بابُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ
أتى به المؤلِّف بعد صِفَةِ الوُضُوء لأنه حُكمٌ يتعلَّق بأحد
أعضاء الوُضُوء. وذكر المؤلِّفُ في هذا الباب المسحَ على
العِمَامة، والجبيرةِ، والخِمَارِ، والخُفَّيْنِ، فكان مشتملاً على
أربعة مواضيع.
والخُفَّان: ما يُلبَسُ على الرِّجل من الجلود، ويُلْحَقُ بهما ما
يُلبَسُ عليهما من الكِتَّان، والصُّوف، وشبه ذلك من كُلِّ ما
يُلبَسُ على الرِّجْل مما تستفيدُ منه بالتسخين، ولهذا بعث النبيُّ
صلّى الله عليه وسلّم سريةً وأمرهم أن يمسحوا على العصائب
والتَّسَاخين[(406)].
أي: الخِفَاف، وسُمِّيتْ: «تساخين»، لأنَّها تُسَخِّنُ الرِّجْلَ.
والمسح على الخفين جائزٌ باتفاق أهل السُّنَّةِ.
وخالفَ في ذلك الرَّافضةُ؛ ولهذا ذكره بعضُ العلماءِ في كتب
العقيدةِ لمخالفةِ الرافضة فيه[(407)] حتى صار شعاراً لهم.
وهو جائز بالكتابِ والسُّنَّةِ والإِجماعِ.
أما من الكتاب فقوله تعالى: {{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}} [المائدة: 6] على قراءة
الجرِّ.
وأما من السُّنَّة فقد تواترت الأحاديثُ بذلك عن النبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم.
قال النَّاظم:
ممَّا تواتر حديثُ مَنْ كَذَب
ومَنْ بَنَى لله بيتاً واحتسب
ورؤيةٌ شفاعةٌ والحوض
ومسحُ خُفَّين وهذي بعض
قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون
حديثاً عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم[(408)]. أي: ليس في قلبي
أدنى شَكٍّ في الجواز.
وأما الإجماع فقد أجمع أهلُ السُّنَّة على جواز المسح على
الخُفَّين في الجملة.
يَجُوزُ لمقيمٍ يوماً وليلةً ..........
قوله: «يجوزُ لمقيمٍ يوماً وليلةً» ، عبَّر بالجواز، فهل الجوازُ
مُنْصَبٌّ على بيان المدَّة، أو على بيان الحكم؟
إن كان على بيان المدَّة فلا إِشكال فيه، يعني: أن الجواز متعلِّق
بهذه المدَّة.
وإِن كان مُنْصَباً على بيان الحكم فقد يكون فيه إِشكال، وهو أنَّ
المسحَ على الخُفَّين للابسهما سُنَّةٌ، وخلْعُهما لغسلِ الرِّجلِ
بدعة خلاف السُّنَّة.
لكن قد يُجابُ عن هذا الإشكال بأن نقول: إِن المؤلِّفَ عبَّر
بالجواز دفعاً لقول من يقول بالمنع، وهذا لا يُنافي أن يكون
مشروعاً، والعلماءُ يعبِّرون بما يقتضي الإِباحة في مقابلة من يقول
بالمنع، وإن كان الحكم عندهم ليس مقصوراً على الجواز، بل هو إِما
واجب، أو مستحبٌّ.
ونظيرُ ذلك: قول بعضهم: ولمن أحرم بالحجِّ مفرداً ولم يُسقِ الهدي
أن يفسخه لعمرة ليكونَ متمتِّعاً[(409)].
فالتعبير باللام الدالَّة على الجواز في مقابل من منع ذلك؛ لأنَّ
بعض العلماء يقول بعدم الجواز؛ لأن هذا من إبطال العمل.
وقوله: «لمقيم» يشمل المستوطن والمقيمَ؛ لأن الفقهاء رحمهم الله
يرون أن النَّاس لهم ثلاث حالات:
إحداها: الإقامة.
الثانية: الاستيطان.
الثالثة: السَّفر.
ويُفرِّقون في أحكام هذه الأحوال.
والصَّحيح: أنَّه ليس هناك إلا استيطان أو سفر، وهذا اختيار شيخ
الإسلام[(410)]، وأن الإقامة باعتبارها قسماً ثالثاً ينفرد بأحكام
خاصَّة لا توجد في الكتاب، ولا في السُّنَّة.
والإِقامة عند الفقهاء: هي أن يقيمَ المسافرُ إقامةً تمنع القصْرَ
ورُخَصَ السَّفرِ؛ ولا يكون مستوطناً، وعلى هذا فإِنه مقيم، فلا
تنعقد به الجمعةُ، ولا تجب عليه؛ أي: بنفسه، ولا يكون خطيباً، ولا
إماماً فيها، حتى لو أراد أن يقيم سنتين، أو ثلاثاً.
والمستوطنُ: الذي اتَّخَذَ البلدَ وطناً له.
وحكم المقيم في المسح على الخُفَّين كحكم المستوطن، كما أنَّ حكمه
كحكم المستوطن في وجوب إِتمام الصَّلاة، وفي تحريم الفِطْرِ في
رمضان، لكن ليس هو كالمستوطن في مسألة الجمعة، فلا تجب عليه بنفسه،
ولا يكون إِماماً فيها، ولا خطيباً، وحينئذٍ يكون في مرتبة بين
مرتبتين، ولا دليل على هذه المرتبة.
وقوله: «يوماً وليلة» لحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: «جعل النبيُّ
صلّى الله عليه وسلّم للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام
بلياليهن»، أخرجه مسلم[(411)].
وهذا نَصٌّ صريحٌ بَيِّنٌ مُفَصَّلٌ.
ولمسافرٍ ثلاثةً بلَيَالِيها من حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ ...........
قوله: «ولمسافر ثلاثةً بلياليها» ، إطلاقُ المؤلِّف رحمه الله يشمل
السَّفر الطَّويل والقصير.
ويشمل سفرَ القَصر وغيره؛ لأن هناك سفراً طويلاً لكن لا يُقْصَر
فيه كالسَّفر المحرَّم، أو المكروهِ على المذهبِ، كمن سافر لشُرب
الخمر أو الاستمتاع بالبغايا.
والمذهب: أنَّ السَّفر هنا مُقيَّدٌ بالسَّفر الذي يُباحُ فيه
القَصرُ، ولعلَّه مراد المؤلِّف رحمه الله.
قوله: «من حَدَثٍ بعد لُبْسٍ» ، من: للابتداء، يعني: أنَّ ابتداءَ
المدَّةِ سواءٌ كانت يوماً وليلة؛ أم ثلاثة أيَّام، من الحَدَث بعد
اللبس، وهذا هو المذهب؛ لأنّ الحَدَثَ سببُ وجوب الوُضُوء فعلَّق
الحكم به، وإِلا فإنَّ المسحَ لا يتحقَّقُ إلا في أوَّل مرَّة
يمسحُ.
ونظيرُ هذا قولُهم في بيع الثِّمار: إذا باع نخلاً قد تشقَّقَ
طَلْعُهُ فالثَّمر للبائع؛ مع أن الحديث: «من باع نخلاً قد
أُبِّرتْ...»[(412)]، لكن قالوا: إِن التشقُّقَ سببٌ للتَّأبير
فأُنيط الحكم به[(413)].
والذي يمكن أن يُعلِّق به ابتداء المُدَّة ثلاثة أمور:
الأول: حال اللُّبس.
الثاني: حال الحَدَث.
الثالث: حال المسح.
أما حال اللِّبس، فلا تبتدئ المدَّة من اللِّبس قولاً واحداً في
المذهب، وأما حال الحَدَث فالمذهبُ: أن المدَّة تبتدئُ منه.
والقول الثاني: تبتدئُ من المسح[(414)]؛ لأنَّ الأحاديث: «يمسح
المسافرُ على الخفين ثلاث ليال، والمقيم يوماً وليلة»[(415)]...
إلخ، ولا يمكن أن يَصْدُقَ عليه أنَّه ماسح إِلا بفعل المسح، وهذا
هو الصَّحيح.
ويدلُّ له أن الفقهاء أنفسهم ـ رحمهم الله ـ قالوا: لو أن رجلاً
لبس الخُفَّين وهو مقيمٌ؛ ثم أحدثَ؛ ثم سافر؛ ومسحَ في السَّفَر
أوَّل مرَّة، فإنه يُتِمُّ مسح مسافر[(416)]. وهذا يدلُّ على أنَّه
يعتَبر ابتداء المدَّة من المسح وهو ظاهرٌ.
فالصَّوابُ: أن العِبْرَةَ بالمسح وليس بالحَدَثِ.
مثال ذلك: رجلٌ توضَّأ لصلاة الفجر ولبس الخُفَّين، وبقي على
طهارته إلى السَّاعة التَّاسعة ضُحى، ثم أحدث ولم يتوضَّأ، وتوضأ
في السَّاعة الثانية عشرة، فالمذهب: تبتدئ المُدَّةُ من السَّاعة
التَّاسعة.
وعلى القول الرَّاجح: تبتدئ من السَّاعة الثَّانية عشرة إلى أن
يأتي دورها من اليوم الثَّاني إِن كان مقيماً، ومن اليوم الرَّابع
إن كان مسافراً.
فالمقيمُ أربعٌ وعشرون ساعةً، والمسافر اثنتان وسبعون ساعةً.
وأما قول العامَّة: إنَّ المدَّة خمسُ صلوات فهذا غير صحيح؛ لأنَّ
الإِنسانَ قد يُصلِّي أكثر من ذلك ومُدَّة المسح باقية وهو مقيم،
كما لو لبس الخُفَّين لصلاة الفَجر، وبقي على طهارته إِلى أن
صَلَّى العشاء، فهذا يوم كامل لا يُحسب عليه؛ لأن المدَّة قبل
المسح أوَّل مرَّة لا تُحسَبُ، فإذا مسح من الغَدِ لصلاة الفجر،
فإِذا بقيَ على طهارته إلى صلاة العشاء من اليوم الثالث، فيكون قد
صَلَّى خمس عشرة صلاة وهو مقيمٌ.
على طَاهِرٍ .........
قوله: «على طاهر» ، هذا هو الشَّرط الثَّاني من شُروطِ صِحَّةِ
المسحِ على الخُفَّين، وهو أن يكونَ الملبوس طاهراً.
والطَّاهر: يُطلَقُ على طاهر العين، فيخرج به نجس العين.
وقد يُطْلَقُ الطَّاهرُ على ما لم تُصبْه نجاسةٌ، كما لو قلت: يجب
عليك أن تُصلِّيَ بثوبٍ طاهر، أي: لم تُصبْه نجاسةٌ.
والمراد هنا طاهر العين؛ لأن من الخِفَاف ما هو نجس العين كما لو
كان خُفَّا من جلد حمار، ومنه ما هو طاهر العين لكنَّه متنجِّس؛
أي: أصابته نجاسة، كما لو كان الخُفُّ من جلد بعيرٍ مُذكَّى لكن
أصابته نجاسة، فالأوَّل نجاسته نجاسة عينيَّة؛ والثَّاني نجاسته
نجاسة حُكميَّة، وعلى هذا يجوز المسح على الخُفِّ المتنجِّس، لكن
لا يُصلِّي به، لأنه يُشترط للصَّلاة اجتناب النَّجاسة.
وفائدة هذا أن يستبيح بهذا الوُضُوء مسَّ المصحف؛ لأنه لا يُشترط
للَمْسِ المصحف أن يكون متطهِّراً من النَّجاسة، ولكن يُشترط أن
يكون متطهِّراً من الحدث.
أما لو اتَّخذ خُفًّا من جلد ميتة مدبوغ تحلُّ بالذَّكَاة، فإِن
هذا ينبني على الخلاف[(417)]:
إن قلنا: لا يطهرُ ـ وهو المذهبُ ـ لم يَجُز المسح عليه.
وإن قلنا: يطهُر بالدَّبغ جازَ المسحُ عليه.
ووجه اشتراط الطَّهارة: أن المسحَ على نجس العين لا يزيدُه إلا
تلويثاً، بل إن اليد إذا باشرت هذا النَّجسَ وهي مبلولةٌ تنجَّست.
وربما يُؤخَذُ من قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «فإِنِّي
أدخلتُهما طاهرتين»[(418)].
لكن معنى الحديث أدْخَلتُهما، أي: القدمين طاهرتين، كما يفسِّره
بعض الألفاظ[(419)].
مُبَاحٍ ..............
قوله: «مباحٍ» ، احترازاً من المحرَّم، هذا هو الشَّرط الثَّالث،
والمحرَّم نوعان:
الأول: محرَّم لكسبه كالمغصوب، والمسروق.
الثاني: محرَّم لعينه كالحرير للرَّجُلِ، وكذا لو اتَّخَذ
«شُرَاباً» (وهو الجورب) فيها صُور فهذا محرَّمٌ، ولا يُقال: إِن
هذا من باب ما يُمتهن؛ لأنَّ هذا من باب اللباس، واللباس الذي فيه
صُورٌ حرام بكلِّ حال، فلو كان على «الشُّراب» صورةُ أسدٍ مثلاً
فلا يجوز المسح عليه.
وكلا هذين النوعين لا يجوز المسحُ عليهما.
ولا نعلم دليلاً بيِّنا على ذلك.
وأما التَّعليل: فلأنَّ المسح على الخُفَّين رُخْصَة، فلا تُستباحُ
بالمعصية؛ ولأن القول بجواز المسح على ما كان محرَّماً مقتضاه
إقرار هذا الإنسان على لبس هذا المحرَّم، والمحرَّم يجب إِنكاره.
وربما نقول: بالقياس على بطلان صلاة المُسْبِلِ[(420)] ـ إن صحَّ
الحديثُ ـ فإِن المُسْبِلَ تبطل صلاتُه، لأنَّه لبس ثوباً
محرَّماً، فإِذا فسدت الصَّلاةُ بلبس الثَّوب المحرَّم؛ فإنَّ
المسح أيضاً يكون فاسداً بلبس الخُفِّ المحرَّم.
ساتِرٍ للمفْرُوضِ،.............
قوله: «ساترٍ للمفْروضِ» ، أي: للمفْروض غسلُه من الرِّجْلِ، وهذا
هو الشَّرط الرابع، فيُشترَط لجواز المسح على الخُفَّين أن يكون
ساتراً للمفروض.
ومعنى «ساتر» ألا يتبيَّنَ شيءٌ من المفروض من ورائه؛ سواءٌ كان
ذلك من أجل صفائه، أو خفَّته، أو من أجل خروق فيه.
لأنَّه إِذا كان به خُروقٌ بانَ من ورائه المفروضُ، فلا يصحُّ
المسحُ عليه حتى قال بعض أهل العلم ـ وهو المشهور من المذهب ـ: لو
كان هذا الخَرْقُ بمقدار رأس المخراز.
والتَّعليل: أن ما كان خفيفاً أو به خُروق، فإِن ما ظَهَرَ؛
فَرْضُهُ الغُسْل، والغُسْل لا يجامعُ المسحَ، إِذ لا يجتمعان في
عضوٍ واحد.
وأمَّا ما يصف البشرة لصفائه؛ فلأنه يُشترَطُ السَّتر وهذا غير
ساترٍ، بدليل أن الإِنسان لو صلَّى في ثوب يصف البشرةَ لصفائه
فصلاتُه باطلةٌ.
وذهب الشافعيةُ إِلى: أنَّ ما لا يَسْتُرُ لصفائه يجوز المسحُ
عليه[(421)]، لأنَّ محلَّ الفرض مستورٌ لا يمكن أن يصل إِليه
الماء، وكونُه تُرى من ورائه البشرةُ لا يضرُّ، فليست هذه عورة يجب
سترها حتى نقول: إن ما يصف البشرة لا يصحُّ المسح عليه.
وليس في السُّنَّة ما يدلُّ على اشتراط ستر الرِّجْل في الخُفِّ.
وهذا تعليل جَيّدٌ من الشَّافعية.
وقال بعض العلماء: إنه لا يُشترطُ أن يكون ساتراً للمفروض[(422)].
واستدلُّوا: بأن النُّصوص الواردةَ في المسح على الخُفَّين
مُطْلَقةٌ، وما وَرَدَ مُطْلَقاً فإنه يجب أن يبقى على إِطلاقه،
وأيُّ أحد من النَّاس يُضيف إِليه قيداً فعليه الدَّليل، وإلا
فالواجب أن نُطلق ما أطلقه اللَّهُ ورسولُه، ونقيِّد ما قيَّده
الله ورسولُه.
ولأن كثيراً من الصَّحابة كانوا فُقَراء، وغالب الفُقراء لا تخلو
خفافهم من خُرُوق، فإذا كان هذا غالباً أو كثيراً من قوم في عهد
الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم؛ ولم ينبِّه عليه الرَّسولُ صلّى
الله عليه وسلّم، دَلَّ على أنَّه ليس بشرط. وهذا اختيار شيخ
الإسلام[(423)].
وأما قولهم: إِنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه الغُسْلُ، فلا يجامع المسحَ،
فهذا مبنيٌّ على قولهم: إِنه لا بُدَّ من ستر المفروض، فهم جاؤوا
بدليل مبنيٍّ على اختيارهم، واستدلُّوا بالدعوى على نفس
المُدَّعَى، فيُقال لهم: مَنْ قال: إِنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه
الغُسْل؟
بل نقول: إِن الخُفَّ إِذا جاء على وفق ما أطلقتْه السُّنَّةُ؛ فما
ظَهَرَ من القدم لا يجب غسْلُه، بل يكون تابعاً للخُفِّ، ويُمسحُ
عليه.
وأما قولهم: لا يجتمع مسحٌ وغُسْلٌ في عضو واحد، فهذا مُنتقضٌ
بالجَبيرة إِذا كانت في نصف الذِّراع، فالمسحُ على الجبيرة،
والغُسْلُ على ما ليس عليه جبيرة، وعلى تسليم أنَّه لا بُدَّ من
ستر كُلِّ القدم نقول: ما ظهر يُغسَلُ، وما استتر بالخُفِّ يُمسحُ
كالجبيرة، ولكن هذا غيرُ مُسلَّم، وما اختاره شيخ الإسلام هو
الرَّاجح؛ لأن هذه الخفاف لا تسلم غالباً من الخروق، فكيف نشقُّ
على النَّاس ونلزمُهم بذلك. ثم إِن كثيراً من النَّاس الآن
يستعملون جواربَ خفيفة، ويرونَها مفيدةً للرِّجْل، ويحصُل بها
التَّسخينُ، وقد بعث النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم سريةً، فأصابهم
البردُ، فأمرَهم أن يمسحوا على العصائب (يعني العمائم) والتَّساخين
(يعني الخِفَاف)[(424)]، والتَّساخين هي الخِفاف؛ لأنها يُقصد بها
تسخينُ الرِّجل، وتسخينُ الرِّجْل يحصُلُ من مثل هذه الجوارب.
إذاً؛ هذا الشَّرط محل خلاف بين أهل العلم، والصَّحيحُ عدم
اعتباره.
َثْبُتُ بِنَفْسِهِ ...........
قوله: «يَثْبُتُ بنفسه» ، أي: لا بُدَّ أن يثبت بنفسه، أو بنعلين
فيُمسحُ عليه إِلى خلعهما، وهذا هو الشَّرط الخامس لجواز المسح على
الخُفَّين، فإِن كان لا يثبت إِلا بشدِّه فلا يجوزُ المسح عليه.
هذا المذهب.
فلو فُرِضَ أنَّ رَجُلاً رِجْلُه صغيرةٌ، ولبس خُفَّاً واسعاً
لكنَّه ربطه على رجْله بحيث لا يسقط مع المشي، فلا يصحُ المسحُ
عليه.
والصَّحيح: أنه يصحُّ، والدَّليلُ على ذلك أن النُّصوصَ الواردة في
المسحِ على الخُفَّين مُطلقةٌ، فما دام أنه يَنْتَفِعُ به ويمشي
فيه فما المانع؟ ولا دليل على المنع.
وقد لا يجدُ الإِنسانُ إلا هذا الخُفَّ الواسع فيكونُ في منعه من
المسح عليه مشقَّة، لكن اليوم ـ الحمد لله ـ كلُّ إنسانٍ يجد ما
يريد.
لكن لو فُرِضَ أنَّ هذا الرَّجُلَ قدمُه صغيرة، وليس عنده إلا هذا
الخُفُّ الكبير الواسع وقال: أنا إِذا لَبِسْتُه وشددتُه مشيت، وإن
لم أشدُدْهُ سقط عن قدمي، ماذا نقول له؟
نقول: على المذهبِ لا يجوزُ، وعلى القول الرَّاجحِ يجوزُ، ووجه
رجحانه أنَّه لا دليل على هذا الشَّرط.
فإن قال قائل: ما هو الدَّليلُ على جواز المسح عليه؟
نقولُ: الدَّليلُ عدم الدَّليلِ، أي عدمُ الدَّليلِ على اشتراط أن
يَثْبُتَ بنفسه.
مِنْ خُفٍّ،.............
قوله: «من خُفٍّ» ، من: بيانيَّة لقوله: «طاهر»، فالجارُ والمجرورُ
بيان لطاهر، و«من»: إذا كانت بيانيَّة فإِن الجار والمجرور في موضع
نصب على الحال، يعني حال كونه من خُفٍّ.
والخُفُّ: ما يكون من الجلد. والجوارب: ما يكون من غير الجلد
كالخرق وشبهها، فيجوز المسح على هذا وعلى هذا.
ودليل المسح على الجوارب القياس على الخُفِّ، إذ لا فرق بينهما في
حاجة الرِّجْل إليهما، والعِلَّة فيهما واحدة، فيكون هذا من باب
الشُّمول المعنوي، أو بالعموم اللفظي كما في حديث: «أن يمسحوا على
العصائب والتَّساخين»[(425)].
والتَّساخينُ يعمُّ كلَّ ما يُسخِّنُ الرِّجْلَ.
وأمَّا «المُوق» فإنه خُفٌّ قصير يُمْسَحُ عليه، وقد ثبت أنَّ
النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم مسح على الموقين[(426)].
وجَوْرَبٍ صَفِيقٍ،...........
قوله: «وجَوْرَبٍ صفيق» ، اشترط المؤلِّفُ أن يكون صفيقاً؛ لأنَّه
لا بُدَّ أن يكون ساتراً للمفروض على المذهب، وغير الصَّفيق لا
يستر.
وَنَحْوِهِمَا، وعلى عِمَامَةٍ لرجلٍ ..........
قوله: «ونحوهما» ، أي: مثلهما من كلِّ ما يُلبَسُ على الرِّجْل
سواء سُمِّي خُفَّاً، أم جورباً، أم مُوقاً، أم جُرموقاً، أم غير
ذلك، فإِنَّه يجوز المسح عليه؛ لأن العِلَّة واحدة.
قوله: «وعلى عِمَامةٍ لرجُل» ، أي ويجوز المسح على عِمَامة
الرَّجل، والعِمامةُ: ما يُعمَّمُ به الرَّأس، ويكوَّرُ عليه، وهي
معروفةٌ.
والدَّليل على جواز المسح عليها حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «مسح بناصيته، وعلى العِمامة،
وعلى خُفّيه»[(427)].
وقد يُعبَّر عنها بالخِمَار كما في «صحيح مسلم»: «مسح على
الخُفَّين والخِمَار»[(428)]، قال: يعني العِمَامة[(429)].
ففسَّر الخِمَار بالعِمَامة، ولولا هذا التفسير لقلنا بجواز المسح
على «الغُترة»، إِذا كانت مخمِّرة للرَّأس، كما يجوز في خُمُر
النِّساء.
وقوله: «لرَجُل»، أي: لا للمرأة، وهو أحد شروط جواز المسح على
العِمامة، فلا يجوز للمرأة المسحُ على العِمَامة، لأنَّ لبسها لها
حرام لما فيه من التشبُّه بالرِّجَال، وقد لعن رسولُ الله صلّى
الله عليه وسلّم المتشبهين من الرِّجال بالنِّساء، والمتشبهات من
النِّساء بالرِّجال[(430)].
ويُشترطُ لها ما يُشترَطُ للخُفِّ من طهارة العين، وأن تكونَ
مباحةً، فلا يجوز المسح على عمامةٍ نجسة فيها صورٌ، أو عمامةِ
حريرٍ.
وقوله: «لرَجُل»، كلمة رَجُل في الغالب تُطلَقُ على البالغ، وهذا
ليس بمراد هنا، بل يجوزُ للصبيِّ أن يلبس عِمامةً ويمسحَ عليها.
وكلمة «ذَكَر» تُطْلَقُ على ما يُقابل الأنثى.
مُحَنَّكَةٍ، أَوْ ذَاتِ ذُؤَابَةٍ ...........
قوله: «محنَّكة أو ذات ذؤابة» ، هذا هو الشَّرط الثَّاني لجواز
المسح على العِمَامة، فالمحنَّكة هي التي يُدار منها تحت الحنك،
وذات الذؤابة هي التي يكون أحد أطرافها متدلِّياً من الخلف، وذات:
بمعنى صاحبة.
فاشترط المؤلِّفُ للعِمامة شرطين:
الأول: أن تكون لرَجُل.
الثاني: أن تكون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.
مع اشتراط أن تكون مباحة، وطاهرة العين.
والدَّليل على اشتراط التَّحنيك، أو ذات الذؤابة: أنَّ هذا هو الذي
جرت العادةُ بلبسه عند العرب.
ولأن المحنَّكة هي التي يَشقُّ نزعها، بخلاف المُكوَّرة بدون
تحنيك.
وعارض شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الشرط[(431)]، وقال: إِنَّه لا
دليل على اشتراط أن تكون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.
بل النصُّ جاء: «العِمامة»[(432)] ولم يذكر قيداً آخر، فمتى ثبتت
العِمَامة جاز المسحُ عليها.
ولأنَّ الحكمة من المسح على العِمَامة لا تتعيَّنُ في مشقَّة
النَّزع، بل قد تكون الحكمةُ أنَّه لو حرَّكها ربما تَنْفَلُّ
أكوارُها.
ولأنَّه لو نَزَع العِمَامة، فإِن الغالب أنَّ الرَّأس قد أصابه
العرقُ والسُّخونَة فإِذا نزعها، فقد يُصاب بضررٍ بسبب الهواء؛
ولهذا رُخِّصَ له المسح عليها.
ولا يجب أن يَمسحَ ما ظهر من الرَّأس، لكن قالوا: يُسَنَّ أن يمسحَ
معها ما ظهر من الرَّأس؛ لأنَّه سيظهر قليلٌ من النَّاصية ومن
الخلف غالباً؛ فيجب المسح عليها، ويستحب المسح على ما ظَهَرَ.
وعلى خُمُر نِسَاءٍ .............
قوله: «وعلى خُمُر نساءٍ» ، أي ويجوزُ المسحُ على خُمُرِ نساءٍ.
خُمُرِ: جمع خِمَار، وهو مأخوذٌ من الخُمْرة، وهو ما يُغطَّى به
الشيءُ. فخِمَار المرأة: ما تُغطِّي به رأسها.
واختلف العلماء في جواز مسح المرأة على خمارها.
فقال بعضهم: إِنه لا يجزئ[(433)] لأن الله تعالى أمر بمسح الرَّأس
في قوله: {{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}} [المائدة: 6] ، وإِذا
مَسَحَتْ على الخمار فإِنها لم تمسح على الرَّأس؛ بل مسحت على حائل
وهو الخمار فلا يجوز.
وقال آخرون بالجواز، وقاسوا الخِمَار على عِمَامة الرَّجُل،
فالخِمَار للمرأة بمنزلة العِمَامة للرَّجُل، والمشقَّة موجودة في
كليهما.
وعلى كُلِّ حالٍ إِذا كان هناك مشقَّة إِما لبرودة الجوِّ، أو
لمشقَّة النَّزع واللَّفّ مرَّة أخرى، فالتَّسامح في مثل هذا لا
بأس به، وإلا فالأوْلى ألاَّ تمسح ولم ترد نصوصٌ صحيحة في هذا
الباب[(434)].
ولو كان الرَّأس ملبَّداً بحنَّاء، أو صمغ، أو عسل، أو نحو ذلك
فيجوز المسح؛ لأنه ثبت أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان في
إحرامه ملبِّداً رأسَه[(435)] فما وُضع على الرَّأس مِنَ التَّلبيد
فهو تابع له.
وهذا يدلُّ على أن طهارة الرَّأس فيها شيء من التَّسهيل.
وعلى هذا؛ فلو لبَّدت المرأة رأسها بالحِنَّاء جاز لها المسحُ
عليه، ولا حاجة إلى أن تنقض رأسَها، وتَحُتُّ هذا الحنَّاء.
وكذا لو شدَّت على رأسها حُليًّا وهو ما يُسمّى بالهامة، جاز لها
المسحُ عليه؛ لأننا إِذا جوَّزنا المسح على الخمار فهذا من باب
أَوْلَى.
وقد يُقال: إن له أصلاً وهو الخاتم، فالرَّسول (ص) كان يلبس
الخاتم[(436)] ومع ذلك فإِنَّه قد لا يدخل الماءُ بين الخاتم
والجلد، فمثل هذه الأشياء قد يُسامِحُ فيها الشَّرع، ولا سيما أن
الرَّأس من أصله لا يجب تطهيرُه بالغسل، وإنما يطهرُ بالمسح، فلذلك
خُفِّفَتْ طهارتُه بالمسح.
وقوله: «على خُمر نساء»، يفيد أنَّ ذلك شرطٌ، وهو أن يكون الخمارُ
على نساء.
مُدَارَةٍ تَحت حُلُوقِهِنَّ ............
قوله: «مُدَارةٍ تحت حُلُوقِهن» ، هذا هو الشَّرط الثَّاني، فلا
بُدَّ أن تكون مدارةً تحت الحلق، لا مطلقةً مرسلةً؛ لأن هذه لا
يشقُّ نزعُها بخلافِ المُدارةِ.
وهل يُشترطُ لها توقيت كتوقيت الخُفِّ؟ فيه خلاف. والمذهب أنَّه
يُشترط، وقال بعض العلماء: لا يُشترط، لأنه لم يثبت عن النبيِّ
صلّى الله عليه وسلّم أنه وقَّتها، ولأنَّ طهارة العُضوِ التي هي
عليه أخفُّ من طهارة الرِّجْلِ، فلا يمكن إِلحاقُها بالخُفِّ،
فإِذا كانت عليكَ فامسح عليها، ولا توقيتَ فيها، وممن ذهب إلى هذا
القول: الشَّوكاني في «نيل الأوطار»[(437)]، وجماعة من أهل
العلم[(438)].
فِي حَدَثٍ أَصْغَرَ،............
قوله: «في حَدَثٍ أصغر» ، الحَدَث: وصفٌ قائمٌ بالبَدَن يمنع من
الصَّلاة ونحوها مما تُشترط له الطَّهارة.
وهو قسمان:
الأول: أكبر وهو ما أوجب الغسل.
الثاني: أصغر وهو ما أوجب الوُضُوء.
فالعِمامةُ، والخُفُّ، والخِمارُ، إِنما تمسحُ في الحَدَث الأصغر
دون الأكبر، والدَّليل على ذلك حديث صفوان بن عَسَّال قال: «أمَرنا
رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إِذا كُنَّا سَفْراً ألاَّ ننزع
خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط، وبول،
ونوم»[(439)].
فقوله: «إلا من جنابة»، يعني به الحدَثَ الأكبر.
وقوله: «ولكن من غائط وبول ونوم»، هذا الحدث الأصغر. فلو حصل على
الإِنسان جنابة مدَّةَ المسح فإنه لا يمسح، بل يجب عليه الغُسلُ؛
لأنَّ الحدث الأكبر ليس فيه شيء ممسوح، لا أصلي ولا فرعي، إلا
الجبيرة كما يأتي.
تـنـبـيـه:
تَبيَّنَ مما سبق أن لهذه الممسوحات الثلاثة: الخُفّ والعِمامة
والخِمار شروطاً تتفق فيها؛ وشروطاً تختصُّ بكل واحد. فالشُّروط
المتفقة هي:
1 ـ أن تكون في الحدث الأصغر.
2 ـ أن يكون الملبوس طاهراً.
3 ـ أن يكون مباحاً.
4 ـ أن يكون لبسها على طهارة.
5 ـ أن يكون المسح في المدَّة المحددة.
هذا ما ذكره المؤلِّفُ وقد عرفت الخلاف في بعضها.
وأما الشُّروط المختلفة فالخفُّ يُشتَرطُ أن يكون ساتراً للمفروض،
ولا يُشتَرَطُ ذلك في العِمَامة والخِمَار، والعِمَامة يُشترَطُ أن
تكونَ على رَجُلٍ، والخِمَار يُشترَط أن يكون على أنثى، والخُفُّ
يجوزُ المسح عليه للذُّكور والإِناث.
وجَبِيرَةٍ،...........
قوله: «وجبيرة» ، أي: ويجوز المسحُ على جبيرةٍ، والجبيرة: فعيلة
بمعنى فاعلة، وهي أعوادٌ توضعُ على الكسرِ ثم يُرْبَطُ عليها
ليلتئمَ. والآن بدلها الجبسُ.
وأما «جبير» بالنسبة للمكسور فهو بمعنى مفعول أي مجبورٌ.
ويُسمَّى الكسيرُ جبيراً من باب التفاؤل، كما يُسمَّى اللَّديغُ
سليماً مع أنه لا يُدرى هل يسلم أم لا؟
وتُسمَّى الأرضُ التي لا ماء فيها ولا شجر مَفَازة من باب
التَّفاؤل.
لَمْ تَتَجَاوزْ قَدْرَ الحَاجَةِ، ولو فِي أكْبَرَ ........
قوله: «لم تتجاوز قَدْرَ الحاجة» ، هذا أحدُ الشُّروطِ، وتتجاوز:
أي تتعدَّى.
والحاجة: هي الكسر، وكلُّ ما قَرُبَ منه مما يُحتاجُ إليه في
شدِّها.
فإِذا أمكن أن نجعل طول العيدان شبراً، فإِنَّنا لا نجعلُها شبراً
وزيادة، لعدم الحاجة إلى هذا الزَّائد.
وكذا إذا احتجنا إلى أربطةٍ غليظة استعملناها، وإلا استعملنا
أربطةً دقيقة.
وإِذا كان الكسر في الأصبع واحتجنا أن نربط كلَّ الرَّاحة لتستريحَ
اليدُ جاز ذلك لوجود الحاجة.
فإِن تجاوزت قَدْرَ الحاجة، لم يُمسح عليها، لكن إِن أمكن نزعُها
بلا ضرر نُزِعَ ما تجاوز قدَر الحاجةِ، فإِنْ لم يُمكنْ فقيل: يمسح
على ما كان على قدر الحاجةِ ويتيمَّم عن الزَّائد[(440)].
والرَّاجح أنه يمسحُ على الجميعِ بلا تيمُّم؛ لأنَّه لما كان
يتضرَّرُ بنزع الزَّائدِ صار الجميع بمنزلةِ الجَبيرة.
قوله: «ولو في أكبر» ، لو: لرفع التَّوهُّمِ، لأنه في العِمَامة
والخِمارِ والخُفَّين قال: «في حدث أصغر»، ولو لم يقل هنا «ولو في
أكبر» لتوهَّمَ متوهِّمٌ أن المسحَ عليها في الحدث الأصغر فقط مع
أنَّه يجوز المسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر.
وذلك لوجوه:
1 ـ حديث صاحب الشّجَّة ـ بناءً على أنه حديث حسن، ويُحتَجُّ به ـ
فإِن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنمَّا كان يكفيه أن
يتيمَّمَ؛ ويعصِبَ على جُرحه خِرقةً ثم يمسح عليها»[(441)].
وهذا في الحدث الأكبر، لأن الرَّجل أجنب.
2 ـ أن المسح على الجبيرة من باب الضَّرورة، والضَّرورة لا فرق
فيها بين الحدث الأكبر والأصغر، بخلاف المسح على الخفين فهو رخصة.
3 ـ أنَّ هذا العضو الواجبَ غسلُه سُتِرَ بما يسوغُ ستره به شرعاً
فجاز المسحُ عليه كالخُفَّين.
4 ـ أنَّ المسحَ وردَ التعبُّد به من حيثُ الجُملةُ، فإذا عجزنا عن
الغسل انتقلنا إلى المسح كمرحلة أخرى.
5 ـ أنَّ تطهير محلِّ الجبيرة بالمسح بالماء، أقرب إلى الغسل من
العدول إلى التيمُّم، والأحاديث في المسح على الجبيرة وإن كانت
ضعيفة إلا أن بعضها يجبر بعضاً.
ثم إِننا يمكن أن نقيسها ولو من وَجْهٍ بعيد على المسح على
الخُفَّين، فنقول: إِنَّ هذا عضو مستور بما يجوز لُبْسُه شرعاً
فيكون فرضُه المسحُ. وهذا القياسُ وإِن كان فيه شيءٌ من الضَّعف من
جهة أن المسح على الخفَّين رخصةٌ ومؤقَّتٌ، والمسحُ على الجبيرةِ
عزيمةٌ وغير مُؤقَّت، والمسحُ على الخُفَّين يكون في الحدث الأصغر،
وهذا في الأصغر والأكبر، والمسحُ على الخُفَّين يكون على ظاهر
القدم، وهذا يكون على جميعها، ولكن مع ما في هذا القياس من النَّظر
إِلا أنه قويٌّ من حيث الأصلُ، وهو أنَّه مستورٌ بما يسوغُ ستره به
شرعاً فجاز المسح عليه كالخُفَّين، وهذا ما عليه جمهور العلماء.
وقال بعضُ العلماء ـ كابن حزم ـ لا يمسحُ على الجبيرة[(442)]؛
لأنَّ أحاديثها ضعيفةٌ، ولا يَرَى أنه ينجبر بعضها ببعض، ولا يَرَى
القياس.
واختلف القائلون بعدم جواز المسح.
فقال بعضهم: إِنه يسقطُ الغُسْل إِلى بدل، وهو التيمُّم[(443)] بأن
يِغْسِلَ أعضاءَ الطَّهارةِ ويتيمَّمَ عن الموضع الذي فيه الجبيرة،
لأنَّه عاجزٌ عن استعمال الماء، والعجز عن البعض كالعجز عن الكُلِّ
فيتيمَّم.
وقال آخرون: إنه لا يتيمَّمُ، ولا يمسحُ[(444)]؛ لأنه عجز عن غسل
هذا العضو فسقط كسائر الواجبات، وهذا أضعفُ الأقوال أنه يسقط
الغسلُ إلى غير تيمُّمٍ، ولا مسح، لأنَّ العضو موجود ليس بمفقود
حتى يسقط فرضه، فإذا عجز عن تطهيره بالماء تطهر ببدله.
ورُبَّما يعمُّه قوله تعالى: {{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى
سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ
لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}}
[المائدة: 6] ، وهذا مريضٌ؛ لأن الكسر أو الجُرحَ نوعٌ من المرض
فجاز فيه التيمُّمُ.
وإذا قُلنا: لا بُدَّ من التيمُّم أو المسح، فإِن المسح أقرب إلى
الطَّهارة بالماء، لأنه طهارة بالماء، وذاك طهارة بالتُّراب.
وأيضاً: التيمُّم قد يكون في غير محلِّ الجبيرة؛ لأن التيمُّم في
الوجه والكفَّين فقط، والجبيرة قد تكون ـ مثلاً ـ في الذِّراع أو
السَّاق.
فأقرب هذه الأقوال: جواز المسح عليها.
وهل يُجمعُ بين المسحِ والتيمُّم؟
قال بعض العلماء: يجبُ الجمعُ بينهما احتياطاً[(445)].
والصَّحيح: أنَّه لا يجب الجمعُ بينهما؛ لأن القائلين بوجوب
التيمُّم لا يقولون بوجوب المسح، والقائلين بوجوب المسح لا يقولون
بوجوب التيمُّم؛ فالقول بوجوب الجمع بينهما خارج عن القولين.
ولأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالفٌ للقواعد الشرعيَّة؛ لأنَّنا
نقول: يجب تطهير هذا العضو إما بكذا أو بكذا.
أما إيجاب تطهيره بطهارتين فهذا لا نظير له في الشَّرع، ولا
يُكلِّف الله عبداً بعبادتين سببُهما واحد.
قال العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ: إن الجُرحَ ونحوَه إِما أن يكون
مكشوفاً، أو مستوراً.
فإِن كان مكشوفاً فالواجبُ غسلُه بالماء، فإِن تعذَّر فالمسحُ،
فإِن تعذَّر المسحُ فالتيمُّمُ، وهذا على الترتيب.
وإن كان مستوراً بما يسوغُ ستره به؛ فليس فيه إلا المسحُ فقط، فإِن
أضره المسحُ مع كونه مستوراً، فيعدل إلى التيمُّم، كما لو كان
مكشوفاً، هذا ما ذكره الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة.
إِلى حَلِّهَا، ............
قوله: «إِلى حَلِّها» ، بفتح الحاء أي: إِزالتها، وكسر الحاء لحنٌ
فاحشٌ يغيِّر المعنى؛ لأنه بالكسر يكون المعنى إلى أن تكون حلالاً،
وهذا يفسدُ المعنى، فيمسحُ على الجبيرة إِلى حَلِّها إِمَّا ببرء
ما تحتها، وإِمَّا لسبب آخر.
فإذا برئ الجرحُ وجب إِزالتها؛ لأن السببَ الذي جاز من أجله وضعُ
الجبيرة والمسحُ عليها زال، وإِذا زال السبب انتفى المُسبَّب.
إِذَا لَبِسَ ذلك بَعْدَ كَمَال الطهارةِ.
قوله: «إِذا لَبِسَ ذلك» ، المشارُ إليه الأنواع الأربعة: الخُفُّ،
والعِمامةُ، والخِمارُ، والجبيرةُ.
قوله: «بعد كمال الطَّهارة» ، لم يقلْ: بعد الطَّهارة حتى لا
يتجوَّز متجوِّزٌ، فيقول: بعد الطَّهارة، أي: بعد أكثرها.
فلو أنَّ رَجُلاً عليه جنابةٌ وغسل رجليه، ولبس الخُفَّين، ثم أكمل
الغسل لم يجزْ؛ لعدم اكتمال الطَّهارة.
صحيحٌ أن الرِّجلين طهُرتا، لأن الغسل من الجنابة لا ترتيب فيه،
لكن لم تكتمل الطهارة.
ولو توضَّأ رَجُلٌ ثم غسل رِجْلَه اليُمنى، فأدخلها الخُفَّ، ثم
غسل اليُسرى؛ فالمشهورُ من المذهب: عدمُ الجواز، لقوله: «إذا
لَبِسَ ذلك بعد كمال الطَّهارة»، فهو لمَّا لبس الخُفَّ في
الرِّجْلِ اليُمنى لبسها قبل اكتمال الطَّهارة لبقاء غسل اليُسرى،
فلا بُدَّ من غسل اليُسرى قبل إِدخال اليُمنى الخُفَّ.
ودليل هذا القول: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإِنِّي أدخلتُهما
طاهرتين»[(446)].
فقوله: «طاهرتين» وصفٌ للقدمين، فهل المعنى أدخلتُ كلَّ واحدة وهما
طاهرتان، فيكون أدخلهما بعد كمال الطهارة.
أو أن المعنى: أدخلتُ كُلَّ واحدة طاهرة، فتجوز الصُّورة التي
ذكرنا؟ هذا محتمل.
واختار شيخ الإِسلام: أنه يجوز إِذا طَهَّر اليُمنى أن يلبسَ
الخفَّ، ثم يطهِّر اليسرى، ثم يلبس الخُفَّ[(447)].
وقال: إنه أدخلهما طاهرتين، فلم يُدخل اليُمنى إلا بعد أن طهَّرها،
واليُسرى كذلك، فيصدقُ عليه أنه أدخلهما طاهرتين.
وعلى المذهب: لو أن رجلاً فعل هذا، نقول له: اخلع اليمنى ثم
البسها؛ لأنَّك إذا لبستها بعد خلعها لبستها بعد كمال الطَّهارة.
ورُبَّما يُقال: هذا نوعٌ من العبث؛ إذ لا معنى لخلعها ثم لبسها
مرَّةً أخرى؛ لأن هذا لم يؤثِّر شيئاً، ما دام أنه لا يجب إعادة
تطهير الرِّجْل فقد حصل المقصودُ.
ولكن روى أهلُ السُّنن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رَخَّصَ
للمقيم إِذا توضَّأ فلبس خُفّيه أن يمسح يوماً وليلة[(448)].
فقوله: «إِذا توضَّأ» قد يُرَجِّح المشهورَ من المذهب؛ لأن مَنْ لم
يغسل الرِّجل اليسرى لم يصدق عليه أنه توضَّأ.
وهذا ما دام هو الأحوط فسلوكه أَوْلى، ولكن لا نجسُر على رَجُلٍ
غسلَ رِجْلَه اليمنى ثم أدخلها الخفَّ، ثم غسل اليسرى ثم أدخلها
الخُفَّ أن نقولَ له: أعدْ صلاتك ووضوءك، لكن نأمر من لم يفعل ألا
يفعل احتياطاً.
وأما اشتراط كمال الطَّهارة في الجبيرة، فضعيفٌ لما يأتي:
الأول: أنه لا دليل على ذلك، ولا يصحُّ قياسُها على الخُفَّين
لوجود الفروق بينهما.
الثاني: أنها تأتي مفاجأةً، وليست كالخُفِّ متى شئت لبسته.
وعدم الاشتراط هو اختيار شيخ الإسلام[(449)]، ورواية قويَّة عن
أحمد اختارها كثيرٌ من الأصحاب[(450)].
ويكون هذا من الفروق بين الجبيرة والخُفِّ.
ومن الفروق أيضاً بين الجبيرة وبقيَّة الممسوحات:
1 ـ أن الجبيرة لا تختصُّ بعضوٍ معيَّن، والخُفُّ يختصُّ
بالرِّجْلِ، والعِمَامة والخِمَار يختصَّانِ بالرَّأسِ.
وبهذا نعرف خطأَ من أفتى أن المرأةَ يجوز لها وضع «المناكير»
لمدَّة يوم وليلة؛ لأن المسح إِنما ورد فيما يُلبس على الرَّأس
والرِّجْلِ فقط، ولهذا لما كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في
تبوك عليه جُبَّةٌ شاميَّةٌ وأراد أن يُخرِجَ ذراعيْه من أكمامه
ليتوضَّأ، فلم يستطعْ لضيق أكمامِه، فأخرج يده من تحت الجُبَّة،
وأَلقَى الجُبَّةَ على منكبيه، حتى صبَّ عليه المغيرةُ رضي الله
عنه[(451)]، ولو كان المسح جائزاً على غير القدم والرَّأس، لمسح
النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في مثل هذا الحال على كُمَّيهِ.
2 ـ أن المسحَ على الجبيرة جائزٌ في الحَدَثين، وباقي الممسوحات لا
يجوز إلا في الحدث الأصغر.
3 ـ أن المسح على الجبيرة غيرُ مؤقَّت، وباقي الممسوحات مؤقّتةٌ،
وسبقَ الخلافُ في العِمَامة[(452)].
4 ـ أنَّ الجبيرةَ لا تُشترطُ لها الطَّهارةُ ـ على القول الرَّاجح
ـ وبقيَّةُ الممسوحات لا تُلبسُ إلا على طهارة، على خلاف بين أهلِ
العلمِ في اشتراطِ الطهارة بالنسبة للعِمَامة والخِمارِ[(453)].
وَمَنْ مسحَ في سَفَرٍ، ثُمَّ أقَامَ، أوْ عَكَسَ،...........
قوله: «ومن مسحَ في سَفَر، ثم أقام» ، من مَسَحَ في سَفَرٍ ثم
أقام، فإِنَّه يُتمُّ مسحَ مقيم إِن بقيَ من المدَّة شيءٌ، وإِن
انتهت المدَّةُ خَلَعَ.
مثاله: مسافرٌ أقبلَ على بلده وحان وقتُ الصَّلاة، فمسحَ ثم وصل
إلى البلد، فإِنَّه يُتمُّ مسحَ مقيمٍ؛ لأن المسحَ ثلاثة أيَّام
لمن كان مسافراً والآن انقطع السَّفرُ، فكما أنَّه لا يجوزُ له
قَصْرُ الصَّلاة لمَّا وصلَ إلى بلده، فكذا لا يجوز له أن يتمَّ
مَسْحَ مسافرٍ.
فإن كان مضى على مسحه يومٌ وليلة، ثم وصلَ بلدَه فإِنه يخلعُ، وإِن
مضى يومان خَلَعَ، وإن مضى يومٌ بقي له ليلة.
قوله: «أو عَكَسَ» ، أي: مسح في إقامة ثم سافر، فإنه يتمَّ مسح
مقيم تغليباً لجانب الحظر احتياطاً.
مثاله: مسح يوماً وهو مقيم، ثم سافر، فإنه يبقى عليه ليلة، وما بعد
الليلة اجتمع فيه مبيحٌ وحاظرٌ، فالسَّفَر يبيحه والحَضَر يمنعه،
فيُغَلَّبُ جانبُ الحظر احتياطاً؛ لأنك إذا خلعت وغسلت قدميك فلا
شُبهة في عبادتك، وإن مسحت ففي عبادتك شُبهة، وقد قال النبيُّ صلّى
الله عليه وسلّم: «دَعْ ما يَريْبُك إلى ما لا يَرِيبُك»[(454)].
والرِّواية الثانية عن أحمد: أنه يُتِمُّ مسح مسافر؛ لأنَّه وُجِدَ
السَّببُ الذي يستبيح به هذه المدَّة، قبل أن تنتهي مُدَّة
الإِقامة، أما لو انتهت مُدَّةُ الإقامة كأن يتمَّ له يومٌ وليلة؛
ثم يسافر بعد ذلك قبل أن يمسح؛ ففي هذه الحال يجب عليه أن
يخلعَ[(455)].
وهذه الرِّواية قيل: إِن أحمد رحمه الله رجع إليها (455) ، وهذه
رواية قويَّة.
مسألة: إذا دخل عليه الوقت ثم سافر، هل يُصلِّي صلاة مسافر أو
مقيم؟
المذهب: يُصلِّي صلاة مقيم.
والصَّحيح: أنه يُصلِّي صلاة مسافر.
فهذه المسألة قريبة من هذه؛ لأنَّه الآن صَلَّى وهو مسافر، وقد قال
الله تعالى: {{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}} [النساء:
101] .
كما أنه إذا دخل عليه الوقتُ وهو مسافر، ثم وصل بلده فإنه يُتمُّ.
أوْ شَكَّ في ابْتِدائِهِ، فَمَسْحَ مُقِيْمٍ، وإِنْ أَحْدَثَ
ثُمَّ سَافَرَ قَبْلَ مَسْحِهِ فَمَسْحَ مُسَافِرٍ، ولا يَمْسَحُ
قَلاَنِسَ،.........
قوله: «أو شَكَّ في ابتدائه...» ، يعني هل مَسَحَ وهو مسافرٌ أو
مسحَ وهو مقيمٌ؟ فإِنه يُتمُّ مسح مقيم احتياطاً، وهو المذهب.
وبناءً على الرِّواية الثَّانية ـ في المسألة السَّابقة ـ يتمُّ
مسح مسافر؛ لأنَّ هذه الرِّواية الثَّانية يُباح عليها أن يُتمَّ
مسح مسافر، ولو تيقن أنه ابتدأ المسح مقيماً. والصَّحيح في هذه
المسائل الثلاث: أنَّه إِذا مسح مسافراً ثم أقام فإنه يتمُّ مسح
مقيم، وإذا مسح مقيماً ثم سافر أو شَكَّ في ابتداء مسحه فإِنه
يُتمُّ مسح مسافر، ما لم تنته مُدَّة الحضر قبل سفره، فإِن انتهت
فلا يمكن أن يمسح.
قوله: «وإن أحْدَث ثم سافر قبل مَسْحه فَمَسْحَ مسافرٍ» ، أي: أحدث
وهو مقيمٌ، ثم سافر قبل أن يمسحَ، فإِنَّه يمسحُ مسحَ مسافرٍ؛
لأنَّه لم يبتدئ المسحَ في الحضر، وإِنَّما كان ابتداء مسحه في
السَّفر. وعلى هذا يتبيَّن لنا رُجحان القول الذي اخترناه من قبل:
بأنَّ ابتداءَ مُدَّة المسحِ من المسح لا من الحَدَث، وَهُمْ هُنَا
قد وافقوا على أنَّ الحُكم معلَّقٌ بالمسح لا بالحَدَث، ويُلزمُ
الأصحاب ـ رحمهم الله ـ أن يقولوا بالقول الرَّاجح؛ أو يطردوا
القاعدة، ويجعلوا الحكم منوطاً بالحَدَث، ويقولوا: إِذا أحدثَ ثم
سافر، ومسحَ في السَّفر، فيلزمُه أن يمسحَ مسحَ مقيمٍ؛ وإِلا حصلَ
التَّناقض.
قوله: «ولا يَمْسَحُ قَلانس» ، القلانس جمع قَلَنْسُوَة، نوع من
اللباس الذي يُوضع على الرَّأس، وهي عبارة عن طاقيَّة كبيرة، فمثل
هذا النوع لا يجوزُ المسحَ عليه؛ لأن الأصلَ وجوبُ مسح الرَّأس
لقوله تعالى: {{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}} [المائدة: 6] .
وعَدَل عن الأصل في العِمَامة، لورود النَّصِّ بها.
وقال بعض الأصحاب: يمسحُ على القَلانس، إِذا كانت مثل العِمَامة
يشقُّ نزعُها[(456)]، أمَّا ما لا يشقُّ نزعُه كالطاقيَّة المعروفة
فلا يمسح عليها. ففرَّق بين ما يشقُّ نزعه وما لا يشقُّ.
وهذا القول قويٌّ، لأنَّ الشَّارع لا يفرِّق بين متماثلين كما أنه
لا يجمع بين متفرقين[(457)]؛ لأن الشَّرع من حكيمٍ عليم، والعِبْرة
في الأمور بمعانيها، لا بصورها.
وما دام أن الشَّرع قد أجاز المسحَ على العِمَامة، فكلُّ ما كان
مثلها في مشقَّة النَّزع فإِنه يُعطى حكمَها.
ولاَ لِفَافَةَ، ............
قوله: «ولا لِفَافة» ، أي: في القَدَم، فلا يمسح الإِنسان لِفافة
لفَّها على قدمه؛ لأنَّها ليست بخُفٍّ فلا يشملُها حكمُه.
وكان النَّاس في زمنٍ مضى في فاقةٍ وإعواز، لا يجدون خُفًّا، فيأخذ
الإِنسانُ خِرقة ويلفُها على رجله ثم يربطُها.
وعلَّة عدم الجواز أنَّ الأصلَ وجوبُ غسل القدم، وخولِفَ هذا الأصل
في الخُفِّ لورود النَّصِّ به، فيبقى ما عداه على الأصل.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله جوازَ المسح على اللِّفافةِ[(458)]،
وهو الصَّحيحُ؛ لأن اللِّفَافة يُعذَرُ فيها صاحبُها أكثر من
الخُفِّ؛ لأنَّ خلعَ الخُفِّ ثم غسل الرِّجْل، ثم لبْسَ الخُفِّ
أسهل من الذي يَحُلُّ هذه اللِّفافة ثم يعيدها مرَّة أخرى، فإِذا
كان الشَّرع أباح المسح على الخُفِّ، فاللِّفافة من باب أولى.
وأيضاً: فإِن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمر السَّريَّة التي
بعثها بأن يمسحوا على العصائب والتَّساخين[(459)].
فنأخذ من كلمة «التَّساخين» جواز المسح على اللِّفافة؛ لأنَّه
يحصُل بها التَّسخين.
والغرض الذي من أجله تُلبس الخِفَاف موجودٌ في لبس اللِّفافة.
ولا مَا يَسْقُطُ مِنَ القَدَمِ،.........
قوله: «ولا ما لا يسقط من القَدَم» ، يعني: ولا يمسح ما يسقط من
القَدَم، وهذا بناءً على أنه يُشترط لجواز المسح على الخُفِّ
ثبوتُه بنفسه، أو بنعلين إلى خلعهما؛ لأن ما لا يثبت خُفٌّ غيرُ
معتاد؛ فلا يشمله النصُّ، والنَّاس لا يلبسون خِفافاً تسقط عند
المشي، ولا فائدة في مثل هذا، وهذا ظاهرٌ فيمن يمشي فإِنَّه لا
يلبسه.
لكن لو فُرض أن مريضاً مُقْعَداً لَبِسَ مثل هذا الخُفِّ للتدفئة،
فلا يجوز له المسح على كلام المؤلِّف.
ولأنَّ الذي يسقط من القَدَم سيكون واسعاً، وإخراج الرِّجْلِ من
هذا الخُفِّ سهلٌ، فيخرجها ثم يغسلها، ثم ينشِّفها ثم يردُّها.
أو يُرَى منه بَعْضُهُ، فإِن لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ قَبْلَ
الحدثِ فالحكمُ للفوقاني............
قوله: «أو يُرى منه بعضُه» ، أي: إِذا كان الخُفُّ يُرى منه بعضُ
القَدَم فإِنه لا يُمسح ولو كان قليلاً، وهذا مبنيٌّ على ما سبق من
اشتراط أن يكون الخُفُّ ساتراً للمفروض.
وسواء كان يُرى من وراء حائل؛ مثل أن يكون خفيفاً؛ أو من
البلاستيك، أم من غير حائل. فلو فُرِضَ أن في الخُفِّ خَرقاً
قَدْرَ سَمِّ الخِيَاطِ، أو كان جزء منه عليه بلاستيك يُرى من
ورائه القَدَم؛ فالمذهب أنَّه لا يجوز المسح عليه.
وسبق بيان أن الصَّحيح جواز ذلك[(460)].
قوله: «فإِن لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ قبل الحَدَث فالحُكم
للفوقاني» ، وهذا يقع كثيراً كالشُّراب والكنادر، فهذا خُفٌّ على
جَورب.
ولا يجوز المسح عليهما إِن كانا مَخْرُوقين على المذهب، ولو
سَتَرَا؛ لأنَّه لو انفرد كلُّ واحد منهما لم يجز المسح عليه، فلا
يمسح عليهما.
مثاله: لو لَبِسَ خُفَّين أحدُهما مخروق من فوق، والآخر مخروق من
أسفل، فالسَّتر الآن حاصل، لكن لو انفرد كلُّ واحد لم يجز المسحُ
عليه فلا يجوز المسح عليهما.
ولو كانا سليمين جاز المسحُ عليهما، لأنَّه لو انفرد كلُّ واحد
منهما جاز المسح عليه.
والصَّحيح: جواز المسح عليهما مطلقاً، بناءً على أنه لا يُشترط
سترُ محلِّ الفرض ما دام اسم الخُفِّ باقياً.
وإِذا لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ على وجه يصحُّ معه المسحُ، فإِن كان
قبل الحدث فالحكم للفوقاني، وإن كان بعد الحدث فالحكم للتحتاني،
فلو لَبِسَ خفًّا ثم أحدث، ثم لبس خُفًّا آخر فالحكم للتحتاني، فلا
يجوزُ أن يمسح على الأعلى.
فإِن لَبِسَ الأعلى بعد أن أحدث، ومسح الأسفل فالحكم للأسفل، كما
لو لبس خُفًّا ثم أحدث، ثم مسح عليه، ثم لبس خفًّا آخر فوق الأوَّل
وهو على طهارةِ مَسْحٍ عند لبسه للثاني، فالمذهب أنَّ الحكم
للتَّحتاني؛ لأنَّه لبس الثاني بعد الحَدَث.
وقال بعض العلماء: إِذا لبس الثَّاني على طهارة؛ جاز له أن يمسح
عليه[(461)]؛ لأنه يصدق عليه أنه أدخل رجليه طاهرتين، وقد قال
النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «فإني أدخلتهما طاهرتين»[(462)]،
وهو شامل لطهارتهما بالغسل والمسح، وهذا قول قويٌّ كما ترى.
ويؤيِّدُه: أنَّ الأصحاب ـ رحمهم الله ـ نَصُّوا على أن المسح على
الخُفَّين رافع للحدث، فيكون قد لَبِسَ الثَّاني على طهارة تامَّة،
فلماذا لا يمسح؟[(463)].
أما لو لَبِسَ الثَّاني وهو محدثٌ فإِنه لا يمسحُ؛ لأنه لبسه على
غير طهارة.
وقوله: «فالحكم للفوقاني» هذا لبيان الجواز فإِنه يجوز أن يمسحَ
على التَّحتاني حتى ولو كان الحكم للفوقاني.
وإِذا كان في الحال التي يمسح فيها الأعلى؛ فَخَلَعه بعد مسحه؛
فإِنه لا يمسح التَّحتاني، هذا هو المذهب.
والقول الثَّاني: يجوز جعلاً للخُفَّين كالظِّهارة
والبِطَانة[(464)]، وذلك فيما لو كان هناك خُفٌّ مكوَّنٌ من طبقتين
العُليا تُسمَّى الظِّهارة والسُّفلى تُسمَّى البِطَانة، فلو فرضنا
في مثل هذا الخُفِّ أنه تمزَّق من الظِّهارة بعد المسح عليه، وهو
الوجه الأعلى فإِنه يمسح على البِطَانة، وهي الوجه الأسفل حتى على
المذهب[(465)].
فالذين يقولون بجواز المسح على الخُفِّ الأسفل بعد خلع الخُفِّ
الأعلى بعد الحدث قالوا: إِنما هو بمنزلة الظِّهارة والبطانة، فهو
بمنزلة الخُفِّ الواحد. وهذا القول أيسر للنَّاس؛ لأن كثيراً من
الناس يلبس الخُفَّين على الجورب ويمسح عليهما، فإِذا أراد النوم
خلعهما، فعلى المذهب لا يمسح على الجورب بعد خلع الخُفَّين؛ لأنَّ
زمن المسح ينتهي بخلع الممسوح. وعلى القول الثَّاني: يجوز له أن
يمسحَ على الجورب، فإذا مسح ولبس خُفَّيه جاز له أن يمسح عليه
مرَّة ثانية؛ لأنه لبسهما على طهارة، ولا شَكَّ أنَّ هذا أيسر
للنَّاس؛ والفتوى به حسنة، ولا سيَّما إِذا كان قد صدر من المستفتي
ما قبل ذلك فيُفتى بما هو أحوط.
ويَمْسَح أكثَرَ العِمَامة، وظاهِرِ قَدَم الخُفِّ ..........
قوله: «ويمسحُ أكثرَ العِمَامة» ، هذا بيان لوضع المسح وكيفيته في
الممسوحات، ففي العِمَامة لا بُدَّ أن يكون المسح شاملاً لأكثر
العِمَامة، فلو مسح جُزءاً منها لم يصحَّ، وإن مسح الكُلَّ فلا
حرج، ويستحبُّ إِذا كانت النَّاصيةُ بادية أن يمسحها مع العِمَامة.
قوله: «وظاهر قَدَم الخُفِّ» ، هذا بيان لمسح الخُفَّين.
وقوله: «ظاهر» بالجرِّ يعني: ويمسحُ أكثر ظاهر القدم؛ لأن المسح
مختصٌّ بالظَّاهر لحديث المغيرة بن شعبة[(466)]: «مسح خفيه» فإِنَّ
ظاهره أن المسحَ لأعلى الخُفِّ.
ولحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: «لو كان الدِّين بالرَّأي، لكان
أسفلُ الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم يمسح أعلى الخُفِّ»[(467)]. وهذا الحديث وإِنْ كان فيه
نَظَرٌ؛ لكن حسَّنه بعضهم.
وفي قوله: «لو كان الدِّين بالرَّأي» إِشكال، فإِن الرَّأي هو
العقل.
وهل الدِّين مخالفٌ للعقل؟ الجواب: لا، ولكن مرادُ عليٍّ رضي الله
عنه ـ إِن صحَّ نسبته إليه ـ هو باديَ الرَّأي كما قال تعالى:
{{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا
بَادِيَ الرَّأْيِ}} [هود: 27] ، أي: في ظاهر الأمر.
لأنه عند التَّأمُّل نجد أن مسح أعلى الخُفِّ هو الأَولى، وهو الذي
يدلُّ عليه العقل، لأنَّ هذا المسح لا يُراد به التَّنظيف
والتنقيةُ، وإنما يُرادُ به التعبُّد، ولو أنَّنا مسحنا أسفلَ
الخُفِّ لكان في ذلك تلويثٌ له.
مِنْ أَصابِعِه إلى ساقِه دون أسْفَلِهِ، وعَقِبِه، وعَلَى جَمِيعِ
الجَبِيْرَة............
قوله: «من أصابعه إِلى ساقه» ، بيَّن المؤلِّفُ كيفيَّة المسح: بأن
يبتدئ من أصابعه أي أصابع رجله إلى ساقه، وقد وردت آثارٌ عن
النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أنه يمسح بأصابعه مفرَّقة
حتى يُرى فوق ظهر الخُفِّ خُطوطٌ كالأصابع[(468)].
قوله: «دون أسفله وعقبه» ، لأنهما ليسا من أعلى القدم، والمسح
إِنما ورد في الأعلى كما سبق في حديث المغيرة، فإِنَّ له
روايات[(469)] تدلُّ على ما دلَّ عليه حديثُ علي رضي الله عنه.
وإذا كان الخُفُّ أكبر من القدم، فهل يمسحُ من طرف الخُفِّ أو طرف
الأصابع؟
إِن نظرنا إلى الظَّاهر؛ فإِنَّه إِن مسح على خُفَّيه مسح من طرف
الخُفِّ إلى ساقه؛ بقطع النَّظر عن كون الرِّجْل فيه صغيرة أو
كبيرة، وإِن نظرنا إلى المعنى قلنا: الخُفُّ هنا زائدٌ عن الحاجة
والزَّائدُ لا حُكم له، ويكونُ الحكم مما يُحاذي الأصابع، والعمل
بالظَّاهر هو الأحوط.
تـنـبـيـه: لم يبيِّن المؤلِّفُ رحمه الله هل يمسح على الخُفَّين
معاً أو يبدأ باليُمنى؛ فقيل: يمسح عليهما معاً لظاهر حديث
المغيرة. وقيل: يبدأ باليُمنى؛ لأن المسح بدلٌ عن الغسل، والبَدلُ
له حكم المبدلُ. وهذا فيما إِذا كان يمكنه أن يمسحَ بيديه جميعاً،
أما إذا كان لا يمكنه، مثلَ أن تكون إحدى يديه مقطوعة أو مشلولة
فإِنه يبدأ باليمنى.
قوله: «وعلى جميع الجبيرة» ، أي: يمسح على جميع الجبيرة؛ لأن ظاهرَ
حديث صاحب الشُّجَّة وهو قوله: «ويمسح عليها»[(470)] شامل لكلِّ
الجبيرة من كلِّ جانب.
ولو غسل الممسوح بدل المسح: فقال بعض أهل العلم: لا يجزئ[(471)]
لأنَّه خلاف ما جاء به الشَّرع، وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه
وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ»[(472)]، ثم إِننا
بالغسل نقلب الرُّخصة إِلى مشقَّة. وقال بعض العلماء: يجزئ
الغسل[(473)]؛ لأنَّه أكمل في الإِنقاء، وإِنما عدل إلى المسح
تخفيفاً.
وتوسَّط بعضُهم فقال: يجزئ الغسلُ إِن أَمَرَّ يده عليها[(474)]؛
لأنَّ إِمرار اليد جعل الغسل مسحاً، وهذا أحوطُ؛ لكن الاقتصار على
المسح أفضل وأَوْلى.
ومَتَى ظَهَرَ بعضُ مَحلِّ الفَرْضِ بَعْدَ الحدثِ،...........
قوله: «ومتى ظهر بعضُ محلِّ الفرض بعد الحدث» ، فَرْضُ الرِّجْلِ
أن تُغسَلَ إِلى الكعبين، فإِذا ظهر من القدم بعضُ محلِّ الفرض
كالكعب مثلاً، وكذا لو أن الجورب تمزَّق وظهر طرفُ الإبهام، أو بعض
العَقِب، أو أن العِمَامة ارتفعت عمّا جرت به العادة فإِنه يلزمه
أن يستأنفَ الطَّهارة، ويغسل رِجليْه، ويمسحَ على رأسه.
وهذا بالنسبة للعِمَامة مبنيٌّ على اشتراط الطَّهارة للبسها. وعلى
القول بعدم اشتراط الطَّهارة بالنسبة للعمامة (474) فإِنه يعيد
لفَّها ولا يستأنف الطَّهارة.
وبالنسبة للخُفَّين ونحوهما مبنيٌّ على أنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه
الغسلُ، وإِذا كان فرضه الغسلُ فإن الغسلَ لا يُجامِعُ المسحَ، فلا
بُدَّ من استئنافِ الطَّهارة؛ وغسل القدمين، ثم يلبسُ بعد ذلك.
وقول المؤلِّف رحمه الله: «بعد الحدث»، يُفهم منه أنه لو ظهر بعضُ
محلِّ الفرض، أو كلُّه قبل الحدث الأوَّل فإِنه لا يضرُّ.
كما لو لبس خُفَّيه لصلاة الصُّبح، وبقي على طهارته إِلى قُرب
الظُّهر، وفي الضُّحى خلع خُفَّيه، ثم لبسهما وهو على طهارته
الأولى فإِنه لا يستأنف الطَّهارة.
مسألة: إذا خلع الخُفين ونحوهما هل يلزمُه استئناف الطَّهارة؟
اختُلِفَ في هذه المسألة على أربعة أقوال[(475)]:
القول الأول: ما ذهب إليه المؤلِّفُ رحمه الله أنه يلزمه استئناف
الطَّهارة، حتى ولو كان ظهورها بعد الوُضُوء بقليل وقبل جفاف
الأعضاء، فإِنه يجبُ عليه الوُضُوء، والعِلَّة: أنَّه لمَّا زال
الممسوحُ بطلت الطَّهارة في موضعه، والطَّهارةُ لا تتبعّضُ، فإِذا
بطلت في عضوٍ من الأعضاء بطلت في الجميع، وهذا هو المذهب.
القول الثاني: أنه إِذا خلع قبل أن تَجِفَّ الأعضاء أجزأه أن يغسل
قدميه فقط، لأنَّه لمَّا بطلت الطَّهارةُ في الرِّجْلَين؛ والأعضاء
لم تنشَفْ، فِإنَّ الموالاة لم تَفُتْ، وحينئذٍ يبني على الوُضُوء
الأوَّل فيغسل قدميه.
القول الثالث: أن يلزمه أن يغسلَ قدميه فقط، ولو جفَّت الأعضاءُ
قبل ذلك، وهذا مبنيٌّ على عدم اشتراط الموالاة في الوُضُوء.
القولُ الرَّابعُ: ـ وهو اختيار شيخ الإسلام[(476)] ـ أن الطَّهارة
لا تبطل سواء فاتت الموالاة أم لم تَفُتْ، حتى يوجد ناقضٌ من نواقض
الوُضُوء المعروفة، لكن لا يعيده في هذه الحال ليستأنف المسح عليه؛
لأنَّه لو قيل بذلك لم يكن لتوقيت المسح فائدة؛ إِذ كلُّ مَنْ أراد
استمرار المسح خلع الخُفَّ، ثم لَبسه، ثم استأنف المدَّة.
وحجته: أن هذه الطهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعيٍّ، وما ثبت بمقتضى
دليل شرعيٍّ، فإِنه لا ينتقض إلا بدليل شرعيٍّ، وإِلا فالأصل بقاء
الطَّهارة، وهذا القول هو الصَّحيحُ، ويؤيِّده من القياس: أنَّه لو
كان على رَجُلٍ شَعْرٌ كثيرٌ، ثم مسح على شعره؛ بحيث لا يصل إلى
باطن رأسه شيء من البلل، ثم حلق شعره بعد الوُضُوء فطهارتُه لا
تنتقض.
فإن قيل: إن المسح على الرَّأس أصلٌ، والمسحُ على الخُفِّ فرعٌ،
فكيف يُساوى بين الأصل والفرع.
فالجواب: أن المسحَ ما دام تعلَّق بشيء قد زال، وقد اتفقنا على
ذلك، فكونه أصليًّا، أو فرعيًّا غير مؤثِّر في الحكم.
أوْ تَمَّتْ مُدَّتُهُ اسْتَأْنَفَ الطَّهارة.
قوله: «أو تمَّت مدَّتُه استأنف الطَّهارة» ، يعني إِذا تَمَّت
المدَّة، ولو كان على طهارة، فإنه يجب عليه إِذا أراد أن يُصلِّيَ
ـ مثلاً ـ أن يستأنفَ الطَّهارة.
مثاله: إِذا مَسَحَ يوم الثلاثاء الساعة الثانية عشرة، فإِذا صارت
الساعة الثانية عشرة من يوم الأربعاء انتهت المدَّة فبطل الوُضُوء،
فعليه أن يستأنفَ الطَّهارة، فيتوضَّأ وُضُوءاً كاملاً. هكذا قرَّر
المؤلِّفُ رحمه الله.
ولا دليل على ذلك من كتاب الله تعالى، ولا من سُنَّة رسوله صلّى
الله عليه وسلّم ولا من إجماع أهل العلم.
والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وقّتَ مدَّة المسح، ليُعرَفَ بذلك
انتهاء مدَّة المسح، لا انتهاء الطَّهارة. فالصَّحيحُ أنَّه إِذا
تَمَّت المدَّةُ، والإِنسان على طهارة، فلا تبطل، لأنها ثبتت
بمقتضى دليل شرعيٍّ، وما ثبت بمقتضى دليل شرعيٍّ، فلا ينتقض إِلا
بدليل شرعيٍّ آخر، ولا دليل على ذلك في هذه المسألة، والأصلُ بقاء
الطَّهارة، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى[(477)].
فإن قيل: ألا توجبون عليه الوُضُوء احتياطاً؟
قلنا: الاحتياط بابٌ واسعٌ، ولكن ما هو الاحتياط؟ هل هو بلزوم
الأيسر؟ أو بلزوم الأشدِّ؟ أو بلزوم ما اقتضته الشَّريعة؟ الأخير
هو الاحتياط.
فإِذا شككنا هل اقتضته الشَّريعةُ أم لا؟ اختلف العلماء ـ رحمهم
الله ـ: فقال بعضهم: نسلك الأيسرَ[(478)]؛ لأن الأصلَ براءة
الذِّمَّة؛ ولأنَّ الدينَ مبنيٌّ على اليُسر والسُّهولة.
وقال آخرون: نسلك الأشدَّ (478) ؛ لأنه أحوط، وأبعد عن الشُّبهة.
ولكن في مسألة نقض الوُضُوء عندنا أصل أصَّله النبيُّ صلّى الله
عليه وسلّم، وهو قوله في الرَّجُل يُخيَّل إِليه أنَّه يجدُ
الشَّيء في بطنه في الصَّلاة، فقال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو
يجد ريحاً»[(479)].
فلم يوجب النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم الوُضُوء إلا على من تيقَّن
سبب وجوبه، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكاً فيه من حيث الواقعُ
كما في الحديث، أو من حيث الحكمُ الشَّرعي، فإِن كُلاًّ فيه شَكٌّ،
هذا شكٌّ في الواقع هل حصل النَّاقض أم لم يحصُل، وهذا شكٌّ في
الحكم؛ هل يوجبه الشَّرع أم لا؟.
فالحديث: دَلَّ على أن الوُضُوء لا ينتقض إلا باليقين، وهنا لا
يقين.
وعلى هذا؛ فالرَّاجح ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا تنتقض
الطَّهارة بانتهاء المدَّة، لعدم الدَّليل.
وأيُّ إِنسان أتى بدليل فيجب علينا أن نتَّبع الدَّليل، وإذا لم
يكن هناك دليلٌ فلا يسوغ أن نُلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به،
لأنَّ أهل العلم مسؤولون أمام الله، ومؤتمنون على الشَّريعة؛ ولهذا
جاء في الحديث: «أنهم ورثة الأنبياء»[(480)].
وكذلك ـ على المذهب ـ لو برئ ما تحت الجبيرة، لزمه أن يستأنف
الطَّهارة إِذا كانت في أعضاء الوُضُوء.
وإِذا كانت في أعضاء الغسل، كما لو اغتسل من جنابة ومسح عليها لزمه
أن يغسل ما تحتها، ولا يلزمه الغسل كاملاً، لأن الموالاة على
المذهب لا تُشترط في الغسل.
وكذلك لو انحلَّت الجبيرةُ استأنفَ الطَّهارةَ في الوُضُوءِ إِذا
كانت في أحد أعضاء الوُضُوء.
والصَّحيح كما سبق: أنه لا تبطل الطَّهارة لبرء ما تحتها، أو
انتقاضها، ويعيد شدَّها في الحال، أو متى شاء؛ لأن الجبيرة ـ على
القول الرَّاجح ـ لا يُشترط لوضعها الطَّهارةُ كما سبق[(481)].
|