Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

www.2dabniraby.com

أهلاَ وسهلاَ بكم في موقع أدبني ربي نتمنى لكم وقت ممتع ومفيد

 

     

 

 

 

  الشرح الممتع على زاد المستقنع - المجلد الأول-

  • باب إزالة النجاسة

بابُ إِزالة النَّجَاسة

 

لما أنهى المؤلِّفُ رحمه الله تعالى الكلامَ على طهارة الحدث، بدأ بطهارة النَّجَسِ، لأن الطهارة الحسِّيَّة، إِما عن حَدَث، وإِما عن نجس.

وقد سبق تعريف الحدث[(771)].

والخبث: عينٌ مستقذرةٌ شرعاً.

قولنا: «عين»، أي: ليست وصفاً، ولا معنى.

قولنا: «شرعاً»، أي: الشَّرعُ الذي استقذرها، وحَكَمَ بنجاستها وخُبْثِهَا.

والنَّجاسة: إِما حُكميَّة، وإِما عينيَّة.

والمراد بهذا الباب النجاسة الحُكميَّة، وهي التي تقع على شيء طاهر فينجس بها.

وأما العينيَّة: فإِنه لا يمكن تطهيرها أبداً، فلو أتيت بماء البحر لتُطَهِّرَ روثة حمار ما طَهُرَت أبداً؛ لأن عينها نجسة، إِلا إِذا استحالت على رأي بعض العلماء، وعلى المذهب في بعض المسائل.

والنَّجاسة تنقسم إِلى ثلاثة أقسام:

الأول: مغلَّظة.

الثاني: متوسِّطة.

الثالث: مُخفَّفة.

 

يُجزِئ في غَسْلِ النجاسات كلِّها إذا كانت على الأرض غَسْلةٌ واحدةٌ تَذْهَبُ بعَيْنِ النجاسةِ وعلى غَيْرِها سَبْعٌ إِحْدَاها بتُرابٍ في نجاسةِ كَلْبٍ، وخِنْزيرٍ، .........

قوله: «يُجزِئ في غَسْلِ النَّجاسات كلِّها إِذا كانت على الأرض غَسْلةٌ واحدةٌ تَذْهَبُ بعَيْنِ النجاسةِ» ، هذا تخفيف باعتبار الموضع، فإِذا طرأت النَّجاسة على أرض؛ فإِنه يُشترَط لطِهَارتها أن تزول عَينُ النَّجاسة ـ أيًّا كانت ـ بغَسْلَة واحدة، فإِن لم تَزُلْ إِلا بغَسْلَتين، فَغَسْلَتان، وبثلاث فثلاث.

والدَّليل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم لما بال الأعرابيُّ في المسجد: «أريقوا على بوله ذَنُوباً من ماء»[(772)]، ولم يأمُرْ بعدد.

وإِن كانت النَّجاسة ذات جِرْمٍ، فلا بُدَّ أولاً من إِزالة الجِرْمِ، كما لو كانت عَذِرَة، أو دَمَاً جَفَّ، ثم يُتبع بالماء.

فإِن أزيلت بكلِّ ما حولها من رطوبة، كما لو اجتُثَّتِ اجْتِثاثاً، فإِنه لا يحتاج إِلى غَسْل؛ لأن الذي تلوَّث بالنَّجاسة قد أُزيل.

قوله: «وعلى غَيْرِها سَبْعٌ» ، أي: يُجزئ في غَسْل النَّجاسات على غير الأرض سَبْعُ غَسْلات، فلا بُدَّ من سَبْع، كلُّ غَسْلَة منفصلة عن الأخرى، فيُغسَلُ أولاً، ثم يُعصَر، وثانياً ثم يُعصَر، وهكذا إِلى سَبْع.

قوله: «إِحْدَاها بترابٍ في نجاسةِ كَلْبٍ وخِنْزيرٍ» ، أي: إِحدى الغَسْلات السَّبْعِ بتراب.

والدَّليل على ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي هريرة، وعبد الله بن مُغَفَّل: «أمَر إِذا وَلَغَ الكَلْب في الإِناء أن يُغْسَل سَبْع مرَّات»[(773)]، «إِحداهنَّ بالتُّراب»[(774)]، وفي رواية: «أولاهنَّ بالتُّراب»[(775)]. وهذه الرِّواية أخصُّ من الأُولى، لأن «إِحداهنَّ» يَشْمل الأُولى إِلى السابعة، بخلاف «أولاهنَّ» فإِنه يخصِّصه بالأولى، فيكون أَوْلى بالاعتبار، ولهذا قال العلماء رحمهم الله تعالى: الأَوْلَى أن يكون التُّراب في الأُولى[(776)] لما يلي:

1- ورود النَّصِّ بذلك.

2- أنه إِذا جُعل التُّراب في أوَّل غَسْلة خفَّت النَّجاسة، فتكون بعد أوَّل غَسْلة من النَّجاسات المتوسِّطة.

3- أنه لو أصاب الماء في الغَسْلة الثَّانية بعد التُّراب مَحلًّا آخرَ غُسِل سِتًّا بلا تراب، ولو جعل التُّراب في الأخيرة، وأصابت الغَسْلة الثانية محلًّا آخر غُسِل سِتًّا إِحداها بالتُّراب.

وقوله: «كَلْب» يشمل الأسودَ، والمُعلَّم وغيرهما، وما يُباح اقتناؤه وغيره، والصَّغير، والكبير.

ويشمل أيضاً لما تنجَّس بالولُوغ، أو البَول، أو الرَّوث، أو الرِّيق، أو العَرَق.

والدَّليل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذا وَلَغَ الكَلْبُ»، و«أل» هنا لحقيقة الجِنْس، أو لِعُموم الجِنْس، وعلى كلٍّ هي دالَّة على العموم.

فإِن قيل: ألا يكون في هذا مَشقَّة بالنِّسبة لما يُباح اقتناؤه؟

أجيب: بلى، ولكن تزول هذه المشقَّة بإِبعاد الكلب عن الأواني المستعمَلة، بأن يُخصَّص له أواني لطعامه وشرابه، ولا نخرجه عن العموم، إِذ لو أخرجناه لأخرجنا أكثر ما دلَّ عليه اللفظ، وهذا غير سديد في الاستدلال.

وقال بعض الظَّاهريَّة: إِنَّ هذا الحُكم فيما إِذا وَلَغَ الكلب، أما بَوْله، ورَوْثه فكسائر النَّجاسات[(777)]، لأنهم لا يَرَوْن القياس.

وجمهور الفقهاء قالوا: إِن رَوْثَهُ، وبوله كوُلُوغه، بل هو أخبث[(778)]، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم نَصَّ على الوُلُوغ، لأن هذا هو الغالب، إِذ إِن الكلب لا يبول ويروث في الأواني غالباً، بل يَلِغُ فيها فقط، وما كان من باب الغالب فلا مفهوم له، ولا يُخَصُّ به الحكم.

ورجَّحَ بعض المتأخِّرين مذهب الظَّاهريَّة[(779)]، لا من أجل الأخذ بالظَّاهر؛ ولكن من أجل امتناع القياس، لأن من شَرْط القياس مساواة الفرع للأصل في العِلَّة حتى يساويه في الحُكم، لأن الحكم مرتَّبٌ على العِلَّة، فإِذا اشتركا في العِلَّة اشتركا في الحكم، وإِلا فلا.

والفرق على قولهم: أَن لُعاب الكلب فيه دودة شريطيَّة ضارَّة بالإِنسان، وإِذا وَلَغَ انفصلت من لُعابه في الإِناء، فإِذا استعمله أحد بعد ذلك فإِنها تتعلَّق بمعدة الإِنسان وتخرقها، ولا يُتلفها إِلا التُّراب.

ولكن هذه العِلَّة إِذا ثبتت طبيًّا، فهل هي منتفية عن بوله، وروثه؟ يجب النَّظر في هذا، فإِذا ثبت أنها منتفية، فيكون لهذا القول وجه من النَّظر، وإِلا فالأحْوَط ما ذهب إِليه عامَّة الفقهاء، لأنك لو طهَّرته سبعاً إِحداها بالتُّراب لم يَقُل أحد أخطأت، ولكن لو لم تطهِّره سَبْع غسلات إِحداها بالتُّراب، فهناك من يقول: أخطأت، والإِناء لم يطهُر.

وقوله: «وخِنْزير»، الخنزير: حيوان معروف بفَقْدِ الغيرة، والخُبث، وأكلِ العَذِرة، وفي لحمه جراثيم ضارَّة، قيل: إِن النَّار لا تؤثِّر في قتلها، ولذا حَرَّمه الشَّارع.

والفقهاء ـ رحمهم الله ـ ألحقوا نجاسته بنجاسة الكلب؛ لأنه أخبث من الكلب، فيكون أوْلى بالحكْم منه.

وهذا قياس ضعيف؛ لأن الخنزير مذكور في القرآن، وموجود في عهد النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يَرِدْ إِلحاقه بالكلب.

فالصَّحيح: أن نجاسته كنجاسة غيره، فتُغسل كما تُغسل بقية النَّجاسات.

 

ويُجْزِئ عن التراب أشنانٌ، ونحوه.

قوله: «ويُجْزِئ عن التُّراب أشنانٌ ونحوه» ، الأشنان: شجر يُدَقُّ ويكون حبيبات كحبيبات السُّكَّر أو أصغر، تغسل به الثِّياب سابقاً، وهو خشن كخشونة التُّراب، ومنظِّف، ومزيل، ولهذا قال المؤلِّف: «يجزئ عن التُّراب» في نجاسة الكلب.

وهذا فيه نظر لما يلي:

1- أن الشارع نَصَّ على التُّراب، فالواجب اتِّباع النَّصِّ.

2- أن السِّدْر والأشنان كانت موجودة في عهد النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يُشرْ إِليهما.

3- لعل في التُّراب مادة تقتل الجراثيم التي تخرج من لُعاب الكلب.

4- أن التُّراب أحد الطهورين، لأنه يقوم مقام الماء في باب التيمُّم إِذا عُدِم. قال صلّى الله عليه وسلّم: «وجُعِلت لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً»[(780)]، فرُبَّما كان للشَّارع ملاحظات في التُّراب فاختاره على غيره؛ لكونه أحد الطَّهورين، وليس كذلك الأشنان وغيره. فالصَّحيح: أنه لا يجزئ عن التُّراب، لكن لو فُرض عدم وجود التُّراب ـ وهذا احتمال بعيد ـ فإِن استعمال الأشنان، أو الصَّابون خير من عَدَمه.

وظاهر كلام المؤلِّف: أنَّ الكلب إِذا صادَ، أو أمسك الصَّيدَ بفمه، فلا بُدَّ من غسْل اللحم الذي أصابه فَمُهُ سبع مرَّات إِحداها بالتُّراب، أو الأشنان، أو الصَّابون، وهذا هو المذهب.

وقال شيخ الإِسلام: إِن هذا مما عَفَا عنه الشَّارع؛ لأنه لم يَرِدْ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر بغَسْل ما أصابه فَمُ الكلب من الصَّيد الذي صاده[(781)].

وأيضاً: الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِذا وَلَغَ»[(782)]، ولم يقل: «إِذا عَضَّ»، فقد يخرج من معدته عند الشرب أشياء لا تخرج عند العضِّ. ولا شَكَّ أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يغسلون اللحم سبع مرات إِحداها بالتُّراب، ومقتضى ذلك أنه معفوٌّ عنه، فالله سبحانه هو القادر وهو الخالق وهو المشرِّع، وإِذا كان معفوًّا عنه شرعاً زال ضرره قدراً، فمثلاً الميتة نجسة، ومحرَّمة، وإِذا اضطُرَّ الإِنسان إِلى أكلها صارت حلالاً لا ضرر فيها على المضطرِّ.

والحمار قبل أن يُحرَّم طيِّب حلالُ الأكل، ولما حُرِّمَ صار خبيثاً نجساً.

فالصَّحيح: أنه لا يجب غسل ما أصابه فَمُ الكلب عند صيده لما تقدَّم، لأن صيد الكلب مبنيٌّ على التَّيسير في أصله؛ وإِلا لجاز أن يُكلِّفَ الله عزّ وجل العباد أن يصيدوها بأنفسهم؛ لا بالكلاب المعلَّمة، فالتيسير يشمل حتى هذه الصُّورة، وهو أنه لا يجب غَسْل ما أصابه فَمُ الكلب، وأن يكون مما عَفَا الله تعالى عنه.

 

وفي نجاسةِ غَيْرها سَبْعٌ بلا تُرابٍ،...................

قوله: «وفي نجاسةِ غَيْرهما سَبْعٌ بلا تُرابٍ» ، أي: يجزئ في نجاسة غير الكلب والخنزير سبع غسلات بلا تُراب، فلا بُدَّ من سبع، بأن تُغسل أولاً، ثم تُعصر، ثم تغسل ثانياً، ثم تُعصر، وهكذا إِلى سبع غسلات، وإِن احتاج إِلى الدَّلك فلا بُدَّ من الدَّلك، وإِذا زالت النَّجَاسة بأوَّل غسلة، وبقي المحلُّ نظيفاً، لا رائحة فيه، ولا لون فلا يطهر إِلا بإِكمال السَّبع، وهذا هو المذهب.

واستدلُّوا: بما رُوي عن ابن عمر أنه قال: «أُمِرْنا بِغَسْل الأنجاس سَبْعاً»[(783)]، وإِذا قال الصَّحابي أُمِرنا فالآمر هو النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، فيكون من المرفوع حُكماً.

وقال بعض العلماء: إِنه لا بدَّ من ثلاث غسلات[(784)].

واستدلُّوا: بأن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يكرِّرُ الأشياء ثلاثاً، حتى في الوُضُوء أعلاه ثلاث مرات[(785)]، ولأن النَّجاسة لا تزول بدونها غالباً.

وقال آخرون: تكفي غَسْلة واحدة تزول بها عَيْن النَّجاسة، ويطهر بها المحلُّ[(786)].

واستدلُّوا على ذلك بما يلي:

1- قوله صلّى الله عليه وسلّم في دَمِ الحيض يُصيب الثَّوب: «تحتُّهُ ثم تَقْرُصُه بالماء، ثم تَنْضِحُهُ، ثم تُصَلِّي فيه»[(787)] ولم يذكر عدداً، والمقام مقامُ بيانٍ؛ لأنه جواب عن سؤال، فلو كان هناك عدد معتَبَر لَبيَّنَه النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا لمَّا كان الدَّمُ جافًّا، قال: تحتُّه أولاً، ولم يقُلْ تغسِلُه، مع أنه مع تكرار الغَسْل يمكن أن يزول، ولو كان جافًّا، لكن بدأ بالأسهل.

2- أن النَّجاسة عين خبيثة متى زالت زال حُكمها، وهذا دليل عقليٌّ واضح جداً، وعلى هذا فلا يُعتبر في إِزالة النَّجاسة عددٌ؛ ما عدا نجاسة الكلب فلا بُدَّ لإِزالتها من سبع غسلات إِحداها بالتُّراب للنَّصِّ عليه.

وأجيب عن حديث ابن عمر بجوابين:

1- أنَّه ضعيف، لا أصل له.

2- على تقدير صحَّته؛ فقد روى الإِمام أحمد رحمه الله حديثاً ـ وإِن كان فيه نظر ـ أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أُمِر بغسل الأنجاس سبعاً، ثم سأل الله التَّخفيف، فأُمِرَ بغسلها مرَّة واحدة[(788)]، فيُحمل حديث ابن عمر ـ إِن صحَّ ـ على أنه قَبْل النَّسْخ، فيَسقط الاستدلال به.

والصَّحيح: أنه يكفي غسلة واحدة تذهب بعين النَّجاسة، ويطهُر المحلُّ، ما عدا الكلب فعلى ما تَقدَّم.

فإِن لم تَزُلِ النَّجاسة بغسلةٍ زاد ثانية، وثالثة وهكذا، ولو عشر مرَّات حتى يطهُر المحلُّ، والدَّليل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم للاَّتي غسَّلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر؛ إِن رأيتنَّ ذلك»[(789)]. مع أن تطهير الميْت ليس عن نجاسة في الغالب، فإِذا كان كذلك ـ أي: التطهير الذي ليس عن نجاسة يُزاد فيه على السَّبع إِذا رأى الغاسل ذلك ـ فما كان عن نجاسة من باب أَوْلَى، بل يجب أن يُغسل حتى تطهُرَ النَّجاسة.

 

ولا يَطْهُرُ مُتَنَجِّسٌ بشمسٍ،..................................

قوله: «ولا يَطْهُرُ مُتَنَجِّسٌ بشمسٍ» ، المتنجِّس ما أصابته النَّجاسة.

وهو هنا نكِرة في سِيَاق النَّفي، فتعمُّ كلَّ متنجِّس، سواء كان أرضاً، أو ثوباً، أو فراشاً، أو جداراً، أو غير ذلك، فلا يطهُر بالشَّمس، يعني بذهاب نجاسته بالشمس، والدليل على ذلك:

1- قوله تعالى: {{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}} [الأنفال: 11] ، فجعل الله الماء آلة التَّطهير.

2- قوله صلّى الله عليه وسلّم في البحر: «هو الطَّهور ماؤه»[(790)].

3- قوله صلّى الله عليه وسلّم في الماء يُفطر عليه الصَّائم: «فإِنَّه طَهور»[(791)]، أي: تحصُل به الطَّهارة، فلم يذكر الله عزّ وجل ولا النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم شيئاً تحصُل به الطَّهارة سوى الماء.

4- حديث أنس رضي الله عنه: «أنَّ أعرابيًّا دخل المسجد، فبالَ في طائفة منه، فزجره النَّاس، فنهاهم النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، فلما قضى بوله، أمر بذَنوب من ماء فأُريق عليه»[(792)]، فلم يتركه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم للشَّمس حتى تطهِّره.

وهذا هو المشهور من المذهب، أنَّ الماء يُشْتَرَط لإِزالة النَّجاسة، فلو كان هناك شيء مُتنجِّس بادٍ للشمس كالبول على الأرض، ومع طول الأيام، ومرور الشمس عليه زال بالكلِّية، وزال تغيُّرُه فلا يطهُر، بل لا بُدَّ من الماء.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إِلى أن الشمس تُطَهِّرُ المتنجِّس، إِذا زال أثر النَّجاسة بها، وأنَّ عين النَّجاسة إِذا زالت بأيِّ مزيل طَهُر المحلُّ[(793)]، وهذا هو الصَّواب لما يلي:

1- أن النَّجاسةَ عينٌ خبيثة نجاستُها بذاتها، فإِذا زالت عاد الشيء إِلى طهارته.

2- أن إِزالة النَّجاسة ليست من باب المأمور، بل من باب اجتناب المحظور، فإِذا حصل بأيِّ سبب كان ثَبَتَ الحُكم، ولهذا لا يُشترط لإِزالة النّجاسة نيَّة، فلو نزل المطر على الأرض المتنجِّسة وزالت النَّجاسة طَهُرت، ولو توضَّأ إِنسان وقد أصابت ذراعَه نجاسةٌ ثم بعد أن فرغ من الوُضُوء ذكرها فوجدها قد زالت بماءِ الوُضُوء فإِن يده تطهر، إِلا على المذهب؛ لأنهم يشترطون سبع غسلات، والوُضُوء لا يكون بسبع.

والجواب عما استدلَّ به الحنابلة: أنه لا ينكر أن الماء مطهِّر، وأنه أيسر شيء تطُهَّر به الأشياء، لكن إِثبات كونه مطهِّراً، لا يمنع أن يكون غيره مطهراً، لأن لدينا قاعدة وهي: أن عدم السبب المعيَّن لا يقتضي انتفاء المسَبَّب المعين، لأن المؤثِّر قد يكون شيئاً آخر. وهذا الواقع بالنسبة للنجاسة. وعبَّر بعضهم عن مضمون هذه القاعدة بقوله: انتفاء الدَّليل المعيَّن لا يَستلزِم انتفاء المدلول؛ لأنَّه قد يَثْبُتُ بدليل آخر.

وأما بالنسبة لحديث أنس، وأَمْرِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بأن يُصَبَّ عليه الماء[(794)]، فإِنَّ ذلك لأجل المبادرة بتطهيره، لأن الشَّمس لا تأتي عليه مباشرة حتى تُطهِّره بل يحتاج ذلك إِلى أيام، والماء يُطهِّره في الحال، والمسجد يحتاج إِلى المبادرة بتطهيره؛ لأنه مُصلَّى النَّاس.

ولهذا ينبغي للإِنسان أن يُبادر بإِزالة النَّجاسة عن مسجده، وثوبه، وبَدَنِه، ومصلاَّه لما يلي:

1- أن هذا هو هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم.

2- أنَّه تخلُّص من هذا القَذَر.

3- لئلا يَرِدَ على الإِنسان نسيان، أو جهالة بمكان النَّجاسة فيُصلِّي مع النَّجاسة.

 

ولا رِيْحٍ، ولا دَلْكٍ، ولا استحالةٍ،.................................

قوله: «ولا ريح» ، أي لا يطهُر المتنجِّس بالرِّيح، يعني الهواء. هذا هو المشهور من المذهب.

والدَّليل: ما سبق أنَّه لا يُطَهِّر إِلا الماء.

والقول الثَّاني: أنه يطهُر المتنجِّس بالريح[(795)]، لكن مجرد اليُبْس ليس تطهيراً، بل لا بدَّ أن يمضي عليه زمن بحيث تزول عين النَّجاسة وأثرها، لكن يُستثنى من ذلك: لو كان المتنجِّس أرضاً رمليَّة؛ فحملت الرِّيح النَّجاسة وما تلوَّث بها، فزالت وزال أثرها؛ فإِنها تطهر.

قوله: «ولا دَلْكٍ» ، أي: لا يطهُر المتنجِّس بالدَّلكِ مطلقاً؛ سواء كان صقيلاً تذهبُ عينُ النَّجاسة بدلكه كالمرآة، أم غير صقيل، هذا هو المذهب.

والقول الثَّاني: أن المتنجِّس ينقسم إِلى قسمين:

الأول: ما يمكن إِزالة النَّجاسة بِدَلْكِه، وذلك إِذا كان صقيلاً كالمرآة والسَّيف، ومثل هذا لا يتشرَّب النَّجاسة، فالصَّحيح أنه يطهُر بالدَّلْكِ، فلو تنجَّست مرآة، ثم دَلَكْتَها حتى أصبحت واضحة لا دَنَسَ فيها فإِنها تطهُر.

الثاني: ما لا يمكن إِزالة النَّجاسة بِدَلْكِه؛ لكونه خشناً، فهذا لا يطهُر بالدَّلك، لأن أجزاءً من النَّجاسة تبقى في خلاله[(796)].

قوله: «ولا استحالةٍ» ، استحال أي: تحوَّل من حالٍ إِلى حال.

أي: أن النَّجاسة لا تطهر بالاستحالة؛ لأنَّ عينها باقية.

مثاله: رَوْثُ حمار أُوقِدَ به فصار رماداً؛ فلا يطهُر؛ لأن هذه هي عين النَّجاسة، وقد سبق أن النَّجاسة العينيَّة لا تطهُر أبداً[(797)]، والدُّخَان المتصاعد من هذه النَّجاسة نَجِسٌ على مقتضى كلام المؤلِّف؛ لأنه متولِّد من هذه النَّجاسة، فلو تلوَّث ثوب إِنسان، أو جسمه بالدُّخان وهو رطب، فلا بُدَّ من غَسْله.

مثال آخر: لو سقط كلبٌ في مَمْلَحَة «أرض ملح» واستحال، وصار مِلْحاً، فإِنه لا يطهُر، ونجاسته مغلَّظة.

ويَستَثنون من ذلك ما يلي:

1- الخَمْرَة تتخلَّل بنفسها[(798)].

2- العَلَقَة تتحول إِلى حيوان طاهر.

والصَّحيح: أنه لا حاجة لهذا الاستثناء، لأن الخَمْرة على القول الرَّاجح ليست نَجِسة كما سيأتي[(799)].

وأما بالنسبة للعَلَقة فلا حاجة لاستثنائها؛ لأنها وهي في معدنها الذي هو الرَّحم لا يُحكم بنجاستها، وإِن كانت نجسة لو خرجت.

ولذلك كان بول الإِنسان وعَذِرَتُه في بطنه طاهرين، وإِذا خرجا صارا نجسَين، ولأن المصلِّي لو حمل شخصاً في صلاته لَصحَّت صلاته؛ بدليل أنّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم حَمَلَ أُمامة بنت ابنته زينب، وهو يُصلِّي[(800)]، ولو حمل المُصلِّي قارورة فيها بول أو غائط لَبَطلت صلاتُه.

 

غَيْرَ الخَمْرَةِ .............................................

قوله: «غَيْرَ الخَمْرَة» ، الخَمْرُ: اسم لكل مُسكِر. هكذا فسَّره النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم[(801)].

والعجبُ ممن قال: إِنَّ الخمر لا يكون إِلا من نبيذ العنب، وقد قال أفصح العرب وأعلمهم: «كلُّ مسكرٍ خَمْر، وكلُّ مُسْكرٍ حرام» (801) ، مع أنَّه لو وُجِدَ ذلك في «القاموس المحيط» مثلاً ومؤلِّفه فارسيٌّ لسُلِّمَ به.

والخمر حرام بالكتاب، والسُّنَّة، وإِجماع المسلمين. ولهذا قال العلماء: مَن أنكر تحريمه وهو ممن لا يجهل ذلك كَفَرَ، ويُستتاب؛ فإِن تاب وإِلاَّ قُتِل؛ سواءٌ كانت من العنب، أم الشَّعير، أم البُرِّ، أم التَّمر، أم غير ذلك.

مسألة: نجاسة الخمر:

جمهور العلماء ـ ومنهم الأئمَّة الأربعة، واختاره شيخ الإِسلام ـ أنَّها نجسة[(802)]، واستدلُّوا بقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}} [المائدة: 90] . والرِّجس: النَّجَس؛ بدليل قوله تعالى: {{قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}} [الأنعام: 145] ، ولا مانع من أن تكون في الأصل طيِّبة؛ ثم تنقلب إِلى نجسة بعلَّة الإِسكار؛ كما أن الإِنسان يأكل الطَّعام وهو طيِّب طاهر ثم يخرج خبيثاً نجساً.

واستدلُّوا أيضاً بقوله تعالى: {{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}} [الإِنسان: 21] يعني في الجَنَّة، فدلّ على أنه ليس كذلك في الدُّنيا.

والصَّحيح: أنها ليست نجسة، والدَّليل على ذلك ما يلي:

1- حديث أنس رضي الله عنه: «أنَّ الخمرَ لمَّا حُرِّمت خرج النَّاس، وأراقوها في السِّكك»[(803)]، وطُرقات المسلمين لا يجوز أن تكون مكاناً لإِراقة النَّجاسة، ولهذا يَحرُم على الإِنسان أن يبولَ في الطَّريق؛ أو يصبَّ فيه النَّجاسة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون واسعة أو ضيِّقة كما جاء في الحديث: «اتقوا اللعَّانَين»، قالوا: وما اللعَّانَان يا رسول الله؟ قال: «الذي يَتَخَلَّى في طريق النَّاس أو في ظلِّهم[(804)]».

فقوله: «في طريق النَّاس» يعمُّ ما كان واسعاً وضَيِّقاً، على أنَّه يُقال: إِنَّ طُرقات المدينة لم تكن كلُّها واسعة، بل قد قال العلماء رحمهم الله: إِن أوسع ما تكون الطُّرقات سبعة أذرع، يعني عند التَّنازع[(805)].

فإِن قيل: هل عَلِم النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بإِراقتها؟

أجيب: إِنْ عَلِمَ فهو إِقرار منه صلّى الله عليه وسلّم ويكون مرفوعاً صريحاً، وإِن لم يَعْلَم فالله تعالى عَلِمَ، ولا يقرُّ عبادَه على مُنكَر، وهذا مرفوع حُكماً.

2- أنَّه لما حُرِّمت الخمر لم يؤمروا بِغَسْل الأواني بعد إِراقتها، ولو كانت نجسة لأُمروا بِغَسْلها، كما أُمروا بِغَسْل الأواني من لحوم الحُمُر الأهليَّة حين حُرِّمت في غزوة خيبر[(806)].

فإِن قيل: إِنَّ الخمر كانت في الأواني قبل التَّحريم، ولم تكن نجاستها قد ثبتت.

أُجيب: أنَّها لما حُرِّمت صارت نجسة قبل أن تُراق.

3- ما رواه مسلم أن رجلاً جاء براوية خمر فأهداها للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أما علمتَ أنَّها حُرِّمت؟» فَسَارَّةُ رجلٌ أنْ بِعْها، فقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «بِمَ سارَرْتَهُ؟»، قال: أمَرْتُهُ ببيعِهَا، فقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِن الذي حَرَّمَ شُرْبَها حَرَّمَ بَيْعَها»، ففتح الرجلُ المزادة حتى ذهب ما فيها[(807)]. وهذا بحضرة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يَقُلْ له: اغْسلِها، وهذا بعد التَّحريم بلا ريب.

4- أنَّ الأصل الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا دليل هنا. ولا يلزم من التحريم النجاسة؛ بدليل أن السُمَّ حرام وليس بنجس.

والجواب عن الآية: أنَّه يُراد بالنَّجاسةِ النَّجاسةُ المعنويَّة، لا الحسِّيَّة لوجهين:

الأول: أنها قُرِنَت بالأنصاب والأزلام والميسر، ونجاسة هذه معنويَّة.

الثاني: أن الرِّجس هنا قُيِّد بقوله: {{مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}} فهو رجسٌ عمليٌّ، وليس رجساً عينيّاً تكون به هذه الأشياء نجسة.

وأما قوله تعالى: {{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}} [الإِنسان: 21] ، فإِننا لا نقول بمفهوم شيء من نعيم الآخرة؛ لأننا نتكلَّم عن أحكام الدُّنيا.

وأيضاً: فكلُّ ما في الجنَّة طَهُور فليس هناك شيء نجس.

ثم إِن المراد بالطَّهور هنا الطَّهورُ المعنويُّ الذي قال الله فيه: {{لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ *}} [الصافات] وهذا متعيِّن؛ لأن لدينا سُنَّة عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بِعَدَمِ النَّجاسة.

ثم إِن شراب أهل الجنَّة ليس مقصوراً على الخمر، بل فيها أنهار من ماء ولَبَن وعسل، وكلُّها يُشرب منها، فهل يمكن أن يُقال: إِنَّ ماء الدنيا ولَبَنَها وعسَلَها نَجِس بمفهوم هذه الآية؟.

فإِن قيل: كيف تخالف الجمهور؟.

فالجواب: أن الله تعالى أمر عند التَّنازع بالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة، دون اعتبار الكثرة من أحد الجانبين، وبالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة يتبيَّن للمتأمِّل أنه لا دليل فيهما على نجاسة الخمر نجاسة حسيَّة، وإِذا لم يَقُم دليل على ذلك فالأصل الطَّهارة، على أننا بيَّنَّا من الأدلَّة ما يَدُلُّ على طهارته الطَّهارة الحسيَّة.

 

فَإِنْ خُلِّلَتْ أَوْ تَنَجَّسَ دُهْنٌ مائعٌ لم يَطْهُر،..............

قوله: «فإِن خُلِّلَتْ» ، الضَّمير يعود إِلى الخمرة، وتخليلها أن يُضاف إِليها ما يُذهِب شدَّتها المسْكِرة من نبيذ أو غيره، أو يصنع بها ما يذهب شدَّتها المسْكِرة.

والمشهور من المذهب: أنها إِذا خُلِّلَتْ لا تطهُر، ولو زالت شدَّتُها المسكرة، ولا فرق بين أن تكون خمرة خلاَّل، أو غيره؛ لأن بعض العلماء استثنى خمرة الخلاَّل وقال: إِنه يجوز تخليلُها[(808)]؛ لأن هذه هي كلُّ ماله، فإِذا منعناه من التَّخليل أفسدنا عليه ماله. ولكن الصَّحيح أنَّه لا فرق، وأن الخمر متى تخمَّرت أريقت؛ ولا يجوز أن تُتَّخذ للتَّخليل بخلاف ما إِذا تخلَّلت بنفسها فإِنها تطهُر وتحِلُّ.

واستدلُّوا: بأن زوال الإِسكار كان بفعل شيء محرَّم، فلم يترتَّب عليه أثره، إِذ التَّخليل لا يجوز؛ بدليل ما رواه أنس أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِل عن الخمر تُتَّخذ خَلًّا؟ ـ أي: تُحَوَّلُ خلًّا ـ قال: «لا»[(809)]. ولأن التَّخليل عمل ليس عليه أمْر الله، ولا رسوله، فيكون باطلاً مردوداً، فلا يترتَّبُ عليه أثرٌ كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ»[(810)].

وقال بعض العلماء: إِنها تطهُر، وتحلُّ بذلك، مع كون الفعل حراماً[(811)].

وعلّلوا: أنَّ عِلَّة النَّجاسة الإسكار، والإِسكار قد زال، فتكون حلالاً.

وقال آخرون: إِنْ خلَّلها مَنْ يعتقدُ حِلَّ الخمر كأهل الكتاب؛ اليهود والنَّصارى، حَلَّت، وصارت طاهرة. وإِن خلَّلها مَنْ لا تَحِلُّ له فهي حرام نجسة (811) ، وهو أقرب الأقوال. وعلى هذا يكون الخلُّ الآتي من اليهود والنَّصارى حلالاً طاهراً، لأنهم فعلوا ذلك على وجه يعتقدون حِلَّه، ولذا لا يُمنعون من شرب الخمر.

قوله: «أَوْ تَنَجَّسَ دُهْنٌ مائعٌ لم يَطْهُر» ، الدُّهن تارة يكون مائعاً، وتارة يكون جامداً، والمائع قيل: هو الذي يتسرَّب أو يجري إِذا فُكَّ وعاؤه، فإِن لم يتسرَّب فهو جامد. وقيل: هو الذي لا يمنع سريان النَّجاسة[(812)].

فإِذا كان جامداً، وتنجَّس، فإِنها تزال النَّجاسة، وما حولها.

مثاله: سقطت فأرة في وَدَكٍ جامد فماتت، فالطَّريق إِلى طهارته أن تأخذ الفأرة، ثم تقوِّر مكانها الذي سقطت فيه، ويكون الباقي طاهراً حلالاً.

وإِن كان مائعاً، فالمشهور من المذهب أنَّه لا يطهرُ، سواء كانت النجَّاسة قليلة أم كثيرة، وسواء كان الدُّهن قليلاً أم كثيراً، وسواء تغيَّر أم لم يتغيَّر، فمثلاً: إِذا سقطت شعرة فأرة في «دَبَّةٍ»[(813)] كبيرة مملوءة من الدُّهن المائع، فينجُس هذا الدُّهن ويفسد.

والصَّواب: أن الدُّهن المائع كالجامد؛ فتلقي النجاسة وما حولها، والباقي طاهر.

والدَّليل على ذلك ما يلي:

1- أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِل عن فأرة، وقعت في سَمْنٍ فقال: «ألقوها، وما حولها فاطْرَحُوهُ، وكُلُوا سمنَكم»[(814)]، ولم يفصِّلْ.

أما رواية: «إِذا كان جامداً، فألقوها وما حولها، وإِذا كان مائعاً، فلا تقربوه»[(815)]، فضعيفة كما ذكر ذلك شيخ الإِسلام[(816)].

2- أن الدُّهن لا تسري فيه النَّجاسة، سواء كان جامداً أم مائعاً، بخلاف الماء، فتنفذ فيه الأشياء.

لكن إِنْ كانت النَّجاسة قويَّة وكثيرة، والسَّمن قليل، وأثَّرت فيه فهل يمكن تطهيره؟.

قال بعض العلماء: لا يمكن؛ لأنَّ الأشياء لا تنفذ في الدُّهن[(817)]، فلو جئنا بماء، وصببناه فإِنه لا يدخل في الدُّهن، بل يبقى معزولاً.

وقال آخرون: يمكن تطهيره بأن يُغلى بماء حتى تزول رائحةُ النَّجاسة وطعمُها بعد إِزالة عين النَّجاسة (817) .

وهذا القول يَنْبَنِي على ما سبق وهو أن النَّجاسة عين خبيثة متى زالت زال حُكْمُها.

 

وإن خَفِي مَوْضِعُ نجاسةٍ غَسَل حَتَّى يَجْزِمَ بِزَوَالِهِ، .......

قوله: «وإِن خَفِيَ مَوْضِعُ نجاسةٍ غَسَل حَتَّى يَجْزِمَ بزَوالِهِ» ، يعني: إذا أصابت النَّجاسة شيئاً، وخفي مكانها، وجب غسل ما أصابته حتى يتيقَّن زوالها.

واعْلَم أنَّ ما أصابته النَّجاسة لا يخلو من أمرين:

إِما أن يكون ضيِّقاً، وإِمَّا أن يكون واسعاً.

فإِن كان واسعاً فإِنه يتحرَّى، ويغسل ما غلب على ظنِّه أنَّ النَّجاسة أصابته، لأن غسْل جميع المكان الواسع فيه صُعوبة.

وإِن كان ضيِّقاً، فإِنَّه يجب أن يَغسِل حتى يَجزِم بزوالها.

مثال ذلك: أصابت النَّجاسة أَحَدَ كُمَّي الثَّوب، ولم تعرف أيَّ الكُمَّين أصابته، فيجب غسل الكُمَّين جميعاً، لأنه لا يجزم بزوالها إِلا بذلك.

وكذا لو علمتَ أحدهما، ثم نسيتَ فيجب غسلهما جميعاً.

وكلامه رحمه الله يدلُّ على أنه لا يجوز التَّحرِّي ولو أمكن؛ لأنه لا بُدَّ من الجزم واليقين.

والصَّحيح: أنه يجوز التَّحرِّي، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الشَّكِّ في الصَّلاة: «فليتحرَّ الصَّواب، ثم ليتمَّ عليه»[(818)].

وعليه؛ إِذا كان للتَّحرِّي مجال، فتتحرَّى أيَّ الكُمَّين أصابته النَّجاسة، ثم تغسله.

مثال ذلك: لو مرَرْتَ بالنَّجاسة عن يمينك، وأصابك منها، ولا تدري في أيِّ الكُمَّين، فهنا الذي يغلب على الظَّن أنَّه الأيمن، فيجب عليك غسله دون الأيسر.

أما إِذا لم يكن هناك مجال للتَّحرِّي، فتغسل الكُمَّين جميعاً؛ لأنك لا تجزم بزوال النَّجاسة إِلا بذلك، فالأحوال أربع:

الأولى: أن تجزم بإِصابة النَّجاسة للموضعَين؛ فتغسِلهما جميعاً.

الثانية: أن تجزم أنَّها أصابت أحدهما بعينه؛ فتغسِله وحده.

الثالثة: أن يغلب على ظنِّك أنها أصابت أحدهما؛ فتغسله وحده على القول الرَّاجح.

الرَّابعة: أن يكون الاحتمالان عندك سواء؛ فتغسلهما جميعاً.

والمذهب: أن الثَّالثة كالرابعة؛ فتغسلهما جميعاً.

 

ويَطْهُرُ بَوْلُ غلامٍ لم يأكُل الطَّعامَ بنضْحِه،.............

قوله: «ويَطْهُرُ بَولُ غلامٍ» ، «بول»: خرج به الغائط. «غلام»: خرج به الجارية.

قوله: «لم يأكُل الطَّعامَ بنضْحِه» ، خرج من يأكل الطَّعامَ، أي: يتغذَّى به.

والنَّضح: أن تُتْبِعَهُ الماء دون فَرْكٍ، أو عَصْرٍ حتى يشمله كلَّه، والدَّليل على ذلك: حديث عائشة[(819)] وأُمِّ قيس بنت محصن الأسديَّة أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أُتِيَ بغلامٍ، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ فأتْبَعَهُ بَولَه؛ ولم يغسِلْه[(820)].

فإِن قيل: ما الحكمة أنَّ بَول الغلام الذي لم يَطْعَمْ يُنضح، ولا يُغسل كَبَول الجارية؟.

أُجيب: أنَّ الحكمة أن السُّنَّة جاءت بذلك، وكفى بها حكمة، ولهذا لما سُئِلَت عائشة رضي الله عنها: ما بَالُ الحائض تقضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة؟ فقالت: «كان يُصيبنا ذلك على عهد الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم فنُؤْمَر بقضاء الصَّوم، ولا نُؤْمَر بقضاء الصَّلاة»[(821)].

ومع ذلك التمس بعض العلماء الحكمة في ذلك[(822)]:

فقال بعضهم: الحكمة في ذلك التيسير على المكلَّف، لأن العادة أن الذَّكر يُحْمَل كثيراً، ويُفرح به، ويُحَبُّ أكثر من الأُنثى، وبوله يخرج من ثقب ضيِّق، فإِذا بال انتشر، فمع كثرة حمله، ورشاش بوله يكون فيه مشقَّة؛ فخُفِّفَ فيه.

وقالوا أيضاً: غذاؤه الذي هو اللبَن لطيف، ولهذا إذا كان يأكل الطَّعام فلا بُدَّ من غسل بوله، وقوَّته على تلطيف الغذاء أكبر من قوَّة الجارية.

وظاهر كلام أصحابنا أن التفريق بين بول الغلام والجارية أَمْرٌ تعبُّدي[(823)].

وغائط هذا الصبي كغيره لا بُدَّ فيه من الغَسْل.

وبَول الجارية والغلام الذي يأكل الطَّعام كغيرهما، لا بُدَّ فيهما من الغَسْل.

 

ويُعْفَى في غير مائعٍ ومَطْعُومٍ عن يسيرِ دمٍ نجسٍ ..........

قوله: «ويُعْفَى في غير مائعٍ ومَطْعُومٍ عن يسيرِ دمٍ نجسٍ» ، العفو: التَّسامح والتَّيسير. والمائع: هو السَّائل، كالماء، واللَّبَن، والمرَق: والمطعوم: ما يُطعَم كالخبز، وما أشبه.

فيُعفى في غير هذين النَّوعين كالثياب، والبدن، والفُرش، والأرض وما أشبه ذلك عن يسيرِ دمٍ نجس... إلخ.

أما المائع والمطعوم؛ فلا يُعفى عن يسيره فيهما، هذا هو المذهب، والرَّاجح: العفو عن يسيره فيهما كغيرهما ما لم يتغيَّر أحدُ أوصافهما بالدَّمِ.

واختلف العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في ميزان اليسير والكثير على قولين سبق بيانهما، والرَّاجح منهما[(824)].

قوله: «دم نجس»، عُلِمَ منه أن الدَّمَ الطَّاهر غير داخل في هذا؛ ويتبيَّن ذلك ببيان أقسام الدِّماء. فالدماء تنقسم إِلى ثلاثة أقسام:

الأول: نجس لا يُعْفَى عن شيء منه، وهو الدَّمُ الخارج من السَّبيلَين، ودم محرَّم الأكل إِذا كان مما له نَفْسٌ سائلة كدم الفأرة والحمار، ودم الميْتة من حيوان لا يحلُّ إِلا بالذَّكاة.

الثاني: نجس يُعْفَى عن يسيره، وهو دم الآدمي وكلُّ ما ميتته نجسة، ويُستثنى منه دَمُ الشَّهيد عليه، والمسك ووعاؤه، وما يبقى في الحيوان بعد خروج روحه بالذَّكاة الشَّرعيَّة؛ لأنَّه طاهر.

الثالث: طاهر، وهو أنواع:

1- دم السمك، لأن ميْتته طاهرة، وأصل تحريم الميتة من أجل احتقان الدَّمِ فيها، ولهذا إِذا أُنهِرَ الدَّمُ بالذَّبْح صارت حلالاً.

2- دم ما لا يسيل دمه؛ كدم البعوضة، والبقِّ، والذُّباب، ونحوها، فلو تلوَّث الثَّوب بشيء من ذلك فهو طاهر، لا يجب غَسْلُه[(825)].

وربما يُستدَلُّ على ذلك ـ بأنَّ ميْتة هذا النوع من الحشَرات طاهرة ـ بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذا وَقَع الذُّبابُ في شرابِ أحدكم، فلْيَغْمِسْهُ، ثم لينزِعْهُ، فإِن في أحد جناحَيه داء، وفي الآخر شفاء»[(826)].

ويلزم من غَمْسِه الموت إِذا كان الشَّراب حارًّا، أو دُهناً، ولو كانت ميْتته نجسة لتنجَّس بذلك الشَّراب، ولا سيَّما إِذا كان الإِناء صغيراً.

3- الدَّمُ الذي يبقى في المذكَّاة بعد تذكِيَتِها، كالدَّمِ الذي يكون في العُروق، والقلب، والطِّحال، والكَبِد، فهذا طاهر سواء كان قليلاً، أم كثيراً.

4- دَمُ الشَّهيد عليه طاهر، ولهذا لم يأمُر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، بغَسْل الشُّهداء من دمائهم[(827)]، إِذ لو كان نجساً لأمر النبيُّ بغسله.

وهل هو طاهر لأنَّه دم شهيد، وهذا ما ذهب إليه الجمهور[(828)]، أم أنَّه طاهر لأنه دم آدمي؟.

فعلى رأي الجمهور: لو انفصل عن الشَّهيد لكان نجساً. وعلى الرأي الثَّاني: هو طاهر؛ لأنَّه دم آدمي.

والقول بأن دم الآدمي طاهر ما لم يخرج من السَّبيلَين قول قويٌّ، والدَّليل على ذلك ما يلي.

1- أنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا نعلم أنَّه صلّى الله عليه وسلّم أمَر بغسل الدَّمِ إِلا دم الحيض، مع كثرة ما يصيب الإِنسان من جروح، ورعاف، وحجامة، وغير ذلك، فلو كان نجساً لبيَّنه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك.

2- أنَّ المسلمين ما زالوا يُصلُّون في جراحاتهم في القتال، وقد يسيل منهم الدَّمُ الكثير، الذي ليس محلاًّ للعفو، ولم يرد عنه صلّى الله عليه وسلّم الأمرُ بغسله، ولم يَرِدْ أنهم كانوا يتحرَّزون عنه تحرُّزاً شديداً؛ بحيث يحاولون التخلِّي عن ثيابهم التي أصابها الدَّم متى وجدوا غيرها.

ولا يُقال: إِن الصَّحابة رضي الله عنهم كان أكثرهم فقيراً، وقد لا يكون له من الثياب إِلا ما كان عليه، ولا سيَّما أنهم في الحروب يخرجون عن بلادهم فيكون بقاء الثِّياب عليهم للضَّرورة.

فيُقال: لو كان كذلك لعلمنا منهم المبادرة إِلى غسله متى وجدوا إِلى ذلك سبيلاً بالوصول إِلى الماء، أو البلد، وما أشبه ذلك.

3- أنَّ أجزاء الآدميِّ طاهرة، فلو قُطِعَت يده لكانت طاهرة مع أنَّها تحمل دماً؛ ورُبَّما يكون كثيراً، فإِذا كان الجزء من الآدمي الذي يُعتبر رُكناً في بُنْيَة البَدَن طاهراً، فالدَّم الذي ينفصل منه ويخلفه غيره من باب أولى.

4- أنَّ الآدمي ميْتَته طاهرة، والسَّمك ميْتته طاهرة، وعُلّل ذلك بأن دم السَّمك طاهر؛ لأن ميتته طاهرة، فكذا يُقال: إِن دم الآدمي طاهر، لأن ميتته طاهرة.

فإِن قيل: هذا القياس يُقابل بقياس آخر، وهو أنَّ الخارجَ من الإِنسان من بولٍ وغائطٍ نجسٌ، فليكن الدَّم نجساً.

فيُجاب: بأن هناك فرقاً بين البول والغائط وبين الدَّمِ؛ لأنَّ البول والغائط نجس خبيث ذو رائحة منتنة تنفر منه الطِّباع، وأنتم لا تقولون بقياس الدَّم عليه، إِذ الدَّم يُعْفَى عن يسيره بخلاف البول والغائط فلا يُعْفَى عن يسيرهما، فلا يُلحق أحدُهما بالآخر.

فإِن قيل: ألا يُقاس على دَمِ الحيض، ودم الحيض نجس، بدليل أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ المرأة أن تَحُتَّه، ثم تقرُصَه بالماء، ثم تَنْضِحَه، ثم تُصلِّي فيه[(829)]؟.

فالجواب: أن بينهما فرقاً:

أ- أن دم الحيض دم طبيعة وجِبِلَّة للنساء، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ هذا شيءٌ كتبه اللَّهُ على بنات آدم»[(830)]، فَبَيَّنَ أنه مكتوب كتابة قَدريَّة كونيَّة، وقال صلّى الله عليه وسلّم في الاستحاضة: «إِنَّه دَمُ عِرْقٍ»[(831)] ففرَّق بينهما.

ب- أنَّ الحيضَ دم غليظ منتنٌ له رائحة مستكرهة، فيُشبه البول والغائط، فلا يصحُّ قياس الدَّم الخارج من غير السَبيلَين على الدَّم الخارج من السَّبيلَين، وهو دم الحيض والنِّفاس والاستحاضة.

فالذي يقول بطهارة دم الآدمي قوله قويٌّ جداً؛ لأنَّ النَّصَّ والقياس يدُلاّن عليه.

والذين قالوا بالنَّجاسة مع العفو عن يسيره حكموا بحكمين:

أ- النَّجاسة.

ب- العفو عن اليسير.

وكُلٌّ من هذين الحُكْمَين يحتاج إِلى دليل، فنقول: أثبتوا أولاً نجاسة الدَّمِ، ثم أثبتوا أنَّ اليسير معفوٌّ عنه، لأنَّ الأصل أنَّ النَّجس لا يُعْفَى عن شيء منه، لكن من قال بالطَّهارة، لا يحتاج إِلا إِلى دليل واحد فقط، وهو طهارة الدَّم وقد سبق[(832)].

فإِن قيل: إِنَّ فاطمة رضي الله عنها كانت تغسل الدَّمَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أُحُد[(833)]، وهذا يدلُّ على النَّجاسة.

أُجيب من وجهين:

أحدهما: أنَّه مجرَّد فِعْل، والفعل المجرَّد لا يدلُّ على الوجوب.

الثاني: أنه يُحتَمَل أنَّه من أجل النَّظافة؛ لإِزالة الدَّم عن الوجه، لأنَّ الإِنسان لا يرضى أن يكون في وجهه دم، ولو كان يسيراً، فهذا الاحتمال يبطل الاستدلال.

 

من حيوانٍ طاهرٍ ............

قوله: «من حيوانٍ طاهرٍ» ، الحيوانات قسمان: طاهر، ونجس.

فالطَّاهر:

1- كلُّ حيوان حلال كبهيمة الأنعام، والخَيل، والظِّباء، والأرانب ونحوها.

2- كلُّ ما ليس له دم سائل فهو طاهر في الحياة، وبعد الموت، وسبق أن الدَّمَ من هذا الجنس طاهر[(834)].

والنَّجس: كل حيوان محرَّم الأكل؛ إِلا الهِرَّة وما دونها في الخِلْقة فطاهر على المذهب؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنَّه قُدِّمَ إِليه ماء ليتوضَّأ به، فإِذا بِهرَّة فأصغى لها الإِناء حتى شربت، ثم قال: إِن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال في الهِرَّة: «إِنها ليست بِنَجَسٍ، إِنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات»[(835)].

وسواء كان ما دون الهرة من الطوَّافين، أم لم يكن من الطَّوَّافين، حتى ولو كان لا يوجد في البيوت أبداً.

ولكن ظاهر الحديث: أن طهارتها لمشَقَّة التَّحرُّز منها؛ لكونها من الطوَّافين علينا؛ فيكثر تردُّدها علينا، فلو كانت نجسة؛ لَشقَّ ذلك على النَّاس.

وعلى هذا يكون مناطُ الحُكْمِ التَّطْوَافُ الذي تحصُل به المشقَّة بالتَّحرُّز منها، فكل ما شقَّ التَّحرُّز منه فهو طاهر.

فعلى هذا؛ البغل والحمار طاهران، وهذ هو القول الرَّاجح الذي اختاره كثير من العلماء[(836)].

 

وعَنْ أَثَرِ استجمارٍ بِمَحَلِّه، ........

قوله: «وعَنْ أَثَرِ استجمارٍ بِمَحَلِّه» ، أي: يُعفى عن أثر استجمار بمحلِّه.

والمراد: الاستجمار الشَّرعي، الذي تَمَّت شروطُه، وقد سبق ذلك في باب الاستنجاء[(837)].

فإِذا تَمَّتْ شروطُه، فإِنَّ الأثر الباقي بعد هذا الاستجمار يُعْفَى عنه في محلِّه، ولا يطهُر المحلُّ بالكُليَّة إِلا بالماء.

والدَّليل على هذا: أنه ثبت عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم الاقتصار على الاستجمار[(838)] في التَّنَزُّه من البول والغائط.

وعليه؛ فإِذا صلَّى الإِنسان وهو مستجمِر؛ لكنه قد توضَّأ؛ فصَلاته صحيحة، ولا يُقال: إِن فيه أثر النَّجاسة، لأن هذا الأثر معفوٌّ عنه في محلِّه.

ولو صلَّى حاملاً من استجمَر استجماراً شرعيًّا لعُفِيَ عنه أيضاً.

وعُلِم من قوله: «بمحلِّه» أنه لو تجاوز محلَّه لم يُعْفَ عنه، كما لو عَرِقَ وسال العَرَقُ، وتجاوز المحلَّ، وصار على سراويله أو ثوبه، أو صفحتي الدُّبر، فإِنه لا يُعْفَى عنه حينئذ، لأنه تعدَّى محلَّه.

وعُلِمَ من كلامه رحمه الله أنَّ الاستجمار لا يُطَهِّر، وأن أثره نجس، لكن يُعْفَى عنه في محلِّه.

والصَّحيح: أنه إِذا تَمَّتْ شروط الاستجمار، فإِنه مطَهِّر.

والدَّليل قوله صلّى الله عليه وسلّم في العظم والرَّوث: «إِنَّهما لا يُطَهِّران»[(839)]، وإِسناده جيد.

فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يُطَهِّران»، يدلُّ على أن الاستجمار بما عداهما ـ مما يباح به الاستجمار ـ يُطهِّر.

وبناءً على هذا القول ـ الذي هو الرَّاجح ـ لو تعدَّى محلَّه، وعَرِقَ في سراويله فإِنه لا يكون نجساً، لأنَّ الاستجمار مطهِّر، لكنَّه عُفي عن استعمال الماء تيسيراً على الأمة.

فهذان اثنان مما يُعْفَى عنهما:

1- يسير الدَّم النَّجس من حيوان طاهر.

2- أثر الاستجمار بمحلِّه.

وظاهر كلامه: أنه لا يُعفَى عن يسير شيء مما سواهما، فالقَيء مثلاً لا يُعْفَى عن يسيره، وكذلك البول، والرَّوث.

وللعلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في هذه المسألة أقوال[(840)]:

القول الأول: أنَّه لا يُعفَى عن اليسير مطْلقاً.

القول الثَّاني: المذهب على التَّفصيل السَّابق.

القول الثَّالث: أنه يُعفَى عن يسير سائر النَّجاسات.

وهذا مذهب أبي حنيفة[(841)]، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيميَّة[(842)] ولا سيَّما ما يُبتلَى به النَّاس كثيراً كبعر الفأر، وروثه، وما أشبه ذلك، فإِنَّ المشقَّة في مراعاته، والتطهُّر منه حاصلة، والله تعالى يقول: {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] .

وكذلك أصحاب الحيوانات التي يمارسونها كثيراً، كأهل الحمير مثلاً، فهؤلاء يشقُّ عليهم التحرُّز من كُلِّ شيء.

والصَّحيح: ما ذهب إِليه أبو حنيفة، وشيخ الإِسلام، لأنَّنا إِذا حكمنا بأن هذه نجِسة، فإِمَّا أن نقول: إِنَّه لا يُعفَى عن يسيرها كالبول والغائط؛ كما قال بعض العلماء، وإِما أن نقول بالعَفْوِ عن يسير جميع النَّجاسات، ومن فرَّق فعليه الدَّليل.

فإِن قيل: إِنَّ الدَّليلِ فِعْلُ الصَّحابة حيث كانوا يُصلُّون بثيابهم، وهي ملوَّثة بالدَّم من جراحاتهم.

فنقول: إِنَّه دليل على ما هو أعظم من ذلك وهو طهارة الدَّمِ.

ومن يسير النَّجاسات التي يُعْفَى عنها لمشَقَّةِ التَّحرُّز منه: يسير سَلَسِ البول لمن ابتُلي به، وتَحفَّظ تحفُّظاً كثيراً قدر استطاعته.

 

ولا يَنجُسُ الآدمِيُّ بالمَوْتِ.

قوله: «ولا يَنجُسُ الآدمِيُّ بالمَوْتِ» ، الآدمي: مَنْ كان من بني آدم من مؤمن، وكافر، وذكر، وأنثى، وصغير، وكبير، فإِنه لا يَنْجُسُ بالموت.

1- لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِن المؤمن لا يَنجُسَ»[(843)].

2- قوله صلّى الله عليه وسلّم فيمن وَقَصَتْه ناقته: «اغسلوه بماءٍ وسِدْر»[(844)].

3- قوله صلّى الله عليه وسلّم لمن غَسَّلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إِن رأيتنَّ ذلك»[(845)].

وهذا يدلُّ على أن بَدَنَ الميْت ليس بِنَجِس، لأنَّه لو كان نجساً لم يُفِد الغسل فيه شيئاً، فالكلب مثلاً لو غسَلْتَه ألف مرَّة لم يطهر؛ ولولا أن غسل بَدَنِ الميْت يؤثِّر فيه بالطَّهارة لكان الأمْرُ بغسله عبثاً.

فإِن قيل: إِن هذا ظاهر في المؤمن أنَّه لا يَنْجُس، أما بالنسبة للمشرك فكيف يُقال: لا يَنْجُس، والله يقول: {{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}} [التوبة: 28] .

فالجواب: أنَّ المراد بالنَّجاسة هنا النَّجاسة المعنويَّة؛ بدليل أنَّ الله تعالى أباح لنا أن نتزوَّج نساء أهل الكتاب، وأن نأكل طعامهم، مع أنَّ أيديهم تلامسه؛ والإِنسان يلامس زوجته إِذا كانت من أهل الكتاب، ولم يَرِدْ أَمْرٌ بالتَّطَهُّر مِنْهنَّ؛ وهذا هو القول الصَّحيح.

وقال بعض العلماء: إن الكافر يَنجُس بالموت[(846)]، واستدلُّوا بما يلي:

1- منطوق الآية السَّابقة.

2- مفهوم الحديث السَّابق.

3- أنه لا يُغَسَّل، وإِذا كان لا يُغَسَّل، فالعِلَّة فيه أنه نَجِسُ العين، وما كان نَجِس العين فإِن التَّغسيل لا يفيد فيه.

ورُدَّ هذا: بأن المراد بالنَّجس في الآية النَّجاسة المعنويَّة؛ للأدلَّة التي استدلَّ بها من قال بطهارة بَدَنِ الكافر، وكذلك يُجاب عن مفهوم حديث: «إِن المؤمن لا يَنجُس». وأما عَدَم تغسيله: فلأن تغسيل الميت إِكرام؛ والكافر ليس محلًّا للإِكرام.

 

وما لا نَفْسَ له سائِلَةٌ مُتَولِّد مِنْ طَاهرٍ .......................

قوله: «وما لا نَفْسَ له سائِلَةٌ متَولِّد مِنْ طاهر» ، الصَّواب في قوله: «متولِّد» من حيث الإِعراب أن يكون «متولداً» بالنَّصب لأنّه حال، ولهذا قدَّر في «الروض» مبتدأ ليستقيمَ الرَّفع فقال: «وهو متولِّد»[(847)].

وقوله: «نَفْس»، أي: دم. وقوله: «سائلة»، أي: يسيل إِذا جُرِح، أو قُتِل.

وقوله: «متولِّد من طاهر»، أي مخلوق من طاهر.

فاشترط المؤلِّف رحمه الله شرطين:

الأول: ألا يكون له نَفْس سائلة.

الثاني: أن يكون متولِّداً من طاهر، فهذا لا يَنْجُس بالموت، وكذلك لا يَنْجُس في الحياة من باب أَوْلَى.

مثال ذلك: الصَّراصير، والخنفساء، والعقرب، والبَقُّ (صغار البعوض)، والبعوض، والجراد.

فإِذا سَقَطَتْ خنفساء في ماء وماتت فيه، فلا يَنْجُس؛ لأنها طاهرة.

وأما الوزغُ؛ فقد قال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى: «إِنَّ له نَفْساً سائلة»[(848)]، وعلى هذا تكون ميتته نَجِسَة، والفأرة لها نَفْس سائلة، فإِذا ماتت فهي نَجِسَة.

ومفهوم قـولـه: «متولِّد من طَاهرٍ»، أنَّه إِذا تولَّد من نَجِسٍ فهو نَجِسٌ، وهذا مبنيٌّ على أنَّ النَّجس لا يطهُر بالاستحالة.

وأمَّا على قول من يقول: بأنَّ النَّجس يطهر بالاستحالة[(849)]، فإِن ميتته طاهرة؛ وعليه فلا يشترط أن يكون متولِّداً من طاهر.

فصراصير الكُنُفِ (المراحيض) ـ على المذهب ـ نجسة؛ لأنها متولِّدة من نجس، وعلى القول الثَّاني طاهرة (849) .

 

وبَوْلُ ما يُؤكَلُ لَحْمُهُ، وَرَوْثُه، ..............................

قوله: «وبَوْلُ ما يُؤكَلُ لَحْمُهُ، وَرَوْثُه» ، يعني: أنه طاهر. كالإِبل، والبقر، والغنم، والأرانب، وما شابه ذلك.

والدَّليل على ذلك ما يلي:

1- أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر العُرنيين أن يلحقوا إِبل الصَّدقة، ويشربوا من أبوالها وألبانها[(850)]، ولم يأمرهم بغسل الأواني، ولو كانت نجسة لم يأذن لهم بالشُّرْبِ، ولأَمَرَهُمْ بغسل الأواني منها.

2- أنه صلّى الله عليه وسلّم أَذِنَ بالصَّلاة في مرابِضِ الغنم[(851)]، وهي لا تخلو من البول ، والرَّوث.

3- البراءة الأصلية، فمن ادَّعى النَّجاسة في أيِّ شيء فعليه الدَّليل، فالأصل الطَّهارة.

فإِن قيل: ما الجواب عن حديث ابن عباس في قصَّة صاحب القَبْرَين، وفيه: «أما أحدهما فكان لا يستتر من البول»[(852)]، والبول عام سواء جعلنا «أل» للجنس، أو للاستغراق، فإِن ذلك يدُّل على نجاسة البول؟.

وكذلك ما الجواب عن نهي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم عن الصَّلاة في مَعاطِنِ الإِبل، فإِن هذا يدلُّ على نجاستها أيضاً؟.

فالجواب عن حديث ابن عباس أن قوله: «من البول»، أي بول نفسه. «فأل» للعهد الذِّهني، والدَّليل على ذلك أنَّه في بعض ألفاظ الحديث عند البخاري: «أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله»[(853)]، وهذا نَصٌّ صريح فَيُحْمَل الأوَّل عليه.

وأما النَّهي عن الصَّلاة في معاطِن الإِبل، فالعِلَّة في النَّهي ليست هي النَّجاسة، ولو كانت العِلَّة النَّجاسة لم يكن هناك فرق بين الإِبل والغنم، ولكن العِلَّة شيء آخر.

فقيل: إن هذا الحكم تعبُّدي، يعني: أنه غير معلوم العِلَّة[(854)].

وقيل: يُخشَى أنه إِذا صلَّى في مباركها أن تَأْوي إِلى هذا المبرك وهو يصلِّي، فَتُشوِّش عليه صلاته لِكِبَر جسمها، بخلاف الغنم[(855)]. وقيل: إنها خُلِقت من الشَّياطين (855) كما ورد بذلك الحديث[(856)]. وليس المعنى أنَّ أصل مادَّتها ذلك، ولكن المعنى أنها خُلِقت من الشَّيطنة، وهذا كقوله تعالى: {{خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}} [الأنبياء: 37] ، وليس المعنى أن مادة الخَلْق من عجل، لكن هذه طبيعته، كما قال تعالى: {{وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}} [الإِسراء: 11] .

وكذا ورد وإِن كان ضعيفاً: «أن على ذروة كُلِّ بعير شيطاناً»[(857)]، فيكون مأوى الإِبل مأوى للشياطين، فهذا يشبه النهي عن الصلاة في الحمَّام؛ لأن الحمَّام مأوى الشياطين.

فإن قيل: إِن النبي صلّى الله عليه وسلّم أباح شرب أبوال الإِبل للضَّرورة، والضَّرورات تُبيح المحظورات؟.

فالجواب من وجوه:

الأول: أن الله لم يجعل شفاء هذه الأُمَّة فيما حَرَّم عليها[(858)].

الثاني: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يأمرهم بِغَسْل الأواني بعد الانتهاء من استعمالها، إِذ لا ضرورة لبقاء النَّجاسة فيها.

الثالث: القاعدة العامة: «لا ضرورة في دواء». ووجه ذلك: أن الإِنسان قد يُشفَى بدونه، وقد لا يُشفَى به.

 

ومَنِيّه، ومنيّ الآدَميّ، ............

قوله: «ومَنِيّه» ، أي: منيُّ ما يُؤكل لحمه، أي: طاهر. وعُلم من كلامه أن له مَنِيّاً، والدَّليل على ذلك قوله تعالى: {{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِنْ مَاءٍ}} [النور: 45] .

وقوله تعالى: {{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ}} [الأنبياء: 30] .

وإذا كان بَوْلُه، ورَوْثه طاهرين، فمَنِيُّه من باب أَولَى، ولأنَّ المنِيَّ أصلُ هذا الحيوان الطَّاهر فكان طاهراً.

قوله: «ومنيُّ الآدمَيّ» ، أي: طاهر. والمنِيُّ: هو الذي يَخْرج من الإِنسان بالشَّهْوة، وهو ماء غليظ، وَصَفَهُ الله تعالى بقوله: {{أَلَمْ نَخْلُقْكُّمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *}} [المرسلات] ، أي: غليظ لا يسيل من غلظه، بخلاف الماء الذي يسيل، فهو ماء ليس بِمَهين، بل مُتَحرِّك، وهذا الماء خُلِقَ مِنْه بنو آدم عليه السلام، قال تعالى: {{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *}} [المؤمنون] .

فَمِن هذا الماء خُلِق الأنبياء، والأولياء، والصِّدِّيقون، والشُّهداء، والصَّالحون، ولنا في تقرير طهارته ثلاث طُرُق:

1- أنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة، فَمَن ادَّعى نجاسة شيء فَعَلَيْه الدَّليل.

2- أن عائشة رضي الله عنها كانت تَفرُك اليابس من مَنِيِّ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم[(859)]، وتَغْسِل الرَّطب منه[(860)]، ولو كان نَجِساً ما اكتفت فيه بالفَرْكِ، فقد قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ في دَمِ الحيض يُصيب الثَّوب، قال: «تَحُتُّه، ثمَّ تَقْرُصُه بالماء، ثمَّ تَنْضِحُه، ثمَّ تصلِّي فيه»[(861)]. فلا بُدَّ من الغَسْل بعد الحتِّ، ولو كان المنيُّ نجساً كان لا بُدَّ من غَسْله، ولم يُجْزِئ فَرْكُ يابِسِه كدَمِ الحيض.

3- أن هذا الماء أصل عِبَاد الله المخلصين من النَّبيين، والصِّدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وتأبى حكمة الله تعالى، أن يكون أصل هؤلاء البَررة نَجِساً.

ومرَّ رجل بعالمين يتناظران، فقال: ما شأنكما؟ قال: أحاول أن أجعل أَصْلَه طاهراً، وهو يحاول أن يجعل أصْلَه نجِساً؛ لأن أحدهما يرى طهارة المنيِّ، والآخر يرى نجاسته.

وقد عَقَد ابنُ القيم رحمه الله في كتابه «بَدائعُ الفَوائدِ»[(862)] مناظرة بين رَجُلَين أحدهما يرى طهارة المنيِّ، والآخر يرى نجاسته، وهي مناظرة مفيدة لطالب العلم.

فإن قيل: لماذا لا يُقال: بأنه نجس كفَضَلات بني آدم من بول، وغائط؟.

فالجواب:

1- أنه ليس جميع فضلات بني آدم نجسة، فَرِيقُهُ، ومخاطه، وعَرَقُه كلُّه طاهر.

2- أنَّ هناك فَرْقاً بين البول، والغائط، والمنيِّ. فالبول والغائط فَضْلَةُ الطَّعام والشَّراب، وله رائحة كريهة مستخْبَثَة في مشامِّ الناس ومناظِرِهم، فكان نجساً، أما المنيُّ فبالعكس فهو خلاصة الطَّعام والشَّراب، فالطَّعام والشَّراب يتحوَّل أولاً إِلى دَمٍ، وهذا الدَّم يسقي الله تعالى به الجسم، ولهذا يمرّ على الجسم كلِّه، ثم عند حدوث الشَّهوة يتحوَّل إِلى هذا الماء الذي يُخلَق منه الآدميُّ، فالفرق بين الفضْلَتَين من حيثُ الحقيقةُ واضح جدًّا، فلا يمكن أن نُلحِق إِحداهما بالأخرى في الحكْم، هذه فضلة طيِّبَة طاهرة خلاصة، وهذه خبيثة مُنْتِنَة مكْروهة.

وقوله: «ومنيّ الآدمِيِّ» مفهومه أنَّ منيَّ غير الآدميِّ نجس، ولكن هذا المفهوم لا عموم له، أي: أنه لا يخالف المنطوق في جميع الصُّور، لأنه يصدق بالمخالفة في صورة واحدة من الصُّور، وإِن كان في الباقي موافقاً، وعلى هذا فمنيُّ غير الآدميّ إِن كان من حيوان طاهر البول والرَّوث فهو طاهر، وإِن كان من حيوان نجس البول والرَّوث فهو نجس.

والدَّليل على ذلك: أنَّ بوله وروثه نجس، فكذا مَنِيُّه؛ لأنَّ الكُلَّ فضلة.

فإن قيل: الآدميُّ بوله وروثه نجس، فليكن منيُّه نجساً؟.

فالجواب: أنَّه قام الدَّليل على طهارة مَنِيِّ الآدميِّ بخلاف غيره، وقال بعض العُلماء: ما كان طاهراً في الحياة فمنيُّه طاهر[(863)]، ولا يصحّ قياس المنيِّ على البول والرَّوث، بل هو من جنس العَرَقِ، والرِّيق، وما أشبه ذلك.

 

ورُطُوبَةُ فرجِ المرْأَةِ،.......................................

قوله: «وَرُطُوبَةُ فرجِ المرْأَةِ» ، أي: طاهرة. واخْتُلِفَ في هذه المسألة.

فقال بعض العلماء: إنها نجسة[(864)]، وتُنَجِّسُ الثِّياب إِذا أصابتها، وعلَّلُوا: بأن جميع ما خرج من السَّبيل، فالأصل فيه النَّجاسة إِلا ما قام الدَّليل على طهارته.

وفي هذا القول من الحرج والمشقَّة ما لا يعلمه إِلا الله تعالى، خصوصاً مَنِ ابتُلِيَتْ به من النِّساء؛ لأنَّ هذه الرُّطوبة ليست عامَّة لكُلِّ امرأة، فبعض النِّساء عندها رطوبة بالغة تخرج وتسيل، وبعض النِّساء تكون عندها في أيام الحمل، ولا سيَّما في الشُّهور الأخيرة منه، وبعض النساء لا تكون عندها أبداً.

وقال بعض العلماء: إِنها طاهرة، وهو المذهب (864) .

وعلَّلوا: بأن الرَّجل يُجامع أهله، ولا شَكَّ أنَّ هذه الرُّطوبة سوف تَعْلَق به، ومع ذلك لا يجب عليه أن يغسلَ ذكره، وهذا كالمُجمع عليه في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلى يومنا هذا عند النَّاس، ولا يُقالُ بأنها نجسة ويُعفى عنها؛ لأنَّنا إِذا قلنا ذلك احتجنا إِلى دليل على ذلك.

فإِن قيل: إِن الدَّليل المشقَّة، وربما يكون ذلك، وتكون هي نجسة، ولكن للمشقَّة من التحرُّز عنها يُعْفَى عن يسيرها كالدَّم، وشبهه مما يَشُقُّ التحرُّز منه.

ولكنَّ الصَّوابَ الأوَّلُ، وهو أنها طاهرة، ولبيان ذلك نقول: إِن الفرجَ له مجريان:

الأولُ: مجرى مسلك الذَّكر، وهذا يتَّصل بالرَّحم، ولا علاقة له بمجاري البول ولا بالمثانة، ويخرج من أسفل مجرى البول.

الثَّاني: مجرى البول، وهذا يَتَّصِلُ بالمثانة ويخرج من أعلى الفرج.

فإِذا كانت هذه الرُّطوبةُ ناتجةً عن استرخاء المثانة وخرجت من مجرى البول، فهي نجسةٌ، وحكمها حكم سلس البول.

وإِذا كانت من مسلك الذَّكر فهي طاهرة، لأنها ليست من فضلات الطعام والشراب، فليست بولاً، والأصل عدم النَّجاسة حتى يقومَ الدليل على ذلك، ولأنَّه لا يلزمه إِذا جامع أهله أن يغسل ذكره ولا ثيابه إِذا تلوَّثت به، ولو كانت نجسة للزم من ذلك أن ينْجُسَ المنيُّ، لأنَّه يتلوَّث بها.

وهل تنقض هذه الرُّطوبةُ الوُضُوءَ؟.

أما ما خرج من مسلك البول، فهو ينقضُ الوُضُوء، لأنَّ الظَّاهر أنَّه من المثانة.

وأما ما خرج من مسلك الذَّكر: فالجمهور: أنه ينقض الوُضُوء[(865)].

وقال ابن حزم: لا ينقض الوُضُوء[(866)]، وقال: بأنه ليس بولاً ولا مذياً، ومن قال بالنَّقض فعليه الدَّليل، بل هو كالخارج من بقية البدن من الفضلات الأخرى. ولم يذكر بذلك قائلاً ممن سبقه.

والقول بنقض الوُضُوء بها أحوط.

فيُقال: إِن كانت مستمرَّة، فحكمها حكم سلس البول، أي: أن المرأة تتطهَّر للصلاة المفروضة بعد دخول وقتها، وتتحفَّظُ ما استطاعت، وتُصلِّي ولا يضرُّها ما خرج.

وإِن كانت تنقطع في وقت معيَّن قبل خروج الصَّلاة فيجب عليها أن تنتظرَ حتى يأتيَ الوقتُ الذي تنقطع فيه؛ لأنَّ هذا حكم سلس البول.

فإن قال قائل: كيف تنقض الوُضُوء وهي طاهرة؟

فالجواب: أن لذلك نظيراً، وهو الرِّيح التي تخرج من الدُّبُر، تنقض الوُضُوء مع كونها طاهرة.

وسُؤْرُ الهِرَّةِ، وما دُونَها في الخِلْقَةِ: طاهرٌ.

قوله: «وسؤرُ الهِرَّة وما دونها في الخِلْقَة طاهر» ، السُّؤر: بقيَّة الطَّعام والشَّراب، ومنه كلمة سائر؛ بمعنى الباقي.

والدَّليل قوله صلّى الله عليه وسلّم في الهِرَّة: «إِنَّها ليست بنجس، إِنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات»[(867)].

فحكم بأنها ليست بنجس، والطَّهارة والنَّجاسة نقيضان فيلزم منه أنها طاهرة؛ إِذ ليس بعد النجاسة إِلا الطَّهارة.

وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنها ليست بنجس، إِنها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات» (867) .

الطَّوَّافُ من يُكثر التَّرداد، ومنه الطَّوَاف بالبيت، لأنَّ الإِنسان يكثر الدَّوران عليه.

وقوله: «وما دونها في الخِلْقَة طاهر». والدَّليل: القياس على الهِرَّة.

والقياس: إِلحاق فرع بأصل في حكمٍ لِعِلَّة جامعة. وإِذا كانت العِلَّة في الهِرَّة هي التَّطواف وجب تعليق الحكم به؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يعلِّل بكونها صغيرة الجسم، ولو علَّل بذلك لقلنا به وجعلناه مَنَاط الحكم. فكون العِلَّة صغر الجسم غير صحيح؛ لأنه إِثبات علَّة لم يعلِّل بها الشَّارع، وإِلغاءٌ لِعِلَّة علَّل بها الشَّارع، فالعلَّة هي التَّطواف، وهي علَّةٌ معلومة المناسبة، وهي مشقَّة التَّحرُّز، فيجب أن يُعلَّق الحكم بها.

وأيضاً: لو أردنا أن نقيس قياساً تامًّا؛ على تقدير كون العلَّة صغر الجسم، لوجب أن نقول: سؤر الهرَّة، ومثلها في الخلقة طاهر، لا أن نقول: وما دونها، لأن الفرع لا بُدَّ أن يكون مساوياً للأصل، ولا يظهر قياس ما دونها عليها قياساً أولوياً.

وظاهر كلامه: أن ما كان قَدْرها من السِّباع التي لا تؤكل نجس.

والرَّاجح: أن العِلَّة التي يجب أن تُتَّبع مَا علَّل به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وهي: أنَّها من الطَّوافين علينا.

وعلى هذا: كلُّ ما يكثر التطواف على الناس؛ مما يشقُّ التَّحرُّز منه فحكمه كالهرَّة.

لكن يُستثنى من ذلك ما استثناه الشَّارع، وهو الكلب، فهو كثير الطَّواف على النَّاس، ومع ذلك قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ولغ الكلب في إِناء أحدكم، فليغسله سبعاً إِحداهن بالتُّراب»[(868)].

 

وسِبَاعُ البهائِم والطَّيْرِ، والحمارُ الأَهْلِيُّ، والبَغْلُ منه: نَجِسَةٌ.

قوله: «وسباع البهائم» ، يعني: نجسة.

وسباع البهائم: هي التي تأكل وتفترس كالذِّئبِ، والضَّبُعِ، والنَّمِر، والفَهْدِ، وابن آوى، وابن عُرس، وما أشبه ذلك مما هو أكبر من الهِرَّة.

قوله: «والطير» ، أي: وسباع الطَّير كالنسر، التي هي أكبر من الهرة.

قوله: «والحمارُ الأهليُّ» ، احترازاً من الحمار الوحشيِّ، لأن الوحشيَّ حلالُ الأكل فهو طاهر.

وأما الأهليُّ فهو محرَّمٌ نجِسٌ كما في حديث أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمر أبا طلحة رضي الله عنه أن يِناديَ يومَ خيبر: «إِنَّ الله وَرسولَه ينهيانكم عن لحوم الحُمُر الأهليَّة، فإِنها رجس أو نجس»[(869)].

قوله: «والبغل منه: نَجِسةٌ» ، أي: من الحمار الأهليِّ، والبغل: دابَّة تتولَّد من الحمار إِذا نَزَا على الفرس.

وتعليل ذلك: تغليب جانب الحظر؛ لأن هذا البغل خُلِقَ من الفرس والحمار الأهليِّ، على وجه لا يتميَّز به أحدهما عن الآخر؛ فلا يمكن اجتناب الحرام إِلا باجتناب الحلال.

فإِن كان من حمار وحشيٍّ، كما لو نزا حمارٌ وحشيٌّ على فرس، فإِن هذا البغل طاهرٌ، لأن الوحشيَّ طاهرٌ، والفرسَ طاهرٌ، وما يتولَّدُ من الطاهر فهو طاهر.

وإذا كانت هذه الأشياء نجسة، فإن آسارَها ـ أي بقية طعامها وشرابها ـ نجسة.

فلو أن حماراً أهليًّا شرب من إِناء، وبقي بعد شربه شيء من الماء، فإِنه نجس على كلام المؤلِّف.

وذهب كثيرٌ من أهل العلم إِلى أن آسار هذه البهائم طاهرةٌ إِذا كانت كثيرةَ الطَّواف علينا[(870)].

وعلَّلوا: بأن هذا يشقُّ التَّحرُّز منه غالباً، فإِنَّ النَّاس في البادية تكون أوانيهم ظاهرةً مكشوفةً، فتأتي هذه السِّباعُ فتردُ عليها، وتشرب. فلو ألزمنا النَّاس بوجوب إراقة الماء، ووجوب غسل الإِناء بعدها لكان في ذلك مشقَّة.

والأحاديثُ في ذلك فيها شيء من التَّعارض. فبعضها يدلُّ على النَّجاسة، وبعضها يدلُّ على الطَّهارة.

فممَّا وَرَدَ يدلُّ على الطَّهارة، حديث القُلَّتين الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عن الماء، وما ينوبُه من السِّباع؟ فقال: «إِذا بلغ الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث»[(871)]، ولم يقل بأن هذه طاهرة، بل جعل الحكم منوطاً بالماء، وأنه إِذا بلغ قُلَّتين لم يحمل الخبث، فدلَّ ذلك على أن ورود هذه السِّباع على الماء يجعله خبيثاً لولا أن الماء بلغ قلتين.

وفيه أحاديث أخرى، وإن كان فيها ضعف، لكن لها عِدَّة طرق تدلُّ على أن آسار البهائم طاهرة، حيث سُئِلَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غَبَرَ طَهور»[(872)]، وهذا يدلُّ على الطهارة.

ويمكن الجمع بين الحديثين، فيُقالُ: إِن كان الماء كثيراً لا يتغيَّر بالشُّرب فلا بأس به، ويكون طَهوراً. وإِن كان يسيراً، وتغيَّر بسبب شربها منه؛ فإِنه نجس.

وقال ابن قدامة رحمه الله: إِنَّ الحمار والبغل طاهران[(873)]؛ لأنَّ الأمة تركبهما، ولا يخلو ركوبهما من عَرَقٍ، ومن مطر ينزل، وقد تكون الثياب رطبة، أو البدن رطباً، ولم يأمر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أمَّته بالتحرُّز من ذلك. وهذا هو الصَّحيح.

وعلى هذا فسؤرهما، وعرقهما، وريقهما، وما يخرج من أنفهما طاهر، وهذا يؤيِّد ما سبق أنْ ذكرناه في حديث أبي قتادة في الهِرَّة[(874)]، فإِن الحمار بلا شكٍّ من الطَّوافين علينا، ولا سيَّما أهل الحُمُر الذين اعتادوا ركوبها، فالتحرُّز منها شاقٌّ جدًّا.

فإِن قيل: الكلاب أيضاً لمن له اقتناؤها كصاحب الزَّرع، والماشية والصَّيد، يكثر تطوافها عليهم؟

فالجواب: أنَّ الكلاب فيها نصٌّ أخرجها وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذا ولغ الكلب...»، الحديث[(875)].

وهذا يدلُّ على نجاسة سؤر الكلب، حتى وإِن كان من الطَّوَّافين.

 

 

المصدر : موقع الشيخ ابن عثيمين

 

البحث عن:

 

 

الصفحة الرئيسية         -          من نحن         -          المنتدى         -          اتصل بنا       

Hit Counter

جميع الحقوق محفوظة لموقع أدبني ربي

www.2dbniraby.com