهم أنَّه نسي
الرُّكوع، ورُبَّما إذا أبى واستمرَّ ساجداً تركوه، وقالوا: تَرَكَ
رُكناً متعمِّداً فلا نتابعه، لكن هذا يمكن أن يزول بأن يرفع صوته
قليلاً عند آية السَّجدة، فإذا رَفع صوتَه بآية السَّجدة سَجَدَ
النَّاسُ، لكن رُبَّما يُقالُ: يسجدُ مَن يعرفُ أنَّ هذه الآية آية
سجدة، لكن مَنْ لا يعرف لا يسجد.
وعليه فنقول: إذا حَصَلَ تشويش لا تقرأْ، أو اقرأْ ولا تسجد، لأنه
إذا قرأَ ولم يسجدْ لم يأتِ مكروهاً، لكن قد وَرَدَ في السُّنَن
بسندٍ فيه نظر أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «قرأ في صلاة
الظُّهر {الم تنزيل السَّجدة} وسَجَدَ فيها» [(201)] فلو صَحَّ هذا
الحديث لكان فاصلاً للنِّزاع، وقلنا: إنَّه يجوزُ أن يقرأَ آيةَ
سجدة في صلاة السِّرِّ، ويسجدَ فيها كما فَعَلَ النَّبيُّ صلّى
الله عليه وسلّم.
وَيَلْزَمُ المَأْمُومَ مُتَابَعَتُهُ فِي غَيْرِهَا..........
قوله: «ويلزم المأموم متابعته في غيرها» أي: يلزم المأموم إذا سجد
إمامه أن يتابعه.
وقوله: «في غيرها» أي: في غير صلاة السِّرِّ وهي صلاة الجهر، وعُلم
مِن كلامه رحمه الله أنه لا يلزمه متابعة الإمام في صلاة السِّرِّ،
فلو قرأ الإمامُ آيةَ سجدة في صلاة السِّرِّ كالظُّهر أو العصر ثم
سَجَدَ، فإن المأموم لا يلزمه أنْ يتابعه.
وعَلَّلوا ذلك : بأن الإمام فَعَلَ مكروهاً فلا يُتابع.
ولكن الصَّحيح: أنه يلزم المأموم متابعته حتى في صلاة السِّرِّ،
وذلك لأن الإمام إذا سَجَدَ فإن عمومَ قَوْلِ النبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم: «وإذا سَجَدَ فاسْجُدُوا» [(202)] يتناول هذه
السَّجدة، وهذه السَّجدة لا تبطل صلاة الإمام، لأنَّ أكثر ما يُقال
فيها: إنها مكروهة. على كلام الفقهاء.
والصَّحيح : أنها ليست مكروهة، وأنه يسجد وفي هذه الحال يلزم
المأموم متابعته لعموم قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا
سَجَدَ فاسْجُدُوا» .
وَيُسْتَحَبُّ سجود الشُّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ
النِّعَمِ،..........
قوله: «ويستحبُّ» إذا قال العلماء: «يستحبُّ» أو «يسنُّ» فإن حكم
ذلك: أن يُثاب فاعلُه امتثالاً، ولا يعاقب تاركُه، إذاً؛ فسجود
الشُّكر إنْ فعلته أُثِبْتَ، وإنْ تركته لم تأثم.
وقوله: «سجود الشكر» الإضافة فيه مِن باب إضافة الشيء إلى نوعه؛
كما تقول: «خاتم حديد» لأن هذا السُّجودَ نوعٌ مِن الشُّكر.
والشُّكر في الأصل هو: الاعترافُ بالنِّعَمِ باللسان، والإقرارُ
بها بالقلب، والقيامُ بطاعة المُنْعِمِ بالجوارح. وعلى هذا قال
الشَّاعرُ:
أفادتكم النَّعماءُ مِنِّي ثلاثة
يدي ولساني والضَّمير المحجَّبا
فـ «يدي» : الجوارح. «ولساني» : اللسان. «والضمير المحجب» هو
القلب. فتعتقد بقلبك أن النِّعمة مِن الله، وتنطق بذلك بلسانك كما
قال تعالى: {{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ *}} [الضحى] ،
وتشكر الله بجوارحك فتقوم بطاعته، ولهذا فَسَّرَ بعضُ العلماء
الشُّكرَ: بأنه طاعة المنعم.
ويؤيِّدُه قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله أمَرَ
المؤمنين بما أمرَ به المرسلينَ» ، فقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}}، وقال
تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ
مَا رَزَقْنَاكُمْ}}، وهناك نوعٌ خاصٌّ من أنواع الشُّكر، وهو
سُجود الشُّكر.
قوله: «عند تجدد النعم» . أي: عند النِّعمة الجديدة، احترازاً مِن
النِّعمة المستمرَّة، فالنِّعمة المستمرَّة لو قلنا للإنسان: إنه
يستحبُّ أنْ يسجدَ لها لكان الإنسانُ دائماً في سُجود، لأن الله
يقول: {{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا}}
[إبراهيم: 34] ، والنعمة المستمرَّة دائماً مع الإنسان فسلامةُ
السمعِ، وسلامةُ البصرِ، وسلامةُ النُّطقِ، وسلامةُ الجسم، كلُّ
هذا مِن النِّعَمِ.
والتنفُّس مِن النِّعَم وغير ذلك، ولم تَرِدِ السُّنَّة بالسُّجود
لمثل ذلك، لكن لو فُرِضَ أنَّ أحداً أُصيب بضيق التنفُّس؛ ثم
فَرَّجَ الله عنه؛ فَسَجَد شكراً لله؛ كان مصيباً؛ لأنَّ انطلاق
نَفَسِهِ بعد ضيقه تجدّد نعمة.
مثال ذلك : إنسان نجح في الاختبار وهو مُشفِقٌ أنْ لا ينجح، فهذا
تجدُّد نِعمةٍ يسجدُ لها.
مثال آخر : إنسانٌ سَمِعَ انتصاراً للمسلمين في أيِّ مكانٍ، فهذا
تجدُّد نِعمةٍ يسجدُ لله شكراً.
مثال آخر : إنسانٌ بُشِّر بولد، هذا تجدُّد نِعمة يُسجدُ لها، وعلى
هذا فَقِسْ.
وانْدِفَاعِ النِّقَمِ. ..........
قوله: «واندفاع النقم» أي: التي وُجِدَ سببُها فَسَلِمَ منها.
مثال ذلك : رجل حَصَلَ له حادث في السيارة وهو يسير، وانقبلت وخرجَ
سالماً، فهنا يسجدُ؛ لأنَّ هذه النقمة وُجِدَ سببُها وهو الانقلاب
لكنه سَلِمَ.
مثال آخر : إنسان اشتعل في بيته حريق، فَيَسَّرَ اللهُ القضاء عليه
فانطفأ؛ فهذا اندفاعُ نِقْمَةٍ يَسجدُ لله تعالى شكراً.
مثال آخر : إنسانٌ سَقَطَ في بئر فَخَرَجَ سالماً، فهذا اندفاعُ
نِقْمَةٍ؛ يسجدُ لله شُكراً عليها.
فالمُراد بذلك اندفاع النِّقم التي وُجِدَ سَبَبُهَا فَسَلِمَ
منها، أمَّا المستمر فلا يمكن إحصاؤه، ولو أننا قلنا للإنسان
يُستحبُّ أن تسجدَ لذلك لكان دائماً في سُجود.
ودليل سجود الشُّكر : أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم كان
إذا جاءَه أمرٌ يُسِرُّ به، أو بُشِّر به، خَرَّ ساجداً؛ شُكراً
لله تعالى[(203)]. وكذلك عَمَلُ الصَّحابة، فإنَّ عليَّ بنَ أبي
طالب رضي الله عنه لما قاتل الخوارج؛ وقيل له: إنَّ في قتلاهم ذا
الثُّدَيَّة الذي أخبرَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أنه يكون
فيهم[(204)]، سَجَدَ لله شُكراً[(205)] لأنه إذا كان ذو
الثُّدَيَّة مع مَن يقاتله صار هو على الحَقِّ. وهم على الباطل؛
فسجد لله شكراً. وكذلك كعبُ بن مالك رضي الله عنه لما سَمِعَ صوتَ
البَشيرِ بتوبة الله عليه سَجَد لله شكراً .
«تنبيه» : لم يُبيِّن المؤلِّف رحمه الله كيفية سُجود الشُّكر، لكن
الكتب المُطوَّلَة بيَّنت أن سُجود الشُّكر كسُجُود التلاوة،
وبناءً عليه: تكون صفته على ما مشى عليه المؤلِّف: أنْ يُكبِّرَ
إذا سَجَدَ، وإذا رَفَعَ، ويجلس ويُسلِّم.
والصَّحيح : أنه يُكبِّرُ إذا سجدَ فقط، ولا يُكبِّرُ إذا رفع ولا
يُسلِّمُ، على أن التكبير عند السُّجود فيه شيء مِن النَّظر كما
سبق[(206)].
وتبطل به صلاة غير جاهل وناسٍ ............
قوله: «وتبطل به» أي: بسجود الشُّكر.
قوله: «صلاة غير جاهل وناس» : أي: مَن سَجَدَ سَجْدةَ الشُّكر
عالماً بالحُكم ذاكِراً له فإنَّ صلاتَه تبطُلُ.
مثال ذلك : رَجُلٌ وهو يُصلِّي سَمِعَ انتصار المسلمين في معركة
مِن المعارك؛ فَسَجَدَ، نقول لهذا السَّاجد: إنْ كنت تعلم أنَّ
سُجود الشُّكر في الصَّلاة يُبطِلُ الصَّلاة فصلاتُك باطلة؛ لأنك
زِدت فيها شيئاً متعمِّداً مِن جنس الصَّلاة، وإنْ كنت لا تدري
أنَّ سُجود الشُّكر في الصَّلاة مُبطلٌ لها فصلاتُك صحيحة؛ لقول
الله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ
أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] وكذلك لو بُشِّرَ بخبر سارٍ وهو
يُصلِّي فسجَدَ ناسياً أَنَّه لا يجوزُ سُجودُ الشُّكرِ في
الصَّلاة، أو ناسياً أنَّه في الصَّلاةِ، فإنَّ صلاتَه لا تبطلُ؛
للآية التي ذكرنا، فإنْ كان عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُهُ؛ لكن
يُلاحظ أنَّ هذا لا يمكن أنْ يقعَ، يعني: لا يمكن لشخصٍ يعلَمُ
بأنَّ سُجودَ الشُّكرِ أثناء الصَّلاةِ مُبطلٌ لها، ويذكرُ ذلك ثم
يسجدُ؛ لأنَّ معنى هذا أنَّه تعمَّد إبطال صلاتِهِ.
وما ذكرَه المؤلِّفُ صحيحٌ؛ أي: أنَّ الصَّلاة تبطلُ بسُجودِ
الشُّكرِ، لأنَّه لا علاقة له بالصَّلاة، بخلافِ سُجودِ التِّلاوة؛
لأن سُجودَ التِّلاوةِ لأمرٍ يتعلَّق بالصَّلاة وهو القِراءة.
لكن يبقى النَّظرُ: ماذا يُقال في سجدة (ص)؟
والجواب : أنَّ الفقهاء رحمهم الله يقولون: إنَّ سجدة (ص) سجدةُ
شُكرٍ، وعلى هذا فلو سَجَدَ الإنسانُ، إذا مَرَّ بآية سجدة (ص) وهو
يُصلِّي لبطلت صلاتُهُ؛ لأنها سجدةُ شُكرٍ[(207)].
ولكن القول الصحيح في هذه المسألة: أنَّ السجدةَ في آية (ص) سجدةُ
تِلاوة؛ لأنَّ سببَ السُّجودِ لها أنني تلوتُ القرآن، ولم يحصلْ لي
نِعمةٌ ولم تندفعْ عَنِّي نِقمةٌ، فإذا كان السببُ هو تِلاوتي لهذه
الآية صارت مِن سُجود التِّلاوة، وهذا القولُ هو القولُ الرَّاجح
في هذه المسألة.
وَأَوْقَاتُ النَّهْي خَمْسَةٌ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ الثَّانِي
إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ........
قوله: «وأوقات النهي خمسة» . «أوقات النَّهي» : هي الأوقات التي
نهى الشَّارعُ عن الصَّلاة فيها، والمراد: صلاة التطوُّع، وهي
خمسة؛ وذلك أنَّ الأصل: أنَّ صلاة التطوُّعِ مشروعةٌ دائماً؛ لعموم
قول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *}} [الحج] وعمومِ قولِ النَّبيِّ صلّى
الله عليه وسلّم للرَّجُل الذي قضى له حاجةً، فقال له النبيُّ صلّى
الله عليه وسلّم: «سَلْ» قال: أسألُك مرافقتك في الجنَّة، فقال
النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَو غَيْرَ ذَلك؟» قال: هو ذاك ـ
يعني: لا أَسألُكَ غيرَه ـ قال: «فأعنِّي على نَفسِكَ بكَثْرَةِ
السُّجود» [(208)] وعلى هذا؛ فالأصلُ في صلاةِ التطوُّعِ أنَّها
مشروعةٌ كُلَّ وقتٍ للحاضر والمسافر، لكن هناك أوقاتاً نهى
الشَّارعُ عن الصلاة فيها، وهذه الأوقات خمسةٌ بالبسطِ، وثلاثةٌ
بالاختصارِ.
قوله: «مِن طلوع الفجر الثاني» هذا هو الوقت الأوَّل. والفجرُ
الثاني: هو الفجرُ المعترضُ في الأُفقِ، والفجرُ الأولُ مقدِّمةُ
للفجرِ الثاني، لكنه لا يكون معترضاً في الأُفقِ بل يكون مستطيلاً
في الأُفق، والفجرُ الثاني مستطيرٌ أي: كالطير يمدُّ جناحَيه فيكون
النُّورُ عرضاً في الأُفق مِن الشمال إلى الجنوب، والفجرُ الأوَّل
يمتدُّ طولاً مِن الشَّرقِ إلى الغربِ.
والفجرُ الأوَّلُ يبدو قبلَ الفجرِ الثَّاني بنحو نصفِ ساعة، ثم
يضمحلُّ، ويرجع الجوُّ مظلماً، ثم يخرجُ الفجرُ الثاني، قال أهلُ
العِلْمِ: الفروق بينهما ثلاثة:
الأول : أنَّ الفجرَ الثاني مستطيرٌ؛ أي: معترض، والأولُ مستطيلٌ؛
أي: ممتدٌّ نحو وسَطَ السَّماء.
الثاني : أنَّ الفجرَ الثاني لا ظُلمةَ بعدَه، والأولُ يزولُ
ويظلِمُ الجوُّ بعدَه.
الثالث : أنَّ الفجرَ الثاني متَّصِلٌ بالأُفقِ، والفجرُ الأولُ
غيرُ متَّصلٍ، بمعنى: أنَّ الفجرَ الثاني تجدُه على وجه الأرض،
والفجرُ الأولُ بينه وبين أسفل السَّماء سواد[(209)].
وقوله: «مِن الفجرِ الثاني» يعني: لا مِن صلاةِ الفجرِ.
واستُدِلَّ لذلك بحديث ضعيف: «إذا طلعَ الفجرُ؛ فلا صلاةَ إلا
ركعتا الفجرِ» [(210)] لا نافية، والأصلُ في النَّفي نَفْيُ
الوجودِ، ثم نَفْيُ الصِّحَّةِ، ثم نَفْيُ الكمالِ، يعني: إذا
جاءتِ النصوصُ:
لا صلاةَ... لا وُضُوءَ... لا صومَ، فالأصلُ نَفْيُ الوجودِ، فإنْ
كان الشيءُ موجوداً بحيث لا يمكن نفيُه، صُرفَ إلى نَفْيِ
الصِّحةِ؛ فصار هذا النَّفيُ نفياً للصِّحَّةِ، لأنَّ ما لا يصحُّ
شرعاً يكون معدوماً شرعاً، فلو صَلَّى الإنسانُ صلاةً بغيرِ
وُضُوء، وأتى فيها بكلِّ شيء فهي غير موجودة شرعاً، وإنْ وُجِدتْ
في الواقع.
فإنْ لم يمكن ذلك بأن تكون العبادة صحيحة مع وجود هذا الشيء صار
النَّفْيُ للكمال.
فمثلاً: إذا قلنا: لا خالقَ إلا اللهُ، فهذا نَفْيٌ للوجود، فلا
يوجد خالقٌ إلا اللهُ عزّ وجل.
وإذا قلت: لا صلاةَ بغير طُهور،فهذا نَفْيٌ للصِّحَّة؛ لأن
الإنسانَ رُبَّما يُصلِّي بغير طُهُور.
وإنْ دَلَّ الدَّليلُ على أنَّها تصحُّ صار النفيُ للكمال، مثل: لا
إيمانَ لمن لا أمانة له، أي: لا إيمانَ كاملٌ، ومثل: لا يؤمن
أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، أي: لا إيمانَ كاملٌ، وعلى
هذا فَقِسْ.
فقوله: «لا صلاةَ بعدَ طُلوعِ الفجرِ إلا ركعتا الفجرِ» يعني: لا
تصحُّ.
ولكن القول الصحيح : أنَّ النَّهيَ يتعلَّقُ بصلاةِ الفجرِ
نفسِهَا، وأما ما بين الأذان والإقامة، فليس وقت، لكن لا يُشرع فيه
سوى ركعتي الفجر.
لأنه ثبت في «صحيح مسلم» وغيره تعليق الحُكم بنفس الصلاة: «لا
صلاةَ بعدَ صلاةِ الفجرِ حتى تطلعَ الشمسُ» [(211)].
ولأن النَّهيَ في العصرِ يتعلَّق بالصَّلاة لا بالوقت، فكان الفجر
مثله يتعلَّق فيه النَّهي بنفس الصَّلاة، فإذا كان هذا هو القول
الصَّحيح؛ فما الجواب عن الحديث الذي استدلَّ به المؤلِّف؟
الجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما : أنَّ الحديث ضعيف[(212)].
الثاني : على تقدير أنَّ الحديث صحيحٌ؛ يُحمل قولُه: «لا صلاةَ
بعدَ طُلوع الفجرِ» على نفي المشروعية، أي: لا يُشرع للإنسانِ أنْ
يتطوَّعَ بنافلةٍ بعد طُلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، وهذا حقٌّ؛
فإنه لا ينبغي للإنسان بعد طُلوعِ الفجر أنْ يتطوَّع بغير ركعتي
الفجر، فلو دخلت المسجدَ وصلَّيتَ ركعتي الفجر، ولم يَحِنْ وقتُ
الصَّلاة وقلتَ: سأتطوَّعُ؟ قلنا لك: لا تفعل؛ لأنَّ هذا غيرُ
مشروع، لكن لو فعلتَ لم تأثم، وإنما قلنا: غيرُ مشروع؛ لأنَّ
الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما كان يُصلِّي ركعتين خفيفتين بعد
طُلوعِ الفجرِ[(213)]. وهي سُنَّةُ الفجرِ فقط، يعني: بل حتى تطويل
الرَّكعتين ليس بمشروع.
وِمِنْ طُلُوعِهَا حَتَّى تَرْتَفِعَ قَيْدَ رُمْحٍ ............
قوله: «ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح» .
أي: من طلوع قرص الشمس.
«قيد رمح» : يعني: قَدْرَ رُمح برأي العين. هذا هو الوقت الثَّاني.
فإذا طلعت الشَّمس؛ فانظر إليها، فإذا ارتفعت قَدْرَ رُمح، يعني:
قَدْرَ متر تقريباً في رأي العين فحينئذٍ خرج وقت النَّهي.
ويُقدَّرُ بالنسبة للساعات باثنتي عشرة دقيقةً إلى عشرِ دقائقَ،
أي: ليس بطويل، ولكن الاحتياطُ أن يزيدَ إلى رُبعِ ساعة، فنقول بعد
طُلوع الشَّمس برُبعِ ساعة ينتهي وقتُ النَّهي.
وَعِنْدَ قِيَامِهَا حَتَّى تَزُولَ، وَمِنْ صَلاَةِ العَصْرِ
إِلَى غُرُوبِهَا،.........
قوله: «وعند قيامها حتى تزول» . «عند قيامها» : أي: الشَّمس حتى
تزول. أي: تميل عن وَسَطِ السَّماء نحو المغرب وهذا هو الوقت
الثالث.
«وقيامها» : أي: منتهى ارتفاعها في السَّماء؛ لأن الشَّمسَ ترتفع
في الأُفق فإذا انتهت بدأت بالانخفاض.
ودليل ذلك : حديث عُقبة بنِ عامرٍ رضي الله عنه قال: «ثلاثُ ساعاتٍ
نهانا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم أنْ نُصلِّيَ فيهنَّ، وأنْ
نقبُرَ فيهنَّ موتانا، حين تطلعَ الشمسُ بازغةً حتى ترتفعَ، وحين
يقوم قائمُ الظَّهيرة، وحين تضَيفُ الشَّمسُ للغروب حتى تغربَ»
[(214)].
الشاهد : قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أن نصلِّيَ فيهنَّ» . وأما
ما بين الفجر إلى طُلوع الشَّمس، ومِن صلاةِ العصرِ إلى الغُروب؛
فقد ثبتَ عن عدد مِن الصَّحابة أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم
نهى عن الصَّلاة بعد الفجر ـ أي: بعد الصَّلاة على القولِ
الرَّاجحِ ـ حتى تطلعَ الشَّمسُ، وبعد العصرِ حتى تغربَ[(215)].
قوله: «ومن صلاة العصر إلى غروبها» هذا هو الوقت الرابع لما ثبت في
الصَّحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ
الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن الصَّلاةِ بعد الفجرِ حتى
تطلعَ الشَّمسُ، وبعدَ العصرِ حتى تغربَ الشَّمسُ» [(216)]،
والمراد بقوله: «إلى غروبها» أي: شروعها في الغروب.
وَإِذَا شَرَعَتْ فِيهِ حَتَّى يَتِمَّ ..........
قوله: «وإذا شرعت فيه حتى يتم» أي: في الغُروب حتى يتمَّ. هذا هو
الوقت الخامس، أي: أنَّ قُرْصَ الشَّمس إذا دَنَا من الغُروب، يبدو
ظاهراً بَيِّناً كبيراً واسعاً، فإذا بدأ أوَّلُه يغيب فهذا هو
وقتُ النَّهي إلى تمام الغُروب؛ لقوله في حديث عُقبة: «وحين
تَضَيَّفُ الشَّمسُ للغُروبِ حتى تغربَ» .
ولكن الظَّاهر : أن معنى «تَضَيَّف» أي: تميل للغروب، وينبغي أن
يُجعل هذا الميل بمقدارها عند طُلوعها، يعني: قَدْرَ رُمْحٍ، فإذا
بقي على غروبها قَدْرَ رُمْحٍ دخل وقتُ النَّهي الذي في حديث
عُقبة، لكن ثبت في الصَّحيح عن ابنِ عُمر أنَّ النَّبيَّ صلّى الله
عليه وسلّم قال: «إذا غابَ حاجبُ الشَّمسِ فأخِّرُوا الصَّلاةَ حتى
تغيبَ» [(217)].
فهذه خمسة أوقات بالبسط.
وأمَّا بالاختصار فثلاثة:
مِن الفجرِ إلى أنْ ترتفعَ الشمسُ قيد رُمْـحٍ، وحين يقومُ قائمُ
الظَّهيرة، ومِن صـلاة العـصـر حتى يتمَّ غروبُ الشَّمس.
مسألة : ما الحكمةُ مِن النَّهي عن الصلاة في هذه الأوقات؟
الجواب مِن وجهين: أولاً : يجب أن نعلمَ أنَّ ما أمرَ اللهُ به
ورسولُه، أو نهى اللهُ عنه ورسولُه فهو الحكمة، فعلينا أن نسَلِّمَ
ونقول إذا سَأَلَنَا أَحدٌ عن الحكمة في أمْرٍ مِن الأمور: إن
الحكمة أمرُ اللهِ ورسولِهِ في المأمورات، ونهيُ اللهِ ورسولِهِ في
المنهيَّات.
ودليل ذلك : مِن القرآن قوله تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}} [الأحزاب: 36] ،
وسُئلت عائشةُ رضي الله عنها: ما بَالُ الحائضِ تقضي الصَّومَ ولا
تقضي الصَّلاةَ؟ فقالت: «كان يصيبنا ذلك فنؤمرُ بقضاء الصَّوم ولا
نؤمر بقضاء الصَّلاةَ» [(218)]، فاستدلَّت بالسُّنَّةِ ولم تذكرْ
العِلَّةَ، وهذا هو حقيقة التسليم والعبادة؛ أن تكونَ مسلِّماً
لأمرِ اللهِ ورسولِهِ عرفتَ حكمته أم لم تعرف، ولو كان الإنسان لا
يؤمن بالشيء حتى يعرف حكمته؛ لقلنا: إنك ممن اتَّبعَ هواه، فلا
تمتثل إلا حيث ظهرَ لك أنَّ الامتثال خير.
ثانياً : أنَّ هذه الأوقات يعبدُ المشركون فيها الشَّمسَ، فلو قمت
تُصلِّي لكان في ذلك مشابهةً للمشركين، لأنهم يسجدون للشَّمسِ عند
طلوعها، وعند غروبها. كما جاء في الحديث[(219)].
لكنه يَرِدُ علينا أنَّ هذا ينطبقُ على ما كان مِن طُلوع الشَّمس
إلى أن ترتفعَ قَيْدَ رُمْحٍ، وعلى ما كان حين تضيَّفُ الشَّمسُ
للغُروب حتى تغربَ، لكن كيف ينطبق على ما كان مِن بعدِ صلاة الفجر
إلى طلوع الشَّمسِ، ومِن بعد صلاة العصر إلى أنْ تتضيَّفَ الشَّمسُ
للغروب، وكيف ينطبق على النَّهي في نصف النهار حين يقوم قائمُ
الظَّهيرة؟
فنقول: لما كان الشِّركُ أمرُه خطيرٌ، وشرُّه مستطيرٌ، سَدَّ
الشَّارعُ كلَّ طريق يُوصِلُ إليه، ولو مِن بعيد، فلو أُذِنَ
للإنسان أنْ يصلِّيَ بعد صلاة الصُّبح لاستمرَّت به الحالُ إلى أن
تطلعَ الشمسُ، ولا سيما مَنْ عندهم رغبةٌ في الخير، وكذلك لو
أُذِنَ له في أن يصلِّيَ بعد صلاة العصر لاستمرَّت به الحالُ إلى
أن تغيبَ الشمسُ.
أما عند قيامها فقد عَلَّلَهُ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بأن
جهنَّمَ تُسْجَر [(220)]، أي: هذا الوقت يُزاد في وقودها؛ فناسب أن
يبتعد النَّاسُ عن الصَّلاة في هذا الوقت؛ لأنه وقت تُسجر فيه
النَّار، فهذه حكمتُه.
فالواجبُ على المسلمِ أن يكون مبايناً للمشركين في كُلِّ شيء؛ لأنه
مسلمٌ. حتى إنَّ عُمرَ رضي الله عنه لما كان الناسُ في عِزَّة
الإسلامِ كان لا يُمَكِّن أهلَ الذِّمَّة أنْ يركبوا
الخيلَ[(221)]؛ لأنَّ به عِزَّ الإسلامِ، وهي آلةُ الحرب، فلو
رَكِبَ الذِّميُّ الخيلَ لحصَلَ في نفسِه عِزَّةٌ وَأَنفَةٌ.
والمطلوب مِن المسلم أن يُذِلَّ الكافرَ، قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا
النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *}}
[التحريم] ، وكان يمنعهم مِن أن يركبوا كما يركب المسلمون، بل
يركبون عرضاً، أي: على جانب واحد، فتكون أرجلُهم مِن الجانب الأيمن
كلُّها، أو مِن الجانب الأيسر؛ لئلا يتشبَّهوا بالمسلمين، فكذلك
إذا صَلَّى الإنسانُ عند طُلوع الشَّمس أو غروبها تَشبَّه
بالمشركين بالعبادة، وهذا أعظمُ مِن التشبُّه باللباس، أو
الرُّكوب، أو ما أشبه ذلك.
وَيَجُوْزُ قَضَاءُ الفَرَائِضِ فِيْهَا، وَفِي الأَوْقَاتِ
الثَّلاَثَةِ فِعْلُ رَكْعَتَي طَوَافٍ ........
قوله: «ويجوز قضاء الفرائض فيها» .
«فيها» أي: في أوقات النَّهي مثاله: أن ينسى الإنسانُ صلاةَ
الظُّهر، ويصلِّي العصرَ على أنه قد صَلَّى الظُّهر، وبعد أن صَلّى
العصرَ ذكر أنه لم يُصلِّ الظّهرَ، ففي هذه الحال يقضيها ولو بعد
صلاة العصر، والدَّليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَن نَامَ عن
صلاة أو نسيَهَا فليصلِّها إذا ذكَرَهَا» [(222)] وهذا عامٌّ يشمل
جميع الأوقات، ولأن الفرائض دَيْنٌ واجب فوجب أداؤه على الفَورِ
مِن حين أن يعلمَ به.
مثال آخر : رَجُلٌ لما صَلَّى العصرَ ذكر أنه صَلَّى الظُّهرَ بغير
وُضُوءٍ، ففي هذه الحال يلزمه قضاءُ صلاةِ الظُّهرِ، ولو بعدَ صلاة
العصر.
قوله: «وفي الأوقات الثلاثة فعل ركعتي طواف» .
أي: ويجوز في الأوقات الثلاثة فِعْلُ ركعتي طواف، ويعني: بالأوقات
الثلاثة الأوقات: القصيرة التي ذُكرت في حديث عُقبة بن عامر: وهي
«مِن طُلوعِ الشَّمسِ حتى ترتفعَ قَيْدَ رُ محٍ، وعند قيامها حتى
تزولَ، وحين تضيَّفَ للغروب حتى تغربَ» [(223)] فيجوز فيها فِعْلُ
ركعتي الطَّواف، فإذا طافَ الإنسانُ بعد طُلوع الشَّمس وقبل
ارتفاعها قيد رُمْحٍ فإنه يُصلِّي ركعتي الطَّواف، وإذا طاف حين
تتضيَّفُ الشَّمسُ للغروب، فإنه يُصلِّي ركعتي الطَّواف.
والدَّليلُ : قولُ النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام: «يا بَنِي
عَبدِ مَنَافٍ، لا تمنعوا أحداً طَافَ بهذا البيتِ وصَلَّى فيه
أيَّةَ ساعةٍ شاءَ مِن ليلٍ أو نهارٍ» [(224)] فقال: «أيَّةَ ساعةٍ
شاءَ مِن ليلٍ أو نهارٍ» وهذا صريحٌ بأنه لا يجوز لهم أن يمنعوا
أحداً طافَ بهذا البيت في أيِّ ساعة كانت لا بعدَ العصر ولا بعد
الصُّبح ولا في أيِّ وقتٍ، ولكن قد يُنازع في الاستدلال بهذا
الحديث، فيقال: إنَّ هذا الحديث موجَّه إلى مَن تولَّى البيت فإنه
لا يجوز له أن يمنعَ أحداً مِن الطَّواف ومِن الصَّلاة فيه، ويبقى
الحكمُ الشَّرعيُّ مانعاً مِن الصَّلاة في أوقات النَّهي.
وأيضاً: لو أخذنا بعموم الحديث لكان دالاًّ على أنَّه لا نَهيَ عن
الصَّلاة في المسجد الحرام، سواءٌ كانت ركعتي الطَّواف أم لم تكن،
لأنه قال: «طافَ بهذا البيتِ وصَلَّى فيه» .
فظاهره : أنه لا نهي عن الصَّلاة في المسجد الحرام، ولو في أوقات
النَّهي.
وعلى هذا؛ فيُنازع في الاستدلال بهذا الحديثِ مِن وجهين:
الوجه الأول : أنَّ ظاهرَه أنه لا بأسَ بالصَّلاة ولا بأسَ
بالطَّوافِ في كُلِّ وقت، وأنتم تخصُّون الصَّلاة بركعتي الطَّواف.
الوجه الثاني : أنَّ الحديثَ موجَّه إلى ولاةِ الأمْرِ في المسجد
الحرام؛ أنه لا يَحِلُّ لهم أن يمنعوا أحداً من الصلاة فيه.
وعلى كُلٍّ؛ سيأتينا إنْ شاءَ اللهُ أنَّ ركعتي الطوافِ جائزةٌ لا
لهذا الحديث، ولكن لأن لها سبباً، وذوات الأسباب يجوز فِعْلُها في
وقت النَّهي[(225)].
وقوله: «في الأوقات الثلاثة» مفهومُه: أنَّ الوقتين الآخرين لا
يجوز فيهما فِعْلُ ركعتي الطَّواف، ولكن هذا ليس مراداً، فالمفهوم
هنا مفهوم أولوية لا مفهوم مخالفة، لأنه إذا جازت صلاةُ ركعتي
الطَّواف في الأوقات الثلاثة القصيرة؛ وهي أغلظ تحريماً مِن
الأوقات الطويلة؛ ففي الأوقات الطويلة مِن بابِ أولى، ونَصَّ
المؤلِّفُ على الأوقات الثلاثة، لأن بعضَ العُلماءِ قال: إنَّ
الأوقاتَ الثلاثةَ القصيرةَ لا يجوز فيها فِعْلُ ركعتي الطَّواف،
وإنما تجوز في الوقتين الطويلين فقط، وهذه إحدى الروايتين عن
الإمام أحمد.
والوقتان الطويلان هما مِن صلاةِ العصرِ إلى أن تتضيَّفَ الشَّمسُ
للغروب، ومِن صلاة الفجر أو مِن طُلوعِ الفجر إلى أن تطلعَ
الشَّمسُ.
وَإِعَادَة جَمَاعَةٍ.........
قوله: «وإعادة جماعة» .
أي: أنه يجوز في هذه الأوقات الثلاثة، وغيرها مِن باب أَولى أنْ
يعيدَ الإنسانُ الجماعةَ. فإذا أتى مسجدَ جماعةٍ، ووجدهم يُصلُّون
وقد صَلَّى، فإنَّه يُصلِّي معهم، ولو كان وقتَ نهي.
مثال ذلك : رَجُلٌ صَلَّى العصرَ في مسجدِه، ثم أتى إلى مسجدٍ آخر
ليحضُرَ الدَّرسَ مثلاً؛ فوجدَهم يُصلُّون؛ فإنَّه يُصلِّي معهم.
والدَّليلُ أنَّه صلّى الله عليه وسلّم صَلَّى ذاتَ يوم صلاةَ
الفجر في مِنَى، فلما انصرف إذا برجلين قد اعتزلا؛ لم يصلِّيا مع
الناس، فدعا بهما فجِيء بهما تُرعَدُ فرائصهُما، فقال: ما منعكما
أن تُصلِّيَا معنا؟ قالا: يا رسول الله صَلَّينا في رِحالنا، فقال
لهما: إذا صَلَّيتُما في رحالِكما، ثم أتيتما مسجدَ جماعةٍ فصلِّيا
معهم، فإنها لكما نافلة» [(226)] أي: الصلاةُ الثانية لكما نافلةٌ،
وهذا صريحٌ في جواز إعادة الجماعة في وقت النَّهي، وفي هذا الحديثِ
دليلٌ على أنه يُنكر على مَن جَلَسَ والناسُ يصلُّون؛ لأنه شذوذ
وخروج عن الجماعة.
حتى إن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أُقيمَتِ
الصَّلاةُ، فلا صلاةَ إلا المَكتوبةُ» [(227)]، وفي لفظ: «إلا التي
أُقيمَتْ» [(228)]، يعني: حتى لو كان عليك فريضةٌ تريد أنْ تقضيها
والإمام يُصلِّي، وصلَّيتَ وحدَك لتؤدِّي الفريضةَ السابقةَ؛ فأنت
منهيٌّ عن ذلك لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاةَ إلا التي
أُقيمَتْ» .
واحتَجَّ بعضُ الناسِ بحديث الرَّجُلين على جواز إقامةِ الجماعةِ
في الرَّحْلِ دون المسجد، أي: أنه لا يجبُ على الإنسانِ أنْ
يُصلِّيَ مع الجماعةِ في المسجدِ، بل يجوزُ أن يُصلِّيَ جماعة في
رَحْلِهِ، وعلى هذا؛ فإذا كُنَّا جماعةً في بيت، وأذَّنَ
المؤذِّنُ، فإنه يجوز لنا أن نصلِّيَ في بيتنا، ولا نذهب إلى
المسجد؛ لقول الرَّجُلين للنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: صَلَّينا
في رِحَالِنا فقال: «إذا صَلَّيتُما في رحالِكما، ثم أتيتما مسجدَ
جماعة» ولم يقل: لا تصلِّيا في رحالِكُما، بل صَلِّيا في المسجد،
وهذا لا شَكَّ أنَّ فيه شيئاً مِن الشُّبهةِ، ففيه فِعْلُ
الصحابيين، وفيه إقرارُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم
لفعِلِهِمَا، أما مجرَّدُ فِعْلِهِمَا فليس فيه دليلٌ بلا شَكٍّ،
لأنه يَحتملُ أنهما لم يعلما بوجوب الصلاة في المسجد، ويحتمل أنهما
ظَنَّا أنَّ الجماعةَ قد أُقيمت، وأنهما لا يدركان جماعةَ المسجدِ
فصلَّيا في رحالِهِمَا. لكن الذي فيه الإشكالُ إقرارُ النَّبيِّ
صلّى الله عليه وسلّم لهما، حيث لم يقلْ: لا تصلِّيا في
رحالِكُمَا، ولا شك أنَّ هذا فيه شُبهة، وفيه شيءٌ مِن المستند
لِمَنْ قال بأنه لا تجب الصلاةُ في المسجدِ، ولكن هناك أدلَّةٌ
أخرى أصرحُ مِن هذا، تدلُّ على وجوب صلاة الجماعةِ في المسجدِ.
والقاعدة الشرعية عندنا: أنه إذا وُجِدَ دليلٌ مشتبهٌ ودليلٌ
مُحكمٌ لا اشتباه فيه، فالواجبُ حَمْلُ المشتبه على المحكم.
فالنصوص: تدل على أنه لا بُدَّ مِن الحضور في المسجد، مثل حديث أبي
هريرة أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «... ثم أنْطَلِقَ إلى
قومٍ لا يشهدون الصَّلاةَ؛ فأحرِّقَ عليهم بيوتَهُم بالنَّار»
[(229)] مع أنَّ القومَ يمكن أن يصلوا جماعة في مكانهم، فجعل
تخلُّفهم سبباً لإحراقهم بالنار، الذي هَمَّ به عليه الصلاة
والسلام.
ومنها أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: لما استأذنه الرَّجُلُ
الأعمى أنْ يُصلِّيَ في بيتِهِ؛ أَذِنَ له؛ ثم دعاه، فقال: «هل
تسمعُ النداءَ؟» قال: نعم، قال: «فأجِبْ» [(230)] ولم يقل: انظر
مَن يصلّي معك وصَلِّ في بيتك.
فالصحيح في هذه المسألة: أنه لا بُدَّ مِن حضور المسجد لصلاة
الجماعة. لكن لو صَلّى في بيته ظاناً أنَّ الناسَ قد صلّوا بناءً
على العادة، ثم تبيَّن أنهم لم يصلوا لم يلزمه الحضور إلى المسجد؛
لأنَّه أدَّى الفريضة.
فاسْتَثنى المؤلِّفُ ـ مما لا يَجوزُ في وَقْتِ النَّهي ـ ثلاثَ
مسائلٍ:
1 ـ قضاءَ الفرائضِ فيها.
2 ـ فِعْلَ ركعتي الطَّواف.
3 ـ إعادةَ الجَماعةِ.
ويُستثنى أيضاً على المذهبِ مسألةٌ رابعةٌ وهي: سُنَّةُ الظُّهرِ
التي بعدَها إذا جُمِعت مع العصر.
مثاله: رَجُلٌ جَمَعَ العصرَ مع الظُّهرِ جَمْعَ تقديم، فقد دَخَلَ
وقتُ النَّهي في حَقِّهِ، لأنَّ النَّهيَ مُعلَّقٌ بالصَّلاةِ في
هذه الحال، ولم يُصَلِّ راتبةَ الظُّهرِ البعديَّةَ؛ فلا بأسَ أن
يصلِّيها بعدَ العصرِ.
وخامسةٌ: وهي مَن دَخَلَ يومَ الجُمُعةِ والإمامُ يخطُبُ؛ فإنَّه
يُصلِّي ركعتين خفيفتين، ولو كان عند قيام الشمس.
ودليل ذلك: «أنَّ رَجُلاً دَخَلَ والنَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
يخطُبُ يومَ الجُمُعَةِ، فجَلَسَ، فقال له: «أصَلَّيتَ؟» قال: لا،
قال: «قُمْ فَصَلِّ ركعتين وتجوَّزْ فيهما» [(231)] فلو أَنَّ
الإمامَ جاءَ قبل أنْ تزولَ الشَّمسُ ـ والجُمُعةُ يجوز أنْ يحضُرَ
الإمامُ فيها قبلَ الزَّوالِ ويَشْرَعَ في الخطبةِ عند قيامِ
الشَّمسِ وقبلَ أنْ تزولَ، أي: في وقْتِ النَّهي ـ فإذا دَخَلَ
رَجُلٌ، ففي هذه الحال نقول: صَلِّ تحيةَ المسجدِ ولو في وَقْتِ
النَّهي.
وسادسة وهي ـ: سُنَّة الفجر قبل صلاة الفجر.
وسابعة وهي: صلاة الجَنازة تُفعل في أوقات النَّهي الطويلة، أي: لو
صَلَّينا العصرَ، وحضرت جنازةٌ، فإنَّنا نُصلِّي عليها؛ لعمُومِ
الأدلَّة في وجوبِ الصَّلاةِ على الميِّتِ، ولأنه ينبغي الإسراعُ
في دَفْنِهِ.
وَيَحْرُمُ تَطَوُّعٌ بِغَيْرِهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الأَوْقَاتِ
الخَمْسَةِ حَتَّى مَا لَهُ سَبَبٌ.
قوله: «ويحرم تطوع بغيرها» أي: بغير المتقدِّمات مِن إعادة
الجَماعةِ، وركعتي الطَّواف، وكذلك تحيَّة المسجدِ لمَن دَخَلَ
والإمامُ يخطبُ، وسُنَّة الظُّهر البعديَّة لمَن جمعَها مع العصرِ
وسُنَّة الفجر قبلها.
قوله: «حتى ما له سبب» أي: لا يجوزُ التطوُّع في هذه الأوقات حتى
الذي له سببٌ.
وذلك لعموم الأدلَّةِ؛ في أنَّه لا صلاةَ في هذه الأوقات، فعمُوم
النَّهي مقدَّمٌ على عموم الأمر؛ لأنَّ الذي له سببٌ تعارَضَ مع
أحاديثِ النَّهي حيث كان كلٌّ منهما عاماً مِن وجهٍ، خاصاً مِن
وجهٍ. مثال ذلك: تحية المسجد، فيها قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«إذا دخلَ أحدُكُمُ المسجدَ فلا يجلسْ حتى يركعَ ركعتين» [(232)]
ففيه عمومٌ في الوقت مستفادٌ مِن قوله: «إذا دَخَلَ» ؛ لأنَّ «إذا»
شرطيَّةٌ ظرفيةٌ، أي: في أيِّ وَقْتٍ دَخَلَ المسجدَ فلا يجلسْ حتى
يصلِّيَ ركعتين، وفيه خُصوصٌ في الصَّلاةِ، وهو أنَّ هذه الصلاةَ
المأمورَ بها على سبيل العُمومِ صلاةٌ مخصوصةٌ، وهي تحيَّةُ
المسجدِ، ففيه عمومٌ وفيه خصوصٌ.
وقوله: «لا صَلاةَ بعد العصر حتى تغيبَ الشَّمسُ» [(233)] فيه
عمومٌ، وفيه خصوصٌ.
فيه عمومٌ في الصَّلاةِ في قوله: «لا صَلاَةَ» لا تحيَّةَ مسجدٍ
ولا غيرَها، وفيه خُصوصٌ في الوقت «بعدَ العصرِ» فصار عمومُ الوقت
في قوله: «إذا دَخَلَ أحدُكم المسجدَ» . وخصوصُ الوقت في قوله:
«بعدَ العصرِ» وصار عمومُ الصَّلاةِ في قوله: «لا صلاة بعدَ
العصرِ» وخصوصُ تحيَّةِ المسجدِ، فلهذا صار بينهما عمومٌ وخصوصٌ،
فإذا دَخَلَ إنسانٌ المسجدَ بعدَ العصرِ فإنْ قلتَ له: «صَلِّ»
خالفتَ النَّهيَ ووافقتَ الأمرَ، وإن قلت: «لا تصلِّ» وافقتَ
النَّهيَ وخالفتَ الأمْر، فالمؤلِّفُ يقول: وافق النَّهي فلا
تُصَلِّ.
والحجةُ في ذلك: أنه اجتمعَ مُبيحٌ وحاظرٌ، أو اجتمعَ أمْرٌ ونهيٌ،
فالاحتياطُ التجنُّبُ خوفاً مِن الوقوع في النَّهي، كما قالوا: إذا
اجتمعَ مبيحٌ وحاظرٌ قُدِّمَ الحاظرُ، فلذلك نمتنعُ ونقتصرُ على ما
وَرَدَ به النَّصُّ مِن إعادةِ الجَمَاعةِ وركعتي الطَّواف وما
أشبههما.
وذهبَ بعضُ أهلِ العِلْم: إلى ترجيحِ الأمرِ الخاصِّ.
وعلّلوا ذلك: بأنَّه تعارضَ عامَّان وخاصَّان، والعامُّ في النَّهي
مخصوصٌ بمسائلٍ متفقٍ عليها.
فالعامُّ في النَّهي: «لا صلاةَ بعدَ العصرِ حتى تغربَ الشَّمسُ»
مخصوصٌ بمسائلٍ متَّفقٍ عليها، وهي قضاءُ الفرائضِ، وإعادةُ
الجماعةِ، وفِعْلُ ركعتي الطَّوافِ، وركعتي تحيَّةِ المسجدِ لمَن
دَخَلَ والإمامُ يخطبُ يومَ الجُمُعةِ، فلمَّا كان هذا العمومُ
مخصوصاً بمسائلَ؛ صارت دلالتُه على العمومِ ضعيفةً؛ لأنَّه لما
اسْتُثنيَ منه أشياءٌ، ضعف عمومُه. حتى إنَّ بعضَ العلماءِ مِن
الأصوليين قال: إنَّ العامَّ إذا خُصَّ بطلت دلالتُه على العموم
نهائيًّا؛ لأنَّ تخصيصَه يدلُّ على عدمِ إرادةِ العموم. وإذا بطلَ
عمومُه لم يكن معارضاً للأحاديثِ الدَّالةِ على فِعْلِ الصَّلواتِ
التي لها سببٌ.
والقولُ الصحيحُ في هذه المسألةِ: أنَّ ما له سببٌ يجوز فِعْلُه في
أوقاتِ النَّهي كلِّها، الطويلةِ والقصيرةِ لِما يأتي:
أولاً : أنَّ عمومَه محفوظٌ، أي: لم يُخصَّصْ، والعمومُ المحفوظُ
أقوى مِن العمومِ المخصوصِ.
ثانياً : أنْ يُقال: ما الفرقُ بين العمومِ في قوله: «مَنْ نامَ عن
صلاةٍ أو نسيَها فَلْيُصلِّها إذا ذَكَرَها» [(234)]. وقوله: «إذا
دَخَلَ أحدُكم المسجدَ فلا يجلسْ حتى يُصلِّيَ ركعتين» ؟.
فإذا قلتم: إنَّ قولَه: «مَن نامَ عن صلاةٍ أو نسيَها» عامُّ في
الوقت فليَكُن قولُه: «إذا دَخَلَ أحدُكم المسجدَ فلا يجلسْ»
عامًّا في الوقتِ أيضاً ولا فَرْقَ. فإنَّ قولَه: «مَن نامَ عن
صَلاةٍ أو نسيَها فَلْيُصَلِّها إذا ذكرَها» خاصٌّ في الصلاةِ
عامٌّ في الوقتِ.
وكذلك «إذا دَخَلَ أحدُكم المسجدَ فلا يجلسْ حتى يُصلِّيَ ركعتين»
خاصٌّ في الصَّلاة عامٌّ في الوقتِ، فكيف تأخذون بعموم: «مَن نامَ
عن صَلاةٍ أو نسيَها» وتقولون: إنَّه مخصِّصٌ لعموم: «لا صَلاةَ
بعدَ الصُّبح» أو «بعدَ العصرِ» ولا تأخذون بعمومِ: «إذا دَخَلَ
أحدُكم المسجدَ فلا يجلَسْ حتى يصلِّي ركعتين» .
ثالثاً : أنَّها مقرونة بسبب، فيبعد أنْ يقعَ فيها الاشتباهُ في
مشابهة المشركين؛ لأنَّ النَّهيَ عن الصَّلاةِ قبلَ طلوعِ الشَّمسِ
وقبلَ غروبِها، لئلا يَتَشَبَّهَ المُصلِّي المسلمُ بالمشركين
الذين يسجدونَ للشَّمسِ إذا طلعتْ وإذا غربتْ، فإذا أُحيلت
الصَّلاةُ على سببٍ معلومٍ كانت المشابهةُ بعيدةً أو معدومةً.
رابعاً : أنَّه في بعضِ ألفاظِ أحاديثِ النَّهي: «لا تَحرَّوا
بصلاتِكُم طُلوعَ الشَّمسِ ولا غُروبَها» [(235)] والذي يُصلِّي
لسببٍ لا يُقال: إنَّه متحرٍّ. بل يُقال: صَلَّى للسَّببِ.
والمتحرِّي: هو الذي يَرْقبُ الشمسَ، فإذا قاربتِ الطُّلوعَ مثلاً
قامَ وصَلَّى، أو الذي يرقبُ وَقْتَ النَّهي، فإذا جاءَ وَقْتُ
النَّهي قامَ وصَلَّى. وهذا مذهبُ الشافعي وإحدى الرِّوايتين عن
الإمام أحمدَ رحمه الله، واختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية،
وشيخِنا عبدِ الرَّحمن بنِ سعدي، وشيخِنا عبدِ العزيزِ بنِ باز.
وعلى هذا؛ إذا دخلتَ المسجدَ لصلاةِ المغربِ قبلَ الغُروبِ بربع
ساعة مثلاً؛ تُصلِّي ولا حَرَج، بل لو جلستَ لكنت واقعاً في نَهْيِ
الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم عن الجلوسِ لمَن دَخَلَ المسجدَ
حتى يُصلِّيَ ركعتين.
وقوله: «حتى ما له سبب» إشارة إلى الخِلافِ في هذه المسألةِ، مع
أنَّ الخِلافَ قويٌّ، وقد ذَكَرَ بعضُ المتأخِّرين أنهم إذا قالوا:
«ولو كذا» فالخِلافُ قويٌّ، وإذا قالوا: «وإنْ كان كذا» فالخِلافُ
أقلُّ، وإذا قالوا: «حتى» فالخِلافُ ضَعيفٌ.
ولكن؛ الخِلافُ في هذه المسألةِ قويٌّ جدًّا، لا مِن حيث الدليلُ
ولا مِن حيث كثرةُ المخالفين.
مسألة : لو أنَّ رجُلاً توضَّأ بعدَ صلاةِ العصرِ هل يُصلِّي
سُنَّة الوضُوءِ، أم لا يُصلِّي؟
الجواب : إنْ توضَّأ ليصلِّي؛ فلا يجوز؛ لأنَّه تعمَّدَ الصلاةَ في
أوقات النَّهي.
وإن توضَّأ للطَّهارة؛ صَلَّى على القول الصَّحيحِ، أما على قَوْلِ
مَن يقول: إنَّه لا يُصلِّي مِن النوافل إلا ما خصَّصوها، فلا
يجوز.
مسألة : لو أنَّ رجُلاً تقدَّم إلى صلاةِ المَغربِ يومَ الجُمُعةِ
في آخر النَّهارِ مِن أجلِ أن يُصلِّي تحيَّةَ المسجدِ حتى يشمله
الحديث: «إنَّ في الجُمُعَةِ لساعةً، لا يوافِقُها عبدٌ مسلمٌ ـ
وهو قائمٌ يُصلِّي ـ يسألُ اللهَ شيئاً إلا أعطَاهُ إيَّاهُ»
[(236)]، فهل نقول: إنَّ هذا حرامٌ، أو نقول: إنَّ هذا جائزٌ؟
الجواب : إنْ قَصَدَ المسجدَ ليصلِّيَ؛ فهذا حرامٌ، كما قلنا: إنْ
توضَّأ ليصلِّيَ، وإنْ قَصَدَ المسجدَ مِن أجل التقدُّم لصلاةِ
المَغربِ، ثم لمَّا دَخَلَ صَلَّى ركعتين مِن أجْلِ أنَّه دَخَلَ
المسجدَ، حتى وإنْ كان لا يتقدَّم إلا يومَ الجمعة فإنَّه لا بأس
به.
فهناك فَرْقٌ بين مَن يتوضَّأ ليصلِّي في وَقْت النَّهي فلا يجوز
أنْ يصلِّي، وبين مَن يتوضَّأ لا للصَّلاة فنقول له: إذا توضَّأتَ
فصلِّ، وكذلك تحيةُ المسجدِ، هناك فَرْقٌ بين مَن دَخَلَ المسجدَ
لصلاة التحيَّة في وَقْتِ النَّهي وبين مَن دَخَلَه لغرضٍ آخر، ثم
أمرناه بالتحيَّة لقولِ النَّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّما
الأعمالُ بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرىءٍ ما نوى» [(237)].
(فائدة): الأمورُ التي تفارقُ فيها النوافلُ الفرائضَ:
1 ـ أنَّ الفرائضَ فُرضتْ على النَّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في
السَّماءِ ليلة المعراجِ، بخلافِ النوافلِ، فإنَّها كسائرِ شرائعِ
الإسلامِ.
2 ـ تحريمُ الخروجِ مِن الفرائضِ بلا عُذْرٍ، بخلافِ النوافلِ.
3 ـ الفريضةُ يأثمُ تارِكُها، بخلافِ النافلةِ.
4 ـ الفرائضُ محصورةُ العددِ، بخلافِ النوافلِ فلا حصرَ لها.
5 ـ صلاةُ الفريضةِ تكون في المسجدِ، بخلافِ النافلةِ فهي في
البيتِ أفضلُ إلا ما استُثني[(238)].
6 ـ جوازُ صلاةِ النافلةِ على الراحلة بلا ضرورة، بخلاف
الفريضةِ[(239)].
7 ـ الفريضةُ مؤقَّتةٌ بوقتٍ معيَّن، بخلافِ النافلةِ، فمنها
المؤقَّتُ وغيرُ المؤقَّتُ.
8 ـ النافلةُ في السفر لا يُشترط لها استقبالُ القِبلة، بخلافِ
الفريضةِ[(240)].
9 ـ جوازُ الانتقالِ مِن الفريضةِ إلى النَّافلةِ غيرِ المعيَّنةِ،
والعكس لا يصحُّ[(241)].
10 ـ النَّافلةُ لا يكفُرُ بتركِها بالإجماعِ، وأما الفريضةُ
فيَكْفرُ على القولِ الصَّحيحِ[(242)].
11 ـ النَّوافلُ تكمِّلُ الفرائضَ، والعكسُ لا يصحُّ.
12 ـ القيامُ ركنٌ في الفريضةِ، بخِلافِ النَّافلةِ.
13 ـ لا يصحُّ نَفْلُ الآبق، ويصحُّ فَرْضُه.
14 ـ جوازُ الاجتزاء (الاكتفاء) بتسليمة في النَّفْلِ على أحدِ
القولين، دون الفرض[(243)].
15 ـ لا يُشرع الأذانُ والإقامةُ في النَّفلِ مطلقاً، بخلافِ
الفَرْضِ.
16 ـ الفريضةُ تُقصرُ في السَّفرِ، أما النَّافلةُ التي في السَّفر
فلا تُقصر.
17 ـ النَّافلةُ تسقطُ عند العجز عنها، ويُكتب أجرُها لِمَن
اعتادَها، والفريضةُ لا تسقطُ بحالٍ، ويُكتبُ أجرُ إكمالِها لمن
عجز عنه؛ إذا كان من عادته فِعْلُه.
18ـ جميعُ الفرائضِ يُشرعُ لها ذِكْرٌ بعدَها، أما النَّوافلُ فقد
وَرَدَ في بعضِها، وفي بعضهِا لم يردْ.
19 ـ النَّافلةُ تجوزُ في جَوْفِ الكعبةِ، وأما الفريضةُ فلا.
والصَّحيحُ جوازُها فلا فَرْقَ[(244)].
20 ـ وجوبُ صلاةِ الجماعة في الفرائض، دون النوافلِ.
21 ـ الفرائضُ يجوزُ فيها الجمعُ، بخلافِ النوافلِ.
22 ـ الفرائضُ أعظمُ أجراً مِن النوافلِ.
23 ـ جوازُ الشُّربِ اليسيرِ في النفلِ، دون الفرض[(245)].
24 ـ أنَّ النوافلَ منها ما يُصلَّى ركعةً واحدةً، بخلافِ
الفرائضِ[(246)].
25 ـ يُشرعُ في صلاةِ النافلةِ السؤالُ والتعوُّذ عند تِلاوة آيةِ
رحمةٍ، أو آيةِ عذابٍ، وأما الفريضةُ فإنه جائزٌ غيرُ
مشروعٍ[(247)].
26 ـ جوازُ ائتمام البالغِ بالصَّبي في النافلةِ، دون الفريضةِ،
والصَّوابُ جوازه فلا فَرْقٍ[(248)].
27 ـ جوازُ ائتمامِ المتنفِّلِ بالمفترضِ، دون العكس، والصَّحيحُ
جوازُه فلا فَرْقَ[(249)].
28 ـ النَّوافلُ منها ما يُقضى على صِفته، ومنها ما يُقضى على غير
صِفته كالوِتر[(250)]، أما الفرائضُ فتُقضَى على صِفتها، لكن
يُستثنى مِن ذلك الجُمعةُ، فإنها إذا فاتتْ تُقضى ظُهراً.
29 ـ صلاةُ الفَريضةِ الليلية يُجهر فيها بالقِراءة، أما النَّفلُ
الذي في الليلِ فهو مخيَّرٌ بين الجهرِ وعدمِه.
30 ـ وجوبُ ستر العاتق في الفريضة على أحد القولين، دون
النافلة[(251)].
31 ـ مِن النوافلِ ما تسقطُ بالسَّفَرِ، وأما الفرائضُ فلا يسقطُ
منها شيءٌ.
|