بابُ فُرُوضِ الوُضُوءِ وصِفَتِهِ
الفُروض: جمع فرض، وجَمَعَهَا مع أن القاعدة عند النَّحْويين أنَّ
المصدر لا يُجْمَعُ، ولا يُثَنَّى، ولكن جَمَعَهَا باعتبار
تعدُّدها، أو على تقدير أن المصدر بمعنى اسم المفعول، أي: مفروضات
الوُضُوء.
والفَرض في اللُّغة يدلُّ على معانٍ أصلها: الحَزُّ والقطع،
فالحزُّ قطعٌ بدون إِبانة، والقطعُ حزٌّ مع إبانة.
والفرض في الشرع عند أكثر العلماء مرادفٌ للواجب، أي بمعناه، وهو
ما أُمِرَ به على سبيل الإِلزام. يعني: أَمَرَ اللَّهُ به ملزماً
إِيَّانا بفعله.
وحكمه: أن فاعله امتثالاً مُثابٌ، وتاركَهُ مستحِقٌّ للعقاب.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: الفرض ما كان ثابتاً بدليل قطعيِّ
الثُّبوت والدَّلالة.
والواجبُ: ما ثبت بدليل ظَنِّيِّ الثُّبوت أو الدِّلالة[(338)].
ومثَّلوا لذلك: بقراءة شيء من القُرآن؛ فإِنه فُرضَ في الصَّلاة،
لقوله تعالى: {{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}}
[المزمل: 20] .
وقراءة الفاتحة واجبٌ ولا يُسمَّى فرضاً؛ لأن قراءتها من أخبار
الآحاد، وعند كثير من الأصوليين وغيرهم، أن أخبار الآحاد لا تفيد
إلا الظَّنَّ.
والمراد بفروض الوُضُوء هنا أركانُ الوُضُوء.
وبهذا نعرف أن العُلماء ـ رحمهم الله ـ قد ينوِّعون العبارات،
ويجعلون الفروضَ أركاناً، والأركان فروضاً.
والدَّليل على أن الفروض هنا الأركان: أن هذه الفروض هي التي
تتكوَّن منها ماهيَّة الوُضُوء، وكلُّ أقوال أو أفعال تتكوَّن منها
ماهيَّةُ العبادة فإِنَّها أركانٌ.
والوُضُوء في اللُّغة: مشتَقٌ من الوَضَاءةِ، وهي النَّظَافَةُ
والحُسْنُ.
وشرعاً: التعبُّدُ لله عزّ وجل بغسل الأعضاء الأربعة على صفة
مخصوصة.
فإن قيل: هذا حدٌّ غيرُ صحيح، لقولك: بغسل الأعضاء، والرَّأس لا
يُغسل؟
فالجواب: أنَّ هذا من باب التغليب.
وقوله: «وصفَتِهِ» معطوفةٌ على فُروض، وليست معطوفةً على وُضُوء،
يعني: وباب صفة الوُضوء.
والصِّفة: هي الكيفيَّة التي يكونُ عليها.
وللوُضُوء صفتان: صفةٌ واجبةٌ، وصفةٌ مستحبَّةٌ.
فروضُهُ سِتَّةٌ: غَسْلُ الوجْهِ،..........
قوله: «فُروضُهُ سِتَّةٌ» ، دليلُ انحصارها في ذلك هو التَّتبُّع.
قوله: «غسل الوجه» ، هذا هو الفرض الأول، وخرج به المسحُ، فلا
بُدَّ من الغسل، فلو بلَّلت يدك بالماء ثم مسحت بها وجهك لم يكن
ذلك غسلاً.
والغَسلُ: أن يجري الماء على العضو.
وقوله: «الوجه» هو ما تحصُل به المواجهةُ، وحَدُّه طولاً: من منحنى
الجبهة إِلى أسفل اللحية، وعرضاً من الأُذن إلى الأذن.
وقولنا: من منحنى الجبهة؛ وهو بمعنى قول بعضهم: من منابت شعر
الرَّأس المعتاد[(339)]؛ لأنه يصِل إِلى حَدِّ الجبهة وهو المنحنى،
وهذا هو الذي تحصُل به المواجهة؛ لأن المنحنى قد انحنى فلا تحصُل
به المواجهة والدَّليل قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ}} [المائدة: 6] . وقد سبق حكم مسترسل اللِّحية[(340)].
والفَمُ والأَنْفُ منه، وغَسْلُ اليَدَيْن،.........
قوله: «والفمُ والأنفُ منه» ، أي: من الوجه؛ لوجودهما فيه فيدخلان
في حَدِّه، وعلى هذا فالمضمضة والاستنشاق من فروض الوُضُوء؛ لكنهما
غير مستقلَّين؛ فهما يشبهان قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أُمِرتُ
أن أسْجُدَ على سبعة أَعظُم، على الجبهة، وأشار بيده على
أنفه»[(341)]، وإن كانت المشابهة ليست من كُلِّ وجه.
قوله: «وغسل اليدين» ، هذا هو الفرضُ الثَّاني، وأطلق المؤلِّف
رحمه الله لفظ اليدين، ولكن يجب أن يقيِّد ذلك بكونه إلى المرفقين؛
لأنَّ اليد إِذا أطلقت لا يُرادُ بها إِلا الكفّ.
والدَّليل قوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيدِيَهُمَا}} [المائدة: 38] ، وقوله في التيمم: {{فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}} [المائدة: 6] ، ولم يمسح
النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في التيمُّم إِلا الكفَّين[(342)].
والمِرْفَقُ: هو المفْصلُ الذي بين العضد والذِّراع.
وسُمِّي بذلك من الارتفاق؛ لأن الإِنسان يرتفق عليه، أي: يتَّكئ.
والدَّليل على دخول المرفقين قوله تعالى: {{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ}} [المائدة: 6] وتفسير النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم
لها بفعله، حيث كان يغسل يده اليُمنى حتى يشرع في العَضُد، ثم يغسل
يده اليُسرى كذلك[(343)].
ومَسْحُ الرَّأْسِ ............
قوله: «ومسحُ الرَّأس» ، هذا هو الفرضُ الثَّالثُ من فُرُوض
الوُضُوء، والفرقُ بين المسح والغسل: أنَّ المسحَ لا يحتاج إِلى
جريان الماء، بل يكفي أن يغمس يده في الماء؛ ثم يمسح بها رأسَه،
وإِنَّما أوجب الله في الرأس المسحَ دون الغسل؛ لأن الغسلَ يشقُّ
على الإِنسان، ولا سيَّما إذا كَثُرَ الشَّعرُ، وكان في أيام
الشِّتاء، إِذ لو غُسل لنزلَ الماءُ على الجسم، ولأن الشَّعر يبقى
مبتلاً مدةً طويلة، وهذا يَلْحَق الناسَ به العسرُ والمشقَّةُ،
والله إِنما يريد بعباده اليسر.
وحَدُّ الرَّأس من منحنى الجبهة إِلى منابت الشَّعر من الخلف
طولاً، ومن الأُذن إِلى الأُذن عرضاً، وعلى هذا فالبياض الذي بين
الرَّأس والأُذنين من الرَّأس.
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ فيما إذا غسل رأسه دون مسحه؛ هل
يجزئه أم لا؟ على ثلاثة أقوال[(344)]:
القول الأول: أنه يُجزئه؛ لأن الله إنما أسقط الغسل عن الرَّأس
تخفيفاً؛ لأنه يكون فيه شعر فيمسك الماء ويسيل إلى أسفل، ولو
كُلِّف النَّاس غسله لكان فيه مشقَّة، ولا سيَّما في أيَّام الشتاء
والبَرْد، فإذا غسله فقد اختار لنفسه ما هو أغلظ فيجزئه.
القول الثَّاني: أنَّه يجزئه مع الكراهة بشرط أن يُمِرَّ يده على
رأسه، وإِلا فلا، وهذا هو المذهب، لأنَّه إِذا أمرَّ يده فقد حصل
المسح مع زيادة الماء بالغسل.
القول الثالث: أنه لا يجزئه؛ لأنَّه خلاف أمر الله ورسوله، قال
تعالى: {{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}} [المائدة: 6] ، وإذا كان
كذلك فقد قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم من حديث عائشة: «من
عَمِلَ عَمَلاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»[(345)].
ولا ريب أنَّ المسح أفضلُ من الغسل، وإِجزاء الغسل مطلقاً عن المسح
فيه نظرٌ، أما مع إِمرار اليد فالأمر في هذا قريب.
ولو مسح بناصيته فقط دون بقيَّة الرَّأس فإِنَّه لا يجزئه؛ لقوله
تعالى: {{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}} [المائدة: 6] ولم يقل: «ببعض
رؤوسكم» والباء في اللغة العربية لا تأتي للتبعيض أبداً.
قال ابن برهان: من زعم أن الباء تأتي في اللّغة العربية للتبعيض
فقد أخطأ[(346)]. وما ورد في حديث المغيرة بن شعبة أن النبيَّ صلّى
الله عليه وسلّم مسح بناصيته؛ وعلى العِمامة، وعلى
خُفَّيْه[(347)]. فإجزاء المسح على الناصية هنا لأنه مسح على
العِمامة معه، فلا يدلُّ على جواز المسح على الناصية فقط.
ومنهُ الأَذُنَان ...........
قوله: «ومنه الأذنان» ، أي من الرَّأس، والدَّليل مواظبته صلّى
الله عليه وسلّم على مسح الأُذُنين.
وأما حديث: «الأُذنان من الرَّأس»[(348)] فضعّفه كثير من العلماء
كابن الصَّلاح وغيره، وقالوا: إن طرقه واهية، ولكثرة الضَّعف فيها
لا يرتقي إلى درجة الحسن.
وبعض العلماء صحَّحه، وبعضهم حسَّنه، لكن مواظبة النبي صلّى الله
عليه وسلّم على مسحهما دليلٌ لا إشكال فيه، وعلى القول بصحة الحديث
فهل يجب حلق الشَّعر الذي ينبت على الأذنين مع شعر الرَّأس في حلق
النسك؟
فالجواب: أنَّ من صحَّح الحديث فإِنَّه يلزمه القول بذلك. ولكن
الذي يتأمَّل حلْقَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم شعره في النُّسك
لا يظَنُّ أنه كان يحلق ذلك، أو أنَّ النَّاس مكلَّفون بحلقه أو
تقصيره، وأمّا على القول بضعف الحديث فلا إشكال.
وغَسْلُ الرِّجْلَيْن،.........
قوله: «وغَسْلُ الرِّجلين» ، وهذا هو الفرض الرَّابع من فروض
الوُضوء. وأطلق رحمه الله هنا الرِّجلين، لكن لا بُدَّ أن يُقالَ:
إلى الكعبين، كما قال الله تعالى: {{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ}} [المائدة: 6] ؛ ولأن الرِّجل عند الإِطلاق لا يدخل
فيها العَقِبُ؛ بدليل أن قُطَّاع الطريق يُقطعون من المفصل الذي
بين العَقِبِ وظهر القدم، ويبقـى العَقِب فلا يُقطع، وعلى هذا يجب
أن نقيِّد كلام المؤلِّف بما قُيَّدتْ به الآيةُ.
والكَعْبَان: هما العظمان النَّاتئان اللذان بأسفل السَّاق من
جانبي القدم، وهذا هو الحقُّ الذي عليه أهل السُّنَّة.
ولكن الرَّافضة قالوا: المراد بالكعبين ما تكعَّب وارتفع، وهما
العظمان اللذان في ظهر القدم[(349)]، لأن الله قال: {{إِلَى
الْكَعْبَيْنِ}} ولم يقل: «إلى الكِعَاب» وأنتم إذا قلتم: إن
الكعبين هما: العظمان النَّاتئان فالرِّجلان فيهما أربعة، فلما قال
الله: {{إِلَى الْكَعْبَيْنِ}} عُلم أنَّهما كعبان في الرِّجْلين،
فلكُلِّ رِجْلٍ كعب واحد.
والرَّدُّ عليهم بسُنة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فإِنه كان
يغسل رجليه إلى الكعبين اللذين في منتهى السَّاقين، وهو أعلم بمراد
الله تعالى، وتبعه على ذلك كلُّ من وصف وُضُوء النبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم من الصَّحابة رضي الله عنهم.
والرَّافضة يخالفون الحقَّ فيما يتعلَّق بطهارة الرِّجل من وجوه
ثلاثة:
الأول: أنهم لا يغسلون الرِّجل، بل يمسحونها مسحاً.
الثاني: أنهم ينتهون بالتطهير عند العظم الناتئ في ظهر القدم فقط.
الثالث: أنهم لا يمسحون على الخُفين، ويرون أنه محرَّم، مع العلم
أنَّ ممن روى المسحَ على الخُفين عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه
وهو عندهم إمام الأئمة.
والتَّرتيبُ،.........
قوله: «والتَّرتيبُ» ، وهو أن يُطهَّر كلُّ عضو في محلِّه، وهذا هو
الفرض الخامس من فروض الوُضُوء، والدليل قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}} [المائدة: 6]
.
وجه الدِّلالة من الآية: إِدخال الممسوح بين المغسولات، ولا نعلم
لهذا فائدة إلا التَّرتيب، وإلا لسيقت المغسولات على نسقٍ واحد،
ولأنَّ هذه الجملة وقعت جواباً للشَّرط، وما كان جواباً للشَّرط
فإِنَّه يكون مرتَّباً حسب وقوع الجواب.
ولأن الله ذكرها مرتَّبة، وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
«أبْدَأُ بما بَدَأَ اللَّهُ به»[(350)].
والدَّليل من السُّنَّة: أن جميع الواصفين لوُضُوئه صلّى الله عليه
وسلّم ما ذكروا إِلا أنَّه كان يرتِّبها على حسب ما ذكر الله.
مسألة: هل يسقط التَّرتيبُ بالجهل أو النسيان على القول بأنَّه
فرض؟
قال بعض العلماء: يسقط بالجهل والنسيان[(351)] لأنهما عُذْر، وإِذا
كان التَّرتيب بين الصَّلوات المقضيات يسقط بالنِّسيان فهذا مثله.
وقال آخرون: لا يسقط بالنِّسيان (351) ؛ لأنه فرض والفرض لا يسقط
بالنسيان.
والقياس على قضاء الصَّلوات فيه نظر؛ لأنَّ كلَّ صلاة عبادةٌ
مستقلة، ولكن الوُضُوء عبادةٌ واحدة.
ونظير اختلاف الترتيب في الوُضُوء اختلاف التَّرتيب في رُكوع
الصَّلاة وسُجودها، فلو سجد قبل الرُّكوع ناسياً فإِن السُّجود لا
يصح؛ لوقوعه قبل محلِّه؛ ولهذا فالقول بأنَّ الترتيب يسقطُ
بالنِّسيان؛ في النَّفس منه شيء، نعم لو فُرِضَ أن رجلاً جاهلاً في
بادية ومنذ نشأته وهو يتوضَّأ؛ فيغسل الوجه واليدين والرِّجلين ثم
يمسح الرَّأس، فهنا قد يتوجَّه القول بأنه يُعذر بجهله؛ كما عَذَرَ
النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أُناساً كثيرين بجهلهم في مثل هذه
الأحوال.
والمُوَالاةُ .........
قوله: «والموالاة» ، هذا هو الفرض السَّادس من فروض الوُضُوء؛ وهي
أن يكون الشَّيء موالياً للشيء، أي عَقِبَه بدون تأخير، واشتُرطت
الموالاة لقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}} الآية
[المائدة: 6] .
ووجه الدِّلالة: أنَّ جواب الشَّرط يكون متتابعاً لا يتأخَّرُ،
ضرورة أن المشروط يلي الشرط.
ودليله من السُّنَّة: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم توضَّأ
متوالياً، ولم يكن يفصل بين أعضاء وُضُوئه، ولأنَّ النبيَّ صلّى
الله عليه وسلّم رأى رجلاً توضَّأ، وترك على قدمه مثل موضع ظُفُر
لم يصبْه الماء، فأمره أن يُحسنَ الوُضُوءَ[(352)]. وفي «صحيح
مسلم» من حديث عمر رضي الله عنه: «ارجعْ فأحسِنْ وُضُوءَك» (352) .
وفي «مسند الإمام أحمد»: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رأى
رجلاً يُصلِّي، وفي ظهر قدمه لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرهم لم يصبْها
الماءُ، فأمره النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن يعيد الوُضُوء
والصَّلاة[(353)]. والفرق بين اللفظين ـ إذا لم نحمل أحدُهما على
الآخر ـ أنَّ الأمر بإِحسان الوُضُوء أي: إتمام ما نقص منه. وهذا
يقتضي غَسْلَ ما تَرَك دون ما سَبَق، ويمكن حملُ رواية مسلم على
رواية أحمد، فلا بُدَّ من إعادة الوُضُوء، ورواية أحمد سندُها جيدٌ
قاله أحمد، وقال ابن كثير: «إسناده صحيح».
ومن النَّظر: أنَّ الوُضُوء عبادةٌ واحدةٌ، فإِذا فرَّق بين
أجزائها لم تكن عبادة واحدة.
وقال بعضُ العلماء: إن الموالاة سُنَّةٌ وليست بشرط[(354)]؛ لأن
الله أمر بغسل هذه الأعضاء، وهذا حاصل بالتَّوالي، والتفريق.
والأَوْلَى: القول بأنها شرط؛ لأنها عبادة واحدة لا يمكن تجزئتها.
وهي: أن لا يؤخِّرَ غَسْلَ عُضْوٍ حتى يَنْشِفَ الذي قَبْلَه.
قوله: «وهي: أن لا يؤخِّر غَسْل عُضْوٍ حتى يَنْشِفَ الذي قَبْلَه»
، هذا تفسيرالمؤلِّف رحمه الله للموالاة.
وهذا بشرط أن يكون ذلك بزمنٍ معتدل خالٍ من الرِّيح أو شِدَّة
الحرِّ والبرد.
وقوله: «الذي قبله»، أي: الذي قبل العضو المغسول مباشرة، فلو
فُرِضَ أنَّه تأخَّر في مسح الرَّأس فمسحه قبل أن تَنْشِف اليدان،
وبعد أن نَشِفَ الوجه فهذا وُضُوء مجزئ؛ لأنَّ المراد بقوله: «الذي
قبله»، أي: قبله على الولاء، وليس كُلَّ الأعضاء السَّابقة.
وقولنا: في زمن معتدل، احترازاً من الزَّمن غير المعتدل، كزمن
الشِّتاء والرُّطوبة الذي يتأخَّر فيه النَّشَاف، وزمن الحرِّ
والرِّيح الذي يُسرع فيه النَّشاف.
وقال بعض العُلماء ـ وهي رواية عن أحمد ـ: إِن العبرة بطول الفصل
عُرفاً، لا بنَشَاف الأعضاء[(355)]. فلا بُدَّ أن يكون الوُضُوء
متقارباً، فإِذا قال النَّاس: إن هذا الرَّجُل لم يفرِّق وضوءَه؛
بل وضوؤه متَّصلٌ، فإِنَّه يُعتبرُ موالياً، وقد اعتبر العُلماء
العُرف في مسائل كثيرة.
ولكنَّ العُرْفَ قد لا ينضبطُ، فتعليقُ الحكمِ بنشَافِ الأعضاءِ
أقربُ إِلى الضَّبط.
وقوله: «الموالاة» يُستثنى من ذلك ما إِذا فاتت الموالاة لأمرٍ
يتعلَّق بالطَّهارة.
مثل: أن يكون بأحد أعضائه حائلٌ يمنع وصول الماء «كالبوية» مثلاً،
فاشتغل بإزالته فإِنه لا يضرُّ، وكذا لو نفد الماء وجعل يستخرجه من
البئر، أو انتقل من صنبور إلى آخر ونَشِفت الأعضاء فإِنَّه لا
يضرُّ.
أما إذا فاتت الموالاة لأمر لا يتعلَّق بالطَّهارة؛ كأن يجد على
ثوبه دماً فيشتغل بإِزالته حتى نَشِفت أعضاؤه؛ فيجب عليه إِعادةُ
الوُضُوء؛ لأن هذا لا يتعلَّق بطهارته.
والنيَّةُ شرطٌ .............
قوله: «والنِّية شرطٌ» ، وهي القصد، ومحلُّها القلبُ ولا يعلم
بالنيَّات إلا الله عزّ وجل.
والنيَّةُ شرطٌ في جميع العبادات.
والكلامُ على النيَّة من وجهين:
الأول: من جهة تعيين العمل ليتميَّز عن غيره، فينوي بالصَّلاة
أنَّها صلاة وأنَّها الظُّهر مثلاً، وبالحجِّ أنه حجٌّ، وبالصِّيام
أنَّه صيام، وهذا يتكلَّم عنه أهل الفقه.
الثَّاني: قصدُ المعمول له، لا قصد تعيين العبادة، وهو الإِخلاص
وضدُّه الشِّرك، والذي يتكلَّم على هذا أرباب السُّلوك في باب
التَّوحيد وما يتعلَّق به، وهذا أهمُّ من الأوَّل، لأنَّه لُبُّ
الإِسلام وخلاصة الدِّين، وهو الذي يجب على الإِنسان أن يهتمَّ به.
وينبغي للإنسان أن يتذكَّر عند فعل العبادة شيئين:
الأول: أمر الله تعالى بهذه العبادة حتى يؤدِّيها مستحضراً أمر
الله، فيتوضَّأ للصَّلاة امتثالاً لأمر الله؛ لأنَّه تعالى قال:
{{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}}
[المائدة: 6] . لا لمجرد كون الوُضُوء شرطاً لصحَّة الصَّلاة.
الثاني: التأسِّي بالنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لتتحقَّق
المتابعة.
وقوله: «والنيَّةُ شرطٌ» أي لصحَّة العمل وقَبوله وإِجزائه؛ لقوله
صلّى الله عليه وسلّم: «إِنما الأعمال بالنيَّات»[(356)].
ولأنَّ الله عزّ وجل قيَّد كثيراً من الأعمال بقوله: {{ابْتِغَاءَ
وَجْهِ اللَّهِ}}.
كقوله تعالى: {{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
رَبِّهِمْ}} [الرعد: 22] ، وقوله: {{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا}} [النساء: 114] .
وهل يَنطِقُ بالنيَّة؟ على قولين للعلماء[(357)]، والصَّحيحُ أنَّه
لا ينطق بها، وأن التعبُّد لله بالنُّطق بها بدعة يُنهى عنها،
ويدلُّ لذلك أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لم يكونوا
ينطقون بالنيَّة إِطلاقاً، ولم يُحفظ عنهم ذلك، ولو كان مشروعاً
لبيَّنه الله على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم الحالي أو
المقالي.
فالنُّطق بها بدعةٌ سواءٌ في الصَّلاة، أو الزَّكاة، أو الصَّوم.
أما الحجُّ فلم يرد عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: نويت
أن أحُجَّ أو نويت النُّسك الفلاني، وإِنما يلبِّي بالحجِّ فيُظهر
النِّيَّة، ويكون العقد بالنيَّةِ سابقاً على التلبية.
لكن إذا احتاج الإِنسانُ إلى اشتراط في نُسُكه، فإِنه لا يشترط أن
ينطِقَ بالنية، فيقول: إني أريد كذا، بل له أن يقول: اللهم إِن
حَبَسَنِي حابس فَمَحِلِّي حيث حبستني دون النُّطقِ بالنيَّة.
والمشهور من المذهب: أنه يُسَنُّ النُّطق بها سرًّا في الحجِّ
وغيره، وهذا ضعيف لما سبق.
وأمّا القول: بأنه يُسَنُّ النُّطُق بها جهراً؛ فهذا أضعف وأضعف،
وفيه من التَّشويش على النَّاس ولا سيما في الصَّلاة مع الجماعة ما
هو ظاهرٌ، وليس هناك حاجة إلى التلفُّظ بالنيَّة لأنَّ الله يعلم
بها.
والنيَّة ليست صعبة، وإن كانت عند بعض أهل الوسواس صعبة؛ لأنَّ
كُلَّ عاقل مختار يعمل عملاً فلا بُدَّ أن يكون مسبوقاً بالنيَّة،
فلو قُرِّبَ لرَجُلٍ ماءٌ، ثم سَمَّى وغسلَ كفَّيه، ثم تمضمض
واستنشق... إِلخ؛ فإِن هذا لا يُعقل أن يكون بدون نيَّة.
ولهذا قال بعض العلماء رحمهم الله: لو أنَّ الله كلَّفنا عملاً
بدون نيَّة؛ لكان من تكليف ما لا يُطاق[(358)]. فلو قال الله:
صلُّوا ولا تنووا، فإِنَّه غير ممكن، حتى قال شيخ الإسلام: إِذا
تعشَّى الإِنسان لياليَ رمضان فإِن عشاءه يدلُّ على نيَّته ولو لم
ينوِ الصِّيام من الغد؛ وذلك لأنَّه لن يُكثر من الطَّعام كما
يُكثره في سائر أيامه؛ لأنه سوف يتسحَّر آخر الليل.
لِطَهَارةِ الأحْداثِ كلِّها،............
قوله: «لطهارة الأحداث كلِّها» ، الحَدَثُ: معنًى يقوم بالبَدَن
يمنع من فعل الصَّلاة ونحوها، هذا في الأصل.
وأحياناً يُطلقُ على سَبَبِهِ، فيُقال: للغائط حَدَثٌ، وللبول
حَدثٌ، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاةَ أحدكم
إِذا أحدث حتى يتوضَّأ»[(359)].
وخرج بقوله: «طهارة الأحداث» طهارة الأنجاس، فلا يُشترطُ لها
نيَّةٌ، فلو عَلَّق إِنسانٌ ثوبه في السَّطح، وجاء المطرُ حتى
غسله، وزالت النَّجَاسةُ طَهُرَ؛ مع أن هذا ليس بفعله، ولا
بنيَّته.
وكذلك الأرض تصيبها النَّجَاسة، فينزل عليها المطر فتطهُر.
وما ذكره المؤلِّف: مذهب مالك[(360)]، والشَّافعي[(361)]،
وأحمد[(362)].
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن طهارة الحدث لا يُشترطُ لها
النيَّةُ[(363)]، لأنها ليست عبادة مقصودة لذاتها، وإنما هي مقصودة
لتصحيح الصَّلاة، كما لو لَبِسَ ثوباً يستُر به عورته، فإِنه لا
يُشترطُ أن ينوي بذلك ستر العورة، بل لو لَبِسَهُ للتجمُّلِ أو
لدفع البرد، وما أشبه ذلك أجزأه. وهذا ضعيف. والصَّوابُ أن
الوُضُوء عبادةٌ مستقلِّة، بدليل أن الله تعالى رتَّب عليه الفضلَ
والثَّوابَ والأجرَ، ومثلُ هذا يكون عبادةً مستقلّةً، وهو قول
جمهور العلماء.
وإِذا كان عبادة مستقلَّة، صارت النيَّةُ فيه شرطاً، بخلاف إزالة
النَّجاسة فإِنَّها ليست فعلاً، ولكنها تَخَلٍّ عن شيء يُطلب
إِزالته، فلهذا لم تكن عبادة مستقلَّة، فلا تُشتَرطُ فيها النيَّة.
وقوله «كلِّها» أراد به شُمول الحدث الأصغر والأكبر، والطَّهارة
بالماء والتيمُّم.
فَيَنْوِي رَفْعَ الحدث،...........
قوله: «فينوي رَفْعَ الحدث» ، هذه الصُّورة الأولى للنيَّة، فإِذا
توضَّأ بنيَّة رفع الحدث الذي حَصَل له بسبب البول مثلاً صحَّ
وُضُوءُه، وهذا هو المقصود بالوُضُوء.
أو الطَّهارة لِمَا لا يُبَاحُ إِلا بها، فإِن نوى ما تُسَنُّ لَهُ
الطهارةُ كَقِرَاءةٍ، أو تجديداً مَسْنُوناً ناسياً حدَثَه
ارتَفَعَ،..........
قوله: «أو الطَّهارة لما لا يُبَاح إِلا بها» ، وهذه هي الصُّورة
الثَّانية، أي: ينوي الطَّهارة لشيء لا يُباح إِلا بالطَّهارة
كالصَّلاة والطَّواف ومسِّ المصحف، فإِذا نوى الطَّهارَة للصَّلاة
ارتفعَ حدثُه، وإِن لم ينوِ رفع الحدث، لأن الصَّلاة لا تصحُّ إلا
بعد رفع الحدث.
قوله: «فإن نوى ما تُسنُّ له الطَّهارة كقراءة» ، هذه هي الصُّورة
الثالثة، أي: نوى الطَّهارة لما تُسَنُّ له، وليس لما تجب، كقراءة
القرآن، فإِن قراءة القرآن دون مسِّ المصحف تُسَنُّ لها الطَّهارة،
بل كلُّ ذِكْرٍ فإِن السُّنَّة أن يتطهَّرَ له؛ لقوله صلّى الله
عليه وسلّم: «كَرِهْتُ أن أذكر الله إلا على طهارة»[(364)]، فإذا
نوى ما تُسَنُّ له الطَّهارةُ ارتفع حدثُه، لأنَّه إِذا نوى
الطَّهارةُ لما تُسَنُّ له فمعنى ذلك أنه نوى رفع الحدث؛ لأجل أن
يقرأ، وكذلك إِذا نوى الطَّهارةَ لرفع الغضبِ، أو النَّومِ،
فإِنَّه يرتفعُ حدثه.
فصار للنيَّة ثلاثُ صُور:
الأولى: أن ينويَ رفع الحدث.
الثانية: أن ينويَ الطَّهارةَ لما تجبُ له.
الثالثة: أن ينويَ الطهارةَ لما تُسَنُّ له.
قوله: «أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدَثَه ارتفَعَ» ، هذه الصُّورة
الرَّابعة. أي: تجديداً لوُضُوءٍ سابق عن غير حدث، بل هو على
وُضُوء، فينوي تجديدَ الوُضُوء الذي كان متَّصفاً به.
لكن اشترط المؤلِّفُ رحمه الله شرطين:
الشرط الأول: أن يكونَ ذلك التجديدُ مسنوناً؛ لأنه إِذا لم يكن
مسنوناً لم يكن مشروعاً، فإِذا نوى التَّجديدَ وهو غير مسنونٍ، فقد
نوى طهارةً غير شرعية، فلا يرتفع حدثُه بذلك.
وتجديد الوُضُوء يكون مسنوناً إِذا صَلَّى بالوُضُوء الذي قبله،
فإِذا صلَّى بالوُضُوء الذي قبله فإِنه يُستحبُّ أن يتوضَّأ
للصَّلاة الجديدة.
مثاله: توضَّأ لصلاة الظُّهر وصلَّى الظُّهر، ثم حَضَر وقتُ العصر
وهو على طهارته، فحينئذٍ يُسَنُّ له أن يتوضَّأَ تجديداً للوُضُوء؛
لأنَّه صلَّى بالوُضُوء السَّابق، فكان تجديدُ الوُضُوء للعصر
مشروعاً، فإن لم يَصلِّ به؛ بأنْ توضَّأ للعصر قبل دخول وقتها؛ ولم
يُصَلِّ بهذا الوُضُوء، ثم لما أذَّن العصرُ جدَّد هذا الوُضُوء،
فهذا ليس بمشروع؛ لأنَّه لم يُصلِّ بالوُضُوء الأوَّل، فلا يرتفع
حدثُه لو كان أحدث بين الوُضُوء الأول والثَّاني.
الشرط الثَّاني: أن ينسى حدثَه، فإِن كان ذاكراً لحدثه فإِنه لا
يرتفع، وهذا من غرائب العلم! إذا نوى الشَّيءَ ناسياً صَحَّ ،
وإِذا نواه ذاكراً لم يصحَّ!.
مثاله: رجل صلَّى الظُّهر بوُضُوء، ثم نقضه بعد الصَّلاة، ثم جدَّد
الوُضُوء للعصر ناسياً أنه أحدث، فهذا يرتفع حدثُه؛ لأنه نوى
تجديداً مسنوناً ناسياً حدثَه.
فإِذا كان ذاكراً لحدثه، فلا يرتفع؛ لأنَّه حينئذٍ يكون متلاعباً،
فكيف ينوي التجديدَ وهو ليس على وُضُوء؛ لأن التَّجديد لا يكون إلا
والإِنسان على طهارة.
وإِن نوى غُسْلاً مَسْنُوناً أجْزَأَ عن واجب،...........
قوله: «وإن نوى غُسْلاً مسنوناً أجْزَأَ عن واجبٍ» ، مثاله: أن
يغتسلَ من تغسيل الميِّت، أو يغتسل للإِحرام، أو للوقوف بعرفة،
فهذه أغسال مسنونةٌ، وكذلك غُسْلَ الجمعة عند جمهور العلماء،
والصَّحيح: أنه واجبٌ.
وظاهر كلام المؤلِّف ـ وهو المذهب ـ: ولو ذكر أن عليه غسْلاً
واجباً وقيَّده بعض الأصحاب بما إِذا كان ناسياً حدثه[(365)]، أي:
ناسياً الجنابة، فإِن لم يكن ناسياً فإِنَّه لا يرتفع؛ لأن الغُسْل
المسنون ليس عن حدث، وإذا لم يكن عن حدث، فقد قال النبيُّ صلّى
الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيَّات»[(366)]. وهذا الرَّجلُ
لم ينوِ إِلا الغُسْل المسنون، وهو يعلمُ أن عليه جنابة، ويذكر
ذلك، فكيف يرتفع الحدث؟
وهذا القول ـ وهو تقييده بأن يكون ناسياً ـ له وجهةٌ من النَّظر.
وتعليلُ المذهب: أنه لما كان الغُسْل المسنونُ طهارةً شرعيَّة كان
رافعاً للحدث، وهذا التَّعليل فيه شيء من العِلَّة، لأنَّه لا
شَكَّ بأنَّه غُسْلٌ مشروع، ولكنه أدنى من الغُسْل الواجب من
الجنابة، فكيف يقوى المسنونُ حتى يجزئ عن الواجب الأعلى؟
لكن إن كان ناسياً فهو معذور.
مثاله: لو اغتسل للجمعة ـ على القول بأنه سُنَّة ـ وهو عليه جنابة
لكنه لم يذكرها، أو لم يعلم بالجنابة إِلا بعد الصلاة، كما لو
احتلم ولم يعلم إلا بعد الصلاة، فإن صلاة الجمعة تكون صحيحة
لارتفاع الجنابة.
أما إذا علم ونوى هذا الغسل المسنون فقط، فإن القول بالإجزاء في
النفس منه شيء.
وكذا عكْسُهُ،...........
قوله: «وكذا عكسه» ، كذا: خبر مقدَّم، وعكسه: مبتدأٌ مؤخَّر، أي:
إِذا نوى غُسلاً واجباً أجزأ عن المسنون لدُخُوله فيه، كما لو كان
عليه جنابة فاغتسل منها عند السَّعي إلى الجُمعة فإِنه يجزئه عن
غُسْل الجمعة؛ لأن الواجبَ أعلى من المسنون فيسقطُ به، كما لو دخل
المسجد ووجد الناس يصلُّون فدخلَ معهم، فإِن تحيَّة المسجد تَسقطُ
عنه؛ لأن الواجب أقوى من المستحبِّ.
وإذا نوى الغُسْلين الواجب والمستحبَّ أجزأ من باب أولى؛ لعموم
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّما الأعمال بالنيَّات»[(367)].
وإِنْ جعل لكلٍّ غُسْلاً فهو أفضل؛ كما اختاره الأصحاب[(368)]
رحمهم الله.
وعلى هذا فالغُسْل الواجب مع المسنون له أربع حالات:
الأولى: أن ينويَ المسنونَ دونَ الواجبِ.
الثانية: أن ينويَ الواجبَ دونَ المسنونِ.
الثالثة: أن ينويهما جميعاً.
الرابعة: أن يغتسل لكلِّ واحد غسلاً منفرداً.
وإِن اجتمعت أحداثٌ تُوجِبُ وُضوءاً ........
قوله: «وإن اجتمعت أحداثٌ تُوجِبُ وُضُوءاً» ، أي: بأن فعل من
نواقض الوُضُوء أشياء متعدِّدة، كما لو بَالَ، وتغوَّط، ونامَ،
وأكل لحم إِبل، ونوى الطَّهارة عن البول، فإنه يجزئ عن الجميع.
ولكن لو نوى عن البول فقط على أن لا يرتفع غيرُه، فإِنَّه لا يجزئ
إلا عن البول؛ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّما الأعمال
بالنيَّات، وإِنما لكُلِّ امرئٍ ما نوى»[(369)].
وقيل: يجزئ عنه وعن غيره[(370)]، لأن الحدثَ وصفٌ واحد؛ وإن
تعدَّدت أسبابه فإِنه لا يتعدَّد، فإِذا نوى رفعه ارتفع وإِن لم
يعيِّن إلا سبباً واحداً من أسبابه.
وقيل: إِن عَيَّنَ الأوَّلَ ارتفع الباقي، وإِن عيَّن الثاني لم
يرتفعْ شيء منها[(371)]؛ لأنَّ الثَّاني ورد على حدث، لا على طهارة
كما لو بال أولاً، ثم تغوَّط، ثم توضَّأ عن الغائط فقط فإِنَّه لا
يرتفعُ حدثُه؛ لأن الثَّاني وَرَدَ على حَدَثٍ فلم يؤثِّر شيئاً،
وحينئذٍ إِذا نَوى رفع الحدث من الثَّاني لم يرتفع، لأن الحدث من
الأول.
والصَّحيح: أنه إِذا نوى رفع الحدث عن واحد منها ارتفع عن الجميع؛
حتى وإِنْ نوى أن لا يرتفع غيرُه، لأن الحدَثَ وصف واحد وإِن
تعدَّدت أسبابه، فإِذا نوى رفعه من البول ارتفع.
ولا يعارض قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإِنّما لكُلِّ امرئٍ ما
نوى»، وهذا لم ينوِ إلا عن حدث البول؛ لأن الحدث شيء واحد، فإِذا
نوى رفعه ارتفع، وليس الإِنسان إِذا بال في الساعة الواحدة مثلاً
صار له حدث، وإِذا تغوَّط في الساعة الواحدة والنصف صار له حدث آخر
وهكذا، بل الحَدَثُ واحدٌ، والأسباب متعدِّدةٌ.
أو غُسْلاً، فَنَوى بطَهَارَتِهِ أحَدَها ارتفعَ سَائِرُها، ويجبُ
الإِتيانُ بها عند أوَّلِ واجباتِ الطَّهَارةِ، وهو
التَّسْمِيَةُ،.........
قوله: «أو غُسْلاً فَنَوى بطَهَارَتِهِ أحَدَها ارتفعَ سائُرها» ،
أي: اجتمعت أحداث توجب غُسْلاً كالجماع، والإِنزال، والحيض،
والنِّفاس بالنسبة للمرأة، فإذا اجتمعت ونوى بغُسْلِهِ واحداً
منها، فإنَّ جميعَ الأحداث ترتفعُ.
وما يُقال في الحدثِ الأصغر، يُقالُ هنا.
قوله: «ويجب الإتيان بها عند أوَّل واجبات الطَّهارة، وهو
التَّسمية» ، أي: يجبُ الإِتيان بالنيَّة عند أوَّل واجبات
الطَّهارة، وهي التَّسمية.
والنيَّة: عزمُ القلب على فعل الطَّاعة تقرُّباً إلى الله تعالى.
والمؤلِّفُ أراد الكلام على محل النيَّة، أي: متى ينوي الإنسان؟
وقوله: «عند»، هذه الكلمة تدلُّ على القُرْب كما في قوله تعالى:
{{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ *}} [الأعراف].
فالعنديَّة تدلُّ على القُرب، وعلى هذا يجب أن تكون النيَّةُ
مقترنةً بالفعل، أو متقدِّمةً عليه بزمنٍ يسير، فإِن تقدمت بزمن
كثير فإِنها لا تجزئ.
وقوله: «عند أوَّل واجبات الطهارة»، لم يقل عند أوَّل فروض
الطَّهارة؛ لأن الواجب مقدّمٌ على الفروض في الطَّهارة، والواجب هو
التَّسمية.
وهذا على المذهب من أنَّ التسمية واجبةٌ مع الذِّكر.
وقد سبق بيانُ حكم التسمية والخلاف في ذلك، وبيان أنَّ الصَّحيح
أنَّها سُنَّةٌ[(372)].
فإِذا أراد أن يتوضَّأ فلا بُدَّ أن ينويَ قبل أن يُسمِّيَ، لأن
التَّسمية واجبةٌ.
وتُسنُّ عِنْدَ أوَّل مسنوناتِها إِن وُجد قَبْلَ
واجبٍ،.............
قوله: «وتُسَنُّ عند أوَّل مسنوناتها إنْ وُجِدَ قبل واجبٍ» ،
أوَّلُ مسنونات الطَّهارة غسل الكفَّين ثلاثاً، فإذا غسلهما ثلاثاً
قبل أن يُسمِّي صار الإِتيان بالنيَّة حينئذٍ سُنَّةٌ.
وقوله: «إِن وُجِدَ» الضَّمير يعود على أوَّل المسنونات.
وقوله: «قبل واجب»، أي: قبل التَّسمية، فلو غسل كَفَّيه ثلاثاً قبل
أن يُسمِّيَ، فإِنَّ تَقَدُّمَ النِّيةِ قبلَ غسلِ اليدين سُنَّةٌ.
والنيَّةُ لها محلاَّن:
الأول: تكونُ فيه سُنَّةٌ، وهو قبل المسنون إِنْ وُجِدَ قبل واجبٍ.
الثاني: تكون فيه واجبةً عند أوَّل الواجبات، وقد سبق بيان ما في
ذلك[(373)]، وأنَّه لا يمكن أن يقرِّب الإنسانُ الماء؛ ثم يشرع في
الوُضُوء من غير نيَّة؛ ولهذا لا بُدَّ أن تكون النيَّةُ سابقةً
حتى على أوَّل المسنونات؛ اللهم إِلا إِن كان إِنما يغسل يديه
لتنظيفهما من طعام ونحوه؛ ثم نوى الوُضُوء بعد غسل اليدين، فهذا
ربما يُقالُ: إِنه ابتدأ الطَّهارةَ بلا نيَّة، وحينئذٍ فعليه أن
يأتيَ بالنيَّة عند التَّسمية.
وقولُه: «إن وُجِدَ قبل واجب»، يشير رحمه الله إلى أن هذا المسنون
لا يوجد قبلَ الواجب في الغالب، فالغالب أن يُسمِّيَ قبل غسل
كفَّيه، وحينئذ يكون الواجب متقدِّماً.
واستصحابُ ذِكْرِها في جميعها، ويجبُ استصحاب حُكْمِها.
قوله: «واستصحاب ذكرها في جميعها» ، أي يُسَنُّ استصحاب ذكرها،
والمرادُ ذكرُها بالقلب، أي يُسَنُّ للإِنسان تذكُّرُ النيَّةِ
بقلبه في جميع الطَّهارة، فإِن غابت عن خاطره فإنه لا يضرُّ، لأن
استصحاب ذكرها سُنَّةٌ.
ولو سبقَ لسانُه بغير قصده فالمدارُ على ما في القلب.
ولو نوى بقلبه الوُضُوء، لكن عند الفعل نطق بنيَّة العمل؛ فيكون
اعتمادُه على عزم قلبه لا على الوهم الذي طرأ عليه، كما لو أراد
الحجَّ ودخل في الإحرام بهذه النيَّة؛ لكن سبقَ لسانُه فلبَّى
بالعُمْرة فإِنَّه على ما نوى.
قوله: «ويجب استصحابُ حكمها» ، معناه: أن لا ينوي قطعها.
فالنيَّةُ إِذاً لها أربع حالات باعتبار الاستصحاب:
الأولى: أن يستصحب ذكرها من أوَّل الوُضُوء إِلى آخره، وهذا أكمل
الأحوال.
الثانية: أن تغيبَ عن خاطره؛ لكنَّه لم ينوِ القَطْعَ، وهذا
يُسمَّى استصحابَ حكمِها، أي بَنَى على الحكم الأوَّل، واستمرَّ
عليه.
الثالثة: أن ينويَ قطعها أثناء الوُضُوء، لكن استمرَّ مثلاً في غسل
قدميه لتنظيفهما من الطِّين فلا يصحُّ وُضُوءُهُ؛ لعدم استصحاب
الحكم لقطعه النيَّة في أثناء العبادة.
الرابعة: أن ينويَ قطع الوُضُوء بعد انتهائه من جميع أعضائه، فهذا
لا يَنتقضُ وُضُوءهُ، لأنَّه نوى القطع بعد تمام الفعل.
ولهذا لو نوى قطعَ الصَّلاةِ بعد انتهائها، فإِنَّ صلاته لا
تنقطع[(374)].
قاعدة: قَطْعُ نيَّةِ العبادة بعد فعلها لا يؤثِّر، وكذلك الشكُّ
بعد الفراغ من العبادة، سواء شككتَ في النيَّة، أو في أجزاء
العبادة، فلا يؤثِّر إِلا مع اليقين.
فلو أن رجلاً بعد أن صَلَّى الظُّهر قال: لا أدري هل نويتُها
ظُهراً أو عصراً شكّاً منه؟ فلا عبرة بهذا الشكِّ ما دام أنَّه
داخل على أنها الظُّهر فهي الظُّهر، ولا يؤثِّر الشَّكُّ بعد ذلك،
ومما أُنشِدَ في هذا:
والشَّكُّ بعد الفعل لا يؤثِّرُ
وهكذا إِذا الشُّكوكُ تكثُر[(375)]
ومثله لو شَكَّ ـ بعد الفراغ من الصَّلاة ـ هل سجد سجدة أو سجدتين؟
فإن هذا لا يؤثِّرُ.
وهنا مسألةٌ مهمَّةٌ وهي: لو نوى فرض الوقت دون تعيين الصَّلاة،
وهذه تقع كثيراً، فلو جاء إنسان مثلاً لصلاة الظُّهر؛ ووجد الناس
يُصلُّون ودخل معهم في تلك الساعة؛ ولم يستحضر أنَّها الظُّهر، أو
الفجر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء. وإنما استحضر أنَّها فرض
الوقت.
فالمذهب: لا يجزئه؛ لأنه لا بُدَّ أن يُعيِّنَ إِما الظُّهر، أو
العصر، أو المغرب، أو العشاء، أو الصُّبح.
وعن أحمد رواية: أنه إِذا نوى فرض الوقت أجزأه. ذكرها ابن رجب في
«جامع العلوم والحكم»، واختارها بعض الأصحاب[(376)].
وهذا لا يسعُ النَّاس العمل إِلا به، لأنَّه كثيراً ما يغيب عن
الإِنسان تعيينُ الصَّلاة، لكن نيَّته هو أنَّها فرض الوقت.
مسألة: رجل سلَّم من ركعتين من الظُّهر بناءً على أنَّها الفجر ثم
ذكر، هل يكمل ركعتين أم يستأنف الصَّلاة؟
يقولون في هذه الصُّورة: يجب أن يستأنف الصَّلاة[(377)]؛ لأنه
سلَّم على أنها صلاة ركعتين؛ بخلاف من سَلَّم من ركعتين عن الظُّهر
ونحوها ثم ذكر؛ فإنه يتمُّ أربعاً ويسجد للسَّهو، ولأنَّه سلَّم
على أنَّها صلاة رباعية.
وصفةُ الوضوء: أن ينويَ، ثُمَّ يُسمِّي، ويغسلَ كفَّيه ثلاثاً
ثُمَّ يَتَمَضْمَضَ،.........
قوله: «وصفة الوُضُوء» ، المؤلف رحمه الله ساق صفة الوُضُوء
المشتملةَ على الواجب، وغير الواجب.
قوله: «أن ينويَ» ، النيَّةُ شرطٌ لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«إِنَّما الأعمال بالنيَّات»[(378)].
قوله: «ثم يُسمِّي» ، التسميةُ واجبةٌ على المذهب وقد سبق بيانُ
الخلاف في هذا[(379)].
قوله: «ويغسل كفَّيه ثلاثاً» ، والدَّليل فعلُ النبي صلّى الله
عليه وسلّم، فإِنَّه كان إذا أراد أن يتوضَّأ غسل كفَّيه
ثلاثاً[(380)] وهذا سُنَّةٌ.
وتعليل ذلك أنَّ الكفَّين آلةُ الوُضُوء، فينبغي أن يبدأ بغسلهما
قبل كُلِّ شيء حتى تكونا نظيفتين.
قوله: «ثم يَتَمَضْمَضَ» ، المضمضةُ: أن يُدخل الماء في فمه ثم
يمجَّه.
وهل يجبُ أن يُدير الماء في جميع فمه أم لا؟
قال العلماء رحمهم الله: الواجبُ إدارته في الفم أدنى
إِدارة[(381)]، وهذا إِذا كان الماء قليلاً لا يملأ الفم، فإن كان
كثيراً يملأ الفم فقد حصل المقصودُ.
وهي يجب أن يزيلَ ما في فمه من بقايا الطعام فيخلِّلَ أسنانه
ليدخلَ الماءُ بينها؟
الظَّاهر: أنه لا يجب.
وهل يجبُ عليه أن يزيلَ الأسنانَ المركَّبةَ إِذا كانت تمنعُ وصول
الماء إِلى ما تحتها أم لا يجب؟
الظَّاهر أنه لا يجب، وهذا يُشبه الخاتمَ، والخاتم لا يجب نزعُه
عند الوُضُوء، بل الأَوْلى أن يحرِّكَه لكن ليس على سبيل الوجوب،
لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يلبسه[(382)] ولم يُنْقَلْ
أنه كان يحرِّكه عند الوُضُوء، وهو أظهر من كونه مانعاً من وصول
الماء من هذه الأسنان، ولا سيَّما أنه يَشُقُّ نزع هذه التركيبة
عند بعض النَّاس.
ويَسْتَنْشِقَ،.............................................
قوله: «ويستنشقَ» ، الاستنشاق: أن يجذِبَ الماء بنَفَسٍ من أنفه.
وهل يجب الاستنثار؟
قالوا: الاستنثار سُنَّةٌ[(383)]، ولا شَكَّ أن طهارة الأنف لا
تتمُّ إِلا بالاستنثار بعد الاستنشاق؛ حتى يزول ما في الأنف من
أذىً.
وهل يبالغ في المضمضة والاستنشاق؟
قال العلماء: يبالغُ إِلا أن يكونَ صائماً لقوله صلّى الله عليه
وسلّم للقيط بن صَبِرَة: «... وبالغْ في الاستنشاق إِلا أن تكونَ
صائماً»[(384)].
وكذلك لا يبالغُ في الاستنشاق إِذا كانت له جيوب أنفيَّة زوائد؛
لأنَّه مع المبالغة ربما يستقرُّ الماء في هذه الزوائد ثم يتعفَّن،
ويصبح له رائحة كريهة ويصابُ بمرض، أو ضرر في ذلك، فهذا يقال له:
يكفي أن تستنشق حتى يكونَ الماء داخل المنخرين.
ويَغْسلَ وجْهَهُ مِنْ منابتِ شَعْر الرأس .......................
قوله: «ويغسلَ وجهه» ، الوجه ما تحصُلُ به المواجهةُ، وهو أشرف
أجزاء البدن.
قوله: «من منابتِ شعر الرأس» ، المرادُ: مكان نبات الشَّعر المعتاد
بخلاف الأفْرَع، والأنْزَع.
فالأفرع: الذي له شعرٌ نازل على الجبهة.
والأنزع: الذي انحسر شعرُ رأسه. قال الشاعر يوصي زوجته:
ولا تَنْكِحي إِنْ فرَّقَ الدَّهرُ بيننا
أغَمَّ القفا والوَجْهِ، ليس بأنْزَعا[(385)]
وقوله: «من مناب شعر الرَّأس»، هكذا حدَّه المؤلِّفُ رحمه الله،
وقال بعضُ العلماء: من منحنى الجبهة من الرَّأس؛ لأن المنحنى هو
الذي تحصُل به المواجهة، وهذا أجود.
إِلى ما انحَدَرَ من اللَّحْيين والذَّقن طُولاً، ومن الأُذُنِ
إِلى الأُذُنِ عَرْضاً، وما فيه من شَعْرٍ خفيفٍ، والظاهر الكثيفَ
........
قوله: «إلى ما انحدر من اللَّحْيَين والذَّقن طولاً» ، الذَّقن: هو
مجمعُ اللَّحْيَين. واللَّحْيَان: هما العظمان النَّابت عليهما
الأسنان.
فما انحدر من اللَّحيين، وكذلك إذا كان في الذَّقن شعرٌ طويلٌ
فإِنه يُغسل، لأن الوجه ما تحصُل به المواجهةُ، والمواجهةُ تحصُل
بهذا الشَّعر فيكون غسله واجباً.
وقال بعض العلماء: إِن ما جاوز الفرض من الشَّعر لا يجب غسله،
لأنَّ الله قال: {{وُجُوهَكُمْ}} [المائدة: 6] »، والشَّعر في حكم
المنفصل.
وقد ذكر ابنُ رجب هذا في «القواعد»، وصحَّحَ أنَّه لا يجب غسل ما
استرسل من اللَّحيين والذَّقن[(386)].
والأحوَطُ والأَوْلى غسلُ ما استرسل من اللَّحيين والذَّقن.
قوله: «ومن الأُذُن إِلى الأُذن عرضاً» ، والبياضُ الذي بين العارض
والأُذُن من الوجه.
والشَّعر الذي فوق العظم الناتئ يكون تابعاً للرَّأس، هذا حَدُّ
الوجه.
والدَّليل على غسله قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}}
[المائدة: 6] .
قوله: «وما فيه من شعر خفيف، والظَّاهرَ الكثيف» ، الخفيفُ: ما
تُرى من ورائه البشرةُ، والكثيف: ما لا تُرى من ورائه.
فالخفيفُ: يجب غسله وما تحته؛ لأن ما تحته إِذا كان يُرى فإنَّه
تَحصُلُ به المواجهة، والكثيف يجب غسلُ ظاهرهِ دونَ باطنهِ؛ لأن
المواجهةَ لا تكون إلا في ظاهر الكثيف.
وكذلك يجب غسلُ ما في الوجه من شعر كالشَّارب والعَنْفَقَةِ[(387)]
والأهداب والحاجبين والعارضين. ويُستحبُّ تخليل الشَّعر الكثيفِ؛
لأنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يخلِّل لحيته في
الوُضُوء[(388)].
قوله: «مع ما استرسل منه» ، «استرسل» أي: نَزَلَ.
وظاهرُ كلام المؤلِّفِ، ولو نزلَ بعيداً، فلو فُرِضَ أنَّ لرَجُلٍ
لحيةً طويلة أكثر مما هو غالب في النَّاس، فإنَّه يجب عليه غسل
الخفيف منها، والظَّاهر من الكثيف.
قوله: «ثمَّ يديه مع المرفقين» ، أي: اليُمنى ثم اليُسرى، ولم
يَذْكُرْ هنا التَّيامنُ؛ لأنه سبق في سُنَن الوُضُوء.
وقوله: «مع المرفقين»، تعبير المؤلِّف مخالفٌ لظاهر قوله تعالى
{{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}} [المائدة: 6] ، لأن المعروف
عند العلماء أن ابتداء الغاية داخل لا انتهاؤها، بمعنى: أنك إِذا
قُلت لشخص: لك من هذا إِلى هذا، فما دخلت عليه «من» فهو له، وما
دخلت عليه «إلى» فليس له، فظاهر الآية أن المرفقين لا يدخلان.
لكنهم قالوا: «إلى» في الآية بمعنى «مع»، وجعلوا نظير هذا قوله
تعالى: {{وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}}
[النساء: 2] ، أي: مع أموالكم. ولكن هذا التنظير فيه نظرٌ؛ فإِن
الآية في المال، ليست كالآية في الغسل، لأنه قال: {{وَآتُوا
الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ولاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى
أَمْوَالِكُمْ}} [النساء: 2] ، أي: مضمومة إلى أموالكم، فالإنسان
لا يأكل مال غيره إِلا إِذا ضمَّه إِلى ماله، فضمَّن قوله: «ولا
تأكلوا» معنى الضَّمِّ.
أما آية الوُضُوء فليست كذلك.
ولكن الجواب الصَّحيح أن الغاية داخلة فيها بدليل السُّنَّة، فعن
أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه توضَّأ حتى أشرع في العَضُد، وقال:
هكذا رأيت النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يفعل[(389)]، ومقتضى هذا
أنَّ المرفق داخل.
وكذلك رُويَ عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه توضَّأ فأدار الماء على
مرفقيه[(390)].
وقد يُقال: إن الغاية لا تدخلُ إِذا ذُكِرَ ابتداءُ الغاية «من»،
أما إِذا لم تُذكر فإنها تكونَ داخلة، ولهذا لو قال قائل: هل
الأفضلُ في غسل اليدين البَدْءُ من المرفق، أو من وسط الذراع، أو
من أطراف الأصابع؟.
فالجواب: أن الأفضل أن يبدأ من أطراف الأصابع لقوله: «إلى». وإن لم
يكن ظُهور ذلك عندي قويًّا؛ لأنَّ الابتداء لم يُذكر، ولا بُدَّ من
الإِتيان بـ«إلى» هنا؛ إِذ لو لم تأتِ وقال: (اغسلوا أيديكم)، لكان
الواجبُ غسلَ الكفِّ فقط؛ لأن اليَد إِذا أُطلقت فالمراد بها
«الكفُّ» بدليل قوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}} [المائدة: 38] وقطعُ يد السَّارق من
الكفِّ، وكذلك قوله تعالى في التيمم: {{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}} [المائدة: 6] ، ومسحُ اليد في التيمُّمِ
إنما يكون إلى الكفِّ؛ بدليل فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وإِن تمسَّك متمسِّكٌ بالظاهر ـ الذي ليس بظاهر ـ وقال: إن الأفضل
أن يكون من الأصابع. فأرجو أن لا يكون به بأسٌ.
وقوله: «مع المرفقين» تعبير المؤلِّف بـ«مع» من باب التَّفسير
والتوضيح.
ثم يمسح كلّ رأْسِه مع الأُذُنَيْن مَرَّةً واحدةً،........
قوله: «ثم يمسحُ كُلَّ رأسه مع الأُذنين مَرَّةً واحدةً» ، أي: لا
يغسلُه، وإنَّما يمسحُه، وهذا من تخفيف الله تعالى على عباده؛ لأن
الغالب أنَّ الرَّأس فيه شعرٌ فيبقى الماءُ في الشَّعر؛ لأن الشعر
يمسكُ الماءَ فينزل على جسمه، فيتأذّى به؛ ولا سيَّما في أيَّام
الشِّتاء.
وقوله: «مع الأُذنين» دليلُ ذلك:
1 ـ ثبوته عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يمسحُ الأُذنين
مع الرَّأس[(391)].
2 ـ أنَّهما من الرَّأس[(392)].
3 ـ أنَّهما آلة السَّمع، فكان من الحكمة أن تُطَهَّرا حتى
يَطْهُرَ الإِنسانُ ممَّا تلقَّاه بهما من المعاصي.
ثُمَّ يَغسل رجْلَيْه معَ الكعبين ........
قوله: «ثم يغسل رجليه مع الكعبين» ، الكلامُ على قوله: «مع
الكعبين» كالكلام على قوله: «مع المرفقين»، وكلمة «مع» ليس فيها
مخالفةٌ للقرآن؛ لأن «إلى» في قوله تعالى: {{إِلَى الْكَعْبَيْنِ}}
[المائدة: 6] بمعنى «مع» لدلالة السُّنَّة على ذلك؛ كما في حديث
أبي هريرة رضي الله عنه: أنه توضَّأ فغسل ذراعيه حتى أشرع في
العَضُد، ورجليه حتى أشرع في السَّاق، وقال: هكذا رأيتُ النبيَّ
صلّى الله عليه وسلّم يفعلُ[(393)]. وعلى هذا فالكعبان داخلان في
الغسل وهما: العظمان الناتئان في أسفل السَّاق.
فيجبُ غسلُهما، وهذا الذي أجمع عليه أهل السُّنَّة لقوله تعالى:
{{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}}
[المائدة: 6] بنصب «وأرجلَكم» عطفاً على «وجوهَكم» وهذه قراءة
سَبْعيَّة.
وأما قراءة «وأرْجُلِكُمْ» بالجرِّ، وهي سَبْعِيَّةٌ أيضاً[(394)]،
فتُخرَّج على ثلاثة أوجه:
الأول: أنَّ الجرَّ هنا على سبيل المجاورة، بمعنى أنَّ الشيء يتبع
ما جاوره لفظاً لا حكماً، والمجاور لها «رؤوسكم» بالجرِّ فتجرُّ
بالمجاورة. ومنه قول العرب: «هذا جُحر ضَبٍّ خَرِبٍ» بجرِّ خَربٍ،
مع أنَّه صِفةٌ لجُحر المرفوع، ومقتضى القواعد رفع خَرب، لأن صفة
المرفوع مرفوع، ولكن العرب جرَّته على سبيل المجاورة[(395)].
الثاني: أن قراءة النَّصب دلَّت على وجوب غسل الرِّجلين.
وأما قراءة الجر؛ فمعناها: اجعلوا غسلكم إِيَّاها كالمسح، لا يكون
غسلاً تتعبون به أنفسكم؛ لأن الإِنسان فيما جرت به العادة قد يكثر
من غسل الرِّجلين ودلكها؛ لأنَّها هي التي تباشر الأذى، فمقتضى
العادة أن يزيد في غسلها، فقُصدَ بالجرِّ فيما يظهر كَسْرُ ما
يعتادهُ النَّاسُ من المبالغة في غسل الرِّجلين؛ لأنهما اللتان
تلاقيان الأذى.
الثالث: أن القراءتين تُنزَّلُ كلُّ واحدة منهما على حال من أحوال
الرِّجل، وللرِّجل حالان:
الأولى: أن تكونَ مكشوفةً، وهنا يجب غسلها.
الثانية: أن تكونَ مستورةً بالخُفِّ ونحوه فيجب مسحُها.
فتُنَزَّل القراءتان على حالَيْ الرِّجْل، والسُّنَّةُ بيَّنت ذلك،
وهذا أصحُّ الأوجه وأقلُّها تكلُّفاً، وهو متمشٍّ على القواعد،
وعلى ما يُعرَفُ من كتاب الله تعالى حيث تُنزَّلُ كلُّ قراءة على
معنى يناسبها.
ويكون في الآية إشارة إلى المسح على الخفَّين.
ويغسلُ الأقطعُ بقيَّة المفْرُوضِ، فإن قُطِعَ من المَفْصِل غَسَلَ
رَأْسَ العَضُد منه،.........
قوله:
«ويغسلُ الأقطعُ بقيَّة المفروضِ» ، أراد رحمه الله أقطعَ اليدين؛
بدليل قوله: «غَسَلَ رأسَ العَضُد منه».
فيغسلُ الأقطعُ بقيةَ المفروض، ولا يأخذ ما زاد على الفرض في
المقطوع.
فمثلاً: لو أنه قُطِعَ من نصف الذِّراع، فلا يرتفعُ إلى العَضُدِ
بمقدار نصفِ الذِّراع؛ لأن العَضُدَ ليس محلًّا للغسل، وإِنما
يغسلُ بقيَّة المفروضِ لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وهذا اتقى الله ما استطاع.
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمَرتُكُم فأمرٍ فأتوا منه ما
استطعتم»[(396)]، وما قُطِعَ سقط فرضُه.
قوله: «فإِن قُطِعَ من المَفْصِل غَسَلَ رَأْسَ العَضُد منه» ،
يعني إِذَا قُطِعَ من مفصل المِرْفق غَسَلَ رأسَ العَضُد، لأن رأس
العَضُد مع المرفق في موازنة واحدة.
وقد سبقَ[(397)] أنه يجبُ غسلُ اليدين مع المرفقين، ورأسُ العَضُدِ
داخلٌ في المرفق فيجب غسلُه، وإِن قُطِع من فوق المفصل لا يجبُ
غسلُه.
وهكذا بالنسبة للرِّجل إِن قُطِعَ بعضُ القدمِ غَسلَ ما بقيَ، وإِن
قُطِع من مفصل العَقِبِ غسلَ طرفَ السَّاقِ؛ لأنَّه منه.
وهكذا بالنسبة للأُذُن إِذا قُطِعَ بعضُها مسح الباقي، وإِن قُطِعت
كلُّها سقطَ المسحُ على ظاهرِها، ويُدخِلُ أصبعيهِ في صِمَاخ
الأُذنين.
ثم يرفعُ بصرَهُ إلى السَّماءِ ...........
قوله: «ثم يرفعُ بصره إلى السَّماء» ، هذا سُنَّةٌ إِن صحَّ
الحديث، وهو ما رُويَ أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من
توضَّأ فأحسن الوُضُوء، ثم رفع نظره إلى السَّماء فقال: أشهد أن لا
إله إلا الله؛ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،
فُتحت له أبواب الجنَّة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء»[(398)] وفي
سنده مجهولٌ، والمجهولُ لا يُعلم حاله: هل هو حافظ، أو عدل، أو ليس
كذلك، وإِذا كان في السند مجهولٌ حُكِمَ بضعف الحديث.
والفقهاء ـ رحمهم الله ـ بَنَوا هذا الحكمَ على هذا الحديث. وعلى
تعليل وهو: أنه يرفعُ نظرَه إلى السَّماء إِشارةً إلى عُلوِّ
اللَّهِ تعالى حيثُ شَهِدَ له بالتَّوحيد.
ويقولُ ما وَرَدَ،...........
قوله: «ويقول ما وَرَدَ» ، وهو حديث عمر رضي الله عنه: «أشهد أن لا
إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من
التَّوابين، واجعلني من المتطهِّرين، فإِنَّ من أسبغ الوُضُوء ثم
قال هذا الذِّكر؛ فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة الثَّمانية، يدخل من
أيّها شاء»[(399)].
وناسب أن يقول هذا الذِّكر بعد الوُضُوء، لأن الوُضُوء تطهيرٌ
للبَدَن، وهذا الذِّكر تطهيرٌ للقلب؛ لأن فيه الإخلاص لله.
ولأن فيه الجمع بين سؤال الله أن يجعله من التَّوابين الذين
طهَّروا قلوبهم، ومن المتطهِّرين الذين طهَّروا أبدانهم.
وقال بعض العلماء: إِن هذا الذِّكر يُشَرعُ بعد الغسل
والتيمُّم[(400)] أيضاً، لأن الغسلَ يشتمل على الوُضُوء وزيادة،
فإِن من صفات الغسل المسنونة أن يتوضَّأ قبله.
ولأنَّ المعنى يقتضيه.
وأمَّا التيمُّم فلأنه بدل على الوُضُوء، وقد قال الله تعالى بعد
التيمم: {{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}} [المائدة: 6] فكان
مناسباً.
ويرى بعضُ العلماء: أنه يقتصر على ما وَرَدَ في الوُضُوء فقط.
وهو ظاهر كلام الأكثر، قال في «الفروع»: «ويتوجَّهُ ذلك بعد
الغُسل؛ ولم يذكروه»[(401)]، وقال في «الفائق»: «قلت: وكذا يقوله
بعد الغُسل»[(402)].
وهذا ـ أعني الاقتصار على قوله بعد الوُضُوء ـ أرجح؛ لأنَّه لم
يُنقل بعد الغُسل والتَّيمم، وكلُّ شيء وُجِدَ سَبَبُهُ في عهد
النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يمنعْ منه مانع، ولم يفعله،
فإِنه ليس بمشروع. نعم؛ لو قال قائل باستحبابه بعد الغُسل إِن
تَقَدَّمهُ وُضُوء لم يكن بعيداً إِذا نواهُ للوُضُوء.
وقول هذا الذِّكر بعد الغسل أقربُ من قولِه بعد التيمُّم؛ لأنَّ
المغتسل يصدق عليه أنه متوضِّئ.
وتُبَاحُ معونتُه،...........
قوله: «وتُباحُ معونتُه» ، أي: معونة المتوضِّئ، كتقريب الماء إليه
وصَبِّه عليه، وهو يتوضَّأ، وهذه الإباحة لا تحتاج إلى دليل؛ لأنها
هي الأصل.
وقد دَلَّ أيضاً على ذلك: أن المغيرةَ بن شعبة رضي الله عنه صَبَّ
الماءَ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتوضَّأ[(403)].
فإن قلت: ألا يكون هذا مشروعاً؛ لأنَّه من باب التَّعاون على
البِرِّ والتقوى، فلا يقتصر على الإباحة فقط، بل يُقال: إنه مشروع؟
فالجواب: لا شك أنَّه من باب التَّعاون على البِرِّ والتَّقوى،
ولكن هذه عبادة ينبغي للإِنسان أن يُباشِرَها بنفسه، ولم يردْ عن
النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه كُلَّما أراد أن يتوضَّأ طلب من
يُعينه فيه.
وقال بعضُ العلماء: تُكرَهُ إِعانةُ المتوضِّئ إلا عند
الحاجة[(404)]؛ لأنَّها عبادة ولا ينبغي للإِنسان أن يستعينَ بغيره
عليها، والمذهب أصَحُّ.
وتَنْشِيفُ أعضائِه.
قوله: «وتنشيفُ أعضائه» ، التنشيف بمعنى: التجفيف.
والدَّليل: عدم الدَّليل على المنع، والأصل الإباحة.
فإن قلت: كيف تجيبَ عن حديث ميمونة رضي الله عنها بعد أن ذكرت
غُسْلَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: «فَنَاولتُهُ ثَوباً
فلم يأخُذْهُ، فانطلق وهو يَنْفُضُ يديه»[(405)].
فالجواب: أن هذا قضيَّة عين تحتمل عِدَّة أمور:
إِما لسببٍ في المنديل، كعدم نظافته، أو يُخشى أنْ يُبِلَّهُ
بالماء وبلَلُه بالماء غيرُ مناسب أو غير ذلك.
وقد يكونُ إِتيانُها بالمنديل دليلاً على أنَّ من عادتِه أن
ينشِّفَ أعضاءه وإلا لم تأت به.
والصَّوابُ: ما قاله المؤلِّف أنه مباحٌ.
|