بابُ الأَذَان والإِقامة
هذا الباب عنوان لمسألتين، لكنهما مسألتان متلازمتان: إحداهما
الأذان، والثانية الإقامة.
الأذان في اللُّغة: الإعلامُ، ومنه قوله تعالى: {{فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}} [البقرة: 279] ، وقوله:
{{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ
الْحَجِّ الأَكْبَرِ}} [التوبة: 3] .
وفي الشَّرع: إعلامٌ خاصٌ يأتي ذكره، وهذا الغالب في التَّعريفات
الشَّرعيَّة أنها تكون أخصَّ من المعاني اللُّغويَّة، وقد يكون
بالعكس. فالإيمان في اللُّغة: التَّصديق، وفي الشَّرع أعمُّ منه،
ولكن الغالب الأول.
أما تعريف الأذان شرعاً: فهو التعبُّد لله بذكرٍ مخصوص؛ بعد دخول
وقت الصَّلاة؛ للإعلام به.
وهذا أولى من قولنا: الإعلامُ بدخول وقتِ الصَّلاة؛ لأنَّ الأذان
عبادة فينبغي التنويه عنها في التَّعريف، ولأنَّ الأذان لا يتقيَّد
بأوَّل الوقت؛ ولهذا إذا شُرع الإبراد في صلاة الظُّهر شُرِعَ
تأخير الأذان أيضاً؛ كما وَرَدَ ذلك في الصحيح[(63)].
والأذان عبادة واجبة؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمرَ به،
ولأنَّ الله أشار إليه في القرآن في قوله: {{وَإِذَا نَادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}} [المائدة: 58]
وهذا عام، وقوله: {{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}} [الجمعة: 9] ، وهذا
خاص.
أما الإقامة: فإنها في اللُّغَةِ مصدرُ أقام، من أقام الشيءَ إذا
جعله مستقيماً.
أما في الشَّرع: فهي التعبُّد لله بذكرٍ مخصوص عند القيام
للصَّلاة. والفرق بينها وبين الأذان: أن الأذان إعلام بالصلاة
للتهيُّؤ لها والإقامة إعلامٌ للدُّخول فيها والإحرام بها، وكذلك
في الصِّفة يختلفان.
مسألة : واختلف العلماء أيُّها أفضل، الأذان، أم الإقامة، أم
الإمامة[(64)]؟
والصَّحيح: أنَّ الأفضل الأذان؛ لورود الأحاديثِ الدَّالة على
فضله[(65)].
ولكن إذا قال قائل: الإمامة رُبطتْ بأوصاف شرعيَّة مثل: «يؤمُّ
القوم أقرؤهم لكتاب الله»[(66)]، ومعلومٌ أن الأقرأ أفضل؛
فَقَرْنُها به يدلُّ على أفضليتها؟
فنجيب عليه: بأننا لا نقول لا أفضليَّة في الإمامة، بل الإمامة
ولاية شرعيَّة ذات فضل، ولكننا نقول: إنَّ الأذان أفضل من الإمامة
لِمَا فيه من إعلان ذكرِ الله وتنبيه النَّاس على سبيل العموم،
فالمؤذِّن إمام لكلِّ من سمعه، حيث يُقتدى به في دخول وقت
الصَّلاة؛ وإمساك الصَّائم وإفطاره، ولأنَّ الأذان أشقُّ من
الإمامة غالباً، وإنَّما لم يؤذِّن رسولُ الله صلّى الله عليه
وسلّم وخلفاؤه الرَّاشدون؛ لأنَّهم اشتغلوا بالأهمِّ عن المهم؛
لأنَّ الإمام يتعلَّق به جميع النَّاس، فلو تفرَّغ لمراقبة الوقت
لانشغل عن مهمَّات المسلمين، ولا سيَّما في الزَّمن السَّابق حيثُ
لا ساعات ولا أدلَّة سهلة.
هُمَا فَرْضُ كِفَايةٍ ..............
قوله: «هما فرضُ كِفَاية» ، هذا بيان لحكمهما.
الفرض في اللُّغة: القطع. وشرعاً: ما أُمِرَ به على سبيل الإلزام
وهل هو أوكد من الواجب، أم هما بمعنى واحد[(67)]؟
الصحيح: أنهما بمعنى واحد، لكن ينبغي مراعاة ألفاظ الشَّرع، فما
جاء بلفظ الفرض فَلْيُعبَّر عنه بالفرض، وإلا فبما عبَّر عنه
الشَّارع؛ لأنَّ هذا أَولى في المتابعة.
والدَّليل على فرضيتهما: أَمْرُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بهما
في عِدَّة أحاديث[(68)]، وملازمته لهما في الحضر والسَّفر، ولأنه
لا يتمُّ العلم بالوقت إلا بهما غالباً، ولتعيُّن المصلحة بهما؛
لأنَّهما من شعائر الإسلام الظَّاهرة.
وقوله: «كفاية» وهو الذي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين.
ودليلُ كونه فرض كفاية: قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لمالك بن
الحُويرث: «إذا حضرت الصلاةُ فليُؤذِّنْ لكم أحدُكم»[(69)]، وهذا
يدلُّ على أنه يُكتَفَى بأذان الواحد، ولا يجبُ الأذان على كُلِّ
واحد.
قال بعض أهل العلم: ما طُلبَ إيجاده من كلِّ شخصٍ بعينه فإنَّه
فرضُ عَين، وما طُلبَ إيجاده بقطع النَّظر عن فاعله فهو فرضُ
كفاية[(70)]. ففي الأول لوحظ العامل، وفي الثَّاني لوحظ العمل، فإن
قيل: أيُّهما أفضل فرض العين أم فرض الكفاية؟ فالجواب: أن الأفضل
فرض العين على القول الرَّاجح؛ لأنَّ فرضه على كلِّ أحد بعينه دليل
على أهميته، وأنه لا يتمُّ التعبُّد لله تعالى من كلِّ واحد إلا به،
بخلاف فرض الكفاية.
على الرِّجَال ................
قوله: «على الرِّجال» ، جمع رَجُل، وتُطلق على البالغين، فخرج بذلك
الصِّغار والإناث والخُنثى المُشكِل، فلا يجب على الصِّغار؛ لأنهم
ليسوا رجالاً، وليسوا من أهل التَّكليف.
أمَّا النِّساء: فعلى المذهب لا يجب عليهنَّ أذان؛ سواء كُنَّ
منفردات عن الرِّجال أو كُنَّ معهم، وإذا لم نقل بالوجوب عليهنَّ
فما الحكم حينئذ؟ فيه روايات عن الإمام أحمد[(71)]: رواية أنَّهما
يُكرهان، ورواية أنَّهما يُبَاحان، ورواية أنَّهما يُستحبَّان،
ورواية أنَّ الإقامة مستحبَّة دون الأذان. وكلُّ هذا مشروطٌ بما
إذا لم يرفعنَ الصَّوت على وجهٍ يُسمَعْنَ، أما إذا رفعن الصَّوت
فإما أن نقول بالتَّحريم أو الكراهة.
والمذهب الكراهة مطلقاً؛ لأنهنَّ لَسْنَ من أهل الإعلان فلا يُشرع
لهنَّ ذلك، ولو قال قائل بالقول الأخير ـ وهو سُنِّيَّةُ الإقامة
دون الأذان؛ لأجل اجتماعهن على الصَّلاة ـ لكان له وجه.
المُقِيمِينَ للصَّلَواتِ الخَمْسِ المَكْتُوبَةِ المُؤَدَّاةِ،.................
قوله: «المقيمين» ، ضِدُّ المسافرين، فالمسافرون لا أذان عليهم ولا
إقامة، ولكن يُسَنُّ. هذا هو المذهب، ولكن لا دليل له، بل الدَّليل
على خِلافه، وهو أنَّهُمَا واجبان على المقيمين والمسافرين،
ودليله: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال لمالك بن الحويرث
وصحبِه: «إذا حضرت الصَّلاةُ فليؤذِّن لكم أحدُكُم»[(72)]، وهم
وافدون على الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام مسافرون إلى أهليهم،
فقد أمر الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام أن يُؤذِّن لهم أحدُهم،
ولأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يَدَعِ الأذان ولا الإقامة
حَضَراً ولا سَفَراً، فكان يُؤذِّن في أسفاره ويأمر بلالاً رضي
الله عنه أن يُؤذِّنَ.
فالصَّواب: وجوبُه على المقيمين والمسافرين.
قوله: «للصَّلوات» ، اللام للتعليل، يعني أنَّ الأذان والإقامة
واجبان للصَّلاة وليسا واجبين فيها، والفرق بين الواجب للشيء
والواجب فيه: أنَّ الواجب في الشيء من حقيقته وماهيَّتِه،
كالتَّشهُّد الأوَّل مثلاً، وأمَّا الواجب للشيء فهو خارجٌ عن
الحقيقة والماهيَّة، كالأذان والإقامة للصَّلاة، فهما خارجان عن
الصَّلاة واجبان لها؛ فلو صَلَّى بدونهما صحَّت صلاتُه، ولو ترك
التَّشهُّد الأوّل عمداً لم تصحَّ.
وقوله: «الخَمْسِ المكتوبة» ، يعني: المفروضة ومنها الجُمُعة؛
لأنها حَلَّت محلَّ الظُّهر.
ودليل وجوبه: قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حضرت
الصَّلاة فليؤذِّن لكم أحدُكم»[(73)]. وهو عامٌ في كلِّ الصَّلوات
الخمس، ولأن مؤذِّنَه كان يواظب على أن يؤذِّن للصَّلوات الخمس،
فكان واجباً.
وقوله: «المكتوبة»، أي: المفروضة، والوصف هنا بيان للواقع؛ إذ ليس
هناك صلوات خمس غير مكتوبة؛ اللهم إلا أن يريد بقوله: «المكتوبة»
المؤدَّاة، أي: التي تُفعل في الوقت، فيكون هذا له مفهوم؛ لأن
المقضيَّة لا يجب لها الأذان على المذهب.
وقوله: «للصّلوات الخمس» خرج به ما عداها، فلو أراد الإنسان الوتر
فإنه لا يؤذِّن له، ولو كُسِفَت الشمسُ لم يؤذِّنْ لذلك، وكذلك
صلاة العيد لا أذان لها، ومثل ذلك المنذورة.
قوله: «المؤدَّاة» ، هكذا في بعض نُسخ «الرَّوض»[(74)]، فخرج بهذا
المقضيَّة، وهي التي تُصلَّى بعد الوقت، فلا يجب الأذان لها لكن
يُسَنُّ.
والصَّواب: وجوبهما للصَّلوات الخمس المؤدَّاة والمقضيَّة، ودليله:
أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «لمَّا نام عن صلاة الفجر في
سفره، ولم يستيقظ إلا بعد طُلوع الشَّمس؛ أمر بلالاً أن يُؤذِّنَ
وأن يُقيمَ»[(75)]، وهذا يَدلُّ على وجوبهما. ولعموم قول النبيِّ
صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حضرت الصَّلاةُ فليؤذِّنْ لكم
أحدُكم»[(76)]، فإنه يشمل حضورَها بعد الوقت وفي الوقت، ولكن إذا
كان الإنسان في بلد قد أُذِّنَ فيه للصَّلاة، كما لو نام جماعةٌ في
غرفة في البلد؛ ولم يستيقظُوا إلا بعد طلوع الشَّمس؛ فلا يجب عليهم
الأذان اكتفاءً بالأذان العام في البلد، لأنَّ الأذان العام في
البلد حصل به الكفاية وسقطت به الفريضةُ، لكن عليهم الإقامة.
وقوله: «للصلوات الخمس» هذا ما لم تُجمع الصَّلاة، فإنه يكفي
للصَّلاتين أذان واحد، ولكن لا بُدَّ من الإقامة لكلِّ واحدة
منهما.
والخُلاصة: أنه لا بُدَّ لوجوب الأذان والإقامة من شروط منها:
1 ـ أن يكونوا رجالاً. 2 ـ أن يكونوا مقيمين.
3 ـ في الصلوات الخمس. 4 ـ المؤدَّاة.
5 ـ أن يكونوا جماعة، بخلاف المنفرد فإنه سُنَّة في حَقِّه؛ لأنَّه
ورد فيمن يرعى غنمه ويُؤذِّن للصَّلاة أنَّ الله يَغفر له ويُثيبه
على ذلك[(77)]. وهذا يَدلُّ على استحباب الأذان للمنفرد، وأنَّه
ليس بواجب. فأصبحت الشروط خمسة. وقد يُفهم اشتراط كونهم «جماعة» من
كلمة «رجال».
يُقَاتَلُ أَهْلُ بَلَدٍ تَرَكُوْهُمَا،.............
قوله: «يُقَاتَلُ أَهْلُ بَلَدٍ تَرَكُوْهُمَا» ، والذي يِقاتِلهم
الإمام إلى أنْ يُؤذِّنُوا، وهذا من باب التعزير لإقامة هذا الفرض،
وليس من باب استباحة دمائهم، ولهذا لا يُتْبَع مُدْبِرُهم، ولا
يُجْهَزُ على جَريحِهم، ولا يُغْنَمُ لهم مالٌ، ولا تُسْبَى لهم
ذُرِّيَّة؛ لأنَّهم مسلمون، وإنما قُوتلوا تعزيراً، ودليل ذلك:
أنَّ الأذان والإقامة هما علامة بلاد الإسلام، فقد كان النبيُّ
صلّى الله عليه وسلّم إذا غزا قوماً أمسك حتى يأتيَ الوقتُ، فإن
سمعَ أذاناً كَفَّ، وإلا قاتلهم[(78)]. فهما من شعائر الإسلام
الظَّاهرة.
وقوله: «تركُوهُمَا»، يحتمل تركوهما جميعاً، أو تركوا واحداً
منهما. فإن تركوهما أو تركوا الأذان فقتالهم ظاهر؛ لأن الأذان من
العلامات الظَّاهرة، وإن تركوا الإقامة يحتمل أن يقاتلوا؛ لأنَّها
علامة ظاهرة، لكنَّها ليست كالأذان؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصَّلاة»[(79)].
فدلَّ على أنها علامة ظاهرة تُسْمَعُ. ويحتمل ألاَّ يُقاتَلوا.
فإن قال قائلٌ: كيف يُقَاتَلون، وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه
وسلّم: «لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ يشهد أنْ لا إله إلا الله،
وأنِّي رسولُ الله، إلا بإحدى ثلاث: الثَّيِّبُ الزَّاني، والنَّفس
بالنَّفس، والتَّاركُ لدينه؛ المفارقُ للجماعة»[(80)].
قلنا: المراد بهذا الحديث القتل؛ وهو أخصُّ من القتال، فهناك فرق
بين القتل والقتال، فليس كلُّ مَنْ جاز قتاله جاز قتله، ولهذا
نقاتل إحدى الطَّائفتين المقتتلتين حتى تفيء إلى أمر الله، مع أنها
مؤمنة لا يحلُّ قتلها. أما القتل فليس يلزم منه مقاتلة الجميع، فقد
يكون واحدٌ من هؤلاء يستحقُّ القتل فنقتله ولا نقاتل الجميع،
فَتبيَّن بهذا أنَّه لا تَلازَم بين القتال والقتل، وأن جواز
القتال أوسع من جواز القتل؛ لأنَّ القتل لا يكون إلا في أشياء
معيَّنة.
وتَحْرُمُ أجْرَتُهُمَا ................
قوله: «وتَحْرُمُ أجرتُهُمَا» ، أي: أن يعقدَ عليهما عقد إجارة،
بأن يستأجرَ شخصاً يؤذِّن أو يُقيم؛ لأنهما قُربة من القُرَب
وعبادةٌ من العبادات، والعبادات لا يجوز أخذ الأجرة عليها؛ لقوله
تعالى: {{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ
يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ
إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ *}} [هود] .
ولأنه إذا أراد بأذانه أو إقامته الدُّنيا بطل عملُه، فلم يكن
أذانه ولا إقامته صحيحة، قال صلّى الله عليه وسلّم: «من عَمِل
عَمَلاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»[(81)].
أما الجُعَالة؛ بأن يقول: من أذَّن في هذا المسجد فله كذا وكذا
دُونَ عقدٍ وإلزام فهذه جائزة؛ لأنَّه لا إلزام فيها، فهي
كالمكافأة لمن أذَّن، ولا بأس بالمكافأة لمن أذَّن، وكذلك الإقامة.
لا رَزْق مِنْ بيتِ المَالِ لِعَدَمِ مُتَطَوِّع.
وَيَكُونُ المُؤَذِّنُ صَيِّتاً أَمِيْناً عَالِماً
بِالْوقْتِ.
قوله: «لا رَزْقٍ من بيتِ المَالِ» ، الرَّزْق بفتح الراء:
الإعطاء، والرِّزْق بكسر الراء: المرزوق، فلا يحرم أن يُعْطَى
المؤذِّن والمُقيم عطاءً من بيت المال، وهو ما يُعرفَ في وقتنا
بالرَّاتب؛ لأن بيت المال إنما وُضِعَ لمصالح المسلمين، والأذان
والإقامة من مصالح المسلمين.
قوله: «لعدم مُتَطَوِّع» ، هذا شرط لأخذ الرَّزْق، فإن وُجِدَ
مُتَطَوِّعٌ أَهْلٌ فلا يجوز أن يُعطَى من بيت المال، حمايةً لبيت
المال من أن يُصرفَ دُونَ حاجة إلى صرفه. وبهذا الذي قَرَّره
الفقهاء يُعرف تحريم استغلال بيت المال بغير مسوِّغ شرعي.
قوله: «ويكون المُؤَذِّنُ صَيِّتاً أميناً عَالماً بالوَقْتِ» ،
كلمة «يكون» تحتمل الوجوب؛ وتحتمل الاستحباب، فيحتمل أنَّ المعنى
يُستحب، ويحتمل أن المعنى يجب. ويمكن أن ننظر ما تقتضيه الأدلَّةُ
من هذه الصِّفَات، فما دلَّت على وجوبه قلنا بوجوبه، وما دَلَّت
على استحبابه قلنا باستحبابه.
فقوله: «صَيِّتاً» هذا مستحبٌ، وليس واجباً، فالواجب أن يُسْمِعَ
من يُؤَذِّنُ لهم فقط، وما زاد على ذلك فغير واجب.
وقوله: «صَيِّتاً» يحتمل أن يكون المعنى قويَّ الصَّوتِ، ويحتمل أن
يكون حسنَ الصَّوت، ويحتمل أن يكون حسنَ الأداء، ولكن الاحتمال
الأخير ليس واضحاً من العبارة.
فهنا ثلاثةُ أوصاف تعود على التلفُّظ بالأذان:
1- قوَّة الصَّوت.
2- حُسْن الصَّوتِ.
3- حُسْن الأدَاءِ.
فهذا كُلُّه مطلوب.
ونستنبط من قوله: «صَيِّتاً» أن مكبِّرات الصَّوت من نعمة الله؛
لأنَّها تزيد صوت المؤذِّن قوَّة وحُسناً، ولا محذور فيها شرعاً،
فإذا كان كذلك وكانت وسيلة لأمر مطلوب شرعي، فللوسائل أحكام
المقاصد. ولهذا أمرَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم العبَّاس بن عبد
المطلب أن ينادي يوم حنين: «أين أصحابُ السَّمُرَة»[(82)]، لقوَّةِ
صَوته.
فدلَّ على أنَّ ما يُطلبُ فيه قوَّةُ الصَّوت ينبغي أن يُختار فيه
ما يكون أبلغ في تأديَة الصَّوت. ولكن ما يُتَّخذُ من تفخيم الصوت
بما يسمُّونه «الصَّدَى» فليس بمشروع، بل قد يكون منهيًّا عنه إذا
لزم منه تكرار الحرف الأخير لما فيه من الزِّيادة.
وقوله: «أميناً»، الظَّاهر من المذهب: أن كونه أميناً
سُنَّة[(83)]. والصَّحيح أنَّه واجب؛ لأنَّ الأمانة أحد الرُّكنين
المقصودين في كلِّ شيء، والثاني القوَّة كما قال تعالى: {{إِنَّ
خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص: 26] .
وقال العِفْريت الذي أراد أن يأتي بعرش «بلقيس» إلى سليمان:
{{وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}} [النمل: 39] .
وعدم السَّداد في العمل يأتي من اختلال أحد الوصفين: القوَّة
والأمانة. وإذا وُجِدَ ضعيفٌ أمينٌ؛ وقويٌّ غيرُ أمين؛ أيُّهما
يقدم؟
فالجواب: أنَّ الصَّحيح حسب ما يقتضيه العمل، فبعض الأعمال تكون
مراعاة الأمانة فيه أَولى، وبعضها تكون مراعاة القوَّة أولى،
فمثلاً القوَّة في الإمارة قد تكون أولى بالمراعاة، والأمانة في
القضاء قد تكون أولى بالمراعاة.
وقوله: «أميناً»، أي: على الوقت، وعلى عورات النَّاس خصوصاً فيما
سبق؛ حيث كان النَّاس يؤذِّنون فوق المنارة.
وقوله: «عالماً بالوقت»، هذا ليس بشرط إن أراد أن يكون عالماً به
بنفسه؛ لأن ابنَ أمِّ مكتوم كان رجلاً أعمى لا يؤذِّن حتى يُقال
له: «أصبحتَ أصبحتَ»[(84)]، لكن الأفضل أن يكون عالماً بالوقت
بنفسه؛ لأنه قد يتعذَّر عليه من يُخبره بالوقت.
وقد يقال: المراد أن يكون عالماً بالوقت بنفسه أو بتقليد ثقة.
والعِلْمُ بالوقت يكون بالعلامات التي جعلها الشَّارع علامة،
فالظُّهر بزوال الشَّمس، والعصر بصيرورة ظلِّ كُلِّ شيءٍ مثله بعد
فيء الزَّوال، والمغرب بغروب الشَّمس، والعِشاء بمغيب الشَّفق
الأحمر، والفجر بطلوع الفجر الثَّاني.
وهذه العلامات أصبحت في وقتنا علامات خفيَّة؛ لعدم الاعتناء بها
عند كثير من النَّاس، وأصبح النَّاس يعتمدون على التقاويم
والسَّاعات.
ولكن هذه التقاويم تختلف؛ فأحياناً يكون بين الواحد والآخر إلى ست
دقائق، وهذه ليست هيِّنة ولا سيَّما في أذان الفجر وأذان المغرب؛
لأنَّهما يتعلَّق بهما الصِّيام، مع أن كلَّ الأوقات يجب فيها
التَّحري، فإذا اختلف تقويمان وكلٌّ منهما صادرٌ عن عارف بعلامات
الوقت، فإننا نُقدِّم المتأخِر في كلِّ الأوقات؛ لأنَّ الأصل عدم
دخول الوقت، مع أن كلًّا من التَّقويمين صادر عن أهلٍ، وقد نصَّ
الفقهاء رحمهم الله على مثل هذا فقالوا: لو قال لرَجُلين ارْقُبَا
لي الفجر، فقال أحدهما: طلع الفجرُ، وقال الثاني: لم يطلع؛ فيأخذ
بقول الثَّاني، فله أن يأكلَ ويشرب حتى يتَّفقا بأن يقول الثَّاني:
طلع الفجر[(85)]، أما إذا كان أحد التقويمين صادراً عن أعلم أو
أوثق فإنَّه يقدَّم.
فَإِنْ تَشَاحَّ فيه اثْنَانِ قُدِّمَ أَفْضَلُهُمَا فيه، ثُمَّ
أَفْضَلُهُمَا فِي دِيْنِهِ وعَقْلِهِ،..........
قوله: «فإن تَشاحَّ فيه اثنان قُدِّمَ أفضلُهُما فيه» ، تشاحَّ:
أي: تزاحما فيه، وهذا في مسجد لم يتعيَّن له مؤذِّن، فإن تعيَّن
بقي الأمر على ما كان عليه لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا
يَؤُمَّنَّ الرَّجلُ الرَّجلَ في سُلطانه»[(86)]، فيقال: وكذلك
أيضاً لا يؤذِّن الرَّجلُ في سلطان مؤذِّن آخر.
وقوله: «قُدِّم أفضلُهُما فيه»، أي: أقومهما في الأذان من حُسنِ
الصَّوت، والأداء، والأمانة، والعلم بالوقت، وذلك لأنَّهما قد
تزاحما في عمل فقُدِّم أفضلهما فيه، وقد قال الله: {{إِنَّ خَيْرَ
مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص: 26] .
وقوله: «فيه» خرج به ما لو كان أحدُهما أقرأ، لكنَّه دون الآخر
فيما يتعلَّق بالأذان؛ فلا يُقدَّم على الآخر.
قوله: «ثم أفضلُهُمَا في دينه وعقلِهِ» ، أي: أطوعهما لله. وقوله:
«وعَقْلِهِ» المراد: حُسن التَّرتيب، فيستطيع أن يرتِّبَ نفسه،
ويجاري النَّاس بتحمُّلِهم في أذاهم، ولم يذكر المؤلِّف أفضلهما في
علمه، وهذا أمرٌ لا بُدَّ منه، فإنَّنا نقدم أعلمهما، ورُبَّما قال
قائل: هذا داخل في قوله: «أفضلهما فيه»، فنقول: إن تَحَمَّلَتْهُ
الكلمة فهذا هو المطلوب، وإلا فَيَجِبُ أن نراعيَها.
ثُمَّ مَنْ يَخْتَارُهُ الجِيْرَان، ثُمَّ قُرْعةٌ.
قوله: «ثم من يختارُهُ الجِيْرَان» ، أي: أهل الحيِّ، وإذا
تَعَذَّر إجماع الجيران على اختياره أخذنا بقول الأكثر؛ لأنَّه
قَلَّ أن تجد رجلاً يُجْمِعُ النَّاسُ عليه.
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا اعتبار في اختيار الجهة المسؤولة عن
المساجد، لأنَّ الأذان لأهل الحيِّ فهم المسؤولون، ولكن هذا فيه
نظر، بل نقول: المسؤول عن شؤون المساجد لا بُدَّ أن يكون له نوع
اختيار، لأنَّه هو المسؤول، ولهذا عندما يحصُل إخلال من المؤذِّن
يُرجع إلى المسؤول عن شؤون المساجد. ولعل المساجد في زمن المؤلِّف
وما قبله ليس لها مسؤول خاصٌّ.
قوله: «ثم قُرْعَةٌ» ، هذا إذا تعادلت جميع الصِّفات، ولم يُرجِّح
الجيران، أو تعادل التَّرجيح، فحينئذ نرجع إلى القُرْعة؛ لأنَّه
يحصُل بها تَمييز المشتبه وتَبْيين المجمل عند تساوي الحقوق، وقد
جاءت القُرْعَة في القرآن والسُّنَّة ففي القرآن قوله تعالى:
{{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ
يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}}
[آل عمران: 44] ، وقال: {{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
*إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ *فَسَاهَمَ فَكَانَ
مِنَ الْمُدْحَضِينَ *}} [الصافات] .
أما السُّنّة: فوردت في عِدَّةِ أحاديث منها: قوله صلّى الله عليه
وسلّم: «لو يعلمُ النَّاس ما في النداء ـ يعني الأذان ـ والصَّفِّ
الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا»[(87)]. وقالت
عائشة رضي الله عنها: «كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد
سفراً أقْرعَ بين نسائه فأيَّتُهُنَّ خرج سهمُها خرج بها رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم معه»[(88)].
ولأن القُرْعَة يحصُل بها فَكُّ الخصومة والنِّزاع، فهي طريق
شرعيٌّ، وأيُّ طريق أقرع به فإنَّه جائز؛ لأنَّه ليس لها كيفيَّة
شرعيَّة فيرجع إلى ما اصطلحا عليه.
وَهو خَمسَ عَشْرَةَ جُمْلَةً يُرَتِّلُها عَلَى عُلْوٍ
.............
قوله: «وَهو خَمْسَ عَشْرَةَ جُمْلَةً يُرَتِّلُها عَلَى عُلْوٍ» ،
هو: ضمير منفصل يعود على الأذان مبتدأ، و«خمس عشرة» بالفتح؛ اسم
مبني على فتح الجزئين في محل رفع خبر للمبتدأ. و«جملة»: تمييز.
فالتَّكبير في أوَّله أربع، والشَّهادتان أربع، والحيعلتان أربع،
والتَّكبير في آخره مرَّتان، والتَّوحيد واحدة. فالمجموع خمسَ
عشرةَ جملة[(89)]، وهذا أوَّلُ الشروط في الأذان، ألا يَنْقُصُ عن
خمسَ عَشْرةَ جملة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، والمسألة
فيها خلاف[(90)].
ونقول: كلُّ ما جاءت به السُّنَّة من صفات الأذان فإنه جائز، بل
الذي ينبغي: أنْ يؤذِّنَ بهذا تارة، وبهذا تارة إن لم يحصُل تشويش
وفتنةٌ.
فعند مالك سبعَ عَشْرةَ جملة، بالتكبير مرتين في أوَّله مع
الترجيع[(91)] ـ وهو أن يقول الشهادتين سِرًّا في نفسه ثم يقولها
جهراً ـ.
وعند الشافعي تسعَ عَشْرَة جملة، بالتكبير في أوَّله أربعاً مع
الترجيع[(92)]، وكلُّ هذا مما جاءت به السُّنَّة، فإذا أذَّنت بهذا
مرَّة وبهذا مرَّة كان أولى. والقاعدة: «أن العبادات الواردة على
وجوه متنوِّعة، ينبغي للإنسان أن يفعلها على هذه الوجوه»، وتنويعها
فيه فوائد:
أولاً: حفظ السُّنَّة، ونشر أنواعها بين النَّاس.
ثانياً: التيسير على المكلَّف، فإن بعضها قد يكون أخفَّ من بعض
فيحتاج للعمل.
ثالثاً: حضور القلب، وعدم مَلَله وسآمته.
رابعاً: العمل بالشَّريعة على جميع وجوهها.
وقوله: «يُرَتِّلُها»، أي: يقولها جملةً جملةً، وهذا هو الأفضل على
المشهور[(93)]. وهناك صفة أخرى: أنه يقرُ ِ نُ بين التَّكبيرتين في
جميع التَّكبيرات فيقول: اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ، ثم: اللَّهُ
أكبرُ اللَّهُ أكبرُ، ويقول في التَّكبير الأخير: اللَّهُ أكبرُ
اللَّهُ أكبرُ. والأفضل أن يعمل بجميع الصِّفات الثابتة عن النبيِّ
صلّى الله عليه وسلّم إلا أن يخاف تشويشاً أو فتنة، فليقتصر على ما
لم يحصُل به ذلك؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم تَرَكَ بناءَ
الكعبة على قواعد إبراهيم خوفاً من الفتنة[(94)]. ولكن ينبغي أن
يُروَّض النَّاسُ بتعليمهم بوجوه العبادة الواردة، فإذا اطمأنت
قلوبُهم وارتاحت نفوسُهم؛ قام بتطبيقها عمليّاً؛ ليحصُل المقصود
بعمل السُّنَّة من غير تشويش وفتنة.
وقوله: «على عُلْو»، أي: ينبغي أن يكون الأذان على شيء عالٍ؛ لأنَّ
ذلك أبعد للصَّوت، وأوصل إلى النَّاس، ومن هنا نأخذ أن الأذان
بالمكبِّر مطلوبٌ؛ لأنَّه أبعد للصَّوت وأوصل إلى النَّاس[(95)].
مُتَطَهِّراً مُسْتَقبلَ القِبْلَةِ ................
قوله: «متطهِّراً» ، أي: من الحَدَث الأكبر والأصغر وهو سُنَّة،
ولكن قال الفقهاء رحمهم الله: إنه يُكره أذان الجُنب دون أذان
المُحْدِث حَدَثاً أصغر[(96)]، هذا إذا لم تكن المنارةُ في المسجد،
فإن كانت في المسجد فإنَّه لا يجوز أن يمكُثَ في المسجد إلا
بوُضُوء، فالمراتب ثلاث:
1 ـ أن يكون متطهِّراً من الحدثين، وهذا هو الأفضل.
2 ـ أن يكون محدثاً حدثاً أصغر، وهذا مباح.
3 ـ أن يكون محدثاً حدثاً أكبر، وهذا مكروه.
قوله: «مستقبل القِبْلَة» ، أي: يُسَنُّ أن يكون مستقبل القِبلة
حال الأذان؛ لأن هذا هو الذي وَرَدَ[(97)].
ولأنَّ الأذان عبادة[(98)]، والأفضل في العبادة أن يكون الإنسان
فيها مستقبل القِبْلَة ما لم يَرِدْ خلافه، على ما قاله صاحب
«الفروع» فإنه علَّق على قول الفقهاء رحمهم الله: إنه يُسَنُّ أن
يتوضَّأ وهو مستقبل القِبْلَة بقوله: «وهو متوجِّه في كلِّ طاعة
إلا بدليل»[(99)]. ولكن هذا فيه مناقشة؛ لأن استحبابه في كلِّ طاعة
إلا بدليل يحتاج إلى دليل.
جَاعلاً إِصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ غَيْرَ مُسْتديرٍ مُلْتَفِتاً
فِي الحَيْعَلة يَمِيْناً وشِمَالاً قَائِلاً بَعْدَهما في أَذَانِ
الصُّبحِ: الصَّلاةُ خَيرٌ من النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ.
قوله: «جَاعلاً إِصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ» ، أصبعيه يعني:
السَّبَّابتين؛ لحديث أبي محذورة؛ ولأنَّ في ذلك فائدتين:
الأولى: أنه أقوى للصَّوت.
الثانية: ليراه من كان بعيداً، أو مَنْ لا يسمع فيعرف أنه يؤذِّن،
والفائدة الأولى لا تزال موجودة حتى الآن، والثانية قد تكون موجودة
وقد لا تكون.
قوله: «غيرَ مستدير» ، أي: لا يستدير على المنارة، قاله المؤلِّف
رَدًّا على قول بعض الفقهاء: إنه إذا كان في منارة ـ أي: لها طوق ـ
فإنه يستدير لكي يُسمِعَ النَّاس من كلِّ جهة[(100)]، فنفى
المؤلِّف القول بهذا.
قوله: «ملتفتاً في الحيعلة يميناً وشمالاً» ، الحيعلة: أي: قول
«حَيَّ على الصَّلاة»، وهي مصدر ويُسمَّى مثله: المصدر المصنوع؛
لأنه مركَّب من عِدَّة كلمات: حيعلة: مِنْ حَيَّ على، ومثلها:
بسملة، وحوقلة، وحمدلة، وهيللة، ففي الحيعلتين يلتفت يميناً
وشمالاً.
والمؤلِّف رحمه الله أجملَ كيفيَّة الالتفات.
فقال بعضهم: إنه يلتفت يميناً لـ«حيَّ على الصَّلاة» في المرَّتين
جميعاً، وشمالاً لـ«حيَّ على الفلاح» في المَرَّتين جميعاً[(101)].
وقال بعضهم: إنه يلتفت يميناً لـ«حيَّ على الصَّلاة» في المَرَّة
الأولى، وشمالاً للمرَّة الثانية؛ و«حيَّ على الفلاح» يميناً
للمرَّة الأولى، وشمالاً للمرَّة الثانية ليُعطي كلَّ جهة حَظَّها
من «حَيَّ على الصَّلاة» و«حَيَّ على الفلاح»[(102)].
ولكن المشهور وهو ظاهر السُّنَّة: أنه يلتفت يميناً لـ«حيَّ على
الصَّلاة» في المرَّتين جميعاً، وشمالاً لـ«حيَّ على الفلاح» في
المَرَّتين جميعاً. ولكن يلتفت في كُلِّ الجملة[(103)].
وما يفعله بعض المؤذِّنين أنَّه يقول: «حيَّ على» مستقبل القبلة ثم
يلتفت، لا أصل له. ومثلها التَّسليم، فإن بعض الأئمة يقول:
السَّلام عليكم قبل أن يلتفت، ثم يقول: ورحمة الله حين يلتفت. ولا
أصل لهذا ولا لهذا.
تنبيه: الحكمة من الالتفات يميناً وشمالاً إبلاغ المدعوين من على
اليمين وعلى الشمال، وبناءً على ذلك: لا يلتفت من أذَّن بمكبر
الصَّوت؛ لأنَّ الإسماع يكون من «السَّمَّاعات» التي في المنارة؛
ولو التفت لَضَعُف الصَّوت؛ لأنه ينحرف عن «الآخذة».
قوله: «قَائِلاً بَعْدَهما في أَذَانِ الصُّبحِ: الصَّلاةُ خَيرٌ
من النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ» ، قائلاً بعدهما ـ أي: بعد الحيعلتين ـ:
الصَّلاة خيرٌ من النَّوم في أذان الصُّبْحِ مَرَّتين.
وقوله: «الصَّلاة خيرٌ من النَّوم» مبتدأ وخبر، ولم يذكر العلماء
أنه يجوز فيه الوجهان الرَّفع والنَّصب، وكما قالوا في: «الصَّلاةُ
َ جامعة» في صلاة الكُسوف.
وقوله: «مَرَّتين»، أي: يُرَدِّدُها مَرَّتين، ولم يذكر العلماء هل
يلتفت يميناً وشمالاً، أو يبقى مستقبل القبلة؟ والأصل إذا لم يُذكر
الالتفات أن يبقى على التوجّه إلى القِبلة. وهذا القول يُسمَّى
التثويب، من ثاب يثوب إذا رجع؛ لأن المؤذِّنَ ثاب إلى الدَّعوة إلى
الصلاة بذكر فضلها.
وقوله: «في أذان الصُّبْح» «أذان» مضاف و«الصُّبْح» مضاف إليه من
باب إضافة الشيء إلى سببه، أي: الأذان الذي سببه طلوع الصُّبح،
ويجوز أن يكون من باب إضافة الشيء إلى نوعه، أي: الأذان من
الصُّبح، وأذان الصُّبْح: هو الأذان الذي يكون بعد طلوع الفجر،
واختُصَّ بالتثويب لأن كثيراً من النَّاس يكون في ذلك الوقت
نائماً، أو متلهِّفاً للنَّوم.
وقد توهَّمَ بعض النَّاس في هذا العصر أن المُرَاد بالأذان الذي
يُقال فيه هاتان الكلمتان هو الأذان الذي قبل الفجر، وشُبهتُهم في
ذلك: أنه قد وَرَدَ في بعض ألفاظ الحديث: «إذا أذَّنت الأوَّلَ
لصلاة الصُّبْحِ فقل: الصلاة خيرٌ من النَّوم»[(104)]، فزعموا: أن
التثويب إنما يكون في الأذان الذي يكون في آخر الليل؛ لأنهم
يُسمُّونه «الأوَّل»، وقالوا: إن التثويب في الأذان الذي يكون بعد
الفجر بدعة.
فنقول: إنَّ الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: «إذا أذَّنت
الأوَّلَ لصلاة الصُّبح»، فقال: «لصلاة الصُّبح»، ومعلوم أن الأذان
الذي في آخر الليل ليس لصلاة الصُّبْح، وإنما هو كما قال النبيُّ
عليه الصلاة والسَّلام: «ليوقظ النَّائمَ ويرجع القائمَ»[(105)].
أما صلاة الصُّبح فلا يُؤذَّن لها؛ إلا بعد طلوع الصُّبح، فإن
أذَّنَ لها قبل طُلوع الصُّبْح فليس أذاناً لها؛ بدليل قوله صلّى
الله عليه وسلّم: «إذا حضرت الصَّلاةُ فليؤذِّنْ لكم
أحدُكُم...»[(106)]. ومعلومٌ أنَّ الصَّلاة لا تحضُر إلا بعد دخول
الوقت، فيبقى الإشكال في قوله: «إذا أذَّنت الأوَّل» فنقول: لا
إشكال، لأنَّ الأذان هو الإعلام في اللُّغة، والإقامةُ إعلامٌ
كذلك، فيكون الأذان لصلاة الصُّبحِ بعد دخول وقتها أذاناً أوَّل.
وقد جاء ذلك صريحاً فيما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها في صلاة
النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في الليل قالت: «كان ينام أوَّل
الليل ويُحيي آخره، ثم إن كان له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم
ينام، فإذا كان عند النداء الأوَّلِ (قالت) وَثَبَ (ولا والله: ما
قالت: قام) فأفاض عليه الماءَ (ولا والله: ما قالت اغتسل) وإن لم
يكن جُنباً توضَّأ وُضُوءَ الرَّجل للصَّلاة، ثم صلَّى
الرَّكعتين»[(107)]. والمراد بقولها: «عند النداء الأوَّل» أذان
الفجر بلا شَكٍّ، وسُمِّي أولاً بالنسبة للإقامة، كما قال النبيُّ
صلّى الله عليه وسلّم: «بين كُلِّ أذانين صلاة»[(108)]، والمراد
بالأذانين: الأذان والإقامة. وفي «صحيح البخاري» قال: «زاد عثمان
الأذان الثالث في صلاة الجمعة»[(109)]، ومعلوم أنَّ الجمعة فيها
أذانان وإقامة؛ وسَمَّاه أذاناً ثالثاً، وبهذا يزول الإشكال، فيكون
التثويب في أذان صلاة الصُّبْحِ.
وقالوا أيضاً: إنه قال: «الصَّلاة خيرٌ من النَّوم»، فدلَّ هذا على
أنَّ المراد في الأذان الأوَّل هو ما قبل الصُّبحِ لقوله:
«الصَّلاةُ خيرٌ من النَّوم»، أي: صلاة التهجُّد وليس صلاة
الفريضة، إذ لا مفاضلة بين صلاة الفريضة وبين النوم، والخيرية إنما
تُقال في باب الترغيب. فقالوا: هذا أيضاً يرجِّحُ أنَّ المراد
بالأذان الأذان في آخر الليل.
فنقول لهم: هذا أيضاً يُضاف إلى الخطأ الأوَّل؛ لأن الخيريَّة قد
تُقال في أوجب الواجبات كما قال تعالى؛ {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنَجِيكُمْ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ *}{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}} [الصف: 10، 11] ، فذكر
اللَّهُ الإيمانَ والجهادَ بأنه خير؛ أي: خيرٌ لكم مما يُلهيكم من
تجارتكم، والخيريَّة هنا بين واجب وغيره.
وقال تعالى في صلاة الجمعة: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}}
[الجمعة: 9] ، أي: خير لكم من البيع، ومعلومٌ أن الحضور إلى صلاة
الجُمعة واجب ومع ذلك قال: {{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}} ففاضل بين
واجبٍ وغيره. وعلى هذا؛ لو ثَوَّبَ في الأذان الذي قبل الصُّبْحِ
لقلنا: هذا غير مشروع.
وَهِيَ إِحْدى عَشْرَةَ يَحْدُرُها، وَيُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ في
مَكَانَه إِنْ سَهُلَ.
قوله: «وهي إحدى عشرة يَحْدُرُها» ، و«هي» أي: الإقامة إحدى عشرة
جملة، وحذفَ التَّمييز؛ لأنه ذُكِرَ في الأذان.
وقوله: «يحدُرُها»، أي: يُسرع فيها فلا يرتِّلها، وكانت إحدى عشرة؛
لأنَّ «التكبير» في أوَّلاها مرَّتان، و«التَّشهد» للتَّوحيد
والرِّسالة مرَّة مرَّة، و«الحيعلتان» مرَّة مرَّة، و«قد قامت
الصَّلاة» مرَّتان، و«التكبير» مرَّتان، و«التوحيد» مرَّة، فهذه
إحدى عشرة، وهذا ما اختاره الإمام أحمد رحمه الله[(110)].
ومن العلماء من اختار سوى ذلك، وقال إنها: سبعَ عَشْرَة (110) ،
فيجعل «التكبير» أربعاً، و«التشهدين» أربعاً، و«الحيعلتين» أربعاً،
و«قد قامت الصلاة» اثنتين، و«التكبير» مرَّتين، و«التوحيد» مرَّة،
فيكون المجموع سَبْعَ عَشْرَة.
ومنهم من قال: إنها على جُملة جُملة إلا «قد قامت الصلاة»، فتكون
تسع جُمَل، وهذا هو ظاهر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال:
أُمِرَ بلالٌ أنْ يشفعَ الأذانَ ويُوتِرَ الإقامةَ[(111)].
ولكن المشهور من المذهب ما ذهب إليه المؤلِّف. وأجابوا عن قوله:
«يوتر الإقامة» بأنَّ تكرار التَّكبير في أوَّلها مَرَّتين بمنزلة
الوتر بالنسبة لتكراره أربعاً في الأذان. وينبغي أن يُعلم «قاعدة»
أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية[(112)] وغيره من أهل العلم: «بأن
العبادات الواردة على وجوه متنوِّعة؛ ينبغي أن تُفعل على جميع
الوجوه؛ هذا تارة وهذا تارة، بشرط ألا يكون في هذا تشويش على
العامة أو فتنة».
قوله: «ويقيم من أذَّن» ، أي: يتولَّى الإقامةَ من يتولَّى الأذان؛
لأن بلالاً رضي الله عنه كان هو الذي يتولَّى الإقامة وهو الذي
يؤذِّن، وهذا دليل من السُّنَّة.
وأما من النَّظر: فإنه ينبغي لمن تولَّى الأذان وهو الإعلام أولاً
أن يتولَّى الإعلام ثانياً، حتى لا يحصُل التباس بين النَّاس في
هذا الأمر، وحتى يعلم المؤذِّن أنَّه مسؤول عن الإعلامين جميعاً.
لكن لا يقيم إلا بإذن الإمام أو عُذْره؛ لأن بلالاً رضي الله عنه
كان لا يقيم حتى يخرج النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، وحتى كانوا
يُراجعونه إذا تأخَّرَ يقولون: «الصَّلاةَ، يا رسولَ الله»[(113)].
وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنَّ المؤذِّنَ يتولَّى الإقامة؛ وإن كان
نائباً عن المؤذِّن الرَّاتب، مثل أنْ يوكِّلَ الرَّاتب من يؤذِّن
عنه لعُذرٍ ثم يحضُرُ قبل الإقامة فيتولَّى الإقامة المؤذِّن دون
الراتب. وقد ورد في ذلك حديث[(114)] إنْ صَحَّ فهو هو؛ وإن لم
يصحَّ فيحتمل أن يتولَّى الإقامة المؤذِّن الرَّاتب؛ لأنَّه أصلٌ
والوكيل فرع ناب عنه لغيبته، فإذا حَضَرَ زال مقتضى الوكالة.
قوله: «في مكانه إن سَهُلَ» ، أي: يقيم في مكان أذانه. نَصَّ عليه
الإمام أحمد رحمه الله[(115)]، واستدلَّ بقول بلالٍ للنبيِّ صلّى
الله عليه وسلّم: «لا تسبقني بآمين»[(116)]. وهو حديثٌ في صحَّته
نظر؛ لكن يؤيِّده ظاهر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سمعتم
الإقامة فامشوا إلى الصَّلاة...»[(117)] الحديث. وقيَّد المؤلف
رحمه الله ذلك بقوله: «إن سَهُلَ» فعُلِمَ منه أنَّه لو صَعُبَ؛
كما لو أذَّن في منارة فإنه يُقيم حيث تيسَّر.
وفي وقتنا الحاضر يمكن أن يكون من أقام في مكبِّر الصَّوت كمن أقام
في مكان أذانه؛ لأنَّ صوته يُسمع من سمَّاعات المنارة، فيكون إسماع
الإقامة من المنارة بمكبر الصَّوت جارياً على ما قاله الفقهاء
رحمهم الله: إنه يقيم في مكانه ليُسمعَ النَّاس الإقامة فيحضروا.
وَلاَ يَصِحُّ إِلا مُرَتَّباً مُتَوَاليِاً ................
قوله: «ولا يصحُّ إلا مرتَّباً» ، أي: لا يصحُّ الأذان إلا
مرتَّباً، والترتيب أن يبدأ بالتكبير، ثم التَّشهُّد، ثم الحيعلة،
ثم التَّكبير، ثم التَّوحيد، فلو نَكَّسَ لم يجزئ.
والدَّليل: أنَّ الأذان عبادة وردت على هذه الصِّفة؛ فيجب أنْ
تُفعَلَ كما وردت؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «من عَمِلَ
عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»[(118)].
وقوله: «لا يصحُّ إلا مرتَّباً» يفيد أنَّه لا يصحُّ إلا بهذا
اللفظ، فلو قال: «الله أجلُّ» أو «الله أعظمُ» لم يصحَّ؛ لأنَّ هذا
تغيير لماهيَّة الأذان، فإذا كان وصفه ـ وهو التَّرتيب ـ لا بُدَّ
منه، فكذلك ماهيَّته لا بُدَّ منها، فعُلِمَ من قوله: «لا يصحُّ
إلا مرتَّباً» أنه لو لم يأتِ به على الوجه الوارد مثل أن يقول:
«الله الأكبر» فإنه لا يصحُّ، ولو قال: «أُقِرُّ أنْ لا إله إلا
الله» لا يصحُّ، وكذلك لو قال: «أَقبِلُوا إلى الصَّلاة» بدل
«حَيَّ على الصَّلاة» فإنه لا يصحُّ.
قوله: «متوالياً» ، يعني: بحيث لا يَفْصِلُ بعضَه عن بعض، فإن
فَصَلَ بعضَه عن بعض بزمن طويل لم يجزئ، فلا بُدَّ أن يكون
متوالياً؛ لأنَّه عبادة واحدة، فلا يصحُّ أن تتفرَّق أجزاؤها، فإن
حَصَل له عُذر مثل إن أصابه عُطاس أو سُعَال، فإنه يبني على ما
سبق؛ لأنه انفصل بدون اختياره.
من عَدْل ................
قوله: «من عَدْل» ، هذه الكلمة صفة لموصوف محذوف، والتقدير: «من
رَجُلٍ واحد عدل» فلا يصحُّ من امرأة، ولا من اثنين فأكثر، ولا
يُكمِلُ الأذان إذا حصَل له عُذر بل يستأنف.
واستفدنا من قوله: «عدل» أنه لا بُدَّ أن يكون مسلماً، فلو أذَّنَ
الكافر لم يصحَّ؛ لأن الأذان عبادة فاشتُرطَ فيه الإسلام، ولو
أذَّن المعلنُ بفسقه كحالق اللحية ومن يشرب الدُّخان جهراً، فإنه
لا يَصِحُّ أذانه على كلام المؤلِّف.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد صحَّة أذان الفاسق[(119)]؛ لأن
الأذان ذِكْرٌ؛ والذِّكْرُ مقبولٌ من الفاسق؛ لكن لا ينبغي أن
يتولَّى الأذان والإقامة إلا من كان عدلاً.
وكذلك الأذان بالمُسجِّل غير صحيح؛ لأنَّه حكاية لأذان سابق،
ولأنَّ الأذان عبادة، وسَبَقَ أنه أفضل من الإمامة[(120)]، فكما
أنَّه لا يصحُّ أن نسجِّل صلاة إمام ثم نقول للناس ائتمُّوا بهذا
«المسجِّل»، فكذلك لا يصح الاعتماد على «المسجِّل» في الأذان، فمن
اقتصر عليه لم يكن قائماً بفرض الكفاية.
وأفاد قوله: «عدل» على اشتراط العقل؛ لأن العدالة تستلزم العقل،
والمجنون رُفِعَ عنه القلم، فلا يُوصفُ بعدالة ولا فسق.
فكلمة «عدل» تضمَّنت أن يكون مسلماً عاقلاً ذَكَراً واحداً عدلاً.
وَلَو مُلَحَّناً أَوْ مَلْحُوناً ..............
قوله: «ولو مُلَحَّناً» ، الملحن: المطرَّب به، أي: يؤذِّنُ على
سبيل التطريب به كأنما يجرُّ ألفاظ أغنية، فإنه يجزئ لكنه يُكره.
وفي قوله «لو» إشارة إلى الخلاف، فإن من العلماء من قال: لا يصحُّ
الأذان الملحَّن[(121)]؛ لأنَّ الأذان عبادة، والتَّلحين يخرجه عن
ذلك، ويميل به إلى الطَّرب والأغاني.
قوله: «أو مَلْحُوناً» ، الملحون: هو الذي يقع فيه اللَّحن، أي:
مخالفة القواعد العربية. ولكن اللَّحن ينقسم إلى قسمين:
1- قسم لا يصحُّ معه الأذان، وهو الذي يتغيَّر به المعنى.
2- وقسم يصحُّ به الأذان مع الكراهة، وهو الذي لا يتغيَّر به
المعنى، فلو قال المؤذَّن: «الله أكبار» فهذا لا يصحُّ، لأنه يُحيل
المعنى، فإن «أكبار» جمع «كَبَر» كأسباب جمع «سبب» وهو الطَّبل.
ولو قال: «الله وكبر» فإنَّه يجوز في اللغة العربية إذا وقعت
الهمزة مفتوحة بعد ضَمٍّ أن تَقلب واواً، ولو قال: «أشهد أن محمداً
رسولَ الله» بنصب «رسول» فهو لا شكَّ أنَّه لَحْنٌ يُحيل المعنى
على اللُّغة المشهورة؛ لأنه لم يأتِ بالخبر، لكن هناك لغة أن خبر
«أن» يكون منصوباً فيُقبل هذا. قال عمر بن أبي ربيعة وهو من العرب
العرباء:
إذا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيلِ فَلْتَأْتِ ولْتَكُنْ
خُطَاكَ خِفَافاً، إنَّ حُرَّاسنا أُسْدَا[(122)]
وعلى هذه اللُّغة لا يضرُّ نصب «رسول» إذا اعتقد القائل أنها خبر
«إن»، والمؤذِّنون يعتقدون أن «رسول الله» هو الخبر.
ولو قال: «حيَّا على الصَّلاة» فعلى اللُّغة المشهورة ـ وهي أنَّ
اسم الفعل لا تلحقه العلامات ـ فهذا لا يتغيَّر به المعنى فيما
يظهر، وحينئذ يكون الأذان صحيحاً؛ لأنَّ غايته أنه أشبع الفتحة حتى
جعلها ألفاً.
وَيُجْزِئُ مِنْ مُمَيِّزٍ .................
قوله: «ويُجْزِئُ من مُمَيِّز» ، يُجزئ: الفاعل يعود على الأذان.
والمميِّز: من بلغ سبعاً إلى البلوغ، وسُمِّيَ مميِّزاً لأنه
يميِّز فيفهم الخطاب ويردُّ الجواب. وقال بعضُ العلماء: إن
المميِّز لا يتقيَّد بسنٍّ، وإنما يتقيَّد بوصف[(123)].
فالذين قالوا: إنه يتقيد بسنٍّ؛ استدلوا بقول النبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم: «مُرُوا أبناءَكم بالصَّلاة لسبعِ، واضربُوهم عليها
لعشرٍ»[(124)]، فجعل أوَّلَ سِنٍ يُؤمر به الصبيُّ سبعَ سنين، وهذا
يدلُّ على أنه قبل ذلك لا يصحُّ توجيه الأمر إليه، فقد يُقال: لأنه
لا يفهم الأمر، وقد يُقال: لأنه لا يحتمل الأمر، فإن قلنا
بالعِلَّة الأُولى صارت سبعَ السنين هي الحَدُّ للتَّمييز، وإن
قلنا بالثَّانية لم يكن ذلك حَدًّا للتَّمييز.
والذين قالوا: إنه يتقيَّد بالوصف قالوا: لأن كلمة «مميِّز» اسم
فاعل مشتق من التَّمييز، وإذا كان مشتقاً من ذلك، فإذا وُجِدَ هذا
المعنى في طفل ثَبَتَ له الوصف، فالمُميِّز هو الذي يفهم الخطاب
ويردُّ الجواب. لكن سبع السَّنوات غالباً هي الحدُّ، والمراد: الذي
يفهم المعنى بأن تطلب منه شيئاً ـ كماء ـ فيذهب ويحضره لك. وسبق
شيءٌ من ذلك في أوَّل كتاب الصَّلاة[(125)].
فهل يصحُّ أذان المُميِّز أو لا يصحُّ؟ قال المؤلِّف: إنَّه يصحُّ،
فلو لم يوجد في البلد إلا هذا الصبيُّ المميِّز وأذَّن فإنه يُكتفى
به.
ووجه الإجزاء: أنَّ هذا ذِكْر، والذِّكْر لا يُشترط فيه البلوغ،
فإن الصبيَّ يُكْتَبُ له ولا يُكْتَبُ عليه، فإذا ذَكَرَ اللَّهَ،
كتبَ اللَّهُ له الأجرَ وصحَّ منه الذِّكْرُ، فإذا أذَّن المُميِّز
فإنه يُكتفى بأذانه.
وقال بعض العلماء: لا يجزئ أذان المُميِّز[(126)]؛ لأنه لا يُوثق
بقوله ولا يُعتمد عليه، فقد لا يعرف متى تزول الشَّمس، ومتى يكون
ظلُّ كلِّ شيء مثله وغير ذلك.
وفَصَّلَ بعض العلماء فقال: إنْ أذَّنَ معه غيرهُ فلا بأس، وإن لم
يكن معه غيرُه فإِنَّه لا يُعتمد عليه، إلا إذا كان عنده بالغ عاقل
عارف بالوقت ينبِّهه عليه (126) . وهذا هو الصَّواب.
وَيُبْطِلُهُمَا فَصْلٌ كَثيرٌ، ................
قوله: «ويُبطلُهُما فصلٌ كثيرٌ» ، يبطلهما: الضَّمير يعود على
الأذان والإقامة. والفصل الكثير هو الطويل عُرفاً، وإنما أبطلهما
لأن الموالاة شرط؛ حيث إن كلَّ واحد منهما عبادة، فاشترطت الموالاة
بين أجزائها كالوُضُوء، فلو كبَّر أربع تكبيرات ثم انصرف وتوضَّأ
ثم أتى فأتمَّ الأذان، فإن هذا الأذان لا يصحُّ، بل يجب أن
يَبْتَدِئَهُ من جديد.
وَيَسيرٌ مُحَرَّمٌ، ولا يُجْزِئُ قَبْلَ الوقتِ ...............
قوله: «ويَسيرٌ مُحَرَّمٌ» ، وذلك لأن المحرَّم يُنافي العبادة،
مثل لو كان رجلٌ يؤذِّن وعنده جماعة يتحدَّثون؛ وفي أثناء الأذان
التفت إليهم وقال: فلان فيه كذا وكذا يغتابه، فالغيبة من كبائر
الذُّنوب، فنقول: لا بُدَّ أن تعيد الأذان؛ لأنه قد بَطَلَ، وهذا
رُبَّما يقع كثيراً في الرَّحلات عند بعض النَّاس.
وعُلِمَ من قوله: «يَسيرٌ مُحَرَّم»، أنَّه إذا كان يسيراً مُباحاً
كما لو سأله سائل وهو يؤذِّنُ: أين فلان؟ فقال: ذهب. فهذا يسيرٌ
مباح فلا يبطله.
قوله: «ولا يُجزِئُ قبل الوقت» ، لدليل، وتعليل.
فأمَّا الدَّليل: فهو قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حضرت
الصَّلاة فليؤذِّن لكم أحدُكم...»[(127)]، فقال: «إذا حضرت
الصَّلاةُ»، والصَّلاة لا تحضر إلا بدخول الوقت، وقد يُستفاد من
قوله: «إذا حضرت» أن المراد دخول وقتها وإرادة فعلها.
ولهذا لما أراد بلال أن يؤذِّن، وكان مع النبيِّ صلّى الله عليه
وسلّم في سفر في شدَّة الحَرِّ؛ فزالت الشَّمس؛ فقام ليؤذِّن قال:
«أبرد»، ثم انتظر، فقام ليؤذِّن فقال: «أبرد» حتى رأوا فيءَ
التُلُول، بل حتى سَاوى التَّلُ فيئَهُ[(128)]. أي: قريب العصر، ثم
أمره بالأذان، فهذا يدلُّ على أنه ينبغي في الأذان أن يكون عند
إرادة فعل الصَّلاة، وينبني على ذلك ما لو كانوا جماعة في سَفر أو
في نُزهة؛ وأرادوا صلاة العشاء، وأحبُّوا أن يؤخِّروها إلى الوقت
الأفضل وهو آخر الوقت، فيؤذِّنون عندما يريدون فعل الصَّلاة، لا
عند دخول وقت العشاء.
وأمَّا التَّعليل: فلأن الأذان إعلام بدخول وقت الصَّلاة؛ والإعلام
بدخول الشيء لا يكون إلا بعد دخوله، وعلى هذا؛ فلو أذَّن قبل الوقت
جاهلاً قلنا له: إذا دخل الوقت فأعد الأذان، وهذا يقع أحياناً فيما
إذا غَرَّت الإنسانَ ساعتُهُ، ويُثَاب على أذانه السَّابق للوقت
ثواب الذِّكْرِ المطلق.
إِلا الفَجْرَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ ...............
قوله: «إلا الفَجْرَ بعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ» ، استثنى المؤلِّف من
شرط دخول الوقت أذان الفجر فقال: «إلا الفجر بعد نصف الليل»،
فيصحُّ الأذان وإن لم يؤذِّن في الوقت، وعلى هذا؛ فلو أنَّ
المؤذِّنين أذَّنوا للفجر بعد منتصف الليل بخمس دقائق، ولم
يؤذِّنوا عند طُلوع الفجر، فهذا على كلام المؤلِّف يجزئ، لقول
الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام: «إن بلالاً يؤذِّنُ بليل؛
فكُلُوا واشربُوا حتى يؤذِّن ابنُ أُمِّ مكتوم، فإنه لا يؤذِّنُ
حتى يطلع الفجر»[(129)]، فقال: «إن بلالاً يؤذِّنُ بليلٍ» مقرِّراً
ذلك. ولكن هذا الحديث لا يصحُّ الاستدلال به لما يلي:
أولاً: لأنَّ الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام صَرَّح في الحديث
بأنَّ هناك من يؤذِّنُ إذا طلع الفجر، فتحصُل به الكفاية وهو ابنُ
أُمِّ مكتوم، ومعلوم أنه إذا كان يوجد من يؤذِّن لصلاة الفجر حصلت
به الكفاية.
ثانياً: أنه قد بيَّن في الحديث الذي أخرجه الجماعة: «أن بلالاً
يؤذِّن بليلٍ؛ ليوقظ النَّائمَ ويرجع القائمَ»[(130)]، فليس أذانه
لصلاة الصُّبح، بل ليوقظ النَّائم ويرجع القائم من أجل السُّحُور،
ولهذا قال: «فكُلُوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم».
وقوله: «بعد نصف الليل» هذا أيضاً فيه نظر، فحديث بلال الذي
استدلُّوا به لا يدلُّ على أن الأذان بعد نصف الليل، بل يدلُّ على
أن الأذان قريب من الفجر، ووجهه: أنَّه قال: «كُلُوا واشربوا حتى
يؤذِّن ابنُ أُمِّ مكتوم»، وقال: «ليرجع قائمَكم ويوقظ نائمَكم».
وهذا دليل على أنه لم يكن بين أذان بلال والفجر إلا مُدَّة وجيزة
بمقدار ما يتسحَّر الصَّائم، ولهذا ربما يتوهَّمُ بعض النَّاس
فيمسك عند أذان بلال، فقال لهم الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام:
كُلُوا واشربوا حتى يؤذِّنَ ابنُ أُمِّ مكتوم»، وهذا يدلُّ على أن
أذان بلال كان قريباً من طلوع الفجر.
والقول الثاني: في هذه المسألة: أنه لا يصحُّ الأذان قبل الفجر إلا
إذا وُجِدَ من يؤذِّن بعد الفجر[(131)]، وهؤلاء لهم حَظٌ من حديث
بلال.
ووجهه: أن ابنَ أُمِّ مكتوم يؤذِّنُ بعد طلوع الفجر الذي تحِلُّ
فيه الصَّلاة ويحرم به الطَّعام على الصَّائم.
والقول الثالث: أنه لا يصحُّ الأذان لصلاة الفجر، ولو كان يوجد من
يؤذِّن بعد الفجر، وأن الأذان الذي يكون في آخر الليل ليس للفجر،
ولكنه لإيقاظ النُّوَّمِ؛ من أجل أن يتأهَّبوا لصلاة الفجر،
ويختموا صلاة الليل بالوتر، ولإرجاع القائمين الذين يريدون
الصِّيام[(132)]. وهذا القول أصحُّ.
ودليله: الحديث السَّابق وهو: «إذا حضرت الصَّلاة فليؤذِّن لكم
أحدُكم»[(133)]، وهذا عام لا يُستثنى منه شيء، ولا يُعارض حديث:
«إنَّ بلالاً يؤذِّن بليل»[(134)]، لأنَّ أذان بلال ليس لصلاة
الفجر؛ ولكن ليوقظ النائمَ ويرجع القائمَ.
والخلاصة: أن الأذان له شروط تتعلَّقُ بالأذان نفسه، وشروط
تتعلَّقُ بوقته، وشروط تتعلَّقُ بالمؤذِّن. أما التي تتعلق به
فيُشترط فيه:
1- أن يكون مرتَّباً.
2- أن يكون متوالياً.
3- ألا يكون فيه لَحْنٌ يُحيل المعنى، سواء عاد هذا اللَّحن إلى
علم النحو، أو إلى علم التَّصريف.
4- أن يكون على العدد الذي جاءت به السُّنَّة.
أما في المؤذِّن؛ فلا بُدَّ أن يكون:
1- ذكراً. 2- مسلماً. 3- عاقلاً.
4- مميِّزاً. 5- واحداً. 6- عدلاً.
أما الوقتُ؛ فيُشترطُ أن يكون بعد دخول الوقت، فلا يُجزئ قبله
مطلقاً على القول الرَّاجح، ويُستثنى أذان الفجر على كلام
المؤلِّف.
وَيُسَنَّ جُلُوسُهُ بَعْدَ أَذَانِ المغربِ يَسِيْراً
...............
قوله: «وَيُسَنَّ جُلُوسُهُ بَعْدَ أَذَانِ المغربِ يَسِيْراً» ،
هنا أمران: «جلوسه» و«يسيراً» ففيه سُنَّتَان:
الأولى: أن يجلس بحيث يفصل بين الأذان والإقامة.
والثانية: أن يكون الجلوس يسيراً، وإنما قال المؤلِّفُ ذلك لأنَّ
من العلماء من يرى أن السُّنَّة في صلاة المغرب أن تُقرن
بالأذان[(135)]، فبيَّن المؤلِّف أن الأفضل أن يجلس يسيراً.
ودليل ذلك: أن الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام قال: «صَلُّوا قبل
المغرب، صَلُّوا قبل المغرب، صَلُّوا قبل المغرب، وقال في الثالثة:
لمن شاء. كراهية أن يتَّخذها النَّاسُ سُنَّة»[(136)]. وهذا يدلّ
على الفصل بين الأذان والإقامة في المغرب. وثبت في «الصَّحيحين»
وغيرهما أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أذَّن المغرب قاموا
يُصلُّون والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يراهم فلم
يَنْهَهُمْ[(137)]، وهذا إقرار منه على هذه الصلاة، فثبت الفصلُ
بالسُّنَّة القوليَّة والسنَّة الإقرارية. وعليه، يلزم من الأمر
بهذه السُّنَّة وإقرارِها أن يكون هناك فصلٌ بين الأذان والإقامة.
وقوله: «يسيراً»، أي: لا يطيل؛ لأنَّ صلاة المغرب يُسَنُّ
تعجيلُها، وكلُّ صلاة يُسَنُّ تعجيلها فالأفضل أن لا يطيل الفصل
بين الأذان والإقامة، لكن مع ذلك ينبغي أن يراعي حديث: «بين كُلِّ
أذانين صلاة»[(138)]، ولهذا قال العلماء: ينبغي في هذا أن يفسَّر
التَّعجيل بمقدار حاجته، من وُضُوء، وصلاة نافلة خفيفة أو
راتبة[(139)].
ويُسَنُّ تعجيلُ جميعِ الصَّلوات إلا العشاء، وإلا الظُّهر عند
اشتداد الحرِّ[(140)]، ولكن الصَّلوات التي لها نوافل قبلها كالفجر
والظُّهر؛ ينبغي للإنسان أن يُراعي حال النَّاس في هذه، بحيث
يتمكَّنون من الوُضُوء بعد الأذان ومن صلاة هذه الرَّاتبة.
وَمَنْ جَمَعَ أَوْ قَضَى فَوائِتَ أَذَّنَ لِلأُولى ثُمّ أَقَامَ
لكُلِّ فَرِيضَةٍ.
قوله: «وَمَنْ جَمَعَ أَوْ قَضَى فَوَائِتَ أَذَّنَ لِلأُولى ثُمّ
أَقَام لِكُلِّ فَرِيضَةٍ» ، هاتان مسألتان:
الأولى: الجمع، ويُتصوَّر بين الظُّهر والعصر، وبين المغرب
والعشاء، وسيأتي بيان سبب الجمع[(141)]، وأنَّه المشقَّة، فكُلَّما
كان يَشُقُّ على الإنسان أن يُصلِّي كلَّ صلاة في وقتها؛ فإنَّ له
أن يجمع، سواء كان في الحضر أم في السَّفر، فإذا جمع الإنسانُ
أذَّن للأُولى؛ وأقام لكلِّ فريضة، هذا إن لم يكن في البلد، أما
إذا كان في البلد؛ فإنَّ أذان البلد يكفي؛ وحينئذ يُقيم لكلِّ
فريضة.
دليل ذلك: ما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث جابر رضي الله عنه أن
النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أذَّن في عَرفة، ثم أقام فصَلَّى
الظُّهر، ثم أقام فصلَّى العصر، وكذلك في مُزدَلِفَة حيث أذَّن
وأقام فصَلَّى المغرب، ثم أقام فَصَلَّى العشاء[(142)].
وأما التَّعليل: فلأن وقت المجموعتين صار وقتاً واحداً، فاكتُفِي
بأذان واحد ولم يُكتَفَ بإقامةٍ واحدة، لأن لكلِّ صلاة إقامة، فصار
الجَامِعُ بين الصَّلاتين يؤذِّن مَرَّة واحدة، ويقيم لكلِّ صلاة.
المسألة الثانية: من قضى فوائت فإنه يؤذِّن مرَّة واحدة، ويُقيم
لكلِّ فريضة.
يعني: إذا كانت فوائت متعدِّدة، فإنه يؤذِّن لها مرَّة واحدة،
ويقيم لكلِّ فريضة كالمجموعات، فإنه ثبت أن النبيَّ صلّى الله عليه
وسلّم أذَّن وأقام في غزوة الأحزاب[(143)]. فالدَّليل بالنَّصِّ،
وبالقياس على المجموعة التي ثبت أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم
يؤذِّن مرَّة واحدة ويقيم بعدد الصَّلوات.
وقوله: «أو قضى فوائت»، قال العلماء: أوصاف الصَّلاة ثلاثة: أداء،
وإعادة، وقَضاء[(144)].
فالأداء: ما فُعل في وقته لأوّل مرّة.
والإعادة: ما فُعِلَ في وقته مرَّة ثانية كقوله صلّى الله عليه
وسلّم: «إذا صَلَّيتُما في رِحالِكُما؛ ثم أتيتما مسجدَ جماعة
فصلِّيا معهم، فإنَّها لكما نافلة»[(145)].
والقضاء: ما فُعِلَ بعد وقته، وهذا بناءً على المشهور عند أكثر أهل
العلم أنَّ ما فُعِلَ بعد الوقت فهو قَضاء.
ولكن هناك قولاً ثانياً هو الأصحُّ: وهو أنَّ ما فُعِلَ بعد الوقت؛
فإن كان لغير عُذْرٍ لم يقبل إطلاقاً، وإِن كان لعُذْرٍ فهو أداء
وليس بقضاء[(146)]. ودليل ذلك قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم:
«مَنْ نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها»[(147)]. فجعل
وقتها عند ذكرها، وكذلك في النوم عند الاستيقاظ. والخلاف في هذا
قريب من اللفظي؛ لأن الكُلَّ يتَّفقون على أنه يُشرع الأذان
والإقامة حتى فيما فُعِلَ بعد الوقت.
وَيَسَنُّ لسَامِعِهِ مُتَابَعَتُه سِرًّا ............
قوله: «ويُسَنُّ لسامعه مُتابعتُه سِرًّا» ، السُّنَّة لها
إطلاقان: إطلاق اصطلاحي عند الفقهاء، وإطلاق شرعي في لسان
الشَّارع.
أما عند الفقهاء: فيطلقون السُّنَّة على ما يُثاب فاعُله، ولا
يُعاقبُ تاركُه.
وأما في لسان الشَّارع، فالسُّنَّة هي: الطريقة التي شرعها
الرَّسولُ عليه الصَّلاة والسَّلام، سواء كانت واجبة يُعاقب تاركها
أم لا.
فحديث أنس: «من السُّنَّةِ إذا تزوَّج البكرَ على الثَّيِّبِ أقام
عندها سبعاً»[(148)]، من السُّنَّةِ الواجبة. وحديث ابن الزبير:
«من السُّنَّةِ وضْعُ اليد اليُمنى على اليد اليسرى في
الصَّلاة»[(149)]. هذا من السُّنَّة المستحبَّة، فإذا وجدنا
السُّنَّة في كلام الفقهاء فالمُراد به السُّنَّة الاصطلاحيَّة.
وقول المؤلِّف: «يُسَنُّ لسامعه»، أي لسامع الأذان فيشمل الذَّكر
والأُنثى، ويشمل المؤذِّن الأول والثاني إذا اختلف المؤذِّنُون.
فيجيب الأول ويجيب الثَّاني؛ لعموم قول النبيِّ صلّى الله عليه
وسلّم: «إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول»[(150)]. ثم هو
ذِكْرٌ يُثاب الإنسان عليه، ولكن لو صَلَّى ثم سمع مؤذِّناً بعد
الصَّلاة فظاهر الحديث أنَّه يجيب لعمومه.
وقال الأصحاب: إنه لا يجيب[(151)]؛ لأنه غير مدعو بهذا الأذان فلا
يتابعه. وأجابوا عن الحديث: بأن المعروف في عهد النبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم أن المؤذِّنَ واحد، ولا يمكن أن يؤذِّن آخر بعد أن
تُؤدَّى الصَّلاة، فيُحمل الحديث على المعهود في عهد النبيِّ صلّى
الله عليه وسلّم، وأنه لا تكرار في الأذان. ولكن لو أخذ أحدٌ بعموم
الحديث وقال: إنه ذِكْر؛ وما دام الحديث عاماً فلا مانع من أن أذكر
الله عزّ وجل.
وقوله: «يُسَنُّ لسامعه متابعتُه سِرًّا»، صريحٌ بأنه لو ترك
الإجابة عمداً فلا إثم عليه، وهذا هو الصَّحيح. وقال بعض أهل
الظَّاهر: إن المتابعة واجبة، وإنه يجب على من سمع المؤذِّن أن
يقول مثلَ ما يقول[(152)].
واستدلُّوا بالأمر: «إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول»
والأصل في الأمر الوجوب، ولكن الجمهور على خلاف ذلك[(153)].
واستدلَّ الجمهور بأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم سمع مؤذِّناً
يؤذِّن فقال: «على الفِطرة»[(154)]، ولم يُنقل أنه أجابه أو تابعه،
ولو كانت المُتابعة واجبة لفعلها الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام
ولنُقِلَتْ إلينا.
وعندي دليلٌ أصرحُ من ذلك، وهو قولُ النبيِّ عليه الصَّلاة
والسَّلام لمالك بن الحُويرث ومن معه: «إذا حضرت الصَّلاةُ
فليؤذِّنْ لكم أحدُكم، ثم لِيَؤمَّكُم أكبرُكم»[(155)]، فهذا يدلُّ
على أنَّ المتابعة لا تجب. ووجه الدلالة: أن المقام مقام تعليم؛
وتدعو الحاجةُ إلى بيان كلّ ما يُحتاج إليه، وهؤلاء وَفْدٌ قد لا
يكون عندهم علم بما قاله النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في متابعة
الأذان، فلمَّا ترك النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم التنبيه على ذلك
مع دُعاءِ الحاجة إليه؛ وكون هؤلاء وفداً لَبِثُوا عنده عشرين
يوماً؛ ثم غادروا؛ يدلُّ على أنَّ الإجابة ليست بواجبة، وهذا هو
الأقرب والأرجح.
وقوله: «يُسَنُّ لسَامعه متابعتُه سِرًّا»، ظاهره: أنه إذا رآه ولم
يسمعه فلا تُسَنُّ المتابعة؛ لأن الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام
قال: «إذا سمعتم» فعلَّق الحكمَ بالسَّماع؛ ولأنه لا يمكن أن
يتابعَ ما لم يسمعه؛ لأنه قد يتقدَّم عليه.
وظاهر كلامه أيضاً: أنه لو سَمِعَه ولم يَرَهُ؛ تابعه للحديث.
وظاهر الحديث كما هو ظاهرُ كلام المؤلِّف أنه يتابعه على كلِّ حال؛
إلا أن أهل العلم استثنوا مَنْ كان على قضاء حاجته[(156)]؛ لأنَّ
المقام ليس مقام ذِكْر، وكذا المصلِّي لقول النبيِّ صلّى الله عليه
وسلّم: «إن في الصَّلاةِ شُغْلاً»[(157)]، فهو مشغول بأذكار
الصَّلاة.
وقال شيخ الإسلام: بل يتابع المصلّي المؤذِّنَ؛ لعموم الأمر
بالمتابعة[(158)]، ولأنه ذِكْرٌ وُجِدَ سببُه في الصَّلاة، فكان
مشروعاً، كما لو عَطَسَ المصلِّي فإنه يحمد الله كما جاءت به
السُّنَّة.
لكن قد يقال: إن بينهما فَرْقاً، فإن حَمْدَ العاطس لا يُشْغِلُ
كثيراً عن أذكار الصَّلاة، بخلاف متابعة المؤذِّن، وربما يكون ذلك
أثناء قراءة الفاتحة فتفوت الموالاة بينها، فالرَّاجح أن المصلِّي
لا يتابع المؤذِّن، وكذا قاضي الحاجة.
لكن هل يقضيان أم لا؟ المشهور من المذهب أنهما يقضيان[(159)]؛ لأن
السبب وُجِدَ حال وجود المانع؛ فإذا زال المانع ارتفع وقضى ما
فاته. وفي النَّفس من هذا شيء، خصوصاً إذا طال الفصلُ والله أعلم.
وَحَوْقَلَتُهُ فِي الحَيْعَلَة.
قوله: «وحَوقَلَتُه في الحَيْعَلة» ، هذان مصدران مصنوعان
ومنحوتان؛ لأنَّ الحَوقَلَة مصنوعة من «لا حولَ ولا قوَّة إلا
بالله»، والحيعلة من «حيَّ على الصَّلاة» «حيّ على الفلاح»، فتقول
إذا قال المؤذِّنُ: «حَيَّ على الصَّلاة»: لا حولَ ولا قوَّة إلا
بالله، وإذا قال: «حَيَّ على الفلاح»: لا حولَ ولا قوَّة إلا
بالله.
لو قال قائل: هل ابتُليتُ بمصيبة حتى أقول: لا حولَ ولا قوَّة إلا
بالله؟ لأنَّ العامَّة عندهم أن الإنسان إذا أُصيب بمصيبة قال: «لا
حولَ ولا قوَّة إلا بالله». والمشروع عند المصائب أن تقول: «إنَّا
لله، وإنَّا إليه راجعون»، أما هذه الكلمة: «لا حول ولا قوة إلا
بالله» فهي مشروعة عند التحمُّل، وهي كلمة استعانة، وليست كلمة
استرجاع.
فالجواب: أن المؤذِّنَ لما قال: «حيَّ على الصلاة»، فإنما دعاك إلى
حضورها؛ فاستعنت بالله، وذلك حيثُ تبرَّأت من حولك وقوَّتك إلى ذي
الحَول والقوَّة عزّ وجل فاستعنت به، وقلت: لا حَول ولا قوَّة إلا
بالله، وهذا من باب التوسُّل بذكر حال الدَّاعي وكمال المدعو.
فإن قيل: ما هو الحَول؛ وما هي القوَّة؟
فقد قال العلماء: الحَول بمعنى التحوُّل، أي: لا تحوّل من حال إلى
حال إلا بالله عزّ وجل. والقوَّة أخصُّ من القدرة، فكأنَّك قلت: لا
أستطيع ولا أقوى على التَّحوُّل إلا بمعونة الله، ولهذا نقول: إن
«الباء» في قوله: «إلا بالله» للاستعانة، فكلُّ إنسان لا يستطيع أن
يتحوَّل من حال إلى حال، سواء من معصية إلى طاعة، أو من طاعة إلى
أفضل منها إلا بالله عزّ وجل.
وقوله: «حيَّ على الفلاح» بعد قوله: «حيَّ على الصّلاة» تعميمٌ بعد
تخصيص، أو دعاء إلى النتيجة والثَّواب بعد الدُّعاء إلى الصَّلاة،
كأنه قال: أقبل إلى الصَّلاة، فإذا صليت نِلْتَ الفلاح.
وفي متابعة المؤذِّنِ دليلٌ على رحمة الله عزّ وجل، وسِعة فضله؛
لأن المؤذِّنين لما نالوا ما نالوه من أجر الأذان شُرع لغير
المؤذِّن أن يتابعه؛ لينال أجراً كما نال المؤذِّن أجراً، ولهذا
نظائر، فمن ذلك أنَّ الحُجَّاج يذبحون الهدايا يوم النَّحر، وغيرهم
ممن لم يحجَّ شُرِع لهم ذبح الأضاحي، وكذلك الحجَّاج إذا أحرموا
تركوا الترفُّه فلا يحلقون شعر الرَّأس، وغيرهم من أهل الأضاحي لا
يأخذون من شعورهم.
وَقَوْلُه بَعْدَ فَرَاغِهِ: اللَّهُمَّ رَبَّ هذه الدَّعْوةِ
التَّامَّةِ، ....................
قوله: «وقوله بعد فراغه: اللهم رَبَّ هذه الدَّعوةِ التَّامَّة...
إلخ» ، الحقيقة أن المؤلِّف اقتصر في الدُّعاء الذي بعد الأذان على
ما ذكره، وإلا فينبغي بعد الأذان أن تُصلِّي على النبيِّ صلّى الله
عليه وسلّم[(160)] ثم تقول: «اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة...
إلخ»، وفي أثناء الأذان إذا قال المؤذِّن: «أشهد أنْ لا إله إلا
الله، أشهد أنَّ محمداً رسولُ الله» وأجبته تقول بعد ذلك: «رضيت
بالله رَبًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً» كما هو ظاهر رواية
مسلم حيث قال: «من قال حين سمع النداء: أشهد أنْ لا إله إلا الله،
وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، رضيت بالله رَبًّا وبمحمد رسولاً،
وبالإسلام ديناً، غُفِرَ له ذَنْبه». في رواية ابن رُمْح ـ أحد
رجال الإسناد ـ: «من قال: وأنا أشهد»[(161)]. وفي قوله: «وأنا
أشهد» دليلٌ على أنه يقولها عقب قول المؤذِّن: «أشهد أنْ لا إله
إلا الله»، لأنَّ الواو حرف عطف، فيعطف قولَه على قولِ المؤذِّن.
فإذاً؛ يوجد ذِكْرٌ مشروع أثناء الأذان.
وقوله: «اللهم رَبَّ هذه الدعوة التَّامة»، الدعوة التامة: هي
الأذان؛ لأنه دعوة، ووَصَفَها بالتَّامة؛ لاشتمالها على تعظيم الله
وتوحيده، والشهادة بالرسالة، والدعوة إلى الخير.
وقوله: «اللهُم رَبَّ»، اللَّهُ بالضم، وربَّ بالفتح، لأنَّ
اللَّهَ عَلَمٌ مفردٌ فيُبنى على الضمِّ، و«ربَّ» مضاف، فيكون
منصوباً؛ لأن المُنادى أو ما وقع بدلاً منه إذا كان مضافاً فإنه
يكون منصوباً.
وقوله: «اللهم» منادى حُذِفَت منه ياءُ النداء، وعُوِّضَ عنها
الميم، وجُعِلَت الميم بعد لفظ الجلالة تيمُّناً وتبرُّكاً
بالابتداء بلفظ الجلالة، واخْتِيرَ لفظ الميم دون غيره من الحروف
للدلالة على الجمع؛ كأن الدَّاعي يجمع قلبه على ربِّه عزّ وجل،
وعلى ما يريد أن يدعوه به.
وقوله: «رَبَّ»، «ربّ» هنا بمعنى صاحبَ الدَّعوة الذي شرعها، ولو
كانت «ربّ» بمعنى خالق أشكل علينا؛ لأنَّ هذه الدَّعوة فيها أسماء
الله وهي غير مخلوقة؛ لأنها من الكلام الذي أخبر به عن نفسه،
وكلامه غير مخلوق، لكن لو فَسَّرنا «ربّ» بمعنى خالق على إرادة
اللفظ الذي هو فعل المؤذِّن، فهذا لا إشكال فيه.
والصَّلاَةِ القَائِمَةِ ..............
قوله: «والصَّلاة القائمة» ، أي: وربَّ هذه الصَّلاة القائمة؛
والمشار إليه ما تصوَّره الإنسانُ في ذِهنه؛ لأنك عندما تسمع
الأذان تتصوَّر أنَّ هناك صلاة. و«القائمة»: قال العلماء: التي
ستقام فهي قائمة باعتبار ما سيكون[(162)].
آتِ محمداً الوَسِيْلَةَ والفَضِيْلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَاماً
مَحْمُوداً الذي وَعَدْتُه.
قوله: «آتِ محمداً الوسيلةَ والفضيلةَ» ، آتِ: بمعنى أعطِ، وهي
تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، والمفعول الأوَّل
«محمداً» و«الوسيلة» المفعول الثَّاني. والوسيلة: بيَّنها الرَّسول
عليه الصَّلاة والسَّلام أنها: «درجة في الجنة، لا ينبغي أن تكون
إلا لعبد من عباد الله»، قال: «وأرجو أن أكون أنا هو»[(163)].
ولهذا نحن ندعو الله ليتحقَّق لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما
رجَاه عليه الصَّلاة والسلام.
وأما الفضيلة: فهي المَنْقبَة العالية التي لا يشاركه فيها أحد.
قوله: «وابْعَثْهُ مَقَامَاً مَحْمُوداً الذي وَعَدْتهُ» ، ابعثه
يوم القيامة «مقاماً» أي: في مقام محمود الذي وعدته، وهذا المقام
المحمود يشمل كلّ مواقف القيامة، وأَخَصُّ ذلك الشفاعة العُظمى،
حينما يلحق الناس من الكرب والغَمِّ في ذلك اليوم العظيم ما لا
يُطيقون، فيطلبون الشفاعة من آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم
عيسى عليهم الصَّلاة والسَّلام، فيأتون في النهاية إلى نبيِّنا
محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام فيسألونه أن يشفع إلى الله فيشفع
لهم[(164)].
وهذا مقام محمود؛ لأن الأنبياء والرُّسل كلهم يعتذرون عن
الشَّفاعة، إما بما يراه عُذراً كآدم ونوح وإبراهيم وموسى، وإمَّا
لأنه يرى أن في المقام مَنْ هو أولى منه كعيسى. وانظر كيف أَلْهَمَ
اللَّهُ الناسَ أن يأتوا إلى هؤلاء؛ لأن هؤلاء الأربعة هم أولو
العزم، وآدم أبو البشر خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته، ثم انظر
كيف يُلْهِمُ الله هؤلاء أن يعتذر كُلُّ واحد بما يرى أنَّه حائل
بينه وبين الشفاعة، لأن الشافع لا يتقدَّم في الشَّفَاعة، وهو يرى
أنه فعل ما يُخِلُّ بمقام الشَّفاعة، وهؤلاء الأربعة: آدم ونوح
وإبراهيم وموسى؛ استحيوا أن يتقدَّموا في الشَّفاعة؛ لكونهم فعلوا
ما يُخِلُّ بمقام الشَّفاعة في ظَنِّهم، مع أنهم قد تابوا إلى الله
تعالى.
أما بالنسبة لإبراهيم عليه السلام فالذي فعله كان تأويلاً، لكن
لكمال تواضعه اعتذر به. والخامس لم يذكر شيئاً يُخِلُّ بمقام
الشفاعة، ولكن ذَكَرَ مَنْ هو أَولى منه في ذلك، وهو محمَّد عليه
الصَّلاة والسَّلام لتتمَّ الكمالات لرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم.
وهذا من المقام المحمود الذي قال الله له فيه: {{وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ
مَقَامًا مَحْمُودًا *}} [الإسراء] هذه الدعوات. وقد ثَبَت عن
النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن من صَلَّى عليه، ثم سأل الله له
الوسيلة، فإنها تحلُّ له الشفاعة يوم القيامة»[(165)]. فيكون
مستحقًّا لها، وهذا لا شَكَّ أنه من نعمة الله سبحانه علينا وعلى
الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم. أما علينا فلِمَا ننالُه من الأجر
من هذا الدُّعاء، وأما على الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم. فلأن
هذا مما يرفع ذكرَه أن تكون أمته إلى يوم القيامة تدعو الله له.
لكن لو قال قائل: إذا كانت الوسيلة حاصلة لرسول الله صلّى الله
عليه وسلّم، فما الفائدة من أن ندعو الله له بها؟
فالجواب: لعلَّ من أسباب كونها له دُعاءُ النَّاس له بذلك، وإن كان
صلّى الله عليه وسلّم أحقَّ الناس بها. ولأن في ذلك تكثيراً
لثوابنا؛ وتذكيراً لحقِّه علينا.
وفي هذا الدُّعاء عِدَّة مسائل:
المسألة الأولى: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بشرٌ لا يملك
لنفسه نفعاً ولا ضَرًّا، ووجهه: أننا أمرنا بالدُّعاء له.
المسألة الثانية: أن الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام أفضل البشر؛
لأنَّ الوسيلة لا تحصُل إلا له خاصَّة، ومعلومٌ أن الجزاء على
قَدْرِ قيمة المجزيِّ، قال تعالى: {{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}}
[المجادلة: 11] .
المسألة الثالثة: الإشكال في قوله: «آتِ محمَّداً»، ولم يقل: «آتِ
رسول الله»، فكيف نجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {{لاَ تَجْعَلُوا
دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}}
[النور: 63] على أحد التفسيرين في أنَّ المعنى لا تنادوه باسمه كما
يُنادي بعضكم بعضاً؟
والجواب: أن النهي في الآية عن مناداته باسمه، وأما في باب الإخبار
فلا نهيَ في ذلك.
وفي الآية قولٌ آخر؛ وهو أن قوله: {{لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}} [النور: 63]
من باب إضافة المصدر إلى فاعله لا إلى مفعوله، يعني: لا تجعلوا
دُعاءَ الرَّسول إيَّاكم كدُعاء بعضكم بعضاً، إن شئتم أجبتم، وإن
شئتم لم تجيبوا، بل تجب إجابته.
تنبيه: لم يذكر المؤلِّف قوله: «إنك لا تخلف الميعاد»؛ لأن
المحدثين اختلفوا فيها، هل هي ثابتة أو ليست بثابتة؟ فمنهم من قال:
إنها غير ثابتة لشُذُوذِها؛ لأن أكثر الذين رَوَوا الحديث لم يرووا
هذه الكلمة، قالوا: والمقام يقتضي ألا تُحذف؛ لأنه مقام دُعاء
وثناء، وما كان على هذا السبيل فإنه لا يجوز حذفه إلا لكونه غير
ثابت؛ لأنه مُتَعَبَّدٌ به.
ومن العلماء من قال: إنَّ سندها صحيح، وإنها تُقال؛ لأنها لا
تُنَافي غيرَها، وممن ذهب إلى تصحيحها الشيخ عبد العزيز بن باز،
وقال: إن سندَها صحيح، وقد أخرجها البيهقي[(166)] بسند صحيح.
وقالوا: إنَّ هذا مما يُختم به الدُّعاء كما قال تعالى: {{رَبَّنَا
وَآتِنَا مَا وَعَدْتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ *}} [آل عمران] فمن
رأى أنَّها صحيحة فهي مشروعة في حقِّه، ومن رأى أنَّها شاذة فليست
مشروعة في حقِّه، والمؤلِّف وأصحابُنَا يرون أنها شاذَّة ولا يُعمل
بها.
تَنْبِيهات:
الأوَّل: ظاهر كلام المؤلِّف أنه لا تُسَنُّ متابعةُ المقيم، وهو
أظهر. وقيل: بل تُسَنُّ[(167)]، وفيها حديث أخرجه أبو داود لكنه
ضعيف[(168)]؛ لا تقوم به الحُجَّة.
الثاني: ظاهر كلامه: أنَّه إذا قال المؤذِّن في صلاة الصُّبْح:
«الصَّلاة خير من النوم»، فإن السَّامع يقول مثل ما يقول:
«الصَّلاةُ خير من النوم» وهو الصَّحيح؛ لأن النبيَّ صلّى الله
عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول»[(169)]،
وهذا عامٌّ في كلِّ ما يقول، لكن الحيعلتين يُقال في متابعتهما:
«لا حول ولا قوَّة إلا بالله» كما جاء في الحديث، ولأن السَّامع
مدعو لا داع، والمذهب أنه يقول في المتابعة في «الصلاة خير من
النوم»: «صدقت وبررت»[(170)] وهذا ضعيف، لا دليل له؛ ولا تعليل
صحيح.
التنبيه الثالث: ظاهر كلام المؤلِّف أيضاً: أن المؤذِّن لا يتابعُ
نفسَه، وهو الصَّحيح؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا
سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول»، والمذهب أنه يُتابع نفسه
(170) ، وهو ضعيفٌ مخالف لظاهر الحديث، وللتعليل الصَّحيح وهو: أن
المقصود مشاركة السَّامع للمؤذِّن في أصل الثواب.
|