باب صلاة أهل الأعذار
تَلْزَمُ المَرِيضَ الصَّلاَةُ قَائِماً ..........
الأعذار: جمْعُ عُذْرٍ، والمراد بها، هنا: المرض، والسَّفَر،
والخوف، فهذه هي الأعذار التي تختلف بها الصَّلاةُ عند وجودِها.
واختلافُ الصَّلاةِ هيئةً أو عدداً بهذه الأعذار مأخوذٌ مِن قاعدة
عامَّةٍ في الشريعة الإِسلامية، وهي قوله تعالى: {{يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185]
، وقوله تعالى: {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ}} [الحج: 78] ، وقوله: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] . فكلَّما وُجِدت المشقَّة
وُجِدَ التيسير، ومِن القواعدِ المعروفةِ عند الفقهاءِ: أنَّ
المشقَّةَ تجلبُ التيسيرَ.
قوله: «تلزم المريض» المريض: بالنَّصبِ؛ لأنه مفعولٌ به مقدَّمٌ
على الفاعلِ، والفاعلُ قوله: «الصلاة» كقوله تعالى: {{وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}} [البقرة: 124] والمريضُ: هو الذي
اعتلَّتْ صحتُه، سواءٌ كانت في جزء مِن بدنِه، أو في جميع بدنِه.
فمنِ اشتكى عينُه فهو مريضٌ، ومَن اشتكى إصبعُه فهو مريضٌ، ومَن
أخذته الحُمَّى فهو مريضٌ. فإذاً؛ المرضُ اعتلالُ صحَّة البَدَن،
سواءٌ كان ذلك كلياً، أم جزئياً. والاعتلالُ الجزئيُّ يكونُ منه
الاعتلالُ الكُلّيُّ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمنين في
توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائرُ الجسدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى»[(508)].
قوله: «الصَّلاة قائماً» : المرادُ بـ«أل» هنا العهد الذهني، وهي
الصَّلاة المفروضةُ؛ وذلك لأنَّ صلاةَ النافلةِ لا تلزم الإِنسانَ
المريضَ ولا غير المريضِ قائماً، إذ إنَّه يجوزُ للإِنسانِ أن
يتنفَّلَ وهو جالسٌ. لكن؛ إنْ كان لعُذرٍ أخذ الأجرَ كلَّه، وإنْ
كان لغير عُذرٍ أخذَ نصفَ الأجرِ.
وقوله: «قائماً» أي: واقفاً، وظاهره: أنه ولو كان مثل الرَّاكعِ،
أو كان معتمداً على عصا أو جدارٍ أو عمودٍ أو إنسانٍ، فمتى أمكنه
أن يكون قائماً وَجَبَ عليه على أيِّ صِفةٍ كان.
والذي كالرَّاكعِ مثل: أن يكون في ظهرِه مَرَضٌ لا يستطيعُ أن
يَمُدَّ ظهرَه قائماً فهنا يصلِّي ولو كراكعٍ.
والذي يَعتمدُ كالشخصِ الضعيفِ الذي ليس عندَه قوةٌ، فلا يستطيعُ
أن يقفَ إلا معتمداً على عصاً أو معتمداً على جدارٍ أو عمودٍ، أو
إنسانٍ؛ يصلِّي قائماً ولو معتمداً.
ولكن؛ لا يجزئ القيامُ باعتمادٍ تامٍ مع القدرةِ على عدمِه،
والاعتمادُ التامُّ هو الذي لو أُزيل العُمدةُ لسقط المعتمدُ؛
لأنَّ الذي يقومُ معتمداً على شيءٍ اعتماداً كاملاً، كأنه غيرُ
قائمٍ لا يجدُ مشقَّةَ القيامِ، لكن لو فُرِضَ أن شخصاً إما أن
يقومَ معتمداً، وإما أن يجلسَ فنقول: قُمْ معتمداً على عصاً، أو
جدار، أو عمودٍ، أو إنسانٍ، ولهذا قال المؤلف: «قائماً» وأطلق.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِداً،...........
قوله: «فإن لم يستطع» ، أي: إن لم يكن في طوعِهِ القيامُ، وذلك بأن
يعجزَ عنه فإنَّه يصلِّي قاعداً، لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] وقوله: {{لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] وقولُ النَّبيِّ
صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين: «صَلِّ قائماً، فإن لم تستطع
فقاعداً»[(509)]، فالدَّليلان الأولان عامَّان، والثالث خاصٌّ في
نفس الصَّلاةِ.
وقوله: «فإن لم يستطع» ظاهره: أنه لا يُبيحُ القعودَ إلا العجزُ،
وأما المشقَّةُ فلا تُبيح القعودَ.
ولكن؛ الصَّحيحُ: أنَّ المشقَّةَ تُبيحُ القعودَ، فإذا شَقَّ عليه
القيامُ صلَّى قاعداً؛ لقوله تعالى: {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185] وكما لو
شَقَّ الصَّومُ على المريضِ مع قدرتِه عليه فإنه يُفطِرُ، فكذلك
هنا إذا شَقَّ القيامُ فإنه يصلِّي قاعداً، ولكن ما ضابطُ
المشقَّة؟؛ لأن بعضَ النَّاسِ أحياناً يكون في تَعَبٍ وسَهَرٍ،
فيشقُّ عليه القيامُ.
الجواب: الضَّابطُ للمشقَّةِ: ما زالَ به الخشوع؛ والخشوعُ هو:
حضورُ القلبِ والطُّمأنينةُ، فإذا كان إذا قامَ قَلِقَ قلقاً
عظيماً ولم يطمئنَّ، وتجده يتمنَّى أن يصلِ إلى آخر الفاتحةِ
ليركعَ مِن شدَّةِ تحمُّلهِ، فهذا قد شَقَّ عليه القيامُ فيصلي
قاعداً.
ومثل ذلك الخائفُ فإنَّه لا يستطيعُ أن يصلِّي قائماً، كما لو كان
يصلِّي خلفَ جدارٍ وحولَه عدوٌّ يرقبه، فإنْ قامَ تبيَّن مِن وراءِ
الجدارِ، وإن جلسَ اختفى بالجدارِ عن عدوِّه، فهنا نقول له: صَلِّ
جالساً.
ويدلُّ لهذا قوله تعالى: {{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ
رُكْبَاناً}} [البقرة: 239] فأسقطَ اللهُ عن الخائفِ الرُّكوعَ
والسُّجودَ والقعودَ، فكذلك القيامُ إذا كان خائفاً.
وقوله: «فقاعداً» أي: جالساً، ولكن؛ كيف يجلسُ؟
يجلس متربِّعاً على أليتيه، يكفُّ ساقيه إلى فخذيه ويُسمَّى هذا
الجلوسُ تربُّعاً؛ لأنَّ السَّاقَ والفخذَ في اليمنى، والسَّاقَ
والفخذ في اليُسرى كلَّها ظاهرة، لأن الافتراش تختفي فيه الساق في
الفخذ، وأما التربُّع فتظهرُ كلُّ الأعضاءِ الأربعةِ.
وهل التربع واجب؟
لا، التربُّع سُنَّةٌ، فلو صَلَّى مفترشاً، فلا بأسَ، ولو صَلَّى
محتبياً فلا بأس؛ لعموم قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «فإنْ
لم تستطعْ فقاعداً» ولم يبينْ كيفيَّة قعودِه.
فإذا قال إنسانٌ: هل هناك دليلٌ على أنه يصلِّي متربِّعاً؟
فالجواب: نعم؛ قالت عائشة: «رأيت النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم
يُصلِّي متربِّعاً»[(510)]، ولأن التربُّعَ في الغالبِ أكثرُ
طمأنينةً وارتياحاً مِن الافتراشِ، ومن المعلومِ أنَّ القيامَ
يحتاجُ إلى قِراءةٍ طويلةٍ أطول مِن قول: «ربِّ اغفِرْ لي وارحمني»
فلذلك كان التربُّع فيه أَولى؛ ولأجل فائدة أخرى وهي التَّفريقُ
بين قعودِ القيامِ والقعودِ الذي في محلِّه، لأننا لو قلنا يفترشُ
في حالِ القيام لم يكن هناك فَرْقٌ بين الجلوسِ في محلِّه وبين
الجلوسِ البَدَلي الذي يكون بَدَلَ القيامِ.
وإذا كان في حالِ الرُّكوعِ قال بعضُهم: إنه يكون مفترِشاً،
والصَّحيح: أنه يكون متربِّعاً؛ لأنَّ الرَّاكعَ قائمٌ قد نَصَبَ
ساقيه وفخذيه، وليس فيه إلا انحناء الظَّهر فنقول: هذا المتربِّعُ
يبقى متربِّعاً ويركع وهو متربِّعٌ، وهذا هو الصَّحيحُ في هذه
المسألةِ.
عَجَزَ فَعَلَى جَنْبِهِ...........
قوله: «فإن عجز» هنا قال: «فإن عجز»، وفي الأول قال: «فإن لم
يستطع»، ولا فَرْقَ بينهما إلا في اللفظ، فهو اختلافُ تعبيرٍ.
قوله: «فعلى جنبه» أي الجنبين؟ قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
لعمران بن حصين: «فإن لم تستطع فعلى جنب»[(511)] ولم يبيّن أيَّ
الجنبين يكون عليه، فنقول: هو مخيَّرٌ على الجَنْبِ الأيمن أو على
الأيسر.
والأفضلُ أن يفعلَ ما هو أيسرُ له، فإن كان الأيسرُ أن يكون على
جَنْبِهِ الأيسر فهو أفضل، وإن كان بالعكس فهو أفضلُ؛ لأن كثيراً
من المرضى، ولا سيَّما المرضى بذات الجَنْبِ، يكون اضطجاعُهم على
أحدِ الجنبين أخفَّ عليهم مِن الاضطجاعِ على الجَنْبِ الآخر.
فإذاً؛ يفعل ما هو أيسر وأسهل له، لأن المقامَ مقامُ رُخصةٍ
وتسهيل، فإن تساوى الجنبان فالجنب الأيمن أفضل؛ لحديث وَرَدَ في
ذلك[(512)]، وهو ضعيف. لكن؛ كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
يعجبُه التيامن في تنعُّلِه وترجُّلِهِ وطُهوره وفي شأنِه
كله[(513)].
فَإِنْ صَلَّى مُسْتَلْقِياً وَرِجْلاَهُ إِلَى القِبْلَةِ صَحَّ،
وَيُومِئُ رَاكِعَاً وَسَاجِداً، وَيَخْفِضُهُ عَنْ
الرُّكُوعِ،...........
قوله: «فإن صلى» أي: المريض.
قوله: «مستلقياً» أي: على ظهره.
قوله: «ورجلاه إلى القبلة صح» أي: صَحَّ هذا الفعلُ، أي: مع قدرته
على الجنب، لكنه خِلافُ السُّنَّةِ؛ لأن النَّبيَّ صلّى الله عليه
وسلّم قال: «فإنْ لم تستطع فعلى جَنْبٍ» وإذا كان مستلقياً ورِجلاه
إلى القِبلةِ فأين يكون رأسُه؟
يكون إلى عكس القِبلة إلى الشَّرقِ إنْ كانت القبلةُ غرباً، وإلى
الغربِ إن كانت القِبلةُ شرقاً، قالوا: لأنَّ هذا أقربُ ما يكون
إلى صفة القائمِ، فهذا الرَّجُل لو قام تكون القِبلةُ أمامَه،
فلهذا يكون مستلقياً ورِجلاه إلى القِبلة.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنه يَصِحُّ مع القُدرة على الجَنْبِ.
والقول الثاني: أنه لا يَصِحُّ مع القُدرةِ على الجَنْبِ؛ لأنَّ
النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال لعُمرانَ بن حُصين: «فإنْ لم
تستطعْ فعلى جَنْبٍ» وهذه هيئةٌ منصوصٌ عليها مِن قِبَلِ الشَّرعِ،
وتمتاز عن الاستلقاء بأن وَجْهَ المريض إلى القِبلة، أما
الاستلقاءُ فوجه المريض إلى السَّماءِ، فهو على الجَنْبِ أقربُ إلى
الاستقبال. وهذا القول هو الرَّاجحُ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه إنْ صَلَّى مستلقياً ورأسُه إلى
القِبلة، لا تَصِحُّ صلاتُه؛ لأنَّه لو قامَ لكان مستدبِراً
للقِبلةِ.
وكذلك لو صَلَّى مستلقياً ورِجْلاه إلى يسارِ القِبلةِ أو يمين
القِبلةِ لا تصِحُّ، لأنه لو قامَ لكانت القِبلةُ عن يمينه أو عن
يسارِه، فلا بُدَّ إذن أن تكونَ رِجلاه إلى القِبلةِ. وخِلافُ ذلك
أن تكون رِجلاه إلى عكس القِبلةِ، أو إلى يمين القِبلةِ، أو إلى
يسارِ القِبلةِ، ففي هذه الصُّور الثَّلاث لا تصِحُّ صلاتُه، فصار
ترتيبُ صلاةِ المريضِ كما يلي:
يصلِّي قائماً، فإنْ لم يستطعْ فقاعداً، فإن لم يستطعْ فعلى
جَنْبٍ، فإنْ لم يستطع فمستلقياً ورِجلاه إلى القِبلةِ، فهذه هي
المرتبةُ الرابعةُ على القولِ الرَّاجحِ، أما على كلامِ المؤلِّفِ
فإنَّها في مرتبة الصَّلاةِ على الجَنْبِ فتدخلُ في المرتبة
الثالثة لكنها مفضولةٌ. والصَّحيحُ: أنَّها مرتبة رابعةٌ
مستقلَّةٌ، لا تَصِحُّ إلا عند العجزِ عن المرتبةِ الثالثةِ.
قوله: «ويومئ» أي: المريض المصلِّي جالساً راكعاً وساجداً، أي: في
حالِ الرُّكوعِ والسُّجودِ ويخفضه، أي: السجود عن الركوع، أي: يجعل
السُّجودَ أخفضَ، وهذا فيما إذا عَجَزَ عن السُّجُودِ، أما إذا
قَدِرَ عليه فيومئ بالرُّكوعِ ويسجد؛ لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] فإن لم يستطعْ أومأ
بالسُّجودِ، مثل: أن يكون المرضُ في عينه، وقال الطبيب له: لا
تسجدْ، أو يكون في رأسه، وإذا نَزَلَ رأسُه اشتدَّ الوجعُ وقَلِقَ
به، فنقول: هنا تومئ بالسُّجودِ، وتجعل السُّجودَ أخفضَ مِن
الركوع؛ ليتميّز السجودُ عن الركوعِ، ولأن هذا هو الحال فيمن كان
قادراً، فإنَّ الساجدَ يكون على الأرضِ والراكعَ فوق، هذا إذا كان
جالساً.
فإن كان مضطجعاً على الجنبِ فإنَّه يومئ بالرُّكوعِ والسُّجودِ،
ولكن كيف الإِيماءُ؟ هل إيماءٌ بالرأسِ إلى الأرضِ بحيث يكون
كالملتفت، أو إيماء بالرأس إلى الصدر؟
الجواب: أنه إيماءٌ بالرأسِ إلى الصدرِ؛ لأنَّ الإِيماءَ إلى
الأرضِ فيه نوعُ التفاتٍ عن القِبلةِ، بخلاف الإِيماءِ إلى الصدرِ،
فإن الاتجاه باقٍ إلى القِبْلة، فيومئُ في حال الاضطجاعِ إلى
صَدْرِه قليلاً في الركوع، ويومئُ أكثرَ في السُّجودِ.
فَإِنْ عَجَزَ أَوْمَأَ بِعَيْنِهِ،...........
قوله: «فإن عجز أومأ بعينه» يعني: إذا صار لا يستطيعُ أنْ يومئَ
بالرأسِ فيومئُ بالعينِ، فإذا أرادَ أنْ يركعَ أغمضَ عينيه يسيراً،
ثم إذا قال: «سَمِعَ اللهُ لمَن حمِده» فتح عينيه، فإذا سَجَدَ
أغمضهما أكثر، وفيه حديثٌ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم:
«فإنْ لم يستطعْ أومأ بطَرْفِهِ»[(514)] لكن هذا الحديثُ ضعيفٌ،
ولهذا لم يذهب إليه كثيرٌ مِن العلماءِ، وقالوا: إذا عَجَزَ عن
الإِيماءِ بالرَّأسِ سقطت عنه الأفعالُ.
وقال بعض العلماء: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ سقطت عنه
الصَّلاةُ، فهنا ثلاثةُ أقوال:
القول الأول: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ يومئُ بعينِه.
القول الثاني: تسقطُ عنه الأفعالُ، من دونِ الأقوالِ.
القول الثالث: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، يعني: لا تجبُ عليه
الصَّلاةُ أصلاً، وهذا القولُ اختيارُ شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه
الله.
والرَّاجحُ مِن هذه الأقوال الثلاثة: أنه تسقطُ عنه الأفعالُ فقط؛
لأنها هي التي كان عاجزاً عنها، وأما الأقوالُ فإنَّها لا تسقطُ
عنه، لأنه قادرٌ عليها، وقد قال الله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] فنقول: كَبِّرْ، واقرأْ، وانْوِ
الرُّكوعَ، فكبِّرْ وسبِّحْ تسبيحَ الرُّكوعِ، ثم انْوِ القيامَ
وقُلْ: «سَمِعَ الله لمن حمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ» إلى آخرِه، ثم
انْوِ السُّجودَ فكبِّرْ وسبِّحْ تسبيحَ السُّجودِ؛ لأن هذا مقتضى
القواعد الشرعيَّةِ {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}}
[التغابن: 16] فإن عَجَزَ عن القولِ والفعلِ بحيث يكون الرَّجُلُ
مشلولاً ولا يتكلَّم، فماذا يصنع؟
الجواب: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، وتبقى النِّيةُ، فينوي أنَّه
في صلاةٍ، وينوي القراءةَ، وينوي الركوعَ والسجودَ والقيامَ
والقعودَ. هذا هو الرَّاجحُ؛ لأن الصَّلاةَ أقوالٌ وأفعالٌ
بنيَّةٍ، فإذا سقطت أقوالُها وأفعالُها بالعجزِ عنها بقيت
النِّيةُ، ولأن قولنا لهذا المريض: لا صلاةَ عليك قد يكون سبباً
لنسيانه الله، لأنه إذا مرَّ عليه يومٌ وليلةٌ وهو لم يُصلِّ
فربَّما ينسى اللهَ عزّ وجل، فكوننا نشعرُه بأن عليه صلاةً لا
بُدَّ أن يقومَ بها ولو بنيَّةٍ خيرٌ مِن أن نقول: إنَّه لا صلاةَ
عليه. والمذهب في هذه المسألة أصحُّ مِن كلامِ شيخِ الإِسلامِ ابن
تيمية رحمه الله، حيث قالوا: لا تسقطُ الصَّلاةُ ما دام العقلُ
ثابتاً، فما دام العقلُ ثابتاً فيجبُ عليه مِن الصَّلاةِ ما يقدِرُ
عليه منها.
تنبيه: بعض العامة يقولون: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ
أومأَ بالإِصبعِ، فينصب الأصبعَ حالَ القيام ويحنيه قليلاً حالَ
الركوعِ ويضمُّه حالَ السُّجودِ لأنه لما عَجَزَ بالكلِّ لزمه
بالبعض، والإصبع بعضٌ مِن الإِنسانِ، فإذا عَجَزَ جسمُه كلُّه
فليكن المصلِّي الإِصبع، والسَّبَّابةُ أَولى؛ لأنها التي يُشار
بها إلى ذِكْرِ الله ودُعائِه، فلو أومأ بالوسطى فقياس قاعدتهم
أنَّ الصلاةَ لا تصِحُّ؛ لأن السَّبَّابةَ هي المكلَّفة بأن
تصلِّي، وهذا لا أصلَ له، ولم تأتِ به السُّنَّةُ، ولم يقلْه أهلُ
العِلمِ، ولكن ـ سبحان الله ـ مع كونِه لم يقلْه أحدٌ مِن أهلِ
العِلم فيما نعلمُ فمشهورٌ عندَ العامةِ، فيجب على طلبةِ العلمِ أن
يبيِّنوا للعامة بأن هذا لا أصلَ له، فالعين وهي محلُّ خِلافٍ بين
العلماء سبق لنا أن الصَّحيح أنه لا يصلِّي بها فكيف بالإصبع الذي
لم تردْ به السُّنَّةُ لا في حديثٍ ضعيفٍ ولا صحيحٍ؟ ولم يقلْ به
أحدٌ مِن أهلِ العِلم فيما نعلم.
مسألة: لو كان يعجَزُ عن القيامِ في جميعِ الركعةِ، لكن في بعضِ
القيامِ يستطيع أن يقفَ نصفَ القراءة، فهل نقول: ابدأ الصَّلاةَ
قاعداً، ثم إذا قاربت الركوعَ فَقُمْ، أو نقول: ابتدئِها قائماً
فإذا شَقَّ عليك فاجلسْ؟
إذا نظرنا إلى فِعْلِ الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم في قيام الليل
أنَّه لما كَبِرَ عليه الصَّلاة والسلام صار يقومُ الليلَ جالساً،
فإذا بقيَ عليه مِن السُّورةِ ثلاثون أو أربعون آيةً قامَ فقرأهنَّ
ثم رَكَعَ[(515)]. قلنا: السُّنَّةُ أن يبتدئَها قاعداً ثم يقومُ.
وإذا نظرنا إلى أن القيامَ في الفريضةِ رُكْنٌ قلنا: ابدأ
بالرُّكنِ أولاً، ثم إذا شَقَّ عليك فاجلسْ بناءً على القاعدةِ
{{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] .
ونقول أيضاً: ربَّما يَظنُّ أنّه يَشقُّ عليه ثم لا يَشقُّ ويُعان
عليه، وربَّما يتمكَّن مِن قراءةِ الفاتحةِ ويركع وإن لم يقرأ ما
بعدَها مِن السُّور، وهذه المسألةُ تحتاج إلى تحريرٍ، فمَن نظر إلى
فِعْلِ الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم في قيامِ الليلِ رجَّح أن
يصلِّي جالساً، فإذا قاربَ الرُّكوع قامَ، ومَن نَظَرَ إلى أن
القيام رُكْنٌ، قال: الأَولى أن يبدأَ بالرُّكنِ فيقومُ فإذا تعب
جَلَسَ وتتميز الصفة الأُولى بأنه يتمكَّنُ مِن الركوع؛ بخلاف
الثانية فإنَّه يركع بالإِيماء.
فَإِنْ قَدِرَ أَوْ عَجَزَ فِي أَثْنَائِها انْتَقَلَ إِلَى
الآخَرِ،...........
قوله: «فإن قَدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر» إن قَدِرَ
المريضُ في أثناءِ الصَّلاةِ على فِعْلٍ كان عاجزاً عنه انتقل
إليه.
مثاله: رَجُلٌ مريضٌ عَجَزَ عن القيامِ فشرعَ في الصَّلاةِ قاعداً،
وفي أثناءِ الصَّلاةِ وَجَدَ مِن نفسِه نشاطاً فنقول له: قُمْ
بناءً على القاعدةِ {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}}
[التغابن: 16] «صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً»[(516)] وبالعكس
فإذا كان في أول الصَّلاةِ نشيطاً فَشَرَعَ في الصَّلاةِ قائماً،
ثم تعبَ فجلسَ، نقول: لا بأسَ للآية الكريمة: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] وللحديث: «صَلِّ قائماً فإنْ لم
تستطعْ فقاعداً»، وهذا يشمَلُ ما إذا كان العجزُ ابتداءً أو
طارئاً.
مسألتان:
المسألة الأولى: لو أتمَّ قراءةَ الفاتحةِ وهو قائمٌ مِن القعودِ
في حالِ نهوضِه فهل يجزئه؟
مثاله: مريضٌ يصلِّي قاعداً، فلما وَصَلَ إلى قوله تعالى:
{{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} وَجَدَ مِن نفسِه
نشاطاً فقام، وفي أثناء قيامه قرأ: {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ *}}.
المسألة الثانية: لو أتمَّها وهو عاجزٌ عن القيامِ حالَ هبوطِه فهل
يجزئه؟
مثاله: إنسانٌ يصلِّي قائماً، وفي أثناء القيامِ لما وَصَلَ إلى
قوله تعالى: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} تعب
فنزلَ، وفي أثناء نزوله قرأ: {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
*}}.
قال الفقهاء: أما في المسألة الأُولى فلا تجزئِه؛ لأنه لما قَدِرَ
على القيام صار القيام فرضاً، والفاتحةُ يجب أن تُقرأ وهو قائمٌ
إذا كان قادراً على القيام، وقد قرأها في حالِ نهوضِه، والنهوضُ
دون القيامِ.
أما في المسألة الثانية فتجزئه؛ لأنَّ حالَ الهبوطِ أعلى مِن حالِ
القعودِ.
ولكن؛ لو قيل: إنَّ قولَه تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] يشمَلُ الصُّورةَ الأُولى؛ لأنَّ
الرَّجُلَ الذي قَدِرَ في أثناء الجلوسِ على القيامِ، نهوضُه هذا
هو غايةُ قدرتِه، فإذا كان نهوضُه غايةَ قدرتِه، فقد قرأ الفاتحةَ
في الحال التي هي قدرتُه فتجزئه، وهذا أقربُ؛ ولأنَّ الرَّجُلَ
الآن شارعٌ فيما يجب عليه، فهذا الشروعُ ثابتٌ بأمرِ الله، فإذا
قرأ أجزأه، ولكن احتياطاً لهذا الأمر نقول: إذا قدرتَ على القيامِ
فاسكت لا تقرأ حتى تستتمَّ قائماً ثم أكمل.
وَإِنْ قَدِرَ عَلَى قِيَامٍ وَقُعُودٍ دُونَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ
أَوْمَأَ بِرُكُوعٍ قَائِماً وَبِسُجُودٍ قَاعِداً،...........
قوله: «وإن قدر على قيام وقعود، دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً،
وبسجود قاعداً» أي: إنْ قَدِرَ المريضُ على القيامِ، لكن لا يستطيع
الركوعَ، إما لمرضٍ في ظهرِه، وإما لوجعٍ في رأسِه، وإما لعمليةٍ
في عينه، أو لغير ذلك، ففي هذه الحال نقول له: صَلِّ قائماً وأومئ
بالرُّكوعِ قائماً.
والدليلُ قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}}
[التغابن: 16] .
وكذلك إذا كان يستطيعُ أنْ يجلسَ؛ لكن لا يستطيع أن يسجدَ نقول:
اجلسْ وأومئْ بالسُّجودِ؛ لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ}}، وهذا يحتاجُ الإِنسانُ إليه في الطائرةِ إذا كان
السفرُ طويلاً وحان وقتُ الصَّلاةِ، وليس في الطائرةِ مكان مخصَّصٌ
للصَّلاةِ، فإنه يصلِّي في مكانِه قائماً؛ بدون اعتماد إذا صارت
الطائرةُ مستويةً، وليس فيها اهتزازٌ وإلا فيتمسَّكُ بالكرسي الذي
أمامَه، لكن يومئ بالرُّكوعِ قَدْرَ ما يمكن.
والظاهر: أنه لا يستطيع السُّجودَ حسب الطائرات التي نعرفُ، فنقول:
اجلسْ على الكرسيِّ، ثم أومئْ إيماءً بالسُّجودِ. كلُّ هذا مأخوذٌ
مِن هذه الآية الكريمة: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}}
فمَن لم يقدِرْ على الرُّكوعِ أومأ به قائماً، ومَن لم يقدِرْ على
السُّجودِ أومأ به جالساً.
مسألة: إذا كان لا يستطيعُ السُّجودَ على الجبهة فقط؛ لأنَّ فيها
جروحاً لا يتمكَّنُ أن يمسَّ بها الأرض، لكن يقدِرُ باليدين
وبالركبتين فماذا يصنع؟
الجواب: نأخذ بالقاعدة: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}}
[التغابن: 16] فيضعُ يديه على الأرضِ ويدنو مِن الأرضِ بقَدْرِ
استطاعتِه؛ لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}}
وأما قولُ مَن قال مِن العلماءِ: إنَّه إذا عَجَزَ عن السُّجودِ
بالجبهة لم يلزمه بغيرِها، فهذا قول ضعيفٌ؛ لأننا إذا طبَّقنا
الآية الكريمة {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} كانت
دالةً على أنه يجب أن يسجدَ على الأرضِ بما استطاعَ مِن أعضائِه،
فإذا كان يستطيعُ أن يسجدَ على الكفين وَجَبَ.
ولو فَرَضْنا أنه لا يستطيعُ أن يسجدَ أبداً، بمعنى: لا يستطيعُ أن
يحني ظهرَه إطلاقاً فحينئذ لا يلزمه أن يضعَ يديه على الأرضِ؛ لأنه
لا يقرب مِن هيئةِ السُّجودِ، أما لو كان يستطيعُ أنْ يدنوَ مِن
الأرضِ حتى يكون كهيئة السَّاجدِ، فهنا يجب عليه أنْ يسجدَ،
ويُقرِّبَ جبهتَه مِن الأرضِ ما استطاعَ.
مسألة: رَجُلٌ مريضٌ يقول: إنْ ذهبتُ إلى المسجدِ لم أستطعْ
القيامَ؛ لأني أَصِلُ إلى المسجدِ وأنا متعبٌ فلا أستطيعُ القيامَ،
وإن صلَّيتُ في بيتي صلَّيت قائماً؛ لأني لم أتعبْ ولم تحصُلْ
عليَّ مشقَّةٌ. وأيضاً: ربَّما يطوِّلُ الإِمامُ تطويلاً يشقُّ
عليَّ، وفي بيتي أصلِّي كما شئتُ، فهل نقول: يجبُ عليك أن تذهبَ
إلى المسجدِ ثم تصلِّي ما استطعتَ. أو نقول: يجبُ عليك أن تصلِّي
في بيتِك؛ لأنَّ القيامَ رُكنٌ وصلاةُ الجماعةِ واجبة، أو نقول:
تخيَّر؛ لأنَّه تعارضَ واجبان؟
للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
فمِن العلماءِ مَن قال: إنه يُخيَّر لتعارض الواجبين، واجب
الجماعة، وواجب القيام وليس أحدهما أولى بالترجيح مِن الآخر.
ومنهم مَن قال: يقدِّم القيامَ، فيصلِّي في بيتِه قائماً؛ لأنَّ
القيامَ رُكْنٌ بالاتفاقِ؛ لقول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم:
«صَلِّ قائماً»[(517)]، وصلاةُ الجماعةِ أقلُّ وجوباً لما يلي:
أولاً: وجود الخِلاف في وجوبها.
ثانياً: فإذا وجبت هل هي فرضُ كِفاية، أو فرضُ عين.
ثالثاً: إذا كانت فرضَ عينٍ، فهل هي واجبةٌ في الصلاةِ بحيث تبطل
الصَّلاةُ بتركها بلا عُذر، أو واجبة للصَّلاةِ تصحُّ الصلاةُ
بدونها مع الإِثم.
ومنهم مَن قال: يجب أن يحضر إلى المسجدِ، ثم يصلِّي قائماً إن
استطاعَ، وإلا صَلَّى جالساً؛ لأنَّه مأمورٌ بإجابة النِّداء،
والنِّداءُ سابقٌ على الصَّلاةِ فيأتي بالسَّابق فإذا وَصَلَ إلى
المسجدِ، فإن قَدِرَ صَلَّى قائماً وإلا فلا، وأيضاً: ربَّما
يَظنُّ أنه إذا ذهبَ إلى المسجدِ لا يستطيعُ القيامَ، ثم يمدُّه
الله عزّ وجل بنشاطٍ ويستطيعُ القيامَ.
والذي أميلُ إليه ـ ولكن ليس ميلاً كبيراً ـ هو أنَّه يجب عليه
حضورُ المسجد، ويدلُّ لذلك حديث ابن مسعود الثابت في «صحيح مسلم»:
«وكان الرَّجُلُ يُؤتى به يُهادى بين الرَّجلينِ حتى يُقامَ في
الصَّفِّ»[(518)] ومثل هذا في الغالب لا يقدِرُ على القيام وحدَه،
فيجب أن يحضرَ إلى المسجدِ، ثم إن قَدِرَ على القيام فذاك، وإنْ لم
يقدِرْ فقد قال الله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] .
وَلِمَرِيضٍ الصَّلاَةُ مُسْتَلْقِياً مَعَ القُدْرَةِ عَلَى
القِيَامِ لِمُدَاوَاةٍ بِقَوْلِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ.
قوله: «ولمريض الصلاة» اللام هنا للإِباحة، واعلمْ أنَّ العلماءَ
قد يعبِّرونَ عن الشيءِ بصورةِ المباحِ دفعاً للمنع لا قصداً
للإِباحةِ، فالمعنى: أنَّه لا يمتنع عليه، وحينئذٍ لا يمنع أن يكون
ذلك أمراً مطلوباً أو أمراً واجباً، ولهذا أمثلة كثيرة.
منها قولهم في كتاب الحج: «ولمن أحرم مفرداً أن يجعل إحرامه عمرة
ليكون متمتعاً» يعني: له أنْ يفسخُ نِيَّةَ الحجِّ إلى العمرةِ؛
ليكون متمتعاً فيأتي بالعمرة، ثم يَحِلُّ منها، وإذا كان في اليوم
الثامن مِن ذي الحجَّة أحرمَ بالحجِّ، ومرادهم بقولهم: «له» دفع
المنع وإلا فهو سُنَّةٌ.
فالمهمُّ أنَّهم عبَّروا باللام «له» ومرادهم بذلك دَفْعُ قولِ مَن
يقول: إنَّ هذا لا يجوزُ، لأنَّ بعضَ العلماءِ رحمهم الله يقول: لا
يجوزُ لمَن أحرمَ بالحَجِّ أن يحوِّلَه إلى عُمرة ليكون متمتعاً،
ومع هذا فالذين عبَّروا بقوله: «له» يريدون أنه مستحبٌّ، بل بعضُهم
يرى أنَّ مَن أحرمَ بالحَجِّ وليس معه هدي أنه يجب أن يحوِّلَه إلى
عُمرة ليصير متمتِّعاً.
قوله: «مستلقياً» يعني: مستلقياً على ظهرِه.
قوله: «مع القدرة على القيام» أي: هو قادر أن يقومَ، لكن قال له
الطبيب: لا بُدَّ أن تصلِّيَ مستلقياً ولا تقوم، وهذا يأتي فيما لو
كان المرضُ في عينِه فأُجريت له عمليةٌ، وقال له الطبيب: لا بُدَّ
أن تكون مستلقياً لمدَّة كذا وكذا، وحينئذٍ نقول: صَلِّ مستلقياً
ولو كنت قادراً على القيامِ، وذلك لأمرِ الطبيبِ.
قوله: «بقول طبيب مسلم» اشترط المؤلِّف لجواز الصلاة مستلقياً مع
القدرة على القيام أنْ يكون عن قولِ طبيبٍ مسلمٍ فهذان شرطان: أن
يكون طبيباً، وأن يكون مسلماً.
والطبيب هو: من يعالج المرضى عن معرفةٍ، والمسلمُ ضِدُّ الكافرِ،
فلا بُدَّ أن يكون طبيباً، أي: حاذقاً عنده معرفة، ولا بُدَّ أن
يكون مسلماً.
فَوَصْفُ الإِسلامِ يعودُ إلى الأمانةِ، ووَصْفُ الطِّبِّ يعودُ
إلى القوة، وهما الرُّكنان في كُلِّ عَمَلٍ، قال الله تعالى:
{{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص:
26] قالته إحدى بنتي صاحبِ مَدْيَن، وقال عِفريتٌ مِن الجنِّ
لسليمان: {{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ
وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}} [النمل: 39] لأنَّ الضعيفَ
لا يقوم بعملٍ لضعفِهِ، والخائنُ لا يقومُ بالعملِ لخيانتِهِ، فلا
بُدَّ في كُلِّ عَمَلٍ مِن هذين الركنين.
وعُلِمَ مِن كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لو أمرَه بذلك غيرُ طبيب،
يعني: أمرَه إنسانٌ عادي مِن الناس، قال له: أظنُّ أنك إذا قمت
تصلِّي قائماً فإن ذلك يضرُّك. فلا يرجع إلى قوله، ولكن هذا ليس
على إطلاقه، لأنه إذا عَلِمَ بالتجربة أن مثل هذا المرض يضرُّ
المريضَ إذا صلَّى قائماً فإنه يعمل بقول شخص مجرِّبٍ، لأنَّ أصلَ
الطِّبِّ مأخوذٌ إما عن طريق الوحي، وإما عن طريق التجربة، فطريقُ
الوحي مثل قوله تعالى في النحل: {{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا
شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}} [النحل:
69] ومثل قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحبة السوداء شفاء
من كل داء إلا السام»[(519)] الحبةُ السوداء: التي تُسمَّى عندنا
السميراء «إلا السام» يعني: إلا الموت.
وكثيرٌ مِن الأدويةِ معلومةٌ بالتجاربِ، فإذا قال إنسانٌ مجرِّبٌ
وإن لم يكن طبيباً: إن في صلاتِك قائماً ضرراً عليك، فله أن
يصلِّيَ مستلقياً أو قاعداً.
وعُلم من كلامه أيضاً أنه لو أمره بذلك غير مسلم لم يأخذ بقوله
لأنَّ هذه أمانة، وغير المسلم ليس بأمين، فقد يقول الطبيب النصراني
للمسلم: إنك إذا صلَّيتَ قائماً فعليك ضررٌ مِن أجل أن لا يصلِّي
قائماً، مع القدرة على القيام فتبطل صلاته، ولا شكَّ أنَّ هذا مِن
جَهْلِ النصراني فإن الإِسلامَ دين اليُسر، فالمريضُ إذا ضرَّه
القيامُ أو شَقَّ عليه أو خافَ ضررَه، صلَّى قاعداً وله أجر
القائم.
وذهب بعضُ أهلِ العِلم إلى اشتراطِ الثقةِ فقط دون الإِسلام، وقال:
متى كان الطبيبُ ثقةً عُمِلَ بقولِه وإنْ لم يكن مسلماً.
واستدلُّوا لذلك: بأنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم عَمِلَ
بقول الكافر حال ائتمانه؛ لأنه وَثِقَ به فقد استأجرَ في الهجرةِ
رَجُلاً مشركاً مِن بني الدِّيلِ، يُقال له: عبدُ الله بن أُريقط
ليدلَّه على الطريق مِن مكَّة إلى المدينة[(520)]، مع أنَّ الحالَ
خطرةٌ جداً أن يعتمد فيها على الكافر، لأن قريشاً كانوا يطلبون
النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر حتى جعلوا لمن جاء بهما مائتي
بعير، ولكن لما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رجل أمين، وإن
كان كافراً ائتمنه ليدله على الطريق، فأخذ العلماء القائلون بأن
المدار على الثقة أنه يقبل قول الطبيب الكافر إذا كان ثقة، ونحن
نعلم أن من الأطباء الكفار من يحافظون على صناعتهم ومهنتهم أكثر
مما يحافظ عليها بعض المسلمين لا تقرباً إلى الله عزّ وجل أو رجاء
لثوابه، ولكن حفاظاً على سمعتهم وشرفهم، فإذا قال طبيب غير مسلم
ممن يوثق بقوله لأمانته وحذقه: إنه يضرك أن تصلّي قائماً ولا بد أن
تصلّي مستلقياً فله أن يعمل بقوله، ومن ذلك أيضاً لو قال له الطبيب
الثقة: إن الصوم يضرك أو يؤخر البرء عنك فله أن يفطر بقوله.
وهذا هو القول الراجح لقوة دليله وتعليله.
إذاً يمكن أن يلغز بهذه المسألة فيقال: رجل قادر على القيام صح أن
يصلي مستلقياً، فنقول: هذا رجل مريض قادر على القيام قال له
الطبيب: إن القيام يضرك، ولا بد أن تبقى مستلقياً فله أن يصلّي
مستلقياً.
وَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ قَاعِداً فِي السَّفِينَةِ وَهُوَ قَادِرٌ
عَلَى القِيَامِ، وَيَصِحُّ الفَرْضُ عَلَى الرَّاحِلَةِ خَشْيَةَ
التَّأَذِّي لاَ لِلْمَرَضِ.
قوله: «ولا تصح صلاته قاعداً في السفينة وهو قادر على القيام» أي:
الفريضة، لأن النافلة تصح قاعداً مع القدرة على القيام في السفينة
وغيرها، وذلك لأن السفينة ليست كالراحلة، لأن السفينة يمكن
للإِنسان أن يصلّي فيها قائماً ويركع ويسجد لاتساع المكان، فإذا
كان يمكنه وجب عليه أن يصلّي قائماً، وإذا كان لا يمكنه إما لكون
الرياح عاصفة والسفينة غير مستقرة فإنه يصلّي جالساً، وإما لكون
سقف السفينة قصيراً فإنه يصلّي جالساً، ولكن سبق أنه إذا أمكن أن
يقف ولو كراكع وجب عليه[(521)].
قوله: «ويصح الفرض على الراحلة» يعني: البعير أو الحمار أو الفرس
أو نحو ذلك.
قوله: «خشية التأذي» أطلق المؤلف فيعم التأذي بأي شيء سواء بوحل أو
مطر أو غير ذلك، فالمهم أنه يتأذى لو صلّى على الأرض ولا يستقر في
صلاته فله أن يصلّي على الراحلة، وقيد المؤلف الصلاة بكونها فرضاً،
لأن النفل على الراحلة جائز، سواء خشي التأذي أم لم يخش؛ لأنه ثبت
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه كان يصلي النافلة على راحلته
حيثما توجهت به»[(522)].
وقوله: «يصح الفرض على الراحلة خشية التأذي» لم يذكر المؤلف شيئاً
عن استقبال القبلة، وعن الركوع وعن السجود، فنقول: يجب أن يستقبل
القبلة في جميع الصلاة؛ لأنه قادر عليه إذ يمكنه أن يتوقف في السير
ويوجه الراحلة إلى القبلة ويصلِّي.
أما الركوع والسجود فيومئ بالركوع والسجود، لأنه لا يستطيع،
والقيام أولى، هذا على الرواحل التي يعرفها العلماء رحمهم الله،
وهي الإِبل والحمير والخيل والبغال وشبهها، لكن الراحلة اليوم
تختلف فالراحلة اليوم سيارات، وبعض السيارات كالسفن يستطيع
الإِنسان أن يصلي فيها قائماً راكعاً ساجداً متجهاً إلى القبلة،
فهل يقال: إنه لا يصلّي على هذه الرواحل إلا بشرط التأذي بالنزول؟
أو نقول إذا أمكنه أن يأتي بالواجب فيها فله أن يصلي؟
الجواب: الثاني، لو كانت السيارة أتوبيساً كبيراً، وفيها مكان واسع
للصلاة والإِنسان يستطيع أن يصلِّي قائماً راكعاً ساجداً مستقبل
القبلة، فلا حرج عليه أن يصلّي؛ لأن هذه السيارات كالسفينة تماماً،
لكن الغالب أنها صغار، أو نقل جماعي كله كراسي، لكن إن أمكن فهو
كغيره، وفي الطائرات إذا كان يمكنه أن يصلّي قائماً وجب أن يصلّي
إلى القبلة قائماً ويركع ويسجد إلى القبلة، وإذا لم يمكنه فإن كانت
الطائرة تصل إلى المطار قبل خروج الوقت فإنه ينتظر حتى ينزل إلى
الأرض، فإن كان لا يمكن أن تصل إلى المطار قبل خروج الوقت، فإن
كانت هذه الصلاة مما تجمع إلى ما بعدها كالظهر مع العصر أو المغرب
مع العشاء، فإنه ينتظر حتى يهبط على الأرض فيصلّيهما جمع تأخير،
وإذا كانت الصلاة لا تجمع لما بعدها صلّى على الطائرة على حسب
حاله، ولكن إذا قدرنا أن الطائرة فيها مكان متسع يتسع للإِنسان
ليصلِّي قائماً راكعاً ساجداً مستقبل القبلة، فهل يجوز أن يصلِّي
الصلاة قبل أن يهبط إلى المطار؟
فالجواب: يجوز، وظن بعض الناس أن ذلك لا يجوز، وقالوا: لأن الفقهاء
قالوا: لا تصح الصلاة على الأرجوحة؛ لأنها غير مستقرة، والدليل على
أنها غير مستقرة، أنك لو سجدت رجّحت من جانبك، وإذا قمت اعتدلت من
الجانب الآخر، قالوا: فالطائرة مثلها فلا تصح الصلاة عليها، ولو
تمكن الإِنسان من الركوع والسجود والقيام والقعود واستقبال القبلة،
ولكن هذا ليس بصحيح، لأن الفرق بين الأرجوحة والطائرة ظاهر جداً؛
فالطائرة مستقرة تماماً، فالإِنسان يأكل فيها ويشرب وينام ولا
يتحرك إذا لم يكن هناك عواصف، ولهذا نرى أن الصلاة على الطائرة
صحيحة مطلقاً، ولو كان ذلك مع سعة الوقت، ولكن يجب أن يفعل
الواجبات من الاستقبال، والسجود، والقيام، والقعود.
فالرواحل أقسامها أربعة:
1 ـ سيارات.
2 ـ حيوان.
3 ـ طائرات.
4 ـ سفن.
واستدلَّ في «الرَّوض» بقول يعلى بن مُرَّةَ: أنَّهم كانوا مع
النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في سَفَر، فانتهوا إلى مَضِيقٍ،
فحضرتِ الصَّلاةُ، فَمُطِرُوا، السَّماءُ من فَوقِهِم، والبِلَّةُ
من أسفلَ منهم، فأذَّنَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على
راحلتِه، وأقامَ، فتقدَّمَ على راحلتِه فصلَّى بهم، يُومِئُ
إيماءً، يجعلُ السجودَ أخفضَ من الركوعِ.
رواه أحمد والترمذي[(523)] وقال: العمل عليه عند أهل العلم.
وفي هذا الحديث أنهم يصلّون جماعة، وعلى هذا فيتقدم الإِمام عليهم
حتى في الرواحل؛ لأن هذا هو السنّة في موقف الإِمام.
قال في «الروض»: «وكذا إن خاف انقطاعاً عن رفقة في نزوله، أو على
نفسه، أو عجزاً عن ركوب إن نزل وعليه الاستقبال وما يقدر عليه».
أي: إذا خاف انقطاعاً عن رفقته يصلِّي على الراحلة ولو مع الأمن،
لأن الإِنسان إذا انقطع عن رفقته فلربما يضيع، وربما يحصُل له مرض
أو نوم أو ما أشبه ذلك فيتضرر، فإذا قال: إن نزلت على الأرض وبركت
البعير وصليت فاتت الرفقة، وعجزت عن اللحاق بهم، وإن صلّيت على
بعيري فإني أدركهم نقول له: صلِّ على البعير {{لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] {{وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] .
قوله: «لا للمرض» يعني: لا تصح الفريضة على الراحلة للمرض، لأن
المريض يمكنه أن ينيخ الراحلة وينزل على الأرض ويصلِّي، ولكن إذا
علمنا أن هذا المريض لو نزل لم يستطع الركوب؛ لأنه ليس عنده من
يركبه، وهذا قد يقع فيصلِّي على الراحلة، لأن هذا أعظم من التأذي
بالمطر وأخطر.
فقول المؤلف: «لا للمرض» ليس على إطلاقه بل نقول: لا للمرض إذا كان
يمكنه أن ينزل ثم يركب على الراحلة، أما إذا كان لا يمكنه فله أن
يصلِّي على الراحلة للمرض، لأن ذلك أشد من الوحل وشبهه.
فَصْلٌ
مَنْ سَافَرَ سَفَرَاً مُبَاحاً ..........
قوله: «فصل» ، ذكر المؤلف رحمه الله أن الأعذار التي تتغير بها
الصلاة ثلاثة:
1 ـ السفر.
2 ـ المرض.
3 ـ الخوف.
ولما ذكر المؤلف العذر بالمرض أعقبه بذكر العذر بالسفر فقال: «من
سافر سفراً مباحاً» «من»: اسم شرط، والمعروف أن أسماء الشرط تفيد
العموم، فيشمل كل من سافر من ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو
كبير.
وقوله: «سفراً مباحاً» «السفر» في اللغة: مفارقة محل الإِقامة،
وسمي بذلك؛ لأن الإِنسان يسفر بذلك عن نفسه، فبدلاً من أن يكون
مكنوناً في بيته أصبح ظاهراً بيِّناً بارزاً، ومنه قوله تعالى:
{{وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ *}} [المدثر] أي: تبين وظهر.
وقال بعض العلماء: إنما سمّي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق
الرجال، أي: يوضحها ويبيّنها، فإن كثيراً من الناس لا تعرف أخلاقه
ولا حسن سيرته إلا إذا سافرت معه، وكان بعض القضاة من السلف إذا
شهد شخص لآخر بتزكية قال له: هل سافرت معه؟ فإن قال: لا، قال: هل
عاملته؟ قال: لا، قال: إذن لا تعرفه.
فالسفر يبيّن أخلاق الرجال، وكم من إنسان في البلد تراه كل يوم
وتشاهده ولا تعرف عن أخلاقه ومعاملاته شيئاً، فإذا سافرت معه تبين
لك من أخلاقه ومعاملاته، لا سيما فيما سبق من الزمان حيث كانت
الأسفار تستمر أياماً كثيرة، أما سفرنا اليوم فإنه لا يبيّن عن
أخلاق الرجال؛ لأن السفر من الرياض إلى القصيم في الطائرة في خمس
وثلاثين دقيقة. ولكن الأسفار الطويلة هي التي تبيّن الرجال.
وقوله: «سفراً مباحاً» هذا هو الشرط الأول للقصر. والمراد بالمباح
هنا: ما ليس بحرام ولا مكروه، فيشمل الواجب والمستحب والمباح إباحة
مطلقة، لأن الأسفار تنقسم إلى خمسة أقسام:
1 ـ حرام.
2 ـ مكروه.
3 ـ مباح.
4 ـ مستحب.
5 ـ واجب.
فالسفر لفعل المحرم: محرم، ومن السفر المحرم سفر المرأة بلا محرم.
وسفر المرء وحده: مكروه.
والسفر للنزهة: مباح.
والسفر لفريضة الحج: واجب، وللمرة الثانية في الحج مستحب.
وقوله: «سفراً مباحاً» خرج به المحرم والمكروه، وعلى هذا فلو سافر
الإِنسان سفراً محرماً لم يبح له القصر؛ لأن المسافر سفر معصية لا
ينبغي أن يرخص له إذ إن الرخصة تسهيل وتيسير على المكلف، والمسافر
سفراً محرماً لا يستحق أن يسهل عليه ويرخّص له، فلهذا منع من رخص
السفر، فمنع القصر، ومنع من المسح على الخفين ثلاثة أيام، ومنع من
الفطر في رمضان، ولكن العلاج سهل فنقول: تب إلى الله، فإذا كان في
منتصف الطريق في السفر المحرم، وقال: أستغفر الله وأتوب إليه رجعت
الآن إلى بلدي ففي رجوعه هنا يقصر، لأنه انقلب السفر المحرم
مباحاً.
وذهب الإِمام أبو حنيفة وشيخ الإِسلام ابن تيمية وجماعة كثيرة من
العلماء؛ إلى أنه لا يشترط الإِباحة لجواز القصر وأن الإِنسان يجوز
أن يقصر حتى في السفر المحرم، وقالوا: إن هذا ليس برخصة، فإن صلاته
الركعتين في السفر، ليست تحويلاً من الأربع إلى الركعتين، بل هي من
الأصل ركعتان، والرخصة هو التحويل من الأثقل إلى الأخف، أما صلاة
المسافر فهي مفروضة من أول الأمر ركعتين، وعلى هذا فيجوز للمسافر
سفراً محرماً أن يصلِّي ركعتين، ولا يشترط على هذا الرأي إباحة
السفر، وهذا القول قول قوي، لأن تعليله ظاهر، فالقصر منوط بالسفر
على أن الركعتين هما الفرض فيه، لا على أن الصلاة حوّلت من أربع
إلى ركعتين، كما ثبت ذلك في «صحيح البخاري» وغيره عن عائشة رضي
الله عنها: «أن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على
ركعتين»[(524)] وحينئذ تبين أن الركعتين في السفر عزيمة لا رخصة
وعليه فلا فرق بين السفر المحرم والسفر المباح.
وقال بعض العلماء: لا قصر إلا في سفر الطاعة كالحج والعمرة، وزيارة
الوالدين ونحوها، وأما المباح فلا قصر فيه، وهذا القول مقابل لقول
من قال: إنه يقصر حتى في السفر المحرم.
أَرْبَعَة بُرُدٍ ...........
قوله: «أربعة برد» هذا هو الشرط الثاني من شروط القصر.
والبرد: جمع بريد، والبريد نصف يوم وسمّي بريداً، لأنه فيما سبق
كانوا إذا أرادوا المراسلات السريعة يجعلونها في البريد، فيرتبون
بين كل نصف يوم مستقراً ومستراحاً يكون فيه خيل إذا وصل صاحب الفرس
الأول إلى هذا المكان نزل عن الفرس لتستريح، وركب فرساً آخر إلى
مسيرة نصف يوم، فيجد بعد مسيرة نصف يوم مستراحاً آخر فيه خيل ينزل
عن الفرس التي كان راكبها ثم يركب آخر، وهكذا لأن هذا أسرع وفي
الرجوع بالعكس، فالبريد عندهم مسيرة نصف يوم فتكون أربعة البرد
يومين، وقدروه بالمساحة الأرضية بأربعة فراسخ، فتكون أربعة برد ستة
عشر فرسخاً، والفرسخ قدّروه بثلاثة أميال، فتكون ثمانية وأربعين
ميلاً، هذا هو مسافة القصر فهو مقدر بالمسافة، والميل المعروف =
كيلو وستمائة متر.
وأما في الزمن فقالوا: إن مسيرته يومان قاصدان بسير الإِبل
المحملة.
فـ«قاصدان» يعني: معتدلان بمعنى أن الإِنسان لا يسير فيها ليلاً
ونهاراً سيراً بحتاً، ولا يكون كثير النزول والإِقامة، فهما يومان
قاصدان.
وقوله: «أربعة برد» يقتضي أن ما دونها ولو بشبر واحد لا يبيح
القصر، وما بلغها فهو سفر قصر يترخص فيه ولو قطعه بنصف ساعة أو أقل
ولو رجع في ساعته، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء.
والصحيح: أنه لا حد للسفر بالمسافة؛ لأن التحديد كما قال صاحب
المغني: «يحتاج إلى توقيف، وليس لما صار إليه المحددون حجة، وأقوال
الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف، ولأن التقدير
مخالف لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولظاهر القرآن، ولأن
التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، والحجة مع
من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإِجماع على خلافه».اهـ.
والتوقيف معناه الاقتصار على النص من الشارع، والله عزّ وجل يعلم
أن المسلمين يسافرون في الليل والنهار ولم يرد حرف واحد يقول: إن
تحديد السفر مسافته كذا وكذا، ولم يتكلم أحد من الصحابة بطلب
التحديد في السفر، مع أنهم في الأشياء المجملة يسألون النبي صلّى
الله عليه وسلّم عن تفسيرها وبيانها، فلما لم يسألوا علم أن الأمر
عندهم واضح، وأن هذا معنى لغوي يرجع فيه إلى ما تقتضيه اللغة وإذا
كان كذلك ننظر هل للسفر حد في اللغة العربية؟ ففي مقاييس اللغة
لابن فارس: ما يدل على أنه مفارقة مكان السكنى.
وإذا كان لم يرو عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم تقييد السفر
بالمسافة، وليس هناك حقيقة لغوية تقيده كان المرجع فيه إلى العرف
وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان
النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة
فراسخ صلَّى ركعتين[(525)]. ومعلوم أن ثلاثة فراسخ نسبتها إلى ستة
عشر فرسخاً يسيرة جداً.
فالصحيح أنه لا حد للمسافة، وإنما يرجع في ذلك إلى العرف، ولكن شيخ
الإِسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إن المسافة الطويلة في الزمن
القصير سفر، والإِقامة الطويلة في المسافة القصيرة سفر، فالمسألة
لا تخلو من أربع حالات:
1 ـ مدة طويلة في مسافة طويلة، فهذا سفر لا إشكال فيه، كما لو ذهب
في الطائرة من القصيم إلى مكة، وبقي فيها عشرة أيام.
2 ـ مدة قصيرة في مسافة قصيرة فهذا ليس بسفر، كما لو خرج مثلاً من
عنيزة إلى بريدة في ضحى يوم ورجع، أو إلى الرس أو إلى أبعد من ذلك،
لكنه قريب لا يعد مسافة طويلة.
3 ـ مدة طويلة في مسافة قصيرة بمعنى أنه ذهب إلى مكان قريب لا ينسب
لبلده، وليس منها، وبقي يومين أو ثلاثة فهذا سفر، فلو ذهب إنسان من
عنيزة إلى بريدة مثلاً ليقيم ثلاثة أيام أو يومين أو ما أشبه ذلك
فهو مسافر.
4 ـ مدة قصيرة في مسافة طويلة، كمَن ذهب مثلاً من القصيم إلى جدة
في يومه ورجع فهذا يسمى سفراً؛ لأن الناس يتأهبون له، ويرون أنهم
مسافرون.
مسألة: إن أشكل هل هذا سفر عرفاً أو لا؟ فهنا يتجاذب المسألة
أصلان:
الأصل الأول: أن السفر مفارقة محل الإِقامة، وحينئذٍ نأخذ بهذا
الأصل فيحكم بأنه سفر.
الأصل الثاني: أن الأصل الإِقامة حتى يتحقق السفر، وما دام
الإِنسان شاكاً في السفر، فهو شاك هل هو مقيم أو مسافر؟ والأصل
الإِقامة، وعلى هذا فنقول في مثل هذه الصورة: الاحتياط أن تتم؛ لأن
الأصل هو الإِقامة حتى نتحقق أنه يسمى سفراً.
سُنَّ لَهُ قَصْرُ رُبَاعِيَّةٍ إِذَا فَارَقَ عَامِرَ قَرْيَتِهِ،
أَوْ خِيَامَ قَوْمِهِ.
قوله: «سنّ له قصر رباعيةٍ ركعتين» «سنّ له» السنّة لها اصطلاحان:
اصطلاح عند الفقهاء، واصطلاح في لغة الصحابة وسلف الأمة.
فالسُّنَّة عند سلف الأمة وعند الصحابة هي الطريقة التي كان عليها
النبي صلّى الله عليه وسلّم سواء كانت واجبة أم مستحبة، ومن ذلك
قول أنس بن مالك رضي الله عنه: «من السنّة إذا تزوج البكر على
الثيب أن يقيم عندها سبعاً»[(526)] فهذه سنّة واجبة.
وقول ابن عباس رضي الله عنهما حين سئل عن الرجل يصلي مع الإِمام
المقيم أربعاً، وإذا صلّى وحده وهو مسافر صلّى ركعتين قال: «تلك هي
السنّة»[(527)] أي: السنّة الواجبة.
أما في اصطلاح الفقهاء فهي: التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
فقول المؤلف هنا: «سنّ له قصر رباعية» هذه سنّة اصطلاحية يعني: أن
الراجح والذي يثاب عليه قصر الرباعية ركعتين.
والرباعية هي: الظهر والعصر والعشاء، ودليل ذلك: كتاب الله، وسنّة
الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإجماع الأمة..
أما في القرآن فقال الله تعالى: {{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}} [النساء: 101]
فقال: {{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاَةِ}} ونفي الجناح هنا لا يعني ارتفاع الإِثم فقط كقوله:
{{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ
حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِمَا}} [البقرة: 158] بل معناه انتفاء المانع، أي:
ليس بمانع أن يطوف بهما، وليس بمانع أن تقصروا من الصلاة، فإذا
انتفى المانع نرجع إلى ما تقتضيه الأدلة الأخرى، فالأدلة الأخرى في
الصلاة تقتضي أن القصر راجح على الإِتمام.
والدليل فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن النبي صلّى الله
عليه وسلّم كان إذا سافر صلّى ركعتين[(528)]، ولم يحفظ عنه صلّى
الله عليه وسلّم أنه صلّى أربعاً في سفر قط، بل في كل أسفاره
الطويلة والقصيرة كان يصلي ركعتين.
وأما إجماع المسلمين: فهذا أمر معلوم بالضرورة، كما قال ابن عمر:
«إنِّي صَحِبتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم في السَّفَرِ، فلم
يَزِدْ على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ، وصَحِبتُ أبا بكرٍ؛ فلم
يَزِدْ على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ، وصَحِبتُ عُمَر فلم يَزِدْ
على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ، ثم صَحِبتُ عثمان فلم يَزِدْ على
ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ»[(529)].
ولكن في دليل الكتاب شيء من التوقف والإِشكال، وهو أن الله تعالى
قال: {{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}}
[النساء: 101] فقيد الله عزّ وجل هذا بخوف الفتنة من الكفار،
والمراد بخوف الفتنة هنا: أن يمنعوكم من إتمام صلاتكم، ولكن هذا
الشرط مرتفع بسنّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم التي أخبر بها عن
ربِّه، فإن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه أشكل عليه هذا القيد، فسأل
النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك؟ فقال النبي صلّى الله عليه
وسلّم: «إنَّها صدقةٌ، تصدَّقَ اللهُ بها عليكم، فاقبلوا
صَدَقَته»[(530)]، فصارت إباحة القصر في الأمن صدقةٌ تصدَّق الله
بها علينا.
وقال بعض العلماء: إن قصر الصلاة ينقسم إلى قسمين: قصر عدد وقصر
هيئة، فإذا اجتمع الخوف والسفر اجتمع القصران، وإن انفرد أحدهما
انفرد بالقصر الذي يلائمه، فإذا انفرد السفر صار القصر بالعدد،
وإذا انفرد الخوف صار القصر بالهيئة، وإن اجتمعا صار في هذا وفي
هذا. وهذه مناسبة جيدة وطلب للعلة والحكمة، ولكن الذي يَفْصِلُ هو
قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنها صدقة تصدَّق الله بها
عليكم فاقبلوا صدقته».
وقوله: «سنّ له قصر رباعية» الرباعية ثلاث صلوات: الظهر والعصر
والعشاء، أما الثلاثية فلا تقصر؛ لأنها لو قصرت لفات المقصود منها
وهي الوترية؛ ولأنها لا يمكن أن تقصر على سبيل النصف؛ إذ ليس هناك
صلاة تكون ركعة ونصفاً، وأما الثنائية فلا تقصر أيضاً لأنها لو
قصرت لكانت وتراً ففات المقصود، وهذا التعليل الذي قلته إنما هو
بيان لوجه الحكمة، وإلا فالأصل هو اتباع النص، لأن ركعات الصلاة من
الأمور التي لا تبلغها العقول، ولكننا نقول هذا من باب ذكر
المناسبة وهي: لماذا لم يشرع القصر إلا في الرباعيات؟
وأفادنا المؤلف رحمه الله بقوله: «من سافر» أنه لا يمكن قصر بدون
سفر حتى لو كان الإِنسان في أشد المرض، فإنه لا يقصر.
فالمرض والشغل والتعب لا يمكن أن يكونا سبباً للقصر، ولهذا لو زار
أحدكم مريضاً وسأله كيف تصلي؟ فقال: الحمد لله على كل حال لي مدة
أقصر الصلاة من شدة المرض، فنقول للمريض: أعِد صلاتك؛ لأنه ليس
للقصر سبب سوى السفر.
ولو زار أحدكم مريضاً فسأله عن حاله وعن صلاته؟ قال: الحمد لله على
كل حال لي خمسة عشر يوماً أجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء،
فنقول: فعلك صحيح؛ لأن الجمع يجوز في حال المشقة، فأينما وجدت
المشقة في سفر أو حضر جاز الجمع بخلاف القصر.
ولو زار أحدكم مريضاً آخر فقال له: كيف حالك، وكيف صلاتك؟ فقال:
الحمد لله على كل حال لست أصلي الصلوات الخمس إلا جميعاً عند
النوم؛ لأن ذلك يتعبني... فماذا نقول له؟
الجواب: نقول له: تب فقط، لأنه لو أعاد صلاته ما استفاد؛ لأنه يصلي
الصلاة كاملة، لكنه يؤخر الظهر والعصر عن وقتها، وإذا كان يصلي
العشاء أيضاً بعد نصف الليل فإنه أخرج الصلوات كلها عن وقتها،
فنقول لهذا أخطأت، ولا يحل لك أن تؤخر الصلاة عن وقتها، بل صلِّ
الصلاة لوقتها على أي حال كانت.
وقوله: «سنّ له قصر رباعية» أفادنا المؤلف أن القصر سنّة، وهذا
موضع خلاف، فعلى ما قال المؤلف إن القصر سنّة لو أتم لم يأثم، ولا
يوصف بأن عمله مكروه؛ لأنه لا يلزم من ترك السُّنّة الوقوع في
المكروه، ولهذا لو أن الإِنسان لم يرفع يديه في الصلاة عند الركوع
لم يفعل مكروهاً.
وهذه قاعدة: أنه لا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه.
وقال بعض أهل العلم: إن الإِتمام مكروه؛ لأن ذلك خلاف هدي النبي
صلّى الله عليه وسلّم المستمر الدائم فإن الرسول صلّى الله عليه
وسلّم ما أتم أبداً في سفر وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»[(531)]،
وهذا القول اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو قول قوي،
بل لعله أقوى الأقوال.
وقال بعض أهل العلم: إن القصر واجب، وأن من أتم فهو آثم.
ودليل هذا ما يلي:
1 ـ حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما فرضت الصلاة ركعتين ثم
زيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى»[(532)].
وهذا قول صحابي يعلم الحكم، ويعلم مدلول الألفاظ وقد صرحت بأن
الركعتين فريضة المسافر.
2 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني
أصلي»[(533)] وهذا كما تدخل فيه الهيئة وهي الكيفية يدخل فيه القدر
وهو الكمية، فكما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم في سفر لا يزيد
على الركعتين أبداً، وقد أمرنا أن نصلي كما صلّى.
3 ـ أنه فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم المستمر.
4 ـ ورود ذلك عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما[(534)].
ولكن يعارض القول بالوجوب أصول:
الأصل الأول: أن المؤتم بالمقيم إذا كان مسافراً يصلّي أربعاً
تبعاً للإِمام، ومتابعة الإِمام واجبة، والزيادة على الفريضة تبطل
الصلاة، ولهذا لو قام إمامك إلى خامسة وأنت تتيقن أنها الخامسة وجب
عليك أن تفارقه وأن لا تتابعه، فهنا نقول: لو كان القصر واجباً
لكانت متابعة الإِمام في الإِتمام حراماً، كما لو صلى إنسان الفجر
خلف من يصلّي الظهر فإنه لا يمكن أن يتابعه على أربع، بل إذا قام
إلى الثالثة جلس. ولكن هذا الأصل قد يعارض فيقال: إنما لا تجوز
الزيادة على الأربع فيما لو قام الإِمام إلى الخامسة لأن هذا غير
مشروع أي لم تشرع صلاة عددها خمس ومتابعة المسافر للإِمام المتم
مشروعة، بل هي الأصل في صلاة الحاضر المقيم فبينهما فرق، وكذلك
نقول في من صلّى الفجر خلف من يصلي الظهر لا يمكن أن يقوم معه فيتم
الأربع، لأن صلاة الفجر لا يمكن أن تكون أربعاً لا في الحضر، ولا
في السفر، بخلاف من تابع الإِمام في صلاة مقصورة، والإِمام يتم فإن
هذه الصلاة نفسها أربع في الحضر، إذن هذا الأصل فيه ضعف.
الأصل الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم أتموا خلف عثمان بن عفان
رضي الله عنه حينما صلّى في منى، وذلك «أن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم وأبا بكر وعمر وعثمان في أول خلافته إلى ست أو ثمان
سنين كان يصلي ركعتين ثم صار في آخر خلافته يصلي أربعاً، وكان
الصحابة يصلون خلفه مع إنكارهم عليه حتى إن ابن مسعود لما بلغه أنه
صلّى أربعاً استرجع قال: إنّا لله وإنا إليه راجعون»[(535)] فلو
كان القصر واجباً لم يتابعه الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه إذا كان
واجباً فإن الإِتمام معصية لله، ولا يمكن أن يتابع الصحابة رضي
الله عنهم عثمان فيما يرونه معصية لله عزّ وجل، ولكن هذا الأصل
أيضاً ربما يعارض بما عورض به الأصل الأول في أنهم إنما يتابعونه
فيصلون أربعاً في صلاة تصلى أربعاً فلا غرابة أن يدعوا الركعتين
الواجبتين، لا سيما وأنهم لاحظوا معنى آخر وهو الخلاف بين الناس
وبين خليفتهم، ولهذا لما سئل ابن مسعود رضي الله عنه: كيف تتم
أربعاً وأنت تنكر على عثمان؟ قال: «الخلاف شر»[(536)] رضي الله عن
الصحابة ما أفقههم وأعمق علمهم يتابعون عثمان في أمر عظيم، زيادة
عما هو مشروع في العدد، وبعض إخواننا الذين يرون أنهم متبعون للسلف
والسنّة يخرجون من المسجد الحرام لئلا يتابعوا الإِمام على دعاء
الختمة، وبعضهم لئلا يتابع الإِمام على ثلاث وعشرين ركعة، وكأن
ثلاثاً وعشرين ركعة من الفسوق والمعصية العظيمة التي يخالف عليها
الإِمام، ويخرج من المسجد الحرام من أجلها، وبعضهم يجلس بين
المصلين يتحدث إلى أخيه، وربما يجهر بالحديث من أجل أن يشوش ـ
والله أعلم ـ على هذه الصلاة البدعية على زعمه!!! على كلٍ أقول: إن
هذا من قلة الفقه في الدين، وقلة اتباع السلف والبعد عن منهجهم،
فالسلف يكرهون الخلاف، فإنهم وإن اختلفت الأقوال فقلوبهم متفقة،
وما أمروا بالاتفاق فيه فعلوه ولو كانوا لا يرونه وهذا من فقه
الصحابة رضي الله عنهم، وهذه المخالفات التي تقع من قلة الفقه
بيننا، وبعدنا عن عصر النبوة عصر النور، ولهذا كلما كانت الأمة
أقدم كانت للصواب أقرب بلا شك[(537)].
والذي يترجح لي وليس ترجحاً كبيراً هو أن الإِتمام مكروه وليس
بحرام، وأن من أتم فإنه لا يكون عاصياً، هذا من الناحية النظرية.
وأما من الناحية العملية فهل يليق بالإِنسان أن يفعل شيئاً يخشى أن
يكون عاصياً فيه.
فلا ينبغي من الناحية المسلكية والتربوية، بل افعل ما يكون هو
السنة، فإن ذلك أصلح لقلبك حتى وإن كان يجوز لك خلافه، وليس المعنى
إما أن يكون الشيء واجباً أو حراماً، أو لك الحرية في فعله أو
تركه، فلا ينبغي للإِنسان أن يتم فأقل ما نقول: إنَّ الإِتمام
مكروه، لأن النصوص تكاد تكون متكافئة، فاحرص على أن تصلي ركعتين في
سفرك، ولا تزد على ذلك، ولكن إذا أتم الإِمام فإنه يلزمك الإِتمام،
لئلا تقع في المخالفة، وهذا من نظر الشرع لاتفاق الأمة، وإن كان
ذلك خلاف الأولى بك لو صليت منفرداً.
وقوله: «سنّ له قصر رباعية» خرج بـ رباعية الثنائية والثلاثية فلا
تقصر؛ لعدم ورود ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولدينا قاعدة
مهمة وهي: كما أن الفعل سنّة، فالترك مع وجود سبب الفعل سنّة، مع
أنه ترك وليس بفعل، ولهذا أمثلة منها: سنية السواك عند دخول
المسجد.
فبعض العلماء قال: يسنّ له أن يتسوّك عند دخول المسجد، وبنى ذلك
على «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دخل بيته بدأ
بالسواك»[(538)]، فقاسوا: دخول المسجد على دخول البيت، وقالوا: إذا
كان الإِنسان يتسوّك إذا دخل بيته من أجل أن يقابل أهله بطهارة فم،
فكذلك إذا دخل المسجد من أجل أن يناجي ربه بطهارة فم، فنقول: إن
النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل المسجد ولم يرو عنه أنه كان
إذا دخل المسجد بدأ بالسواك، ولو كان هذا سنّة لفعله النبي صلّى
الله عليه وسلّم، فالسنّة أن لا يتسوّك إذا دخل المسجد بناء على أن
سبب سواكه دخول المسجد، أما لو كان إذا دخل المسجد سيصلي ركعتين
فوراً، وأراد أن يتسوّك من أجل الصلاة، لا من أجل دخول المسجد فإن
هذا مشروع.
قوله: «إذا فارق عامر قريته» هذا شرط ابتداء القصر، يعني: لا يقصر
إلا إذا فارق عامر قريته.
والمفارقة: ليس المراد بها أن يغيب عن قريته؛ لأنها ربما لا تغيب
عن نظره إلا بعد مسافة طويلة، وقد ذكر أن زرقاء اليمامة تبصر من
مسيرة ثلاثة أيام، بل المراد بالمفارقة: المفارقة البدنية، لا
المفارقة البصرية، أي: أن يتجاوز البيوت، ولو بمقدار ذراع، فإذا
خرج من مسامتة البيوت ولو بمقدار ذراع فإنه يعتبر مفارقاً.
وقوله: «عامر قريته» لم يقل بيوت قريته؛ لأنه قد يكون هناك بيوت
قديمة في أطراف البلد هجرت وتركت ولم تسكن، فهذه لا عبرة بها، بل
العبرة بالعامر من القرية، فإذا قدر أن هذه القرية كانت معمورة
كلها، ثم نزح أهلها إلى جانب آخر وهجرت البيوت من هذا الجانب فلم
يبق فيها سكان فالعبرة بالعامر، فإن كان في القرية بيوت عامرة ثم
بيوت خربة ثم بيوت عامرة، فالعبرة بمفارقة البيوت العامرة الثانية
وإن كان يتخللها بيوت غير عامرة.
وقوله: «إذا فارق عامر قريته» أضافها إلى نفسه ليفيد أن المراد
قريته التي يسكنها، فلو فرض أن هناك قريتين متجاورتين، ولو لم يكن
بينهما إلا ذراع أو أقل، فإن العبرة بمفارقة قريته هو، وإن لم
يفارق القرية الثانية الملاصقة أو المجاورة.
قوله: «أو خيام قومه» أي: إذا كانوا يسكنون الخيام فالعبرة بمفارقة
الخيام، فإذا فارق الخيام حل له القصر، وعلم من كلامه رحمه الله:
أنه لا يجوز أن يقصر ما دام في قريته ولو كان عازماً على السفر ولو
كان مرتحلاً، ولو كان راكباً يمشي بين البيوت، فإنه لا يقصر حتى
يبرز، وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان لا يقصر إلا إذا
خرج وارتحل»[(539)].
ولأن السفر هو أن يسفر الإِنسان ويبرز ويخرج كما سبق أن السفر
مفارقة محل الإِقامة[(540)]، ومن كان في محل إقامته فإنه ليس
مسافراً.
مسألة: إذا كان في القصيم وخرج إلى المطار، هل يقصر في المطار؟
الجواب: نعم يقصر؛ لأنه فارق عامر قريته فجميع القرى التي حول
المطار منفصلة عنه، أما من كان من سكان المطار؛ فإنه لا يقصر في
المطار، لأنه لم يفارق عامر قريته.
مسألة: وهل له أن يفطر في المطار؟
الجواب: نعم له أن يفطر، فلو أراد أن يسافر في رمضان وخرج وبقي في
المطار ينتظر الطائرة، وأقصد بذلك مطار القصيم فإنه يفطر، لأنه
فارق عامر قريته، ولو قدر أن الطائرة لم تقلع ولم يحصل السفر ذلك
اليوم، هل يعيد الصلاة التي كان قصرها؟
الجواب: لا، لأنه أتى بها بأمر الله موافقة لشرعه، فتكون مقبولة
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليها أمرنا
فهو رد»[(541)] فمفهومه أن من عمل عملاً عليه أمر الله ورسوله فهو
مقبول.
مسألة: وهل يلزمه إذا لم تأتِ الطائرة ورجع إلى بلده بعد أن أفطر
الإِمساك؟
فيه قولان لأهل العلم.
والصحيح: أنه لا يلزمه، لأنه أفطر بعذر شرعي على وجه مباح، فزالت
حرمة النهار في حقه فبقي آخر النهار غير ملزم به. وسيأتي لهذا مزيد
بحث في كتاب الصيام إن شاء الله.
مسألة: رجل سافر من أجل أن يترخص فهل يترخص؟
الجواب: لا، لأن السفر حرام حينئذ، ولأنه يعاقب بنقيض قصده فكل من
أراد التحيُّل على إسقاط الواجب أو فعل المحرم عوقب بنقيض قصده فلا
يسقط عنه الواجب ولا يحل له المحرم.
مسألة: إنسان خرج من بلده يتمشّى فهبت رياح أضلته عن الطريق، فصار
تائهاً يطلب الطريق، ولم يهتدِ إليه، فهل يقصر الصلاة؟.
الجواب: لا يقصر، لأنه لم ينو مسافة القصر وقد يهتدي إلى الطريق
قبل بلوغ المسافة، وكذلك من خرج لطلب بعير شارد لا يقصر؛ لأنه لم
ينوِ المسافة.
ولكن الصحيح: أنه يقصر لأنه على سفر.
وَإِنْ أَحْرَمَ حَضَراً ثُمَّ سَافَرَ،...........
قوله: «وإن أحرم حضراً ثم سافر» إلخ تضمن كلامه عدة مسائل يجب فيها
الإِتمام:
المسألة الأولى: أحرم ثم سافر، يعني دخل في الصلاة، فالدخول في
الصلاة يعتبر إحراماً، ولهذا نسمي التكبيرة الأولى تكبيرة
الإِحرام، فهذا رجل كبر للإِحرام وهو مقيم ثم سافر، كما لو كان في
سفينة تجري في نهر يشق البلد وكانت راسية فكبّر للصلاة، ثم مشت
السفينة ففارقت البلد وهو في أثناء الصلاة فيلزمه أن يتم؛ لأنه
ابتداء الصلاة في حال يلزمه إتمامها، فلزمه الإِتمام.
أَوْ فِي سَفَرٍ ثُمَّ أَقَامَ،...........
قوله: «أو في سفر ثم أقام» .
هذه هي المسألة الثانية: أي: أحرم للصلاة في سفر ثم أقام، عكس
المسألة الأولى، كما لو كانت السفينة مقبلة على البلد والنهر قد شق
البلد فكبّر للإِحرام وهو في السفينة قبل أن يدخل البلد، ثم دخل
البلد فيلزمه الإِتمام هذا هو المذهب؛ لأنه اجتمع في هذه العبادة
سببان: أحدهما يبيح القصر والثاني يمنع القصر فغلب جانب المنع،
فالذي يبيح القصر السفر وهو الذي ابتدأ الصلاة فيه، والذي يمنعه
الإِقامة وهو الذي أتم الصلاة فيها فيغلب هذا الجانب؛ لأن الفقهاء
عندهم قاعدة وهي: إذا اجتمع مبيح وحاظر فالحكم للحاظر، أو إذا
اجتمع مبيح وحاظر غلب جانب الحظر.
ودليل هذه القاعدة: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دَعْ ما
يَرِيْبُكَ إلى ما لا يَريْبُكَ»[(542)].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من اتَّقى الشُّبهات فقد استبرأ
لدينه وعرضه»[(543)].
والقول الراجح في هذه المسألة أنه لا يلزمه الإِتمام لأنه ابتدأ
الصلاة في حال يجوز له فيها القصر فكان له استدامة ذلك ولا دليل
بيّناً على وجوب الإِتمام.
أَوْ ذَكَرَ صَلاَةَ حَضَرٍ فِي سَفَرٍ، أَوْ عَكْسَهَا، أَوْ
ائْتَمَّ بِمُقِيْمٍ،..........
هذه هي المسألة الثالثة: مثاله: رجل مسافر، وفي أثناء السفر ذكر
أنه لم يصل الظهر في الحضر فإنه يصلي أربعاً؛ لقول النبي صلّى الله
عليه وسلّم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» [(544)]
أي: يصلي هذه الصلاة كما هي إذا ذكرها، ولأن هذه الصلاة لزمته تامة
فوجب عليه فعلها تامة، وهذا واضح.
قوله: «أو عكسها» .
هذه هي المسألة الرابعة: مثال ذلك: رجل وصل إلى بلده ثم ذكر أنه لم
يصل الظهر في السفر، فيلزمه أن يصلي أربعاً، لأنها صلاة وجبت عليه
في الحضر فلزمه الإِتمام، ولأن القصر من رخص السفر وقد زال السفر
فيلزمه الإِتمام.
هذا هو المذهب، ولكن القول الراجح خلافه، وأنه إذا ذكر صلاة سفر في
حضر صلاها قصراً لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من نام عن صلاة أو
نسيها فليصلها إذا ذكرها» أي: فليصلها كما هي، وهذا الرجل ذكر أنه
لم يصل الظهر وهي ركعتان في حقه، فلا يلزمه الإِتمام، ونقول: كما
قلنا في التي قبلها فهذه صلاة وجبت عليه في سفر، وصلاة السفر
مقصورة فلا يلزمه إتمامها.
قوله: «أو ائتم بمقيم» .
هذه هي المسألة الخامسة : إذا ائتم المسافر بمقيم فإنه يتم.
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما جعل الإِمام ليؤتم
به»[(545)].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم
فأتموا»[(546)]، فيشمل كل ما أدرك الإِنسان وكل ما فاته.
ولأن «ابن عباس سئل: ما بال الرجل المسافر يصلي ركعتين ومع الإِمام
أربعاً؟ فقال: تلك هي السنّة»[(547)].
ومراده بالسُّنة الشريعة الشاملة للواجب.
ولأن الصحابة رضي الله عنهم: «كانوا يصلون خلف عثمان بن عفان وهم
في سفر في منى أربعاً»[(548)]، فهذه أدلة أربعة كلها تدل على أن
المأموم يتبع إمامه في الإِتمام.
مسألة: إذا أدرك المسافر من صلاة الإِمام ركعة في الصلاة الرباعية
فبكم يأتي؟
الجواب: يأتي بثلاث، وإن أدرك ركعتين أتى بركعتين، وإن أدرك ثلاثاً
أتى بركعة، وإن أدرك التشهد أتى بأربع؛ لعموم قوله صلّى الله عليه
وسلّم: «وما فاتكم فأتموا».
أَوْ بِمَنْ يَشُكُّ فِيهِ، أَوْ أَحْرَمَ بِصَلاَةٍ يَلْزَمُهُ
إِتْمَامُهَا فَفَسَدَتْ وَأَعَادَهَا،.......
قوله: «أو بمن يشك فيه».
هذه هي المسألة السادسة: إذا ائتم بمن يشك فيه هل هو مسافر أو
مقيم، وهذا إنما يكون في محل يكثر فيه المسافرون، كالمطار مثلاً،
ففيه مقيمون، وفيه مسافرون أحياناً يكونون بعلامة وأحياناً بلا
علامة، فإن كانوا بعلامة فالأمر ظاهر، وإن لم تكن علامة لزمه
الإِتمام للشك في جواز القصر. وظاهر كلامه لزوم الإِتمام وإن تبين
أن الإِمام مسافر.
والقول الراجح: عندي أنه لا يلزمه الإِتمام في هذه الصورة لأن
الأصل في صلاة المسافر القصر، ولا يلزمه الإِتمام خلف الإِمام إلا
إذا أتم الإِمام وهنا لم يتم الإِمام.
ولو قال حينما رأى إماماً يصلي بالناس في مكان يجمع بين مسافرين
ومقيمين: إن أتمّ إمامي أتممت وإن قصر قصرت، صح وإن كان معلقاً؛
لأن هذا التعليق يطابق الواقع، فإن إمامه إن قصر ففرضه هو القصر،
وإن أتم ففرضه الإِتمام، وليس هذا من باب الشك، وإنما هو من باب
تعليق الفعل بأسبابه، وسبب الإِتمام هنا إتمام الإِمام والقصر هو
الأصل.
قوله: «أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها».
هذه هي المسألة السابعة: يعني: أن المسافر أحرم بصلاة يلزمه
إتمامها، كما إذا ائتمّ بمقيم فقد أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، فإذا
فسدت بحدث أو غيره ثم أعادها فإنه يلزمه الإِتمام، لأن هذه الصلاة
إعادة لصلاة يجب إتمامها، فيلزمه أن يصلي أربعاً.
تنبيه: إذا دخل مع الإِمام المقيم وهو مسافر ولما شرع في الصلاة
ذكر أنه على غير وضوء، فذهب وتوضأ فلما رجع وجد الناس قد صلوا فلا
يلزمه الإِتمام؛ لأن المؤلف يقول: «أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها
ففسدت» فدلّ قوله: «ففسدت» أن الفساد طارئ، أما إذا ذكر أنه على
غير وضوء فإن الصلاة لم تنعقد أصلاً، وعلى هذا فلا يلزمه الإِتمام،
بخلاف المسألة الأولى إذا فسدت بعد أن انعقدت فإنه يلزمه الإِتمام
كما قال المؤلف.
ولكن هذا غير مسلم به؛ وذلك لأن الصلاة الأولى التي شرع فيها إنما
يلزمه إتمامها تبعاً لإِمامه لا من حيث الأصل، وبعد أن فسدت زالت
التبعية فلا يلزمه إلا صلاة مقصورة، وهذا التعليل أقوى من التعليل
الذي ذكروه رحمهم الله، فيكون هذا أرجح إن لم يمنع منه إجماع، أي:
أنه إذا أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها في حال يجوز له
القصر، فإنه لا يلزمه الإِتمام.
مسألة: لو دخل وقت الصلاة وهو في بلده ثم سافر فإنه يقصر، ولو دخل
وقت الصلاة وهو في السفر ثم دخل بلده فإنه يتم اعتباراً بحال فعل
الصلاة.
أَوْ لَمْ يَنْوِ القَصْرَ عِنْدَ إِحْرَامِهَا، أَوْ شَكَّ فِي
نِيَّتِهِ،............
قوله: «أو لم ينوِ القصر عند إحرامها».
هذه هي المسألة الثامنة: إذا لم ينو القصر عند إحرامها، يعني: دخل
في صلاة الظهر وهو مسافر، لكن نوى صلاة الظهر، ولم يستحضر تلك
الساعة أن ينويها ركعتين، فهنا يقول المؤلف: يلزمه أن يتم، وهذه
المسألة لها ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن ينوي الإِتمام.
الصورة الثانية: أن ينوي القصر.
الصورة الثالثة: أن ينسى فلا ينوي قصراً ولا إتماماً.
فإذا نوى الإِتمام لزمه الإِتمام على رأي من يرى جواز إتمام
المسافر.
وإذا نوى القصر قصر، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»[(549)].
وإذا لم ينوِ القصر ولا الإِتمام؛ فالمذهب أنه يتم، وعللوا ذلك: أن
الأصل وجوب الإِتمام، فإذا لم ينوِ القصر لزمه الأصل؛ وهو
الإِتمام.
والقول الثاني في المسألة:
أنه يقصر وإن لم ينوِ القصر، لأن الأصل في صلاة المسافر القصر،
وهذا يقع كثيراً يكبّر الإِنسان في الصلاة الرباعية، وهو مسافر ولا
يخطر على باله القصر، لكن بعدما يكبّر ويقرأ الفاتحة أو يركع أو ما
أشبه ذلك يذكر أنه مسافر فينوي القصر، فعلى المذهب يجب عليه
الإِتمام.
والصحيح: أنه لا يلزمه الإِتمام، بل يقصر؛ لأنه الأصل، وكما أن
المقيم لا يلزمه نية الإِتمام، كذا المسافر لا يلزمه نية القصر.
قوله: «أو شك في نيته».
هذه هي المسألة التاسعة: إذا شك في نية القصر، يعني: شك هل نوى
القصر أم لم ينوِ؟ فيلزمه الإِتمام، وهذه المسألة غير المسألة
الأولى، فالأولى جزم بأنه لم ينوِ، والثانية شك هل نوى أم لا؟
فالمذهب أنه يلزمه الإِتمام، لأن الأصل عدم النية.
ومن القواعد المقررة: أن من شك في وجود شيء أو عدمه فالأصل العدم،
وإذا لم يتيقن أنه نوى القصر لزمه الإِتمام، ووجوب الإِتمام في هذه
المسألة أضعف من وجوب الإِتمام في المسألة التي قبلها وهي: إذا جزم
بأنه لم ينوِ، فإذا كان القول الصحيح في المسألة الأولى: أنه يقصر
كان القول بجواز القصر في هذه المسألة من باب أولى، وعلى هذا
فنقول: إذا شك هل نوى القصر أو لم ينوه؟ فإنه يقصر ولا يلزمه
الإِتمام، لأن الأصل في صلاة المسافر القصر.
أَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ،...........
قوله: «أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام».
هذه هي المسألة العاشرة: فإذا نوى المسافر إقامة أكثر من أربعة
أيام في أي مكان كان، سواء نوى الإِقامة في البر أو نوى الإِقامة
في البلد، فيلزمه أن يتم.
مثاله: رجل سافر إلى العمرة ونوى أن يقيم في مكة أسبوعاً فيلزمه
الإِتمام؛ لأنه نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
ومثال الإقامة في غير البلد: رجل مسافر انتهى إلى غدير فأعجبه
المكان فنزل، ونوى أن يبقى في هذا المكان خمسة أيام فيلزمه أن يتم؛
لأنه نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
والدليل على هذا: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم مكة في حجة
الوداع يوم الأحد الرابع من ذي الحجة، وأقام فيها الأحد والاثنين
والثلاثاء والأربعاء، وخرج يوم الخميس إلى مِنَى، فأقام في مكة
أربعة أيام يقصر الصلاة[(550)] فنأخذ من هذا أن المسافر إذا نوى
إقامة أربعة أيام فإنه يقصر لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، ونحن
نعلم علم اليقين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد عزم على أن
يبقى هذه الأيام الأربعة؛ لأنه قدم إلى الحج، ولا يمكن أن ينصرف
قبل الحج.
فإذا قال قائل: إقامة النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الأيام
الأربعة هل وقعت اتفاقاً أم قصداً؟
الجواب: أنها وقعت اتفاقاً بلا شك أي أن رحلته صلّى الله عليه
وسلّم صادفت القدوم في اليوم الرابع من ذي الحجة؛ لأنه لم يرد عنه
أنه حدد يوماً معيناً للقدوم حتى نقول: إن هذا القدوم وقع عن قصد،
لكنه وقع كما يقع للمسافر، فيقدم قبل الحج بيوم أو أقل أو أكثر كما
هي العادة.
فإذا قال قائل: ألا يمكن أن نقول: إنه لو أقام خمسة أيام أو أكثر
يقصر ما دمتم قلتم: إنه وقع اتفاقاً لا قصداً؟
قلنا: الأصل أن إقامة المسافر في أي مكان تقطع السفر، لأن المعروف
أن المسافر يسير ولا ينزل إلا ضحوة أو عشية، أما أن ينزل أكثر من
ذلك فإن هذا خلاف الأصل، فالأصل أن المسافر إذا أقام في البلد أو
في المكان غير البلد أن إقامته تقطع السفر، ولكن سمح في الأيام
الأربعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقامها وقصر فيبقى ما زاد
عليها على الأصل، وهو المنع من الترخص ووجوب الإِتمام وامتناع
المسح على الخفين أكثر من يوم وليلة، ومنع الإِفطار في رمضان،
فجميع أحكام السفر تنقطع إلا حكماً واحداً فإنه يبقى وهو صلاة
الجمعة، فإن صلاة الجمعة تلزم هذا الرجل كغيره، ولا يصح أن يكون
إماماً فيها، ولا خطيباً، ولا أن يتم به العدد، فصار مسافراً من
وجه، مقيماً من وجه، ففي الجمعة ليس من المقيمين؛ لأنه لا تنعقد به
الجمعة، ولا يصح أن يكون إماماً فيها ولا خطيباً، ولا تسقط عنه، بل
تجب عليه، وفيما عدا ذلك حكمه حكم المقيم، هذا تعليل كلام المؤلف.
وهذه المسألة من مسائل الخلاف التي كثرت فيها الأقوال فزادت على
عشرين قولاً لأهل العلم، وسبب ذلك أنه ليس فيها دليل فاصل يقطع
النزاع، فلهذا اضطربت فيها أقوال أهل العلم، فأقوال المذاهب
المتبوعة هي:
أولاً: مذهب الحنابلة رحمهم الله: كما سبق[(551)] أنه إذا نوى
إقامة أكثر من أربعة أيام انقطع حكم السفر في حقه ولزمه الإِتمام،
لكن لا ينقطع بالنسبة للجمعة؛ لأن الجمعة يشترط فيها الاستيطان،
وهذا غير مستوطن، وبناء على هذا القول ينقسم الناس إلى: مسافر،
ومستوطن، ومقيم غير مستوطن.
فالمسافر أحكام السفر في حقه ثابتة.
والمستوطن أحكام الاستيطان في حقه ثابتة، ولا يستثنى من هذا شيء.
والمقيم غير المستوطن تثبت في حقه أحكام السفر من وجه وتنتفي من
وجه آخر، لكن هذا التقسيم يقول شيخ الإِسلام: إنه ليس عليه دليل لا
من الكتاب ولا السنّة.
ثانياً: مذهب الشافعي: إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر فإنه يلزمه
الإِتمام، لكن لا يحسب منها يوم الدخول، ويوم الخروج وعلى هذا تكون
الأيام ستة، يوم الدخول، ويوم الخروج، وأربعة أيام بينها.
ثالثاً: مذهب أبي حنيفة: إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يوماً
أتم، وإن نوى دونها قصر.
وفيها أيضاً مذاهب أخرى فردية، مثل ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله
عنهما بأنه إذا نوى إقامة تسعة عشر يوماً قصر، وما زاد فإنه لا
يقصر.
ولكن إذا رجعنا إلى ما يقتضيه ظاهر الكتاب والسنّة وجدنا أن القول
الذي اختاره شيخ الإِسلام رحمه الله هو القول الصحيح، وهو أن
المسافر مسافر، سواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو دونها.
وذلك لعموم الأدلة الدالة على ثبوت رخص السفر للمسافر بدون تحديد،
ولم يحدد الله في كتابه ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم المدة التي
ينقطع بها حكم السفر.
1 ـ فمن القرآن قوله تعالى: {{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}}
[النساء: 101] فقوله تعالى: {{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}}
عام يشمل كل ضارب، ومن المعلوم أن الضرب في الأرض أحياناً يحتاج
إلى مدة طويلة بحسب حاجته. قال الله تعالى: {{مَرْضَى وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ}} [المزمل: 20]
فالذين يضربون في الأرض للتجارة مثلاً، هل يكفيهم أن يقيموا أربعة
أيام فأقل في البلد؟
ربما يكفيهم وربما لا يكفيهم، فالتاجر قد يكفيه يوم واحد، وقد
يتأخر أربعة أيام أو خمسة أيام أو عشرة أيام، وقد يطلب سلعة لا
تحصل له في أربعة أيام؛ لأنه يجمعها من هنا وهناك.
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقام مدداً مختلفة يقصر فيها
فأقام في تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة[(552)]، «وأقام في مكة عام
الفتح تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة»[(553)] وأقام في مكة عام حجة
الوداع عشرة أيام يقصر الصلاة، لأن أنساً رضي الله عنه سئل كم
أقمتم في مكة ـ أي: في حجة الوداع ـ قال: أقمنا بها عشراً»[(554)]
لأنه أضاف أيام الحج إلى الأيام الأربعة، ومن المعلوم أن النبي
صلّى الله عليه وسلّم قدم مكة في يوم الأحد الرابع من ذي الحجة،
وخرج في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة، فتكون إقامته عشرة أيام.
فإن قال قائل: ما تقولون في حجة من رأى أنه إذا أقام أكثر من أربعة
أيام لزمه الإِتمام، وهو أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقام
أربعة أيام قبل أن يخرج إلى منى؟.
فالجواب: أن هذا دليل عليهم وليس دليلاً لهم، لأن النبي صلّى الله
عليه وسلّم قدم مكة في اليوم الرابع اتفاقاً، ولا أحد يشك في هذا،
وهل هناك دليل على أنه لو قدم في اليوم الثالث أتم؟ بل نعلم أن
النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم بأن الناس يقدمون للحج قبل اليوم
الرابع، وليس كل الحجاج لا يقدمون إلا من الرابع فأكثر، بل منهم من
يقدم في ذي الحجة، وفي ذي القعدة وفي شوال، لأن أشهر الحج تبتدئ من
شوال، ولم يقل للأمة من قدم مكة قبل اليوم الرابع فليتم، ولو كانت
شريعة الله أن من قدم قبل اليوم الرابع من ذي الحجة إلى مكة لزمه
أن يتم لوجب على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبيّنه لدعاء
الحاجة للبلاغ والتبيين، فلما لم يبين ولم يقل للناس من قدم قبل
اليوم الرابع فليتم علم أنه لا يلزمه الإِتمام، فيكون هذا الحديث
دليلاً على أنه لا يلزم الإِتمام من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
إذاً لا دليل على التحديد بأربعة أيام، لأن بقاء النبي صلّى الله
عليه وسلّم في مكة أربعة أيام وقع مصادفة لا تشريعاً، وهذه قاعدة،
ولهذا لا يسن للحاج إذا دفع من عرفات إلى مزدلفة أن ينزل في
الطريق، ثم يبول، ثم يتوضأ وضوءاً خفيفاً، لأن هذا وقع منه صلّى
الله عليه وسلّم على سبيل الاتفاق[(555)].
وأيضاً كيف نقول: من نوى الإِقامة ستاً وتسعين ساعة فله أن يقصر،
ومن نوى الإِقامة ستاً وتسعين ساعة وعشر دقائق فليس له أن يقصر؛
لأن الأول مسافر والثاني مقيم، أين هذا التحديد في الكتاب والسنّة؟
والصلاة كما نعلم أعظم أركان الإِسلام بعد الشهادتين فكيف نقول
للأمة: إنَّ هذا الرجل الذي نوى إقامة ست وتسعين ساعة وعشر دقائق
لو قصر لكانت صلاته باطلة؟ فمثل هذا لا يمكن أن يترك بلا بيان،
وترك البيان في موضع يحتاج إلى بيان يعتبر بياناً، إذ لو كان خلاف
الواقع والواجب لبين، وعلى هذا فنقول: إن القول الراجح ما ذهب إليه
شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله من أن المسافر مسافر ما لم ينوِ
واحداً من أمرين:
1 ـ الإِقامة المطلقة.
2 ـ أو الاستيطان.
والفرق: أن المستوطن نوى أن يتخذ هذا البلد وطناً، والإِقامة
المطلقة أنه يأتي لهذا البلد ويرى أن الحركة فيه كبيرة، أو طلب
العلم فيه قوي فينوي الإِقامة مطلقاً بدون أن يقيدها بزمن أو بعمل،
لكن نيته أنه مقيم لأن البلد أعجبه إما بكثرة العلم وإما بقوة
التجارة أو لأنه إنسان موظف تابع للحكومة وضعته كالسفراء مثلاً،
فالأصل في هذا عدم السفر؛ لأنه نوى الإِقامة فنقول: ينقطع حكم
السفر في حقه.
أما من قيد الإِقامة بعمل ينتهي أو بزمن ينتهي فهذا مسافر، ولا
تتخلف أحكام السفر عنه.
ثم إننا إذا تأملنا القول بأنه تنقطع أحكام السفر إذا نوى إقامة
أكثر من أربعة أيام وجدنا هذا القول متناقضاً.
ووجه التناقض: أنه في الجمعة في حكم المسافرين، وفي غير الجمعة في
حكم المقيمين، فمثل هذه الأمور تحتاج إلى دليل وتوضيح، ولهذا ما
أحسن قول صاحب المغني رحمه الله لما ذكر أن تحديد السفر بالمسافة
مرجوح قال: إن التحديد توقيف، أي: أنه حد من حدود الله يحتاج إلى
دليل، فأي إنسان يحدد شيئاً أطلقه الشارع فعليه الدليل، وأي إنسان
يخصص شيئاً عمّمه الشارع فعليه الدليل، لأن التقييد زيادة شرط،
والتخصيص إخراج شيء من نصوص الشارع، فلا يحل لأحد أن يضيف إلى ما
أطلقه الشارع شرطاً يقيده، ولهذا قلنا في المسح على الخف: إن
الصحيح أنه لا يشترط فيه ما يشترطه الفقهاء من كونه ساتراً لمحل
الفرض بحيث لا يتبين فيه ولا موضع الخرز، وقلنا: إن ما سمي خفاً
فهو خف، سواء كان مخرقاً أو رقيقاً أو ثخيناً أو سليماً.
ولنا في هذا رسالة بيّنّا فيها من اختار هذا القول من العلماء
أمثال: شيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبد الله بن
محمد بن عبد الوهاب، وشيخنا عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ محمد رشيد
رضا، وعلى كل حال نحن لا نعرف الحق بكثرة الرجال، وإنما نعرف الحق
بموافقة الكتاب والسنّة.
أَوْ مَلاَّحاً مَعَهُ أَهْلُهُ لاَ يَنْوِي الإِقَامَةَ بِبَلَدٍ
لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ..........
قوله: «أو ملاحاً» الملاح قائد السفينة.
قوله: «معه أهله» أي: مصاحبون له، والجملة في محل نصب على أنها صفة
لملاح.
قوله: «لا ينوي الإِقامة ببلد» يعني: لا ببلد المغادرة، ولا ببلد
الوصول، فهذا يجب عليه أن يتم؛ لأن بلده سفينته.
وعلم من قول المؤلف: «معه أهله» أنه لو كان أهله في بلد فإنه مسافر
ولو طالت مدته في السفر.
وعلم منه أيضاً: أنه لو كان له نية الإِقامة في بلد فإنه يقصر إذا
غادره؛ لأنه مسافر، فمثلاً: إذا كان ملاحاً في سفينة وأهله في جدة،
لكنه يروح يجوب البحار كالمحيط الهندي والهادي، ويأتي بعد شهر أو
شهرين إلى جدة فهذا مسافر؛ لأنه ليس معه أهل، بل له بلد يأوي إليه.
وكذلك أيضاً: لو فرض أن الملاح ينوي الإِقامة في بلد فهذا نقول له:
إنك مسافر إذا فارقته، لأن لك بلداً معيناً عيّنته للإِقامة.
ومثل ذلك أصحاب سيارات الأجرة الذين دائماً في البر نقول: إن كان
أهلهم معهم ولا ينوون الإِقامة ببلد فهم غير مسافرين لا يقصرون ولا
يفطرون في رمضان، وإن كان لهم أهل في بلد فإنهم إذا غادروا بلد
أهلهم فهم مسافرون يفطرون ويقصرون، وكذلك لو لم يكن لهم أهل لكنهم
ينوون الإِقامة في بلد يعتبرونه مثواهم ومأواهم، فهم مسافرون حتى
يرجعوا إلى البلد الذي نووا أنه مأواهم.
فإذا قال قائل: هؤلاء الملاحون أو السائقون لسيارات الأجرة دائماً
في سفر، فإذا قلنا: أنتم مسافرون لكم الفطر فمتى يصومون؟
نقول: يمكن أن يصوموا في سفرهم في أيام الشتاء؛ لأنها أيام قصيرة
وباردة، فالصوم فيها لا يشق، كذلك لو قدموا إلى بلدهم في رمضان
فإنه يلزمهم الصوم ما داموا في بلدهم.
فإن قدموا في أثناء اليوم إلى بلدهم ففي لزوم الإِمساك عليهم قولان
لأهل العلم، هما روايتان عن الإِمام أحمد رحمه الله[(556)].
والصحيح: أنه لا يلزمهم الإِمساك؛ لأنهم لا يستفيدون بهذا الإِمساك
شيئاً، وليس هذا اليوم في حقهم يوماً محترماً؛ لأنهم يأكلون
ويشربون في أوله وهم مباح لهم ذلك، فهم لم ينتهكوا حرمة اليوم،
بخلاف من أفطر أول النهار لغير عذر فإنه يلزمه الإِمساك ولا يقول
أفسدت صومي فآكل وأشرب، بل نقول: أنت انتهكت حرمة اليوم فيلزمك
الإِمساك.
ومثل ذلك أيضاً: لو أن الحائض طهرت في أثناء اليوم من رمضان فإنه
لا يلزمها على القول الراجح أن تمسك؛ لأن هذه المرأة يباح لها
الفطر أول النهار إباحة مطلقة، فاليوم في حقها ليس يوماً محترماً،
ولا تستفيد من إلزامها بالإِمساك إلا التعب.
مسألة: من أفطر لإنقاذ معصوم هل يلزمه الإِمساك بقية اليوم كمَن
رأى شخصاً غرق في الماء ولا يستطيع أن ينجيه من الغرق إلا إذا أفطر
بأكل أو شرب فأفطر ثم أنقذه وأنجاه؟
الجواب: لا يلزمه على القول الراجح؛ لأنه أفطر بسبب مباح.
بخلاف الرجل الذي بلغ في أثناء اليوم فإنه يلزمه الإِمساك.
والفرق بين هذه المسألة والمسائل التي قبلها: أن المسائل التي
قبلها زال فيها المانع، وهذه وجد سبب الوجوب، فإذا وجد سبب الوجوب
في أثناء النهار لزمه الإِمساك، كالصغير يبلغ، والمجنون يعقل
والكافر يسلم، وفي المسألة خلاف لكن الصحيح وجوب الإِمساك ولا يقضي
اليوم.
وَإِنْ كَانَ لَهُ طَرِيقَانِ فَسَلَكَ أَبْعَدَهُمَا، أَوْ ذَكَرَ
صَلاَةَ سَفَرٍ فِي آخِرَ قَصَرَ،.......
قوله: «وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما» يعني: رجل في بلد يريد أن
يسافر إلى بلد آخر، وللبلد هذا طريقان: أحدهما بعيد، والثاني قريب،
أي: أن أحدهما يبلغ المسافة، والآخر لا يبلغها، فسلك أبعدهما فإنه
يقصر، لأنه يصدق عليه أنه مسافر سفر قصر، ولكن لو فرض أنه تعمد أن
يسلك الطريق الأبعد في رمضان من أجل أن يفطر فهنا نقول له: لا يجوز
لك الفطر؛ لأنه يمكنك أن تسلك طريقاً قصيراً بدون فطر، هذا هو
الظاهر ومع ذلك ففي النفس من هذا شيء.
قوله: «أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر» «آخر» صفة لموصوف محذوف،
التقدير: في سفر آخر.
مثاله: سافر إلى العمرة وصلّى بغير وضوء ناسياً، ولما رجع من
العمرة سافر إلى المدينة وفي أثناء سفره إلى المدينة ذكر أنه صلّى
في سفره للعمرة صلاة بغير وضوء، فنقول: يصلّيها قصراً؛ لأن الصلاة
وجبت في السفر أداءً وقضاءً، وكذلك لو نسيها في سفر العمرة، ثم
ذكرها في سفر زيارة المدينة فإنه يقصر، لأن هذه الصلاة سفرية أداءً
وقضاءً.
وإن ذكر صلاة سفر في حضر أو صلاة حضر في سفر فقد سبق الكلام فيها.
وإن ذكر صلاة حضر في حضر فإنه يصلّي أربعاً، وعلى هذا فللمسألة
أربع صور:
1 ـ ذكر صلاة سفر في سفر، يقصر.
2 ـ ذكر صلاة حضر في حضر، يتم.
3 ـ ذكر صلاة سفر في حضر، يقصر على الصحيح.
4 ـ ذكر صلاة حضر في سفر، يتم.
وَإِنْ حُبِسَ وَلَمْ يَنْوِ إِقَامَةً، أَوْ أَقَامَ لِقَضَاءِ
حَاجَةٍ بِلاَ نِيَّةِ إِقَامَةٍ قَصَرَ أَبَداً.
قوله: «وإن حبس» أي: منع من السفر.
قوله: «ولم ينوِ إقامة» أي: لم ينوِ أن يبقى مدة محددة فإنه يقصر
ولو طالت المدة.
وقول المؤلف: «حبس» لم يبيّن نوع الحبس فيشمل: من حبس ظلماً، ومن
حبس بحق، ومن حبس بعدو، ومن حبس بمرض، ومن حبس في تغيرات جوية، ومن
حبس بخوف على نفسه، فمن منع السفر بأي سبب كان فإنه يقصر.
ودليل ذلك: أن ابن عمر رضي الله عنهما: «حبسه الثلج بأذربيجان لمدة
ستة أشهر يقصر الصلاة»[(557)]، وابن عمر صحابي، والقول الراجح أن
فعل الصحابي وقوله حجة بشرطين وهما:
1 ـ أن لا يخالف نصاً.
2 ـ وأن لا يعارضه قول صحابي آخر.
فإن خالف نصاً أخذ بالنص مهما كان الصحابي، وإن عارضه قول صحابي
آخر طلب المرجح واتبع ما ترجح من القولين، ثم إن فعل ابن عمر هذا
رضي الله عنه مؤيد بعمومات الكتاب والسنّة الدالة على أن المسافر
يقصر حتى لو بقي باختياره على القول الراجح.
وقوله: «ولم ينوِ إقامة» هذا شرط لا بد منه، فإن نوى إقامة مطلقة
لا إقامة ينتظر بها زوال المانع فإنه يتم.
قوله: «أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة» أي: لم ينوِ إقامة
مطلقة.
قوله: «قصر أبداً» ولو بقي طول عمره فإنه يقصر، لأنه إنما نوى
الإِقامة من أجل هذه الحاجة، ولم ينوِ إقامة مطلقة، وهناك فرق بين
شخص ينوي الإِقامة المطلقة وشخص آخر ينوي الإِقامة المقيدة، فالذي
ينوي الإِقامة المقيدة لا يعد مستوطناً، والذي ينوي الإِقامة
المطلقة يعد مستوطناً.
فالإِقامة المطلقة: أن ينوي أنه مقيم ما لم يوجد سبب يقتضي
مغادرته، ومن ذلك سفراء الدول، فلا شك أن الأصل أن إقامتهم مطلقة
لا يرتحلون إلا إذا أمروا بذلك، وعلى هذا فيلزمهم الإِتمام،
ويلزمهم الصوم في رمضان، ولا يزيدون عن يوم وليلة في مسح الخفين؛
لأن إقامتهم مطلقة، فهم في حكم المستوطنين، وكذلك أيضاً الذين
يسافرون إلى بلد يرتزقون فيها هؤلاء إقامتهم مطلقة، لأنهم يقولون:
سنبقى ما دام رزقنا مستمراً.
والإِقامة المقيدة: تارة تقيد بزمن، وتارة تقيد بعمل.
فالمقيد بزمن سبق لنا أن المشهور من المذهب[(558)] أنه إذا نوى
أكثر من أربعة أيام يتم ودونها يقصر، وكما سبق بيان الخلاف فيها
أيضاً[(559)].
والمقيدة بعمل يقصر فيها أبداً ولو طالت المدة، ومن ذلك لو سافر
للعلاج ولا يدري متى ينتهي، فإنه يقصر أبداً حتى لو غلب على ظنه
أنه سيطول، لأنه ينتظر هذه الحاجة، وهذا هو عمدة من قال: إنه لا حد
للإِقامة؛ لأنهم يقولون: ما دام الحامل له على الإِقامة هي الحاجة،
فلا فرق في الحقيقة بين أن يحدد أو لا يحدد، فهو مقيم لشيء ينتظره
متى انتهى منه رجع إلى بلده.
وقوله: «قصر أبداً» هذا هو المشهور من المذهب.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه إذا أقام وانتهت المدة المحددة لانقطاع
حكم السفر فإنه يجب عليه الإِتمام، وعليه فإذا أقام لحاجة لا يدري
متى تنقضي وانتهت أربعة الأيام لزمه الإِتمام.
والأول قول الجمهور ـ حتى إن ابن المنذر حكى الإِجماع عليه ـ وأنه
لا يلزمه الإِتمام ما دام ينتظر انتهاء الحاجة.
فَصْلٌ
يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرَيْنِ، وَبَيْنَ العِشَاءَيْنِ
فِي وَقْتِ إِحدَاهُمَا فِي سَفَرِ قَصْر ......
قوله: «فصل» يعني: في الجمع بين الصلاتين.
والجمع هو: ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى، وهذا التعريف يشمل جمع
التقديم وجمع التأخير وقولنا: ضم إحدى الصلاتين للأخرى، يراد به ما
يصح الجمع بينهما، فلا يدخل في ذلك ضم صلاة العصر إلى صلاة المغرب
مثلاً؛ لأن صلاة المغرب نوع يخالف نوع صلاة العصر، فإن صلاة العصر
نهارية، وصلاة المغرب ليلية، ولا يدخل فيه أيضاً ضم صلاة العشاء
إلى الفجر، لأن وقتيهما منفصل بعضه عن بعض.
قوله: «يجُوزُ الجمع» التعبير بكلمة «يجوز» يحتمل أن يريد المؤلف
رحمه الله: أنه لا يمنع، فيكون المراد بذكر الجواز دفع قول من يقول
إنه لا يجوز، فلا ينافي أن يكون مستحباً.
ويحتمل أنه يريد بقوله: «يجوز» الإِباحة أي: أن الجمع مباح وليس
بممنوع، ثم هل يستحب أو لا يستحب فيه كلام آخر. وعلى كل فالمعروف
من المذهب أن الجمع جائز، وليس بمستحب، بل إن تركه أفضل، فهو رخصة،
وتركه أفضل للخلاف في جوازه، فإن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا
يجوز الجمع إلا بين الظهر والعصر في عرفة، وبين المغرب والعشاء في
مزدلفة، والعلة في ذلك عنده: أن هذا من باب النسك، وليس من باب
العذر أي: السفر ولكن قوله ضعيف.
والصحيح أن الجمع سنّة إذا وجد سببه لوجهين:
الوجه الأول: أنه من رخص الله عزّ وجل والله سبحانه يحب أن تؤتى
رخصه.
الوجه الثاني: أن فيه اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه
كان يجمع عند وجود السبب المبيح للجمع.
فيدخل هذا في عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني
أصلي»[(560)].
قوله: «بين الظهرين» هما الظهر والعصر، لكنه أطلق عليهما لفظ
الظهرين من باب التغليب، كما يقال القمران للشمس والقمر، والعمران
لأبي بكر وعمر.
قوله: «بين العشاءين» هما المغرب والعشاء، وهو من باب التغليب
كالظهرين.
قوله: «في وقت إحداهما» أي الأولى أو الثانية.
واعلم أنه إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً، فإن شئت فاجمع
في وقت الأولى أو في الثانية أو في الوقت الذي بينهما، وأما ظن بعض
العامة أنه لا يجمع إلا في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، أو آخر
وقت المغرب وأول وقت العشاء فلا أصل له.
قوله: «في سفر قصر» هذا أحد الأسباب المبيحة للجمع، وهو سفر القصر،
وإذا قال العلماء: في سفر قصر، فمرادهم به السفر الذي تقصر فيه
الصلاة، فيخرج به السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة، وسفر القصر سبق
الكلام عليه، هل هو مقيد بمسافة معينة أو بالعرف[(561)].
وقوله: «في سفر قصر» ظاهر كلامه أنه يجوز الجمع للمسافر سواء كان
نازلاً أم سائراً، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء.
فمنهم من يقول: إنه لا يجوز الجمع للمسافر إلا إذا كان سائراً لا
إذا كان نازلاً.
واستدل بحديث ابن عمر: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجمع بين
المغرب والعشاء إذا جَدَّ به السير»[(562)] يعني إذا كان سائراً.
وبأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجمع بين الصلاتين في منى في
حجة الوداع؛ لأنه كان نازلاً[(563)]، وإلا فلا شك أنه في سفر؛ لأنه
يقصر الصلاة.
وأورد عليهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهرين في
عرفة (563) وهو نازل.
وأجابوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهرين في عرفة
وهو نازل ليدرك الناس صلاة الجماعة على إمام واحد؛ لأن الناس بعد
الصلاة سوف يتفرقون في مواقفهم في عرفة، ويكون جمعهم بعد ذلك صعباً
وشاقاً، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجمع بين الظهر
والعصر مع أنه نازل من أجل حصول الجماعة على إمام واحد.
ونظير ذلك أن الناس يجمعون بين المغرب والعشاء في المطر من أجل
تحصيل الجماعة، وإلا فبإمكانهم أن يصلّوا الصلاة في وقتها في
بيوتهم؛ لأنهم معذورون بالوحل.
والقول الثاني: أنه يجوز الجمع للمسافر، سواء كان نازلاً أم
سائراً.
واستدلوا لذلك بما يلي:
1 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جمع في غزوة تبوك وهو
نازل[(564)].
2 ـ ظاهر حديث أبي جحيفة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين: «أن
النبي صلّى الله عليه وسلّم كان نازلاً في الأبطح في حجة الوداع،
وأنه خرج ذات يوم وعليه حلة حمراء فأمَّ الناس فصلّى الظهر ركعتين
والعصر ركعتين»[(565)] قالوا: فظاهر هذا أنهما كانتا مجموعتين.
3 ـ عموم حديث ابن عباس أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «جمع بين
الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا
مطر»[(566)].
4 ـ أنه إذا جاز الجمع للمطر ونحوه، فجوازه للسفر من باب أولى.
5 ـ أن المسافر يشق عليه أن يفرد كل صلاة في وقتها، إما للعناء، أو
قلة الماء، أو غير ذلك.
والصحيح أن الجمع للمسافر جائز لكنه في حق السائر مستحب وفي حق
النازل جائز غير مستحب إن جمع فلا بأس، وإن ترك فهو أفضل.
وَلِمَرِيْضٍ يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ مَشَقَّةٌ وَبَيْنَ
العِشَاءَيْنِ لِمَطَرٍ يَبُلُّ الثِّيَابِ، وَوَحَلٍ، وَرِيْحٍ
شَدِيدَةٍ بَارِدَة،.............
قوله: «ولمريض يلحقه بتركه مشقة» أي: يجوز الجمع لمريض يلحقه بترك
الجمع مشقة أي تعب وإعياء، أيَّ مرض كان، سواء كان صداعاً في
الرأس، أو وجعاً في الظهر، أو في البطن، أو في الجلد، أو في غير
ذلك، ودليل ذلك ما يلي:
1 ـ عموم قول الله تعالى: {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185] وقوله: {{وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] .
2 ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «جمع النبي صلّى الله عليه
وسلّم في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف
ولا مطر»[(567)] قالوا: فإذا انتفى الخوف والمطر، وهو في المدينة
انتفى السفر أيضاً، ولم يبق إلا المرض، وقد يكون هناك عذر غير
المرض، ولكن ابن عباس: «سئل لماذا صنع ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج
أمته» أي: أن لا يلحقها حرج في عدم الجمع، ومن هنا نأخذ أنه متى
لحق المكلف حرج في ترك الجمع جاز له أن يجمع، ولهذا قال المؤلف:
«ولمريض يلحقه بتركه مشقة».
وفهم من قول المؤلف: أنه لو لم يلحقه مشقة، فإنه لا يجوز له الجمع
وهو كذلك.
فإذا قال قائل: ما مثال المشقة؟ قلنا: المشقة أن يتأثر بالقيام
والقعود إذا فرق الصلاتين، أو كان يشق عليه أن يتوضأ لكل صلاة..
والمشقات متعددة.
فحاصل القاعدة فيه: أنه كلما لحق الإِنسان مشقة بترك الجمع جاز له
الجمع حضراً وسفراً.
قوله: «وبين العشائين» أي: بين المغرب والعشاء، للأعذار التالية:
الأول:
قوله: «لمطر يبل الثياب» يعني: إذا كان هناك مطر يبل الثياب لكثرته
وغزارته، فإنه يجوز الجمع بين العشائين، فإن كان مطراً قليلاً لا
يبل الثياب فإن الجمع لا يجوز، لأن هذا النوع من المطر لا يلحق
المكلف فيه مشقة، بخلاف الذي يبل الثياب، ولا سيما إذا كان في أيام
الشتاء، فإنه يلحقه مشقة من جهة البلل، ومشقة أخرى من جهة البرد،
ولا سيما إن انضم إلى ذلك ريح فإنها تزداد المشقة.
فإن قيل: ما ضابط البلل؟
فالجواب: هو الذي إذا عصر الثوب تقاطر منه الماء.
الثاني:
قوله: «ووحل» الوحل: الزلق والطين؛ فإذا كانت الأسواق قد ربصت من
المطر فإنه يجوز الجمع، وإن لم يكن المطر ينزل، وذلك لأن الوحل
والطين، يشق على الناس أن يمشوا عليه.
وعلم من قوله: بين العشائين أنه لا يجوز الجمع بين الظهرين لهذه
الأسباب وهو المذهب. والراجح أنه جائز لهذه الأسباب وغيرها بين
الظهرين والعشائين عند وجود المشقة بترك الجمع، كما يفيده حديث ابن
عباس رضي الله عنه.
الثالث:
قوله: «وريح شديدة باردة» اشترط المؤلف شرطين للريح:
1 ـ أن تكون شديدة.
2 ـ وأن تكون باردة.
وظاهر كلامه: أنه لا يشترط أن تكون في ليلة مظلمة، بل يجوز الجمع
للريح الشديدة الباردة في الليلة المقمرة أيضاً.
فإذا قال قائل: ما هو حد الشدة والبرودة؟
فالجواب على ذلك: أن يقال: المراد بالريح الشديدة ما خرج عن
العادة، وأما الريح المعتادة فإنها لا تبيح الجمع، ولو كانت باردة،
والمراد بالبرودة ما تشق على الناس.
فإن قال قائل: إذا اشتد البرد دون الريح هل يباح الجمع؟ قلنا: لا
لأن شدة البرد بدون الريح يمكن أن يتوقاه الإِنسان بكثرة الثياب،
لكن إذا كان هناك ريح مع شدة البرد فإنها تدخل في الثياب، ولو كان
هناك ريح شديدة بدون برد فلا جمع؛ لأن الرياح الشديدة بدون برد ليس
فيها مشقة، لكن لو فرض أن هذه الرياح الشديدة تحمل تراباً يتأثر به
الإِنسان ويشق عليه، فإنها تدخل في القاعدة العامة، وهي المشقة،
وحينئذٍ يجوز الجمع.
فإذا قال قائل: ما الدليل على اختصاص الجمع للريح الشديدة والمطر
والوحل بالعشائين.
قلنا: الدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «جمع بين العشائين
في ليلة مطيرة»[(568)] ولكن هذا الحديث فيه نظر، والذي رواه
النجاد، وليس البخاري كما في بعض نسخ الروض.
وأيضاً كونه جمع في ليلة مطيرة لا يمنع أن يجمع في يوم مطير، لأن
العلة هي المشقة، ولهذا كان القول الصحيح في هذه المسألة: أنه يجوز
الجمع بين الظهرين لهذه الأعذار، كما يجوز الجمع بين العشائين،
والعلة هي المشقة، فإذا وجدت المشقة في ليل أو نهار جاز الجمع.
فأسباب الجمع هي: السفر، والمرض، والمطر، والوحل، والريح الشديدة
الباردة، ولكن لا تنحصر في هذه الأسباب الخمسة، بل هذه الخمسة التي
ذكرها المؤلف كالتمثيل لقاعدة عامة وهي: المشقة، ولهذا يجوز الجمع
للمستحاضة بين الظهرين، وبين العشائين لمشقة الوضوء عليها لكل
صلاة، ويجوز الجمع أيضاً للإِنسان إذا كان في سفر وكان الماء
بعيداً عنه، ويشق عليه أن يذهب إلى الماء ليتوضأ لكل صلاة، حتى وإن
قلنا بعدم جواز الجمع في السفر للنازل، وذلك لمشقة الوضوء عليه لكل
صلاة.
مسألة: هل من لازم جواز الجمع جواز القصر؟
الجواب: لا، فقد يجوز الجمع ولا يجوز القصر، وقد يجوز القصر ولا
يجوز الجمع على رأي من يرى أن الجمع لا يجوز للمسافر النازل فلا
تلازم بينهما.
وَلَوْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ، أَوْ فِي مَسْجِدٍ طَرِيقُهُ تَحْتَ
سَابَاطٍ.
قوله: «ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط» يعني: يجوز
الجمع بين العشائين للمطر، ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت
سقف.
و«لو» هذه إشارة خلاف تشير إلى أن بعض العلماء قال: إذا كان يصلّي
في بيته فإنه لا يجوز أن يجمع لأجل المطر، وكذا إذا كان المسجد
طريقه تحت ساباط.
والساباط: السقف أي: لو أن الشارع أو السوق الذي يؤدي إلى المسجد
طريقه مسقوف بساباط، فإنه لا يجوز له أن يجمع لأنه لا مشقة عليه في
الذهاب إلى المسجد.
والراجح أنه يجوز أن يجمع ولو كان طريقه إلى المسجد تحت ساباط لأنه
يستفيد الصلاة مع الجماعة. وأما الصلاة في البيت فلها صور:
الأولى: أن يكون معذوراً بترك الجماعة لمرض أو مطر ونحوهما. فظاهر
كلام المؤلف: أنه يجوز له الجمع.
الثانية: أن يصلي في بيته بلا عذر وظاهر كلام المؤلف أنها كالأولى.
الثالثة: أن لا يكون يدعو مدعواً لحضور الجماعة كالأنثى فيحتمل أن
يكون كلام المؤلف شاملاً لها ويحتمل أن لا يكون شاملاً لها فلا
تجمع لأنها ليست من أهل الجماعة.
والراجح أنه لا يجوز الجمع في هذه الصور الثلاث، أما في الصورة
الثانية فإنه لا يستفيد بهذا الجمع شيئاً، وأما في الصورة الثالثة
فلأن المرأة ليست من أهل الجماعة.
فمراد المؤلف في قوله: «ولو صلّى في بيته، أو في مسجد طريقه تحت
ساباط»، إذا كان من أهل الجماعة ويصلّي معهم فلا حرج أن يجمع مع
الناس؛ لئلا تفوته صلاة الجماعة.
وَالأَفْضَلُ فِعْلُ الأَرْفَق بِهِ مِنْ تَأْخِيرٍ
وَتَقْدِيمٍ......................
قوله: «والأفضل فعل الأرفق به من تأخير وتقديم» أي: الأفضل لمن
يباح له الجمع فعل الأرفق به من تأخير وتقديم، فإن كان التأخير
أرفق فليؤخر، وإن كان التقديم أرفق فليقدم.
ودليل هذا ما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185] .
2 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الدِّينَ
يُسرٌ»[(569)].
3 ـ حديث معاذ: «أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان في غزوة
تبوك إذا ارتحلَ قبل أن تزيغَ الشَّمسُ أخَّرَ الظُّهرَ إلى أنْ
يجمَعها إلى العصرِ، فيصلِّيهما جميعاً، وإذا ارتحلَ بعد أن تزيغَ
الشَّمسُ؛ عَجَّلَ العصرَ إلى الظُّهرِ، وصَلَّى الظُّهرَ والعصرَ
جميعاً، ثم سار...»[(570)].
4 ـ أن الجمع إنما شرع رفقاً بالمكلف، فما كان أرفق فهو أفضل.
وكذلك المريض، لو كان الأرفق به أن يقدم صلاة العشاء مع المغرب فإن
هذا أفضل، ولو كان بالعكس أن يؤخر المغرب إلى العشاء كان هذا أفضل.
مسألة: الجمع في المطر هل الأفضل التقديم أو التأخير؟
الأفضل التقديم؛ لأنه أرفق بالناس، ولهذا تجد الناس كلهم في المطر
لا يجمعون إلا جمع تقديم.
هذا إذا قلنا: إن الجمع للمطر خاص في العشائين. أما إذا قلنا بأنه
عام في العشائين والظهرين، فإن الأرفق قد يكون بالتأخير.
واعلم أن كلام المؤلف: لا يعني أنه إذا جاز الجمع فلا بد أن يكون
تقديماً أو تأخيراً، بل إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً،
فيجوز أن تصلّي المجموعتين في وقت الأولى، أو في وقت الثانية، أو
فيما بين ذلك، وأما ظن العامة أن الجمع لا يجوز إلا في وقت الأولى،
أو وقت الثانية، فهذا لا أصل له كما سبق، لأنه متى أبيح الجمع صار
الوقتان وقتاً واحداً.
وقد استثنى بعض العلماء جمع عرفة؛ فقال: الأفضل فيه التقديم،
ومزدلفة فالأفضل فيه التأخير، ولكن هذا لا وجه له؛ لأن جمع عرفة
تقديماً أرفق بالناس من الجمع تأخيراً، لأن الناس لا يمكن أن
يحبسوا إلى وقت العصر مجتمعين، وهم يريدون أن يتفرقوا في مواقفهم،
ويدعوا الله؛ فالأرفق بهم بلا شك التقديم، وأما في مزدلفة فالأفضل
التأخير؛ لأنه أرفق فإن إيقاف الناس في أثناء الطريق وهم في سيرهم
إلى مزدلفة فيه مشقة.
فإن قال قائل: إذا تساوى الأمران عند الإِنسان التقديم أو التأخير
فأيهما أفضل؟
فالجواب: قالوا: الأفضل التأخير، لأن التأخير غاية ما فيه تأخير
الأولى عن وقتها، والصلاة بعد وقتها تعذر جائزة مجزئة، وأما
التقديم ففيه صلاة الثانية قبل دخول وقتها، والصلاة قبل دخول الوقت
لا تصح ولو لعذر، ولأنه أحوط حيث منع بعض المجوزين للجمع من جمع
التقديم إلا في عرفة.
. فَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الأُولَى اشْتُرِطَ نِيَّةُ الجَمْعِ
عِنْدَ إِحْرَامِهَا،........
قوله: «فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها» إذا
جمع في وقت الأولى اشترط ثلاثة شروط:
الشرط الأول: نية الجمع عند إحرامها وهذا مبني على اشتراط نية
القصر للمسافر؛ لأن الجمع ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى، ولذلك فلا
بد أن تكون نية الضم مشتملة على جميع أجزاء الصلاة، فلا بد أن ينوي
عند إحرام الأولى، فلو فرض أنه دخل في الأولى وهو لا ينوي الجمع،
ثم في أثناء الصلاة بدا له أن يجمع، فإن الجمع لا يصح؛ لأنه لم
ينوه عند إحرام الأولى، فخلا جزء منها عن نية الجمع والجمع هو
الضم، ولا بد أن يكون الضم مشتملاً لجميع الصلاة، ولو نوى الجمع
بعد السلام من الأولى لم يصح من باب أولى.
والصحيح: أنه لا يشترط نية الجمع عند إحرام الأولى، وأن له أن ينوي
الجمع ولو بعد سلامه من الأولى، ولو عند إحرامه في الثانية ما دام
السبب موجوداً.
مثال ذلك: لو أن الإِنسان كان مسافراً وغابت الشمس، ثم شرع في صلاة
المغرب بدون نية الجمع، لكن في أثناء الصلاة طرأ عليه أن يجمع فعلى
المذهب لا يجوز، وعلى القول الصحيح يجوز، وهو اختيار شيخ الإِسلام
ابن تيمية رحمه الله.
ومثال آخر: لو سلم من صلاة المغرب ثم نزل مطر، يبيح الجمع جاز له
الجمع.
وَلاَ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِقَدْرِ إِقَامَةٍ وَوُضُوءٍ
خَفِيفٍ، وَيَبْطُلُ بِرَاتِبَةٍ بَيْنَهُمَا،.........
قوله: «ولا يفرق بينهما إلا بقدر إقامة ووضوء خفيف» هذا هو الشرط
الثاني: وهو الموالاة بين الصلاتين.
«ويفرق» بالنصب؛ لأنها على تقدير أن، أي: وأن لا يفرق معطوفاً على
مصدر صريح وهو قوله: «نية الجمع» والفعل المضارع إذا عطف على مصدر
صريح فإنه ينصب بأن مضمرة ومنه قوله[(571)]:
ولُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عيني
أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوفِ
فقوله: «ولبس عباءة وتقر»، أي: وأن تقر عيني، وتقول: زيارتي زيداً
ويكرمني أحبّ إلي من التأخر عنه، زيارتي زيداً ويكرمني أي وأن
يكرمني.
إذاً فقوله: «ولا يفرق» أي: يشترط أن لا يفرق بينهما، أي: بين
المجموعتين في جمع التقديم إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف.
وخلاصة هذا الشرط الموالاة بين الصلاتين، أي: أن تكون الصلاتان
متواليتين لا يفصل بينهما إلا بشيء يسير بمقدار إقامة؛ لأن
الإِقامة الثانية لا بد منها، ووضوء خفيف؛ لأن الإِنسان ربما يحتاج
إلى الوضوء بين الصلاتين فسومح في ذلك.
قوله: «يبطل» أي: الجمع.
قوله: «براتبة» أي: بصلاة راتبة.
قوله: «بينهما» أي: بين الصلاة الأولى والثانية، أي: لو جمع بين
المغرب والعشاء جمع تقديم، فلما صلّى المغرب صلّى راتبة المغرب،
فإنه لا جمع حينئذٍ لوجود الفصل بينهما بصلاة.
مسألة: لو فصل بينهما بفريضة، فبعد أن صلّى المغرب ذكر أنه صلّى
العصر بلا وضوء فصلّى العصر، فلا جمع؛ لأنه إذا بطل الجمع بالراتبة
التابعة للصلاة المجموعة فبطلانه بصلاة أجنبية من باب أولى.
ولو صلى تطوعاً غير الراتبة فمن باب أولى؛ لأنه إذا بطل بالراتبة
التابعة للمجموعة فما كان أجنبياً عنها، وليس لها فهو من باب أولى.
واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية: أنه لا تشترط الموالاة بين
المجموعتين وقال: إن معنى الجمع هو الضم بالوقت أي: ضم وقت الثانية
للأولى بحيث يكون الوقتان وقتاً واحداً عند العذر، وليس ضم الفعل،
وعلى رأي شيخ الإِسلام: لو أن الرجل صلّى الظهر وهو مسافر بدون أن
ينوي الجمع، ولو كان مقيماً ثم بدا له أن يسافر قبل العصر فإنه
يجمع إذا سافر ولو طال الفصل، وعلى ما ذكره المؤلف لا يجمع لسببين:
أولاً: أنه لم ينوِ الجمع عند إحرام الأولى.
الثاني: أنه فصل بينهما.
وقد ذكر شيخ الإِسلام رحمه الله نصوصاً عن الإِمام أحمد تدل على ما
ذهب إليه من أنه لا تشترط الموالاة في الجمع بين الصلاتين تقديماً
كما أن الموالاة لا تشترط بالجمع بينهما تأخيراً كما سيأتي،
والأحوط أن لا يجمع إذا لم يوالِ بينهما، ولكن رأي شيخ الإِسلام له
قوة.
مسألة: رجل سافر بالطائرة، والمطار خارج البلد، وركب الطائرة،
فأخذت دورة فمرت من فوق وهو يصلّي فهل يلزمه الإِتمام؛ لأن الهواء
تابع للقرار؟
الجواب: الظاهر لي: أنه لا يلزمه الإِتمام؛ لأن هذا المرور مرور
سفر عابر، وليس مرور استقرار وانتهاء سفر، ثم إن المدة في الغالب
تكون وجيزة.
وَأَنْ يَكُونَ العُذْرُ مَوْجُوداً عِنْدَ افْتِتَاحِهِمَا
وَسَلاَمِ الأَوْلَى..........
قوله: «وأن يكون العذر...» إلى آخره أي: العذر المبيح للجمع. وهذا
هو الشرط الثالث.
قوله: «موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى» أي: افتتاح الصلاتين
الأولى والثانية، وعند سلام الأولى، وذلك لأن افتتاح الأولى محل
النية وقد سبق أنه يشترط في الجمع نيته عند تكبيرة
الإِحرام[(572)]، فإذا كان يشترط نية الجمع عند تكبيرة الإِحرام
لزم من هذا الشرط أن يشترط وجود العذر عند تكبيرة الإِحرام؛ لأن
نية الجمع بلا عذر غير صحيحة، فإذا قلنا: لا بد من نية الجمع عند
تكبيرة الإِحرام صار لا بد أيضاً من وجود العذر عند تكبيرة
الإِحرام، إذاً هذا الشرط مبني على الشرط الأول الذي هو نية الجمع
عند افتتاح الصلاة الأولى، وقد سبق أن القول الصحيح: عدم اشتراطه،
وعلى ذلك لا يشترط وجود العذر عند افتتاح الأولى، فلو لم ينزل
المطر مثلاً إلا في أثناء الصلاة فإنه يصح الجمع على الصحيح، بل لو
لم ينزل إلا بعد تمام الصلاة الأولى أي: كانت السماء مغيمة ولم
ينزل المطر، وبعد أن انتهت الصلاة الأولى نزل المطر، فالصحيح أن
الجمع جائز بناء على هذا القول.
وعند شيخ الإِسلام: لا تشترط الموالاة أيضاً كما سبق[(573)]؛ وذلك
لأن العذر المبيح للجمع إذا وجد جعل الوقتين وقتاً واحداً، فاندمج
وقت الثانية في وقت الأولى وصار الإِنسان إذا فعل الأولى في أول
الوقت، والثانية في آخر الوقت فلا بأس، وبناء على هذا القول يكون
الشرط وجود العذر فقط، فإذا وجد العذر جاز الجمع سواء كان العذر
مرضاً أو سفراً أو مطراً أو ريحاً شديدة باردة أو غير ذلك مما يكون
في ترك الجمع معه مشقة.
بقي الشرط الرابع وهو الترتيب، فيشترط الترتيب بأن يبدأ بالأولى ثم
بالثانية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلوا كما رأيتموني
أصلي»[(574)]، ولأن الشرع جاء بترتيب الأوقات في الصلوات فوجب أن
تكون كل صلاة في المحل الذي رتبها الشارع فيه، ولكن لو نسي
الإِنسان أو جهل أو حضر قوماً يصلّون العشاء وهو قد نوى جمع
التأخير، ثم صلّى معهم العشاء ثم المغرب، فهل يسقط الترتيب في هذه
الأحوال أو لا يسقط؟
المشهور عند فقهائنا رحمهم الله: أنه لا يسقط، وإن كانوا يسقطونه
بالنسيان في قضاء الفوائت[(575)]، لكنهم هنا لا يسقطونه، ويجعلون
الفرق أن الجمع أداء، والقضاء قضاء، فالأول في وقته والثاني خارج
وقته، وبناء على هذا لو أن الإِنسان قدم الثانية على الأولى سهواً
أو جهلاً أو لإِدراك الجماعة أو لغير ذلك من الأسباب، فإن الجمع لا
يصح فماذا يصنع في هذه الحال؟
الجواب: الصلاة التي صلاها أولاً، لم تصح فرضاً، ويلزمه إعادتها.
مثال ذلك: رجل كان ناوياً جمع تأخير، ثم دخل المسجد ووجد ناساً
يصلّون العشاء فدخل معهم بنية العشاء، ولما انتهى من العشاء صلّى
المغرب، نقول: صلاة العشاء لا تصح؛ لأنه قدمها على المغرب،
والترتيب شرط فيصلّي العشاء مرة ثانية والمغرب صحيحة، ومعنى قولنا:
لا تصح، أي: لا تصح فرضاً تبرأ به الذمة، ولكنها تكون نفلاً يثاب
عليه.
وفيه شرط خامس: أن لا تكون صلاة الجمعة، فإنّه لا يصح أن يجمع
إليها العصر، وذلك لأن الجمعة صلاة منفردة مستقلة في شروطها
وهيئتها وأركانها وثوابها أيضاً، ولأن السنّة إنما وردت في الجمع
بين الظهر والعصر، ولم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه جمع
العصر إلى الجمعة أبداً، فلا يصح أن تقاس الجمعة على الظهر لما سبق
من المخالفة بين الصلاتين، بل حتى في الوقت على المشهور من مذهب
الحنابلة فوقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى العصر، والظهر من
الزوال إلى العصر وأيضاً الجمعة لا تصح إلا في وقتها، فلو خرج
الوقت تصلّى ظهراً، والظهر تصح في الوقت وتصح بعده للعذر.
وهذا الشرط يؤخذ من قول المؤلف رحمه الله: يجوز الجمع بين الظهرين،
فإن المراد بهما الظهر والعصر فلا يدخل في ذلك الجمعة والعصر.
ولكن لو قال قائل: أنا أريد أن أنوي الجمعة ظهراً؛ لأني مسافر
وصلاة الظهر في حقي ركعتان يعني على قدر الجمعة؟
فنقول: هذه النية لا تصح على قول من يقول: إنه يشترط اتفاق نية
الإِمام والمأموم، لأنهم لم يستثنوا من هذه المسألة إلا من أدرك من
الجمعة أقل من ركعة فإنه يدخل مع الإِمام بنية الظهر لتعذر الجمعة
في حقه، أما هذه فهي ممكنة فلا يصح أن ينوي الظهر خلف من يصلّي
الجمعة، وهذا القول واضح أنه لا يصح أن ينويها ظهراً.
أما على القول الراجح: أن نية الإِمام والمأموم[(576)] لا يضر
الاختلاف بينهما فإنه يصح، ولكننا نقول: لا تنوها ظهراً؛ لأنك إذا
نويتها ظهراً حرمت نفسك أجر الجمعة وأجر الجمعة أكبر بكثير من أجر
الظهر، فكيف تحرم نفسك أجر الجمعة، من أجل الجمع؟ والأمر يسير:
اُتْرُك العصر حتى يدخل وقتها ثم صلّها.
ولأن في نية صلاة الظهر قبل فوات الجمعة ممن تلزمه الجمعة إذا
حضرها نظراً، لأن صلاة الظهر قبل فوات الجمعة ممن تلزمه غير صحيحة.
ووجه اشتراط كون العذر موجوداً عند افتتاح الثانية: أن افتتاح
الثانية هو محل الجمع، أي: الذي حصل به الجمع.
وهذا صحيح، أي: يشترط أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الثانية.
وهل يشترط أن يكون موجوداً إلى انتهاء الثانية؟ الجواب: لا.
فلو فرض أن الجمع كان لمطر، وأن المطر استمر إلى أن صلّوا ركعتين
من العشاء ثم توقف، ولم يكن هناك وحل؛ لأن الأسواق مفروشة بالزفت،
فلا يبطل الجمع؛ لأنه لا يشترط استمرار العذر إلى الفراغ من
الثانية، ومثل ذلك: لو أن الإِنسان جمع لمرض وفي أثناء الصلاة
الثانية ارتفع عنه المرض، فإن الجمع لا يبطل؛ لأنه لا يشترط
استمرار العذر إلى الفراغ من الثانية.
وَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ: اشْتُرِطَ نِيَّةُ
الجَمْعِ فِي وَقْتِ الأُوْلَى إِنْ لَمْ يَضِقْ عَنْ فِعْلِهَا،
وَاسْتِمْرَارُ العُذْرِ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ.
قوله: «وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى» أي:
إذا نوى الجمع في وقت الثانية، فيشترط أن ينوي الجمع في وقت
الأولى، لأنه لا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر إلا بنية
الجمع حيث جاز.
ودليل عدم جواز تأخير الصلاة عن وقتها: أن النبي صلّى الله عليه
وسلّم حدد الصلوات في أوقات معينة[(577)]، فلا يجوز أن تؤخر الصلاة
الأولى عن وقتها إلا بنية الجمع حيث وجد سببه، فلا بد من نية الجمع
قبل خروج وقت الأولى.
قوله: «إن لم يضق عن فعلها» أي: إن لم يضق وقت الأولى عن فعلها،
فإن ضاق عن فعلها لم يصح الجمع؛ لأن تأخير الصلاة حتى يضيق وقتها
عن الفعل محرم والجمع رخصة، والرخص لا تستباح بالمحرم، فلو أن
رجلاً مسافراً مضى عليه الوقت، فلما بقي عليه من الوقت ما يضيق عن
فعل صلاة الظهر نوى جمع الظهر إلى العصر، فلا تصح هذه النية لأنه
يحرم تأخير الصلاة حتى يضيق الوقت، إذ إن الواجب أن يصلي الصلاة
كلها في الوقت.
فنقول: صلِّ الصلاة الآن حسب ما أدركت من وقتها واستغفر الله عن
التأخير، وسيدخل وقت الثانية قبل تمام صلاتك فصلها ولكن لا على أنه
جمع، بل على أنه أداء في أول الوقت.
قوله: «واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية» أي: يشترط لصحة الجمع
أن يستمر العذر إلى دخول الثانية فإن لم يستمر فالجمع حرام.
وهذا هو الشرط الثاني لجمع التأخير.
مثاله: رجل مسافر نوى جمع التأخير، ولكنه قدم إلى بلده قبل خروج
وقت الأولى فلا يجوز له أن يجمع الأولى إلى الثانية، لأن العذر
انقطع وزال فيجب أن يصلّيها في وقتها، وهذه مسألة تشكل على كثير من
الناس، فكثير منهم ينوي جمع التأخير، ويقدم بلده قبل أن يخرج وقت
الأولى فلا يصلّيها؛ لأنه نوى الجمع وهذا خطأ، بل الواجب أن يصليها
في وقتها فإذا دخل وقت الثانية صلاّها، إلا أن يكون مجهداً يشق
عليه انتظار دخول الثانية لاحتياجه إلى النوم مثلاً، فيجوز له
الجمع حينئذ للمشقة لا للسفر. ولكن هل يصلّيها أربعاً أو يصلّيها
ركعتين؟
الجواب: يصلّيها أربعاً؛ لأن علة القصر السفر وقد زال.
فإذا قال: قد دخل عليّ الوقت وأنا مسافر فوجبت علي مقصورة؟
فنقول: نعم وجبت عليك مقصورة؛ لأنك في سفر والآن ذمتك مشغولة بها،
وما دامت مشغولة فإنك إذا وصلت البلد وجبت عليك تامة، وبهذا نعرف:
أن القول الصحيح أن الإِنسان إذا دخل عليه الوقت وهو في البلد ثم
سافر قبل أن يصلّي فله القصر؛ لأنه سافر وذمته مشغولة بها والمسافر
يقصر الصلاة، فالعبرة في قصر الصلاة وعدمه... بفعل الصلاة لا
بوقتها على القول الصحيح، فإذا دخل عليك الوقت وأنت مسافر وقدمت
البلد قبل الصلاة فصلّها أربعاً، وإذا دخل عليك الوقت وأنت مقيم
وسافرت فصلّها ركعتين.
وفي قوله: «واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية» ولم يذكر
الموالاة إشارة إلى عدم اشتراط الموالاة؛ لأن الموالاة في جمع
التأخير ليست بشرط فلو أنه جمع جمع تأخير، ودخل وقت الثانية وصلّى
الأولى، وبقي ساعة أو ساعتين ثم صلّى الثانية، فالجمع صحيح؛ لأن
الموالاة شرط في جمع التقديم، وليست شرطاً في جمع التأخير.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة شرط في جمع التأخير كالتقديم.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة ليست شرطاً لا في التقديم ولا
في التأخير.
فالأقوال إذاً ثلاثة:
الأول: أن الموالاة ليست شرطاً لا في جمع التقديم ولا التأخير،
وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية.
والثاني: أنها شرط في الجمعين؛ لأن الجمع هو الضم، وهذا قول بعض
العلماء.
والثالث: التفريق، فتشترط الموالاة في جمع التقديم، ولا تشترط في
جمع التأخير، وهذا هو المشهور من المذهب.
مسألة: رجل مسافر ونوى جمع التأخير وخرج وقت الأولى، وهو في السفر
وقدم البلد في وقت الثانية فله الجمع؛ لأنه سوف يصلّي الأولى ثم
يصلّي الثانية، لكن لا يقصر؛ لأنه انتهى مبيح القصر وهو السفر.
فَصْلٌ
وَصَلاَةُ الخَوْفِ صَحَّتْ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم
بِصِفَاتٍ كُلّهَا جَائِزَةٌ......
قوله: «فصل: وصلاة الخوف» إلخ، هذا العذر الثالث من الأعذار،
فالعذر الأول: السفر، والثاني: المرض ونحوه، والثالث: الخوف، أي:
الخوف من العدو أي عدو كان، آدمياً أو سبعاً، مثل: أن يكون في أرض
مسبعة فيحتاج إلى صلاة الخوف، لأنه ليس بشرط أن يكون العدو من بني
آدم، بل أي عدو كان يخاف الإِنسان على نفسه منه، فإنها تشرع له
صلاة الخوف.
قوله: «صحّت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بصفات كلها جائزة» أي:
وردت في السنّة بصفاتٍ وهي ستة أوجه، أو سبعة أوجه عن النبي صلّى
الله عليه وسلّم.
وقول المؤلف: «كلها جائزة» ظاهره: أن كل صفة منها تجوز في أي موضع،
ولكن قد نقول: إن هذه الصفات من الصلاة لا يجوز نوع منها إلا في
موضعه الذي صلاّها النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه، ونذكر صفتين
منها:
الصفة الأولى: ما يوافق ظاهر القرآن، وهي: أن يقسم قائد الجيش جيشه
إلى طائفتين، طائفة تصلّي معه، وطائفة أمام العدو، لئلا يهجم،
فيصلّي بالطائفة الأولى ركعة، ثم إذا قام إلى الثانية أتموا
لأنفسهم أي: نووا الانفراد وأتموا لأنفسهم، والإِمام لا يزال
قائماً، ثم إذا أتموا لأنفسهم ذهبوا ووقفوا مكان الطائفة الثانية
أمام العدو، وجاءت الطائفة الثانية ودخلت مع الإِمام في الركعة
الثانية، وفي هذه الحال يطيل الإِمام الركعة الثانية أكثر من
الأولى لتدركه الطائفة الثانية، وهذه مستثناة مما سبق في باب صلاة
الجماعة[(578)]: أنه يسنّ تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية،
فتدخل الطائفة الثانية مع الإِمام فيصلّي بهم الركعة التي بقيت، ثم
يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد قامت هذه الطائفة من السجود رأساً
وأكملت الركعة التي بقيت وأدركت الإِمام في التشهد فيسلم بهم.
وهذه الصفة موافقة لظاهر القرآن، قال الله تعالى: {{وَإِذَا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}} إذا سجدوا، أي: أتموا الصلاة
{{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى}} وهي التي أمام العدو {{لَمْ
يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ}}، ولكن الله عزّ وجل قال للطائفة الثانية:
{{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}} [النساء: 102]
وللطائفة الأولى قال: {{وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}} فلماذا؟
الجواب: لأن الطائفة الثانية الخوف عليها أشد، فإن العدو قد يكون
قد تأهب لما رأى الجيش انقسم إلى قسمين وأعدّ العدة للهجوم، فلهذا
أمر الله بأخذ الحذر والأسلحة.
وهذه الصفة في صلاة الخوف خالفت الصلاة المعتادة في أمور منها:
أولاً: انفراد الطائفة الأولى عن الإِمام قبل سلامه.
ثانياً: أن الطائفة الثانية قضت ما فاتها من الصلاة قبل سلام
الإِمام.
أما الأمر الأول: وهو انفراد المأموم عن الإِمام فهذا جائز في كل
عذر طرأ للمأموم فمن ذلك:
إذا أطال الإِمام الصلاة إطالة خارجة عن السنّة فللمأموم أن ينفرد،
ودليله: حديث معاذ بن جبل «حينما أمّ قومه فأطال بهم القراءة
فانفرد رجل منهم وصلّى وحده»[(579)] ولم ينكر عليه النبي صلّى الله
عليه وسلّم حين بلغه ذلك.
ومن ذلك: إذا كان الإِمام يسرع في الصلاة إسراعاً لا يتمكن المأموم
معه من الطمأنينة، فإن الواجب أن ينفرد.
ومن ذلك: إذا طرأ على المأموم عذر مثل: احتباس بوله، أو ريح أشغلته
أو تقيؤ، أو ما أشبه ذلك، فله أن ينفرد لتعذر المتابعة حينئذٍ بشرط
أن يكون في انفراده فائدة، بحيث يكون أسرع من إمامه بدون إخلال
بالواجب.
ومن ذلك أيضاً: على القول الراجح إذا تعذرت المتابعة شرعاً مثل: أن
تكون صلاة المأموم أنقص من صلاة الإِمام كرجل يصلّي المغرب خلف من
يصلّي العشاء، فإن القول الصحيح جواز ذلك فإذا قام الإِمام إلى
الرابعة انفرد المأموم وسلم، وإن شاء انتظر في التشهد حتى يصله
الإِمام، وأما انفراد المأموم بلا عذر فالقول الصحيح أنه يبطل
الصلاة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما جعل الإِمام ليؤتم
به فلا تختلفوا عليه»[(580)].
وأما الأمر الثاني: وهو أن الطائفة الثانية في الصفة التي ذكرنا
تقضي ما فاتها من الصلاة قبل سلام الإِمام، فهذا لا نظير له في
صلاة الأمن، بل إن المأموم في صلاة الأمن يقضي ما فاته بعد سلام
إمامه.
الصفة الثانية: إذا كان العدو في جهة القبلة، فإن الإِمام يصفهم
صفين ويبتدئ بهم الصلاة جميعاً، ويركع بهم جميعاً ويرفع بهم
جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف الأول فقط ويبقى الصف الثاني قائماً
يحرس، فإذا قام قام معه الصف الأول ثم سجد الصف المؤخر، فإذا قاموا
تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم صلّى بهم الركعة الثانية
قام بهم جميعاً وركع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف المقدم
الذي كان في الركعة الأولى هو المؤخر، فإذا جلس للتشهد سجد الصف
المؤخر، فإذا جلسوا للتشهد سلم الإِمام بهم جميعاً، وهذه لا يمكن
أن تكون إلا إذا كان العدو في جهة القبلة.
تنبيه: ظاهر كلام المؤلف أن الصفة الأولى جائزة وإن كان العدو في
جهة القبلة، ولكن الصحيح أنها لا تجوز في هذه الحال، وذلك لأن
الناس يرتكبون فيها ما لا يجوز بلا ضرورة، لأنهم إذا كان العدو في
جهة القبلة فلا ضرورة إلى أن ينقسموا إلى قسمين قسم يصلّي معه وقسم
وجاه العدو.
أما بقية الصفات فمذكورة في الكتب المطولة ونحن نقتصر على هاتين
الصفتين.
ولكن إذا قال قائل: لو فرض أن الصفات الواردة عن النبي صلّى الله
عليه وسلّم لا يمكن تطبيقها في الوقت الحاضر؛ لأن الوسائل الحربية
والأسلحة اختلفت؟
فنقول: إذا دعت الضرورة إلى الصلاة في وقت يخاف فيه من العدو،
فإنهم يصلّون صلاة أقرب ما تكون إلى الصفات الواردة عن النبي صلّى
الله عليه وسلّم إذا كانت الصفات الواردة عن النبي صلّى الله عليه
وسلّم لا تتأتى، لقول الله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] .
مسألة: إذا اشتد الخوف فهل يجوز أن تؤخر الصلاة عن الوقت؟
في هذا خلاف بين العلماء: فمنهم من يقول: لا يجوز تأخير الصلاة عن
وقتها، ولو اشتد الخوف، بل يصلّون هاربين وطالبين إلى القبلة، وإلى
غيرها يومئون بالركوع والسجود، لقوله تعالى: {{فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}} [البقرة: 236] .
ومنهم من قال: يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إذا اشتد الخوف، بحيث لا
يمكن أن يتدبر الإِنسان ما يقول أو يفعل، أي: إذا كان يمكن أن
يتدبر ما يقول أو يفعل في الصلاة فليصل على أي حال، لكن إذا كانت
السهام والرصاص تأتيه من كل جانب ولا يمكن أن يستقر قلبه ولا يدري
ما يقول، ففي هذه الحال يجوز تأخير الصلاة، وهذا مبني على «تأخير
النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلاة في غزوة الأحزاب»[(581)]، هل هو
منسوخ أو مُحْكَمْ؟
والصحيح: أنه محكم إذا دعت الضرورة القصوى إلى ذلك، بمعنى أن الناس
لا يقر لهم قرار، وهذا في الحقيقة لا ندركه ونحن في هذا المكان،
وإنما يدركه من كان في ميدان المعركة، فلا بأس أن تؤخر الصلاة إلى
وقت الصلاة الأخرى، أما إذا كانت صلاة جمع فالمسألة لا إشكال فيها،
كتأخير الظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء، وأما إذا كانت لا تجمع
إلى الأخرى كالعشاء إلى الفجر والفجر إلى الظهر والعصر إلى المغرب،
فهذا محل الخلاف.
وذكر في الروض: أنه يشترط لجواز صلاة الخوف أن يكون القتال مباحاً،
والقتال المباح: هو قتال الكفار أو قتال المدافعة[(582)].
أما قتال الهجوم على من لا يحل قتاله فإن ذلك لا يجيز صلاة الخوف،
بل نقول لمن قاتل على هذا الوجه: يجب عليك أن تكف عن القتال.
والقتال المباح أنواع: قتال الكفار، وقتال المدافعة، وقتال من
تركوا صلاة العيد، أو الأذان أو الإِقامة، وغير ذلك من شعائر
الإِسلام الظاهرة، وقتال الطائفة المعتدية فيما إذا اقتتلت طائفتان
من المؤمنين فإن الله يقول: {{بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ
إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلَى}}.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فِي صَلاَتِهَا مِنَ
السِّلاَحِ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلاَ يَشْغُلُهُ
كَسَيْفٍ وَنَحْوِهِ.
قوله: «ويستحب أن يحمل» أفاد أن حمل السلاح في صلاة الخوف مستحب
وهذا ما ذهب إليه كثير من أهل العلم.
والصحيح أن حمل السلاح واجب، لأن الله أمر به فقال: {{فَلْتَقُمْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}}
[النساء: 102] ولأن ترك حمل السلاح خطر على المسلمين، وما كان
خطراً على المسلمين فالواجب تلافيه والحذر منه.
قال العلماء: وفي هذه الحال لو فرض أن السلاح متلوث بدم نجس فإنه
يجوز حمله للضرورة، ولا إعادة عليه، وهو كذلك.
قوله: «في صلاتها» ، أي: صلاة الخوف.
قوله: «ما يدفع به عن نفسه» يفيد أنه لا يحمل سلاحاً هجومياً، بل
يحمل سلاحاً دفاعياً، لأنه مشغول في صلاته عن مهاجمة عدوه، لكنه
مأمور أن يتخذ من السلاح الدفاعي ما يدفع به عن نفسه.
قوله: «ولا يشغله» يفهم منه أنه لا يحمل سلاحاً يشغله عن الصلاة،
لأنه إذا حمل ما يشغله عن الصلاة زال خشوعه، وأهم شيء في الصلاة
الخشوع، فهو لبُّ الصلاة وروحها، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه
وسلّم: «لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان»[(583)]، لأن
ذلك يذهب الخشوع، ويذكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشرها أو ربعها»[(584)]، فالخشوع
له أثر عظيم في صحة الصلاة، فاشترط المؤلف في حمل السلاح شرطين:
1 ـ أن يكون دفاعياً فقط.
2 ـ ألاّ يشغله.
قوله: «كسيف ونحوه» أي: كالسكين، والرمح القصير، وفي وقتنا
كالمسدس.
تم بحمد الله تعالى المجلد الرابع
ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد الخامس
وأوله باب صلاة الجمعة.
|