Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

www.2dabniraby.com

أهلاَ وسهلاَ بكم في موقع أدبني ربي نتمنى لكم وقت ممتع ومفيد

 

                                      

 

 

 

  الشرح الممتع على زاد المستقنع - المجلد الثالث-

  • باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة

 

صِفةُ الصَّلاة: أي: الكيفية التي تكون عليها. وعلماء الفقه رحمهم الله تكلموا على صِفةِ الصَّلاة، وعلى صِفةِ الحَجِّ وغيرهما؛ وذلك لأنَّ شرط العبادة أمران:

1 ـ الإخلاصُ لله تعالى.

2 ـ المتابعةُ للرَّسول صلّى الله عليه وسلّم.

فأما الإِخلاصُ لله؛ فيتكلَّمُ عليه أهلُ التوحيد والعقائد.

وأما المتابعةُ للرسول صلّى الله عليه وسلّم فيتكلَّمُ عليها الفقهاءُ.

وضِدُّ الإِخلاصِ: الإِشراك، وضِدُّ المتابعةِ: البدعة.

فمَن تابع الرَّسولَ بدون إخلاص لم تصحَّ عبادتُه؛ لقوله تعالى في الحديث القُدسي: «أنا أغنى الشُّركاءِ عن الشِّركِ، مَن عَمِلَ عملاً أشركَ فيه معي غيري تركْتُهُ وشِرْكَهُ»[(1)]، ومَن أخلص لله ولم يَتَّبعْ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم فإن عبادتَه مردودة؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَن عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»[(2)]. ومن ثَمَّ اضطرَّ العلماءُ إلى بيان صِفةِ الصَّلاةِ والحجِّ وغيرهما، لكن؛ لم نجدهم ذكروا باباً لصِفة الصِّيام، ولا الزَّكاة.

بل بيَّنوا ما يتركه الإِنسان ببيان المفطرات، وقالوا: إنَّ الصِّيامَ هو الإِمساكُ عن المفطرات بنيَّة التعبُّد لله تعالى؛ مِن طُلوعِ الفجر إلى غُروبِ الشمس. وهذا هو الكيفيَّة.

وفي الزَّكاةِ ذكروا الأموال الزكوية ومقدار الأنصبة، والواجب وأهل الزكاة. وهذا في الحقيقة هو الكيفية.

والصَّلاةُ كما نعلم هي أعظم أركان الإِسلام بعد الشهادتين، وهي التي إذا تركها الإِنسان تهاوناً وكسلاً كان كافراً[(3)]، وإنْ جَحَدَ وجوبَها كان كافراً ولو صَلَّى، فإذا قال: أنا أصلِّي هذه الصلوات الخمس على أنها نافلة. كان كافراً ـ وإن كان يصلِّيها ـ إلا أن يكون حديث عهد بإسلام، أو نَشأ في بادية بعيدة؛ لا يَعرفُ عن أركان الإسلام؛ فَيُعَرَّفُ بوجوبِها أولاً، ثم يُحكم بكفره إنْ جَحَدَ الوجوبَ بعد تعريفه به.

والصَّلاةُ إما في جماعة، وإما في انفراد. فإذا كان في جماعةٍ فأحسن ما يكون: أن يتوضَّأ الإِنسانُ في بيته، ويُسْبِغَ الوُضُوءَ، ثم يخرج من بيته بنيَّة الصَّلاةِ مع الجماعةِ. فإذا فَعَلَ ذلك لم يَخْطُ خَطوةً إلا رَفَعَ اللَّهُ له بها درجةً، وحَطَّ عنه بها خطيئة؛ قَرُبَ بيته أو بَعُدَ[(4)]. ولا يعني هذا أنه ينبغي أن يتقصَّد الأبعدَ مِن المساجد، بل يعني ذلك أنه إذا بَعُدَ منزلك مِن المسجد فلا تستبعد المسجدَ، وتقل: إن في ذلك تعباً عَليَّ، بلِ اسْعَ إليه، ولك في كلِّ خَطوة إذا خرجت مُسبغاً للوُضُوء قاصداً المسجد أنْ يرفعَ الله لك بها درجة؛ ويَحطَّ عنك بها خطيئةً.

وينبغي أن يأتي إليها بسكينةٍ ووَقَار، سكينة في الألفاظ والحركة، ووقار في الهيئة، فلا يأتي إليها وهو منزعجٌ، أو يمشي مشية الإِنسانِ الذي ليس بمنتظم، بل يكون وَقوراً؛ لأنه مُقبلٌ على مكانٍ يقفُ فيه بين يدي الله عزّ وجل. ونحن نعلم أن الإنسان لو أقبل على قصر مَلِكٍ مِن الملوك؛ لوجدته يتهيَّأ، وينظر كيف وجهه؟ وكيف ثوبه؟ ويأتي بسكينة ووَقار، ويظهر عليه ذلك، فكيف بمن يأتي إلى بيت الله عزّ وجل ليقف بين يديه؟ فلا يسرع حتى وإن خاف أن تفوته الصلاة؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم الإِقامة فامشوا إلى الصَّلاةِ؛ وعليكم السَّكينةُ والوَقارُ؛ ولا تسرعوا» [(5)]. فما أدركت فصلِّ وما فاتك فأتم؛ لأن هذا هو حقيقة الأدب مع الله عزَّ وجلَّ.

ثم إذا حضرت المسجدَ فصَلِّ ما تيسَّرَ لك، فإن كان قد أذَّنَ فإنه يمكنك أن تُصلِّي الرَّاتبةَ؛ إذا كانت لهذه الفريضة راتبةٌ قبلَها، وإن لم يكن لها راتبة قبلها فسُنَّة ما بين الأذانين؛ لأن بين كلِّ أذانين صلاةً، وتجزئ هذه الصلاة ـ أعني: سُنَّة ما بين الأذانين أو الراتبة ـ عن تحيَّة المسجد؛ لأن قول الرَّسول عليه الصلاة والسلام: « إذا دَخَلَ أحدُكم المسجد فلا يجلس حتى يُصلِّيَ ركعتين»[(6)]. يَصْدق بما إذا صَلَّى الإِنسانُ الراتبةَ، أو سُنَّةَ ما بين الأذانين[(7)].

ثم اجْلسْ بنيَّة انتظار الصَّلاة، واعلمْ أنك إذا أتيت المسجدَ على هذا الوجه لا تزال في صلاة ما انتظرتَ الصَّلاةَ؛ حتى لو تأخَّر الإِمامُ وزاد خمسَ دقائق أو عشراً فإنك على خير؛ لأنك لا تزال في صلاة ما انتظرتَ الصَّلاةَ، ثم مع ذلك الملائكةُ تُصلِّي عليك ما دمت في مصلاك، ورَجلٌ تُصلِّي عليه الملائكة حَريٌّ بأن يستجيبَ اللَّهُ سبحانه وتعالى دعاءَ الملائكة له.

 

يُسَنُّ القِيَامُ عِنْدَ «قَدْ» مِنْ إِقامَتِها،..............

قوله: «يُسنُّ القيامُ عند قد من إقامتها» . أي: يُسنُّ للمأموم أن يقوم إذا قال المقيم: «قد» من «قد قامت الصلاة»، لأن «قد» تفيدُ التحقيقَ، و«قامت» تفيدُ الواقعَ، وحينئذٍ يكون موضع القيام للصَّلاةِ عند قوله: «قد» من «قد قامت الصلاة»، وظاهر كلام المؤلِّفِ أنه يُسنُّ القيامُ عند هذه الجملة؛ سواء رأى المأمومون الإِمامَ أم لم يَروه، وهذا أحدُ الأقوال في المذهب[(8)].

والمشهورُ مِن المذهب[(9)]: أنهم لا يقومون عند إقامتها؛ إلا إذا رأوا الإِمامَ، فإنْ لم يَروه انتظروا حتى يَروا الإِمامَ؛ لأنهم تابعون، ولو قاموا في الصَّفِّ قبل أن يَروا الإِمامَ لكانوا متبوعين؛ لأن الإِمامَ سيأتي بعدَهم بعد أن يصطفُّوا ويقوموا، والغالب أنها لا تُقام عندنا في هذا البلد حتى يدخل الإِمامُ المسجدَ، ويراه الناسُ ثم يقيم المؤذِّنُ.

وقيل: يقوم إذا رأى الإِمام مطلقاً. وقيل: يقوم إذا شُرع بالإِقامة. وقيل: يقوم إذا قال: «حيَّ على الصلاة». وقيل: يقوم إذا كبَّرَ الإِمامُ تكبيرة الإِحرام. وقيل: الأمر في ذلك واسع[(10)]، والسُّنَّة لم تردْ محدِّدة لموضع القيام؛ إلا أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أُقِيمَت الصلاةُ فلا تقوموا حتى تَرَوْنِي»[(11)]. فإذا كانت السُّنَّةُ غيرَ محدِّدة للقيام؛ كان القيامُ عند أوَّل الإِقامة، أو في أثنائها، أو عند انتهائها، كلُّ ذلك جائز.

المهمُّ: أن تكون متهيِّئاً للدُّخول في الصلاة قبل تكبيرةِ الإمامِ؛ لئلا تفوتك تكبيرةُ الإِحرام.

 

وتسوِيةُ الصَّفِ .....................

قوله: «وتسويةُ الصفِّ» يعني: تُسنُّ تسويةُ الصَّفِّ؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يأمرُ بذلك فيقول: «سَوُّوا صُفُوفَكُم»[(12)]، ويُرشِدُ أصحابَه لهذا حتى فهموا ذلك عنه وعَقَلوه عَقْلاً جيداً. وفي يوم من الأيام خَرَجَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُقيمتِ الصَّلاةُ؛ فالتفتَ فإذا رَجُلٌ قد بَدَا صدرُه[(13)]؛ فقال: «عباد الله، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أو لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بين وُجُوهِكُم» [(14)]، فقوله: «لتسوُّنَّ صُفُوفكم» «اللام» واقعة في جواب قَسَم مقدَّر، وتقدير الكلام: «والله لتسوُّنَّ»، فالجملة مؤكَّدة بثلاث مؤكِّدات، وهي: القسم، واللام، والنون. وهذا خَبرٌ فيه تحذير؛ لأنه قال: «لتسوُّنَّ صُفُوفكم، أو ليُخَالفَنَّ اللَّهُ بين وُجُوهِكم» أي: بين وجهات نظركم حتى تختلف القلوب، وهذا بلا شكٍّ وعيدٌ على مَن تَرَكَ التسويةَ، ولذا ذهب بعضُ أهل العِلم إلى وجوب تسوية الصَّفِّ[(15)]. واستدلُّوا لذلك: بأمْرِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم به، وتوعُّدِه على مخالفته، وشيء يأتي الأمرُ به، ويُتوعَّد على مخالفته لا يمكن أن يُقال: إنه سُنَّة فقط.

ولهذا كان القولُ الرَّاجحُ في هذه المسألة: وجوب تسوية الصَّفِّ، وأنَّ الجماعة إذا لم يسوُّوا الصَّفَّ فهم آثمون، وهذا هو ظاهر كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله[(16)]. لكن إذا خالفوا فلم يسوُّوا الصَّفَّ فهل تبطل صلاتهم؛ لأنهم تركوا أمراً واجباً؟

الجواب: فيه احتمالٌ، قد يُقال: إنها تبطل؛ لأنهم تركوا الواجب. ولكن احتمال عدم البطلان مع الإِثم أقوى؛ لأن التسويةَ واجبةٌ للصلاةِ لا واجبة فيها، يعني أنها خارج عن هيئتها، والواجبُ للصَّلاةِ يأثمُ الإِنسانُ بتَرْكِه، ولا تبطلُ الصَّلاةُ به، كالأذان مثلاً، فإنه واجبٌ للصَّلاةِ، ولا تبطل الصَّلاةُ بتَرْكِه.

وتسوية الصَّفِّ تكون بالتساوي، بحيث لا يتقدَّم أحدٌ على أحد، وهل المعتبر مُقدَّم الرِّجْلِ؟ الجواب: المعتبر المناكب في أعلى البَدَن، والأكعُب في أسفل البَدَن، وهذا عند الاعتدال، أما إذا كان في الإِنسان احديداب فلا عِبرة بالمناكب؛ لأنه لا يمكن أن تتساوى المناكبُ والأكعُب مع الحَدَب، وإنما اعتُبرت الأكعب؛ لأنها في العمود الذي يَعتمد عليه البدنُ، فإن الكعب في أسفل السَّاق، والسَّاقُ هو عمودُ البَدَن، فكان هذا هو المُعتبر. وأما أطراف الأرجُل فليست بمعتبرة؛ وذلك لأن أطراف الأرجُلِ تختلف، فبعض الناس تكون رِجْلُه طويلة، وبعضهم قصيرة، فلهذا كان المعتبر الكعب.

ثم إن تسوية الصَّفِّ المتوعَّد على مخالفتها هي تسويته بالمحاذاة، ولا فَرْقَ بين أن يكون الصَّفُّ خلف الإِمام أو مع الإِمام، وعلى هذا؛ فإذا وقف إمامٌ ومأموم فإنه يكون محاذياً للمأموم، ولا يتقدَّم عليه خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنه ينبغي تقدُّم الإِمام على المأموم يسيراً؛ ليتميَّز الإِمامُ عن المأموم.

فيقال: إنَّ هذا خِلافُ ظاهرِ النَّصِّ، فابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أخَذَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم برأسه مِن ورائِه، وجعله عن يمينه. ولم يُنقل أنه أخَّره قليلاً[(17)]، ثم إن الإِمامَ والمأموم يُعتبران صفًّا، فإذا اعتبرناهما صفًّا كان المشروعُ تسويةَ الصَّفِّ.

وهناك تسوية أخرى بمعنى الكمال؛ يعني: الاستواء بمعنى الكمال كما قال الله تعالى: {{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى}} [القصص: 14] أي: كَمُلَ، فإذا قلنا: استواءُ الصَّفِّ بمعنى كماله؛ لم يكن ذلك مقتصراً على تسوية المحاذاة، بل يشمَل عِدَّة أشياء:

1 ـ تسويةَ المحاذاة، وهذه على القول الرَّاجح واجبة، وقد سبقت[(18)].

2 ـ التَّراصَّ في الصَّفِّ، فإنَّ هذا مِن كماله، وكان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يأمر بذلك، ونَدَبَ أمَّتَهُ أن يصفُّوا كما تصفُّ الملائكةُ عند ربِّها، يتراصُّون ويكملون الأول فالأول[(19)]، ولكن المراد بالتَّراصِّ أن لا يَدَعُوا فُرَجاً للشياطين، وليس المراد بالتَّراص التَّزاحم؛ لأن هناك فَرْقاً بين التَّراصِّ والتَّزاحم؛ ولهذا كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب... ولا تذروا فُرُجَات للشيطان»[(20)] أي: لا يكون بينكم فُرَج تدخل منها الشياطين؛ لأن الشياطِين يدخلون بين الصُّفوفِ كأولاد الضأن الصِّغارِ[(21)]؛ من أجل أن يُشوِّشوا على المصلين صلاتَهم.

3 ـ إكمالَ الأول فالأول، فإنَّ هذا مِن استواءِ الصُّفوف، فلا يُشرع في الصَّفِّ الثاني حتى يَكمُلَ الصَّفُّ الأول، ولا يُشرع في الثالث حتى يَكمُلَ الثاني وهكذا، وقد نَدَبَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إلى تكميل الصفِّ الأول فقال: «لو يعلم الناسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأولِ؛ ثم لم يجدوا إلاّ أن يَسْتَهِمُوا عليه لاسْتَهَمُوا»[(22)]. يعني: يقترعون عليه؛ فإذا جاء اثنان للصفِّ الأول، فقال أحدهم: أنا أحقُّ به منك، وقال الآخر: أنا أحقُّ، قال: إذاً نقترعُ، أيُّنا يكون في هذا المكان الخالي. ومِنْ لَعِبِ الشيطان بكثير من الناس اليوم: أنهم يرون الصفَّ الأول ليس فيه إلا نصفُه، ومع ذلك يشرعون في الصفِّ الثاني، ثم إذا أُقيمت الصلاة، وقيل لهم: أتمُّوا الصفَّ الأول، جعلوا يتلفَّتون مندهشين، وكل ذلك في الحقيقة سببه:

أولاً: الجهل العظيم.

وثانياً: أن بعضَ الأئمة لا يبالون بهذا الشيء، أي: بتسوية المأمومين، وتراصِّهم وتكميلِ الأول فالأول، والأمرُ بالتسوية سُنَّة عند الحاجة إليها، أي: مع عدم استواء الصَّفِّ، وليست سُنَّةً مطلقةً، لكن ينبغي أن تكون سُنَّة مؤثِّرة، بحيث إذا وَجَد الإِمامُ واحداً متقدِّماً قال له: تأخَّر يا فلان، ولقد سبق قول الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينما رأى رَجُلاً بادياً صدره[(23)]، وكان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُسوِّي الصفوفَ بيده، ويمسحُ المناكبَ[(24)] والصُّدورَ مِن طَرَف الصفِّ إلى طَرَفه[(25)]، والواجب على الإِمامِ أن يصبرَ ويعوِّدَ النَّاسَ على تسويةِ الصَّفِّ، حتى يسوُّوا الصفوفَ، ولا يمكن لإنسان مؤمن يبلُغُه أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: «لتُسوُّنَّ صفوفَكم، أو ليُخَالفنَّ اللَّهُ بينِ وجوهِكم»[(26)]. ثم لا يبالي بتسوية الصفِّ. وهاهنا حديث مشهور بين النَّاسِ، وليس له أصلٌ وهو: «إنَّ اللَّهَ لا ينظرُ إلى الصَّفِّ الأعوج».

4 ـ ومِن تسوية الصُّفوف: التقاربُ فيما بينها، وفيما بينها وبين الإِمام؛ لأنهم جماعةٌ، والجماعةُ مأخوذةٌ مِن الاجتماع: ولا اجتماع كامل مع التباعد، فكلما قَرُبَت الصُّفوفُ بعضها إلى بعض، وقَرُبَت إلى الإِمام كان أفضل وأجمل، ونحن نرى في بعض المساجد أنَّ بين الإِمام وبين الصَّفِّ الأول ما يتَّسع لصفٍّ أو صفَّين، أي: أنَّ الإِمام يتقدَّم كثيراً، وهذا فيما أظنُّ صادر عن الجهل، فالسُّنَّةُ للإمام أن يكون قريباً مِن المأمومين، وللمأمومين أن يكونوا قريبين مِن الإِمام، وأن يكون كلُّ صفٍّ قريباً مِن الصَّفِّ الآخر.

وحَدُّ القُرب: أن يكون بينهما مقدار ما يَسَعُ للسُّجودِ وزيادة يسيرة.

مسألة: وهل الصَّفُّ الثاني بالنسبة للصفِّ الثالث صفٌّ أول؛ بحيث يدخل في قول الرسول عليه الصَّلاةِ والسَّلامُ: «لو يعلمُ الناسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأولِ؛ ثم لم يجدوا إلاّ أن يستهمُوا عليه لاستهموا»[(27)] أو لا؟.

الظاهر: لا؛ وذلك لأن الصفَّ الأول يقتضي المبادرة والتبكير، بخلاف الصفِّ الثاني، والتقدُّم إلى المسجدِ أمرٌ مطلوبٌ.

5 ـ ومِن تسوية الصُّفوفِ وكمالها: أن يدنوَ الإِنسانُ مِن الإِمامِ؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لِيَلِنِي منكم أولُو الأحْلامِ والنُّهَى»[(28)] وكلَّما كان أقربَ كان أَولى، ولهذا جاء الحثُّ على الدُّنوِّ مِن الإِمام في صلاة الجُمعة[(29)] لأن الدُّنوَّ مِن الإِمام في صلاة الجُمعة يحصُل به الدُّنُو إليه في الصَّلاةِ، وفي الخطبة، فالدُّنُو مِن الإِمام أمرٌ مطلوب، وبعضُ الناس يتهاون بهذا؛ ولا يحرِصُ عليه.

6 ـ ومِن تسوية الصُّفوف: تفضيل يمين الصفِّ على شماله، يعني: أنَّ أيمن الصَّفِّ أفضل مِن أيسره، ولكن ليس على سبيل الإِطلاق؛ كما في الصَّفِّ الأول؛ لأنه لو كان على سبيل الإِطلاق، كما في الصف الأول؛ لقال الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلام: «أتمُّوا الأيمن فالأيمن» كما قال: «أتمُّوا الصَّفَّ الأول، ثم الذي يليه»[(30)]. وإذا كان ليس مِن المشروع أن تبدأ بالجانب الأيمن حتى يكمُلَ، فإننا ننظرُ في أصول الشَّريعة، كيف يكون هذا بالنسبةِ لليسار؟ نجد أن هذا بالنسبة لليسار إذا تحاذى اليمينُ واليسار وتساويا أو تقاربا فالأفضل اليمين، كما لو كان اليسار خمسة واليمين خمسة؛ وجاء الحادي عشر؛ نقول: اذهبْ إلى اليمين؛ لأنَّ اليمين أفضلُ مع التَّساوي، أو التقارب أيضاً؛ بحيث لا يظهر التفاوتُ بين يمين الصَّفِّ ويسارِه، أما مع التَّباعد فلا شكَّ أنَّ اليسار القريبَ أفضل من اليمين البعيد. ويدلُّ لذلك: أنَّ المشروع في أول الأمر للجماعة إذا كانوا ثلاثة أن يقف الإِمام بينهما، أي: بين الاثنين[(31)]. وهذا يدلُّ على أن اليمينَ ليس أفضلَ مطلقاً؛ لأنه لو كان أفضلَ مطلقاً؛ لكان الأفضل أن يكون المأمومان عن يمينِ الإِمامِ، ولكن كان المشروعُ أن يكون واحداً عن اليمين وواحداً عن اليسار حتى يتوسَّط الإِمام، ولا يحصُل حَيْفٌ وجَنَفٌ في أحد الطرفين.

7 ـ ومِن تسوية الصُّفوفِ: أن تُفرد النِّساءُ وحدَهن؛ بمعنى: أن يكون النِّساءُ خلف الرِّجال، لا يختلط النِّساء بالرِّجال لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «خيرُ صُفوفِ الرِّجَالِ أوَّلُهَا، وشرُّها آخِرُها، وخيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُها، وشرُّها أوَّلُها»[(32)] فبيَّن عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه كلما تأخَّرت النِّساءُ عن الرِّجالِ كان أفضلَ.

إذاً؛ الأفضلُ أن تُؤخَّر النِّساءُ عن صفوفِ الرِّجَالِ لما في قُربهنَّ إلى الرِّجَال مِن الفتنة. وأشدُّ مِن ذلك اختلاطُهنَّ بالرِّجال، بأن تكون المرأةُ إلى جانب الرَّجُلِ، أو يكون صَفٌّ مِن النِّساءِ بين صُفوفِ الرِّجَال، وهذا لا ينبغي، وهو إلى التَّحريمِ مع خوف الفتنة أقربُ.

ومع انتفاء الفتنة خِلافُ الأَولى، يعني: إذا كان النِّساءُ مِن محارمه فهو خِلافُ الأَولى، وخلاف الأفضل.

8 ـ هل مِن استواء الصُّفوفِ أن يتقدَّمَ الرِّجَالُ ويتأخَّرَ الصبيان؟.

قال بعض العلماء[(33)]: إنَّ هذا مِن تسوية الصُّفوفِ وكمالِها، أنْ يكون الرِّجالُ البالغون هم الذين يلون الإِمامَ، وأن يكون الصبيانُ في الخلفِ، فإذا كان عندنا مِئَةُ رجُل يمثِّلون صَفًّا، ومِئَةُ صبيٍّ يمثِّلون نصف الصَّفِّ، نجعلُ المِئَةَ الرَّجُل الصفَّ الأول، ومِئَةَ الطفل الصفَّ الثاني، حتى لو تقدَّم صبيٌّ إلى الأول أخَّرْنَاه؛ لأنَّ استواء الصفِّ أن يكون الرِّجالُ البالغون هم المقدَّمون.

واستُدِلَّ لذلك: بقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لِيَلِني منكم أُولُو الأحْلامِ والنُّهى»[(34)].

ولكن في هذا نظرٌ، بل نقول: إنَّ الصبيان إذا تقدَّموا إلى مكان، فهم أحقُّ به مِن غيرهم؛ لعموم الأدلَّة على أنَّ مَن سبقَ إلى ما لم يسبق إليه أحدٌ فهو أحقُّ به، والمساجدُ بيوتُ الله، يستوي فيها عباد الله، فإذا تقدَّم الصبيُّ إلى الصفِّ الأول ـ مثلاً ـ وجَلَسَ فليكنْ في مكانِه، ولأننا لو قلنا بإزاحة الصِّبيان عن المكان الفاضل، وجعلناهم في مكان واحد أدى ذلك إلى لَعبِهم؛ لأنَّهم ينفردون بالصَّفِّ، ثم هنا مشكل، إذا دخل الرِّجالُ بعد أن صفَّ الجماعة هل يُرجعونهم، وهم في الصلاة؟ وإن بَقَوا صفًّا كاملاً فسيُشوِّشون على مَنْ خلفَهم مِن الرِّجَال.

ثم إنَّ تأخيرهم عن الصَّفِّ الأول بعد أن كانوا فيه يؤدِّي إلى محذورين:

المحذور الأول: كراهة الصَّبيِّ للمسجدِ؛ لأن الصَّبيَّ ـ وإنْ كان صبيًّا ـ لا تحتقره، فالشيء ينطبع في قلبه.

المحذور الثاني: كراهته للرَّجُل الذي أخَّره عن الصَّفِّ.

فالحاصل: أنَّ هذا القولَ ضعيفٌ، أعني: القول بتأخير الصِّبيان عن أماكنهم، وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لِيَلِني منكم أُولُو الأحلامِ والنُّهى»[(35)] فمرادُه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ حَثُّ البالغين العقلاء على التقدُّم؛ لا تأخير الصِّغار عن أماكنهم.

وقوله: «وتسوية الصفِّ» «أل» هنا للعموم، ولهذا عَبَّرَ بعضُ الفقهاءِ بقوله: تسوية الصُّفوف. فالصفُّ هنا اسمُ جنسٍ يشمَلُ جميعَ الصُّفوف: الأول، والثاني، والثالث... إلخ.

مسألة: إذا كان يمينُ الصَّفِّ أكثرَ مِن يساره؛ فهل يَطلبُ الإمامُ مِن الجماعة تسوية اليمين مع اليسار؟.

الجواب: إذا كان الفَرْقُ واضحاً فلا بأس أنْ يطلبَ تسويةَ اليمينِ مع اليسار، لأجل بيان السُّنَّة؛ لأنَّ كثيراً مِن النَّاسِ الآن يظنُّونَ أن الأفضل اليمين مطلقاً؛ حتى إنه ليكمُل الصفُّ أحياناً مِن اليمين، وليس في اليسار إلا واحدٌ أو اثنان. قال في «الفروع»: ويتوجَّه احتمال أنَّ بُعْدَ يمينه ليس أفضلَ مِن قُرْبِ يسارِه ولعله مرادهم[(36)] اهـ.

مسألة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا توضَّأ فأحسنَ الوُضُوء، لم يخطُ خَطوة إلا رُفعت له بها درجة...» الحديث[(37)]، فهل إذا خرجَ الإِنسانُ مِن بيته قاصداً المسجدَ، ثم توضَّأ في دورةِ المياه التي في المسجد، يكون له هذا الأجر؟

الجواب: ظاهرُ الحديثِ أنَّه لا يكون له هذا الأجر؛ لأنَّ هناك فَرْقاً بين مَن يخرج مِن بيتِه متهيِّئاً للصَّلاةِ قاصداً لها، وبين إنسان يأتي إلى المسجدِ غير متهيِّئ للصَّلاةِ. نعم؛ لو كان بيتُه بعيداً، ولم يتهيَّأ له الوُضُوء منه فيُرجى أن ينال هذا الأجر.

 

وَيَقُولُ: «اللَّهُ أكبرُ» ...............

قوله: «ويقول: الله أكبر» أي: يقول المصلِّي: «الله أكبر» والقول إذا أُطلق فإنما هو قول اللِّسان، أما إذا قُيِّد فقيل: يقول في قلبه، أو يقول في نفسِه، فإنه يتقيَّد بذلك، وهذا التكبيرُ رُكْنٌ، لا تنعقدُ الصَّلاةُ بدونه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال للمسيء في صلاتِه: «إذا قُمتَ إلى الصَّلاةِ فأسْبِغ الوُضُوءَ، ثم اسْتقبل القِبْلةَ فكبِّر» مع أنه قال في الأول: «ارجِعْ فَصَلِّ فإنك لم تُصلِّ»[(38)]. وعلى هذا؛ فيكون كلُّ ما أمَرَ به الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المسيءَ في صلاتِه رُكناً لا تصِحُّ الصَّلاةُ بدونه، وإنْ شئت فقل: واجباً لا تصلحُ الصَّلاةُ بدونه؛ لأجل أن يشمَلَ إسباغَ الوُضُوء؛ لأنه ليس برُكنٍ في الصَّلاةِ، بل هو شرط.

وإذا عَجَزَ الإِنسانُ عنها؛ لكونه أخرسَ لا يستطيع النُّطقَ، فهل تسقطُ عنه، أو ينويها بقلبِه، أو يحرِّك لسانَه وشفتيه[(39)]؟

الجواب: نقول: ينويها بقلبِه؛ لأن قول الإِنسان: «الله أكبر» متضمِّن لقول اللسان وقول القلب؛ لأنه لم يقل بلسانه: «الله أكبر» إلا حين قالها بقلبه وعَزَم عليها، فإذا تعذَّر النُّطقُ باللِّسان وَجَبَ القولُ بالقلبِ، فيقولُها بقلبِه، ولا يحرِّك لسانَه وشفتيه، خِلافاً لمن قال مِن أهل العِلم: إنه يحرِّكُ لسانَه وشفتيه؛ مُعَلِّلاً ذلك بأن في القول تحريك اللِّسان والشفتين، فلما تعذَّر الصَّوتُ وَجَبَ التحريكُ.

والردُّ على هذا: أنَّ تحريك اللِّسان والشفتين ليس مقصوداً لذاته؛ بل هو مقصودٌ لغيره؛ لأنَّ القول لا يحصُلُ إلا به، فإذا تعذَّر المقصودُ الأصلي سقطت الوسيلةُ، وصارت هذه الوسيلةُ مجرَّد حركة وعبث، فما الفائدة مِن أن يُحرِّك الإِنسانُ شفتيه ولسانه، وهو لا يستطيع النُّطقَ، فالقول الرَّاجح في هذه المسألة: أنَّ الإِنسانَ إذا كان أخرسَ لا يستطيعُ أن يقول بلسانه فإنه ينوي ذلك بقلبه، ولا يحرِّك شفتيه ولا لسانه، لأن ذلك عبث وحركة في الصَّلاة لا حاجة إليها.

وقوله: «ويقول» إذا قلنا: إن القول يكون باللسان؛ فهل يُشترط إسماع نفسه لهذا القول؟

في هذا خِلافٌ بين العلماء[(40)]، فمنهم مَن قال: لا بُدَّ أن يكون له صوتٌ يُسمعَ به نفسَه. وهو المذهب[(41)]، وإن لم يسمعه مَنْ بجنبه، بل لا بُدَّ أنْ يُسمع نفسَه، فإنْ نَطَقَ بدون أن يُسمعَ نفسَه فلا عِبْرَة بهذا النُّطقِ، ولكن هذا القول ضعيف. والصَّحيحُ: أنه لا يُشترط أن يُسمِعَ نفسَه؛ لأن الإسماعَ أمرٌ زائدٌ على القول والنُّطقِ، وما كان زائداً على ما جاءت به السُّنَّةُ فعلى المُدَّعي الدليلُ. وعلى هذا: فلو تأكَّدَ الإنسان من خروج الحروف مِن مخارجها، ولم يُسمعْ نفسَه، سواء كان ذلك لضعف سمعه، أم لأصوات حولَه، أم لغير ذلك؛ فالرَّاجحُ أنَّ جميعَ أقواله معتبرة، وأنه لا يُشترط أكثر مما دلَّت النُّصوصُ على اشتراطِه وهو القول.

وقوله: «الله أكبر» أي: بهذا اللفظ: «الله أكبر» فلا يُجزئُ غيرها، ولو قام مقامها، كما لو قال: «الله الأجلُّ، أو الله أجلُّ، أو الله أعظمُ» أو ما شابه ذلك، فإنه لا يُجزئُ؛ لأن ألفاظَ الذِّكر توقيفية؛ يُتوقَّفُ فيها على ما وَرَدَ به النصُّ، ولا يجوز إبدالها بغيرها؛ لأنها قد تحمل معنًى نظنُّ أنَّ غيرَها يحملُه، وهو لا يحملُه، فإن قال: الله الأكبرُ، فقال بعضُ العلماء: إنه يجزئُ، وقال آخرون: بل لا يجزئ[(42)]. والصَّحيح: أنه لا يجزئ؛ لأن قولك: «أكبر» مع حذف المفضَّل عليه يدلُّ على أكبريَّة مطلقة، بخلاف الله الأكبرُ، فإنك تقول: ولدي هذا هو الأكبر. فلا يدلُّ على ما تدلُّ عليه «أكبر» بالتنكير، ثم إن هذا هو الذي وَرَدَ به النصُّ، وقد قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «مَن عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»[(43)] فالواجب أن يقول: «اللَّهُ أكبرُ».

مسألة: وإذا كان لا يعرفُ اللغةَ العربيةَ، ولا يستطيع النُّطقَ بها فماذا يصنع؟.

نقول: لدينا قاعدة شرعية قال الله فيها: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] . وقال تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وقال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»[(44)]. فليكبِّر بلغتِه ولا حَرَجَ عليه؛ لأنه لا يستطيع غيرَها.

فإذا قال قائل: لماذا لا تقولون له: اسكتْ وانوِ التكبير بقلبِك؟

فالجواب: لأن التكبير يشتملُ على لفظٍ، ومعنًى، وقول بالقلب، فهو يشتمل على ثلاثة أشياء: قول القلب، واللفظ الذي جاء به النصُّ وهو العربي، والثالث المعنى.

وهذا الرَّجُلُ الذي لا يعرف اللغةَ العربيةَ يستطيع أن يكبِّر بقلبِه ويستطيع أن يكبِّر بالمعنى، ولا يستطيع أن يكبِّر باللفظ، وإذا أخذنا بالآية الكريمة: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] . قلنا: أنت الآن تستطيع شيئين وتعجز عن الثالث فقم بالشيئين، وهما: تكبير القلب والمعنى، ويسقط عنك الثالث، وهو التكبير اللفظي؛ لأنك عاجزٌ عنه.

ثم نرجع إلى معنى هذه الكلمة: «اللَّهُ أكبرُ» ما معناها؟ وما مناسبةُ الابتداءِ بها؟

الجواب: معناها: أنَّ الله تعالى أكبر مِن كلِّ شيء في ذاتِه وأسمائِه وصفاتِه، وكلُّ ما تحتمله هذه الكلمة مِن معنى. قال الله عزّ وجل: {{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ}} [الزمر: 67] وقال عزّ وجل: {{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ *}} [الأنبياء] ومن هذه عظمته فهو أكبر مِن كل شيء. وقال الله تعالى: {{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *}} [الجاثية] . فكلُّ معنى لهذه الكلمة مِن معاني الكبرياء فهو ثابتٌ لله عزّ وجل.

تـنـبـيـه: زعم بعضُ العلماء أن معنى «الله أكبر»: الله كبير[(45)]، ولكن هذا زعمٌ ضعيف جدًّا؛ لأن كلَّ إنسانٍ يعرفُ الفَرْقَ بين كبير وأكبر.

صحيحٌ أنَّ الله تعالى سمَّى نفسَه {{الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}} [الرعد: 9] لكن معنى «أكبر» غير معنى «الكبير»، فهم فَرُّوا مِن المفاضلة بين الخالق والمخلوق، ولكن هذا الفرار الذي فروا منه أوقعهم في شرٍّ ممَّا فَرُّوا منه، أوقعهم بأن يأتوا بوصف لو أخذنا بظاهره لكان المخلوق والخالق سواء، وهذا نظير تفسير بعضهم قول الله: {{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}} [القلم: 7] . قالوا: هو عالِمٌ؛ لأنك إذا قلت: أعلم اقتضى مفضَّلاً ومفضَّلاً عليه، فيُقال: وما المانع أن يكون الله أعلَمُ مِن كلِّ عالِم؟ لكن لو قلت: الله عالِمٌ أتيت بلفظ لا يمنع المشاركة؛ لأنك تقول: الله عالِمٌ، وفلان عالِمٌ، وأيُّهما أبلغ في الوصف؛ أن تأتيَ بلفظٍ يمنعُ المشاركةَ وهو الأفضلية المطلقة، أو بلفظ لا يمنع المشاركة؟

الجواب: الأول هو الأفضل، والله يقول عن نفسه: الله أعلَمُ فكيف تقول: اللَّهُ عالِمٌ؟ هذا فيه شيء مِن نقص المعنى.

إذاً؛ نقول: «الله أكبر» اسمُ تفضيلٍ على بابه، وحُذف المفضَّل عليه ليتناول كلَّ شيء، فهو أكبر مِن كلِّ شيء عزَّ وجلَّ وهكذا يُقال في «أَعْلم».

مسألة: كيف النُّطقُ بهذه الكلمة؟

 

الجواب: قال العلماء: يُكره تمطيط التَّكبير[(46)]، حتى في النهوض من السُّجود إلى القيام مع طول النُّهوضِ، وحتى في الهويِّ إلى السُّجود مع طول ما بين القيامِ والسُّجودِ. قالوا: لأن هذا لم تَرِدْ به السُّنَّةُ، فيكون مكروهاً، هكذا نصَّ عليه الفقهاءُ رحمهم الله.

ولكن؛ الظاهرُ ـ والله أعلم ـ أنَّ الأمرَ في هذا واسعٌ ما لم يُخِلَّ بالمعنى، ولكن ليس مدَّها بأفضل مِن قصرها كما يتوهَّمُه بعض الناس، فبعضُ النَّاسِ يقول: تجعل للرُّكوعِ هيئة في التكبير، وللسُّجودِ هيئة وللجلوس هيئة، وللتشهُّدِ هيئة، وبين السجدتين؛ لأجل أن يكون المأموم خلفك آلة متحرِّكة، لأن المأموم إذا صارت التكبيرات تختلف فإنه يتابع هذا التكبير، حتى ولو كان سارحَ القلبِ إن كبَّرتَ تكبيرةَ السُّجودِ سَجَدَ، وإن كبَّرتَ تكبيرةَ النُّهوضِ نَهَضَ، لكن إذا قصرت التَّكبير كلَّه؛ ولم تميِّز بين التكبيرات؛ صار المأمومُ قد أحضر قلبَه وفِكرَه، يُخشى أن يقومَ في موضع الجلوس، أو أن يجلس في موضع القيام، وأمَّا المسبوق فقد يلتبس عليه الأمر إذا لم تميِّز بين التَّكبير. ولكن هذا محذورٌ يُمكن إزالتُه بأن يقال: إنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يُنقل عنه أنه كان يفرِّقُ بين التَّكبيراتِ، بل إن ظاهر صنيعه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه لا يُفرِّقُ؛ لأنه لما صُنع له المنبر صَلَّى عليه وقال: «يا أيُّها النَّاسُ، إنَّما صنعتُ هذا لتأتمُّوا بي؛ ولتعلموا صلاتي»[(47)]، فلو كان يخالفُ بين التَّكبير لكان النَّاسُ يأتمُّونَ به، ولو لم يكن على المنبر، ثم نقول: هذا المسبوقُ سيلي شخصاً آخر غير مسبوق فيقتدي به.

وأهمُّ شيءٍ هو اتِّباعُ السُّنَّةِ مع حصول الفائدة في كون المأموم يُحضِر قلبَه حتى يعرف عدد الرَّكعات.

وقال بعضُ الفقهاءِ:[(48)] يمدُّ التَّكبيرَ في الهويِّ إلى السُّجودِ، وفي القيامِ مِن السُّجودِ لطول ما بين الرُّكنين. ولكن لا دليل لذلك.

 

رَافِعاً يَدَيْهِ .................

قوله: «رافعاً يديه» . «رافعاً» حال من فاعل «يقول»، أي: حال مقارنة، يعني: حال القول يكون رافعاً يديه.

ودليله: جاءت به السُّنَّةُ في عِدَّة أحاديث؛ كحديث ابن عُمرَ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يرفعُ يديه حذوَ مَنكبيه؛ إذا افتتح الصَّلاةَ، وإذا كبَّرَ للرُّكوع، وإذا رفع رأسه من الرُّكوع»[(49)]. وصَحَّ عنه أيضاً أنه يرفعُ يديه إذا قام مِن الجلسة للتشهُّدِ الأول[(50)]، فهذه أربعة مواضع تُرفع فيها اليدان جاءت بها السُّنَّةُ، ولا تُرفع في غير هذه المواضع.

 

مَضْمُومَتَي الأصابعِ مَمْدُودَةً ..............

قوله: «مضمومتي الأصابع» . يعني: يضمُّ بعضها إلى بعض، يعني: يرصُّ بعضها إلى بعض، وقال بعضُ العلماء: إنه ينشرها[(51)]، ولكن الصحيح ما ذكره المؤلِّفُ؛ لأنه الوارد عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم.

قوله: «ممدودة» يعني: غير مقبوضة، والمدُّ: فتحها ضدُّ القبض، والقبض أن يضمَّ الأصابع إلى الراحة. وقد جاء هذا في «السُّنن»[(52)].

وقوله: «رافعاً يديه» لم يبيِّن المؤلِّفُ هل هذا عامٌّ للرِّجَال والنِّساءِ، أو خاصٌّ بالرِّجَال؟ ولكنه سيأتي إن شاء الله في آخر صفة الصلاة[(53)] أن المرأةَ كالرَّجُلِ، إلا أنها تسدل رجليها، وتضمُّ نفسَها، فلا تتجافى عند السُّجودِ، ولا ترفع يديها، فتخالفَ في هذه الأمور الثلاثة، وربما في أكثر كما سننظر إن شاء الله. ولكن الصَّحيحُ أنَّ ذلك عامٌّ في حقِّ الرَّجُل وحقِّ المرأة، وأنَّ المرأةَ ترفع يديها كما يَرفع الرَّجُل، فإذا قال قائل: فما الدَّليلُ على عموم هذا الحُكم للرِّجَال والنساء؟.

قلنا: الدَّليلُ عَدَمَ الدَّليلِ على التخصيص، والأصل: أن ما ثَبَتَ في حقِّ الرِّجَال ثبت في حقِّ النساء، وما ثبت في حقِّ النساءِ ثَبَتَ في حقِّ الرِّجَال إلا بدليل، ولا دليلَ هنا على أن المرأةَ لا ترفعُ يديها، بل النصوص عامَّة، وقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»[(54)]؛ الخطاب فيه للرِّجَال والنِّساءِ.

فإنْ قال قائل: ما الحكمة مِن رَفْعِ اليدين؟.

فالجواب على ذلك: أنَّ الحكمةَ في ذلك الاقتداءُ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي يَسْلَم به المرءُ مِن أن يتجوَّل عقلُه هنا وهناك، ولهذا لما سُئلت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما بالُ الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ قالت: «كان يصيبنا ذلك، فنُؤمر بقضاء الصَّومِ، ولا نُؤمر بقضاءِ الصَّلاةِ»[(55)] وإنَّما علَّلت بالنَّصِّ؛ لأن النَّصَّ غايةُ كلِّ مؤمن؛ كما قال تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}} [الأحزاب: 36] . فالمؤمن إذا قيل له: هذا حكمُ اللَّهِ ورسولِه، وظيفتُه أن يقول: سمعنا وأطعنا. ومع ذلك يمكن أن نتأمَّلَ لعلنا نحصُلُ على حكمة مِن فِعْلِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم. ونقول: الحكمة في رَفْعِ اليدين تعظيم الله عزَّ وجلَّ، فيجتمع في ذلك التعظيم القولي والفعلي والتعبُّد لله بهما، فإن قولك: «اللَّهُ أكبرُ» لا شكَّ أنك لو استحضرت معنى هذا تماماً لغابت عنك الدُّنيا كلُّها؛ لأن الله أكبرُ مِن كلِّ شيء، وأنت الآن واقفٌ بين يدي مَنْ هو أكبر مِن كلِّ شيء.

ثم إن بعض العلماء علَّل بتعليل آخر: أنه إشارة إلى رَفْعِ الحِجاب بينك وبين الله، والإِنسانُ عادة يرفع الأشياء بيديه ويعمل بيديه[(56)].

وعلَّل بعضُهم بتعليل ثالث: وهو أنَّ ذلك مِن زينة الصَّلاةِ؛ لأنَّ الإِنسان إذا وَقَفَ وكبَّر بدون أن يتحرَّك لم تكن الصَّلاةُ على وَجْهٍ حَسَنٍ كامل، ولا مانع أن تكون كلُّ هذه مقصودة.

 

حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ..........

قوله: «حذو منكبيه» أي: موازيهما. والمنكبان: هما الكتفان، فيكون منتهى الرَّفْعِ إلى الكتفين، فإذا قُدِّر أن في الإِنسان آفة تمنعه من رَفْعِ اليدين إلى المنكبين فماذا يصنع؟

الجواب: يرفعُ إلى حيث يقدِرُ عليه؛ لقول الله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، كذلك إذا قُدِّرَ أنَّ في الإِنسان آفةً لا يستطيعُ أن يرفعهما إلى حَذوِ المنكبين، بل إلى أكثر مِن ذلك، كما لو كانت مرافقُه لا تنحني، بل هي واقفة، فهل يرفع؟

الجواب: يرفع، لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] . وإذا كان لا يستطيع رَفْعَ واحدةٍ رَفَعَ الأُخرى للآية، ولأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لمَّا كان واقفاً بعرفة فَسَقَطَ خِطامُ ناقتِه، وكان رافعاً يديه يدعو؛ أخذه بإحدى يديه، والأخرى مرفوعة يدعو اللهَ بها[(57)].

وله أن يرفعهما إلى فُروع أُذنيه؛ لورود ذلك عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم[(58)]، فتكون صفة الرَّفْعِ مِن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة.

والعلماءُ ـ رحمهم الله ـ اختلفوا في العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة، هل الأفضل الاقتصار على واحدة منها، أو الأفضل فِعْلُ جميعها في أوقات شتَّى، أو الأفضل أنْ يجمعَ بين ما يمكن جَمْعُه[(59)]؟ والصَّحيح: القول الثاني الوسط، وهو أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة تُفعل مرَّة على وجهٍ، ومرَّة على الوجه الآخر، فهنا الرَّفْعُ وَرَدَ إلى حَذوِ منكبيه، ووَرَدَ إلى فُرُوع أُذنيه؛ وكُلٌّ سُنَّة، والأفضل أن تَفعلَ هذا مرَّة، وهذا مرَّة؛ ليتحقَّقَ فِعْلُ السُّنَّةِ على الوجهين، ولبقاء السُّنَّةِ حيَّة؛ لأنك لو أخذت بوجهٍ، وتركت الآخر مات الوجهُ الآخر، فلا يُمكن أن تبقى السُّنَّةُ حيَّة إلا إذا كُنَّا نعمل بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة، ولأن الإِنسان إذا عَمِلَ بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة صار قلبُه حاضراً عند أداء السُّنَّة، بخلاف ما إذا اعتاد الشيء دائماً فإنه يكون فاعلاً له كفعل الآلة عادة، وهذا شيء مشاهد، ولهذا مَن لزم الاستفتاح بقوله: «سبحانك اللهمَّ وبحمدك» دائماً تجده مِن أول ما يُكبِّر يشرع «بسبحانك اللهم وبحمدك» مِن غير شعور؛ لأنه اعتاد ذلك، لكن لو كان يقول هذا مرَّة، والثاني مرَّة صار منتبهاً، ففي فِعْلِ العباداتِ الواردة على وجوهٍ متنوِّعة فوائد:

1 ـ اتِّباعُ السُّنَّة.

2 ـ إحياءُ السُّنَّة.

3 ـ حضورُ القلب.

وربما يكون هناك فائدة رابعة: إذا كانت إحدى الصِّفات أقصرَ مِن الأخرى، كما في الذِّكرِ بعد الصَّلاةِ؛ فإن الإِنسان أحياناً يحبُّ أن يُسرع في الانصراف؛ فيقتصر على «سبحان الله» عشر مرات، و«الحمد لله» عشر مرات، و«الله أكبر» عشر مرات، فيكون هنا فاعلاً للسُّنَّة قاضياً لحاجته، ولا حَرَجَ على الإِنسان أن يفعل ذلك مع قصد الحاجة، كما قال تعالى في الحُجَّاج: {{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}} [البقرة: 198] .

وقال بعضُ العلماءِ: إلى فُروع الأذنين باعتبار أعلى الكفِّ، وإلى حَذوِ المنكبين باعتبار أسفله[(60)]. ولكنَّا نقول: لا حاجة إلى هذا الجَمْعِ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ المراد الكفُّ نفسُه؛ لا أعلاه ولا أسفله؛ والظَّاهر أنَّ الأمر في هذا واسع؛ لتقارب الصِّفات بعضها مِن بعض.

وقوله: «رافعاً يديه» . الأحاديث الواردة في ابتداءِ رَفْعِ اليدين وَرَدَتْ أيضاً على وجوهٍ متعدِّدة؛ فبعضُها يدلُّ على أنه يرفع ثم يكبِّر[(61)]، وبعضها على أنه يكبِّر ثم يرفع[(62)]، وبعضها على أنه يرفع حين يكبِّر[(63)] يعني يكون ابتداء التَّكبير مع ابتداء الرَّفْعِ، وانتهاؤه مع انتهاء الرَّفْعِ، ثم يضع يديه. ونحن نقول: إن الأمرَ أيضاً في هذا واسع، يعني سواء رَفعتَ ثم كبَّرت، أو كبَّرت ثم رفعتَ، أو رَفعتَ مع التَّكبيرِ، فإنْ فعلتَ أيَّ صفة مِن هذه الصِّفات فأنت مصيبٌ للسُّنَّة.

 

كَالسُّجُودِ .............

قوله: «كَالسُّجُودِ» أي: كما يفعل في السجود إذا سَجَدَ، فإنه يَجعلُ يديه حَذوَ منكبيه، وهذه إحدى الصفتين في السُّجودِ، وسيأتي إن شاء الله كيف تكون الذراعان. والصِّفة الأخرى: أن يَسجدَ بين كفَّيه، لكن المؤلِّف ذكر هذا استطراداً؛ لأنه ليس هذا موضع ذِكُر اليدين في حال السُّجود.

 

وَيُسْمِعُ الإِمَامُ مَنْ خَلْفَهُ ...........

قوله: «ويسمع الإِمام من خلفه» أي: حسب ما تقتضيه الحال، إنْ كان مَن خلفَه واحداً فالصوت الخفي يكفي، وإنْ كان مَن خلفَه جمعاً فلا بُدَّ مِن رَفْعِ الصَّوت، وإذا كان لا يسمع صوته مَنْ وراءه استعان بمبلِّغٍ يُبلِّغُ عنه؛ كما فَعَلَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم حين جاء وأبو بكر رضي الله عنه يُصلِّي بالناس، وكان صلوات الله وسلامه عليه مريضاً لا يُسْمِعُ صوته المأمومين، فصلَّى أبو بكر رضي الله عنه عن يمينه؛ وجعل يبلِّغُ الناسَ تكبيرَ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا كَبَّرَ الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بصوتٍ منخفضٍ كَبَّرَ أبو بكر بصوت مرتفع فسمعه الناسُ[(64)]، وهذا هو أصل التبليغ وراء الإِمام، فإن كان لا حاجة إلى المبلغ بأن كان صوت الإِمام يبلغ الناسَ مباشرة، أو بواسطة، فلا يُسنُّ أن يبلِّغ أحدٌ تكبيرَ الإِمام باتِّفاقِ المسلمين.

وقول المؤلِّف: «ويُسمع الإِمامُ مَنْ خَلْفَه» هل هذا على سبيل الاستحباب، أو على سبيل الوجوب؟.

المشهور مِن المذهب: أنه على سبيل الاستحباب، وليس على سبيل الوجوب[(65)]، وأن الإِمام له أن يكبِّر تكبيراً خفيًّا لا يُسْمَع، كما أن المنفرد والمأموم لا يرفعان الصوت؛ فللإِمام أن يفعل كذلك؛ فلا يرفع صوتَه، ولكن الأفضل أن يرفع صوتَه. وظاهر كلام المؤلِّفِ: أن هذا على سبيل الوجوب، لا على سبيل الاستحباب؛ لأنه قال: «وغَيْرُه نفسَه» وإسماع غير الإِمام نفسه واجب فيكون قوله: «ويُسمعُ الإِمامُ مَنْ خَلْفَه» واجباً.

وظاهر كلام المؤلِّف: هو القول الصَّحيح؛ أنه يجب على الإِمامِ أن يُكبِّر تكبيراً مسموعاً يَسمعه مَنْ خلفَه:

أولاً: لفعل النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لو كان الأمر غير واجب لم يكن هناك داعٍ إلى أن يُبلِّغ أبو بكر رضي الله عنه التَّكبيرَ لمَن خلفَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم.

ثانياً: لأنَّه لا يتمُّ اقتداء المأمومين بالإِمام إلا بسماع التكبير، وما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به فهو واجب، ولو أن الإِمام إذا قام مِن السُّجودِ لم يرفع صوتَه بالتكبير فمتى يقوم النَّاسُ؟ لا يقومون إلا إذا شرع في الفاتحة وجَهَرَ بها، مع أن جَهْرَه بالفاتحة على سبيل الاستحباب، وليس في كُلِّ صلاة، ولا في كُلِّ ركعة؛ ما عدا الفجر.

 

كَقِرَاءَتِهِ في أولتي غَيْر الظُّهْرَين،..........

قوله: «كقراءته في أولتي غير الظُّهَرين» أي: كما يسمع القراءة في أولتي غير الظُّهرين، وقوله: «أولتي» مثنَّى حُذفت النونُ للإِضافة؛ لأنه يُحذف التنوين والنون عند الإِضافة.

والظُّهران: هما الظُّهر والعصر، وأُطلق عليهما اسمُ «الظُّهْرين» تغليباً، كما نقول: العشائين، والعُمَرَين، والقمرين. فيَجهر في كُلِّ ركعتين أوليين في غير الظُّهرين، ويشمَلُ المغربَ والعشاءَ والفجرَ، لكن الفجر ليس إلا ركعتين، ويشمَلُ الجُمعةَ، والعيدين، والاستسقاءَ، والتراويحَ، والوِترَ، والكسوفَ، وكُلُّ ما تُشرع فيه الجماعةُ، فإنه يُسنُّ أن يجهرَ بالقراءة، ما عدا الظُّهرين، فإذا قال قائل: صلاةُ الليلِ جهريَّة؛ وصلاةُ النَّهارِ سريَّة؛ لماذا؟

فالجواب: أن الليل تَقِلُّ فيه الوساوسُ، ويجتمعُ فيه القلبُ واللِّسانُ على القراءةِ، فيكون اجتماعُ النَّاسِ على صوتِ الإِمامِ وقراءتِهِ أبلغَ من تفرقهم، ولهذا لا يُشرع الجهر في النهار إلا في صلاة جامعة كصلاة الجُمعة، والعيدين، والاستسقاء، والكسوف، لأنَّ النَّاسَ مجتمعون، ولا شَكَّ أن إنصاتهم على قراءةِ الإِمامِ تجعل قراءتهم قراءة واحدة؛ لأن المستمع كالقارئ، ولو كان الإِمام يُسِرُّ لكان كُلُّ واحد يقرأ لنفسه، فيكون الجهر أجمع على القراءة، بخلاف السِرِّ، هذا ما ظهر لي مِن الحكمة في الجهر في صلاة الجمعة والعيدين وشبههما، وكذلك في صلاة الليل. والله أعلم.

 

وَغَيْرُهُ نَفْسَهُ.............

قوله: «وغيره نفسه» . أي: ويُسمِعُ غيره، أي: غيرُ الإِمامِ نفسَه، وهو المأموم، والمنفرد يُسمعُ نفسَه، يعني: يتكلَّم وينطق بحيث يُسمعُ نفسَه، فإن أبان الحروفَ بدون أن يُسمعَ نفسَه لم تصحَّ قراءته، بل ولم يصحَّ تكبيره، ولو كبَّر وقال: «الله أكبر»، ولكن على وجه لا يُسمعُ نفسَه لم تنعقد صلاتُه؛ لأن التكبير لم يصحَّ، ولكن يُشترط لوجوب إسماعِ نفسِه أن لا يكون هناك مانع مِن الإسماعِ، فإن كان هناك مانع؛ سقط وجوبُ الإسماع؛ لوجود المانع، فلو كان يُصلِّي وحولَه أصواتٌ مرتفعة، فهذا لا يمكن أن يُسمعَ نفسَه إلا إذا رَفَعَ صوته كثيراً، فنقول: يكفي أن تنِطقَ بحيث تُسمعُ نفسَك لولا المانع. ولكن سبق لنا أنه لا دليلَ على اشتراطِ إسماعِ النَّفْسِ[(66)]، وأنَّ الصحيح أنه متى أبان الحروفَ فإنه يصحُّ التكبيرُ والقراءةُ، فكلُّ قولٍ فإنه لا يُشترط فيه إسماعُ النَّفْسِ. والغريب أنهم قالوا هنا رحمهم الله: يُشترط إسماعُ النَّفْسِ في التكبيرِ والقراءةِ، وقالوا فيما إذا قال الإِنسان لزوجته: أنت طالق، تَطْلُقُ، وإن لم يُسمع نفسَه، وكان مقتضى الأدلَّة أن تكون المعاملة بالأسهل في حقِّ الله، فكيف نعامله بحقِّ الله بالأشدِّ ونقول: لا بُدَّ أن تسمعَ نفسَك. وفي حقِّ الآدمي ـ ولا سيما الطلاق الذي أصله مكروه ـ نقول: يقع الطلاق وإن لم تُسمعْ نفسَك؟!

 

ثَم يَقْبِضُ كُوعَ يُسْراه .............

قوله: «ثم يقبض كوع يُسراه» أي: بعد التكبيرِ ورَفْعِ اليدين يقبضُ كُوعَ يُسراه، وبعضُ الناس يقول: الله أكبر، ثم يرسل يديه، ثم يرفعهما ويقبضهما، وهذا ليس له أصل، بل مِن حين أن ينزلهما مِن الرَّفْعِ يقبض الكُوعَ.

والكُوعُ: مفصل الكفِّ مِن الذِّراع، ويقابله الكُرسوع، وبينهما الرُّسغ.

فالكُوعُ: العظم الذي يلي الإِبهام. والكُرسوع: هو الذي يلي الخنصر.

والرسغ: هو الذي بينهما. وأنشدوا على ذلك:

وعظمٌ يلي الإِبهامَ كوعٌ وما يلي

لخنصره الكرسوعُ والرُّسغُ ما وسط

وعظمٌ يلي إبهامِ رِجْلٍ ملقب

ببُوعٍ فخذ بالعِلم واحْذرْ مِن الغلط

ومراد المؤلِّف بقوله: «يقبض كُوعَ يسراه»: المفصل.

فأفادنا المؤلِّف رحمه الله: أن السُّنَّةَ قَبْضُ الكُوعِ، ولكن وَرَدَت السُّنَّةُ بقَبْضِ الكوعِ [(67)]، ووَرَدَت السُّنَّةُ بوضع اليد على الذِّراع مِن غير قَبْضٍ[(68)]، إذاً؛ هاتان صفتان: الأُولى قَبْض، والثانية وَضْع.

مسألة: نرى بعضَ النَّاس يقبض المرفق، فهل لهذا أصل؟

الجواب: ليس لهذا أصلٌ، وإنما يقبض الكُوعَ أو يضع يده على الذِّراع، ففي «صحيح البخاري» من حديث سهل بن سعد أنه قال: «كان النَّاسُ يؤمرون أن يضعَ الرَّجُلُ يدَه اليُمنى على ذِرِاعِهِ اليُسرى في الصَّلاةِ» (68) .

 

تَحْتَ سُرّتِهِ،............

قوله: «تحت سرته» يعني يجعل اليدَ اليمنى واليسرى تحت السُّرَّة. وهذه الصفة ـ أعني: وَضْع اليدين تحت السُّرَّة ـ هي المشروعة على المشهور مِن المذهب[(69)]، وفيها حديث علي رضي الله عنه أنه قال: «مِن السُّنَّةِ وَضْعُ اليدِ اليُمنى على اليُسرى تحت السُّرَّةِ»[(70)].

وذهب بعضُ العلماء: إلى أنه يضعها فوق السُّرة، ونصَّ الإِمام أحمد على ذلك[(71)].

وذهب آخرون مِن أهل العِلم: إلى أنه يضعهما على الصَّدرِ[(72)]، وهذا هو أقرب الأقوال، والوارد في ذلك فيه مقال، لكن حديث سهل بن سعد الذي في البخاري ظاهرُه يؤيِّد أنَّ الوَضْعَ يكون على الصَّدرِ، وأمثل الأحاديث الواردة على ما فيها من مقال حديث وائل بن حُجْر أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «كان يضعُهما على صدرِه»[(73)].

مسألة: نرى بعضَ النَّاسِ يضعُهما على جنبِه الأيسر، وإذا سألته لماذا؟ قال: لأنَّ هذا جانب القلب، وهذا تعليل عليل لما يلي:

أولاً: لأنَّه في مقابل السُّنَّة، وكلُّ تعليلٍ في مقابلِ السُّنَّةِ فإنَّه مردودٌ على صاحبِه؛ لأنَّ السُّنَّةَ أحقُّ بالاتِّباعِ.

وثانياً: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يُصلِّيَ الرَّجلُ متخصراً[(74)] أي: واضعاً يده على خاصرتِه، وهذا إن لم ينطبقْ عليه النَّهيُ فهو قريبٌ منه.

لهذا؛ إذا رأيتَ أحداً يفعل هكذا فانصحه، ثم إنَّ فيه شيئاً آخر، وهو أنَّ فيه إجحافاً؛ لعدم التوسُّط في البدن؛ لأنه فَضَّلَ جانب اليسار على جانب اليمين، فنقول: خيرُ الأمورِ الوسط، فَكُنْ بين اليمين وبين اليسار، وضَعْ اليدين على الصَّدرِ.

 

وَيَنْظُرُ مَسْجِدَهُ،..........

قوله: «وينظر مسجده» أي: موضع سجوده، والضَّميرُ يعودُ على المُصلِّي، وهو شاملٌ للإِمام والمأموم والمنفرد؛ أنه ينظر موضعَ سجودِه، وعلى هذا كثير مِن أهلِ العلمِ[(75)]، واستدلُّوا بحديث رُويَ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا: «أنه كان ينظر إلى موضع سجودِه في حال صلاتهِ»[(76)]، وكذلك قالوا في تفسير قوله تعالى: {{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *}} [المؤمنون] الخشوع: أن ينظر إلى موضع سجوده.

وقال بعضُ العلماءِ: ينظرُ تلقاء وجهِهِ، إلا إذا كان جالساً، فإنَّه ينظر إلى يدِه حيث يُشير عند الدُّعاء[(77)].

وفصل بعض العلماء بين الإِمام والمنفرد وبين المأموم فقال: إن المأموم ينظر إلى إمامه ليتحقق من متابعته[(78)]؛ ولهذا قال البراء بن عازب: «كان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قال: سَمِعَ اللَّهُ لمن حَمِده، لم يَحْنِ أحدٌ منَّا ظهرَه؛ حتى يقعَ النبي صلّى الله عليه وسلّم ساجداً، ثم نقعُ سجوداً بعده»[(79)] قالوا: فهذا دليل على أنهم ينظرون إليه.

واستدلُّوا أيضاً: بما جرى في صلاةِ الكسوفِ، حيث أخبرَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم الصحابةَ أنه عُرضت عليه الجنَّةُ، وعُرضت عليه النَّارُ[(80)]، وقال فيما عُرضت عليه الجنَّةُ: «حيث رأيتموني تقدَّمت»، وفيما عُرضت عليه النَّارُ قال: «فيما تأخَّرت» وهذا يدلُّ على أنَّ المأمومَ ينظر إلى إمامه.

والأمر في هذا واسع، ينظر الإِنسان إلى ما هو أخشع له؛ إلا في الجلوس، فإنه يرمي ببصره إلى أصبعه حيث تكون الإِشارة كما وَرَدَ ذلك[(81)].

واستثنى بعضُ أهلِ العِلمِ: فيما إذا كان في صلاة الخوف[(82)]، لقوله تعالى: {{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}} [النساء: 102] وبأن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بعثَ عيناً يوم حُنين، فجعل رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر إلى ناحية الشِّعْبِ وهو يُصلِّي[(83)]؛ لينظر إلى هذا العين، والعين هو الجاسوس، ولأنَّ الإِنسان يحتاج إلى النَّظَرِ يميناً وشمالاً في حال الخوف، والعملُ ـ ولو كان كثيراً ـ في حال الخوف مغتفر، فكذلك عَمَلُ البصر، وهذا الاستثناء صحيحٌ.

واستثنى بعضُ العلماءِ أيضاً: المُصلِّي، في المسجد الحرام وقالوا: ينبغي أن ينظر إلى الكعبة؛ لأنها قِبْلةُ المصلِّي، ولكن هذا القول ضعيف؛ فإن النَّظَرَ إلى الكعبة يشغل المُصلِّي بلا شَكٍّ؛ لأنه إذا نَظَرَ إلى الكعبة نَظَرَ إلى النَّاسِ وهم يطوفون فأشغلوه، والصَّحيح أنَّ المسجدَ الحرامَ كغيره؛ ينظر فيه المصلِّي إما إلى موضع سجودِه، أو إلى تلقاءِ وجهه.

وأما النَّظَرُ إلى السَّماءِ فإنه محرَّم، بل مِن كبائر الذُّنوب؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نَهى عن ذلك، واشتدَّ قوله فيه حتى قال: «لينتهينَّ ـ يعني الذين يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة ـ أو لتُخطفنَّ أبصارُهم»[(84)]، وفي لفظ: «أو لا ترجع إليهم»[(85)]. وهذا وعيد، والوعيد لا يكون إلا على شيء مِن كبائر الذنوب، بل قال بعضُ العلماءِ: إن الإِنسان إذا رَفَعَ بصرَه إلى السماءِ وهو يُصلِّي بطلتْ صلاتهُ، واستدلُّوا لذلك بدليلين:

الأول: أنَّه انصرفَ بوجهِه عن جهِة القِبْلةِ، لأنَّ الكعبةَ في الأرض، وليست في السَّماءِ.

الثاني: أنَّه فَعَلَ محرَّماً منهيًّا عنه في الصَّلاةِ بخصوصها، وفِعْلُ المحرَّمِ المنهيُّ عنه في العبادة بخصوصها يقتضي بطلانَها.

ولكن؛ جمهورُ أهل العِلم على أنَّ صلاتَه لا تبطل برَفْعِ بصرِه إلى السَّماءِ، لكنَّه على القول الرَّاجح آثمٌ بلا شَكٍّ؛ لأن الوعيد لا يأتي على فِعْلِ مكروه فقط.

إذاً؛ ينظرُ المصلِّي إما إلى تلقاء وجهه، وإما إلى موضعِ سجودِه في غير ما استُثنيَ. ولكن أيُّهما أرجح؟

الجواب: أن يختارَ ما هو أخشعُ لقلبِه؛ إلا في موضعين: في حال الخوف، وفيما إذا جَلَسَ، فإنه يرمي ببصره إلى موضع إشارته إلى أصبعه؛ كما جاءت به السُّنَّةُ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم[(86)].

ومِن العجيب أن الذين قالوا: ينظر إلى الكعبة، علَّل بعضهم ذلك بأن النظر إلى الكعبة عبادة، وهذا التَّعليلُ يحتاجُ إلى دليلٍ، فمِن أين لنا أنَّ النَّظَرَ إلى الكعبة عبادةٌ؟ لأن إثبات أيِّ عبادةٍ لا أصل لها مِن الشرع فهو بدعة.

مسألة: إغماض العينين في الصَّلاةِ.

الصَّحيحُ أنَّه مكروهٌ؛ لأنه يُشبه فِعْلِ المجوس عند عبادتهم النيران، حيث يُغمضون أعينَهم. وقيل: إنه أيضاً مِن فِعْلِ اليهودِ، والتشبُّه بغير المسلمين أقلُّ أحواله التحريم، كما قال شيخ الإِسلام رحمه الله، فيكون إغماضُ البَصَرِ في الصَّلاةِ مكروهاً على أقل تقدير، إلا إذا كان هناك سبب مثل أن يكون حولَه ما يشغلُه لو فَتَحَ عينيه، فحينئذٍ يُغمِضُ تحاشياً لهذه المفسدة.

فإِن قال قائل: أنا أجِدُ نفسي إذا أغمضت عينيَّ أخشعُ، فهل تُفْتُونَني بأن أُغمِضَ عينيَّ؟

الجواب: لا، لأن هذا الخشوعَ الذي يحصُلُ لك بفِعْلِ المكروه مِن الشيطان، فهو كخشوعِ الصوفية في أذكارهم التي يتعبَّدونَ بها وهي بدعة، والشيطان قد يبعد عن قلبك إذا أغمضت عينيك فلا يوسوس، من أجل أن يوقعك فيما هو مكروه، فنقول: افْتَحْ عينيك، وحاول أن تخشعَ في صلاتِك.

أما أن تُغمِضَ عينيك بدون سببٍ لتخشعَ فلا؛ لأنَّ هذا مِن الشيطان.

 

ثُمَّ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إلهَ غَيْرُكَ».

قوله: «ثم يقول» أي: بعد ما سبق من التكبير ووضع اليدين وغير ذلك «سبحانك اللهم وبحمدك» وهذه جملة تتضمَّن التنزيه والإِثبات.

تتضمَّن التنزيه في قوله: «سبحانك اللَّهُمَّ»، والإِثبات في قوله: «وبحمدِك» لأنَّ الحمدَ هو وَصْفُ المحمودِ بالكمالِ مع محبَّتِه وتعظيمِه، فتكون هاتان الجملتان جامعتين للتنزيه والإِثبات.

وقوله: «سبحانك» اسمُ مصدر من سَبَّحَ يُسبِّحُ، والمصدر تَسْبيح، واسمُ المصدر سُبحان، دائماً منصوب على المفعولية المطلقة، محذوف العامل، مضاف. ففيه ثلاثة أشياء:

أولاً: أنَّه منصوب على المفعولية المطلقة دائماً.

والثاني: أنَّه محذوف العامل دائماً.

والثالث: أنَّه مضاف دائماً.

ومعناه: تنزيهاً لك يا ربِّ عن كُلِّ نَقْصٍ، والنَّقصُ إما أن يكون في الصِّفاتِ، أو في مماثلة المخلوقات، فصفاتُه التي يتَّصف بها منزَّه فيها عن كُلِّ نقص، يتَّصف بالعِلمِ الكاملِ، وبالحياةِ الكاملةِ، وبالسَّمْعِ الكامل، وبالبصر الكامل... وهكذا جميع الصفات التي يتَّصف بها هو فيها مُنزَّه عن النَّقْصِ، كذلك مُنزَّه عن أن يوصف بصفة نَقْصٍ محضة، مثل أن يوصف بالعجز، أو الظُّلم، أو ما أشبه ذلك.

مُنزَّه عن مماثلة المخلوقات، ولو فيما هو كمال في المخلوقات فإن الله تعالى مُنزَّه عنه، فمُنزَّه عن أن تكون صفاتُه الخبريَّة كصفات المخلوقين، مثل: الوجه، واليدين، والقدم، والعينين، ومُنزَّه أن تكون صفاتُه الذاتية المعنوية كصفات المخلوقين، فعلمُه ليس كعِلْمِ المخلوق؛ لأنَّ عِلْمَ المخلوق كلُّه نَقْصٌ، نَقْصٌ في ابتدائِه؛ لأنَّه مسبوقٌ بجهلٍ، وفي غايته؛ لأنه ملحوق بالنسيان، وفي شُمولِه؛ لأنَّه قاصرٌ، حتى رُوحك التي بين جنبيك لا تعلم عنها شيئاً. كما قال تعالى: {{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *}} [الإسراء] حتى ما تريد أن تفعله غداً لست على يقينٍ مِن أنْ تفعلَه، لكنك ترجو وتؤمِّل، وإلاّ فلا تعلم نفسٌ ماذا تكسب غداً، إذاً؛ هذا نَقْصٌ عظيمٌ في العِلْمِ، أما الله عزَّ وجلَّ فإنَّه كاملُ العِلْمِ.

كذلك أيضاً لا يماثل المخلوق في صفاته الفعلية، مثل: الاستواء على العرش، والنُّزول إلى السَّماءِ الدُّنيا، والمجيء إلى الفصل بين العباد، والرِّضى والغضب، وما أشبه ذلك، وإنْ وافقها في الاسم، فالاسمُ هو الاسمُ، ولكن المُسمَّى غير المُسمَّى، فالصِّفةُ هي الصفة، ولكن الموصوف غير الموصوف؛ فلا تماثل بين الخالق والمخلوق. إذاً؛ يُنزَّه اللَّهُ عن ثلاثة أشياء:

1 ـ عن النَّقصِ في صفات الكمال.

2 ـ عن صفات النَّقصِ المجردة عن الكمال.

3 ـ عن مماثلة المخلوقين.

وتمثيله بالمخلوقين نَقصٌ؛ لأنَّ تسويةَ الكاملِ بالنَّاقصِ تجعله ناقصاً قال الشاعر:

ألم تَرَ أنَّ السَّيفَ ينقصُ قَدْرَه

إذا قيل إنَّ السَّيفَ أمضى مِن العَصَا

إذا قلت: عندي سيفٌ عظيم، ومَدحته مدحاً كثيراً، ثم قلت: هو أمضى مِن العصا؛ فإنه يهبط هبوطاً عظيماً، ولا ترى لهذا السَّيفِ قَدْراً؛ لأنك نفيت أن يكون مماثلاً للعصا، وسيفٌ يمكن أن يَتصوَّرَ الإِنسانُ مماثلته للعصا ناقصٌ لا ريب في ذلك.

أما «الحمد» فهو: وصفُ المحمود بالكمال، الكمال الذَّاتي والفعلي، فالله سبحانه وتعالى كاملٌ في ذاته، ومِن لازمِ كمالِه في ذاتِه أن يكون كاملاً في صفاته.

كذلك في فِعْلِه، فَفِعْلُه دائرٌ بين العدل والإِحسان؛ لا يمكن أن يظلم، بل إما أن يعامل عبادَه بالعدلِ، وإما أن يعاملَهم بالإِحسان، فالمسيءُ يعاملُه بالعدل كما قال تعالى: {{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}} [الشورى: 40] لا يمكن أن يزيد. والمحسن يعامله بالفضل كما قال تعالى: {{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}} [الأنعام: 160] فَفِعْلُه عزَّ وجلَّ دائرٌ بين الأمرين، ومَن كان فِعْلُه دائراً بين هذين الأمرين: العدل والفضل، فلا شَكَّ أنه محمودٌ على أفعالِه، كما هو محمودٌ على صفاته.

إذاً؛ جمعتَ بين التَّنزيهِ والكمالِ في قولك: «سُبحانكَ اللَّهُمَّ وبحمدِك» فعلى هذا؛ فالواو تفيد معنى المعيَّة، يعني: ونزَّهتُك تنزيهاً مقروناً بالحمد.

قوله: «وتبارك اسمك» «اسم» هنا مفرد، لكنه مضاف فيشمل كُلَّ اسمٍ مِن أسماءِ الله.

وهل المراد بالاسم هنا المُسمَّى كما في قوله: «تباركت يا ذا الجلال والإِكرام» ويكون المراد بـ «تَباركَ اسمُكَ» أي: تباركتَ، كقوله: {{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}} [الأعلى] والمُسبَّح الله المُسَمَّى، أو أن المراد أنَّ اسمَ الله نفسَه كلَّه بَركة، وإذا كان اسم المُسمَّى بركة فالمُسمَّى أعظم بركة وأشدُّ وأَولى؟

الجواب: الثاني أظهر؛ لأننا نَسْلَم فيه مِن التجوُّز بالاسم عن المُسمَّى، ولأنه يلزم منه تبارك المُسمَّى.

أمثلة مِن بَرَكة اسمِ الله:

لو ذبحتَ ذبيحةً بدون تسميةٍ؛ لكانت ميتةً نجسةً حراماً، ولو سمَّيت اللَّهَ عليها لكانت ذكيةً طيبةً حلالاً.

وأيضاً: إذا سمَّيتَ على الطَّعام لم يشاركك الشيطانُ فيه، وإن لم تسمِّ شاركك.

وإذا سمَّيت على الوُضُوء ـ على قول مَن يرى وجوبَ التَّسمية ـ صَحَّ وضوؤك، وإن لم تسمِّ لم يصحَّ وضوؤك.

وعلى قول مَن يرى استحبابها يكون وضوؤك أكمل مما لو لم تسمِّ، فهذه مِن بركة اسمِ الله عزَّ وجلَّ.

قوله: «وتعالى جدُّك» «تعالى» أي: ارتفعَ ارتفاعاً معنوياً، والجَدُّ: بمعنى العظمة، يعني: أنَّ عظمتَك عظمة عظيمة عالية؛ لا يساميها أي عظمة مِن عظمة البشر، بل مِن عظمة المخلوقين كلهم.

قوله: «ولا إله غيرك» هذه هي كلمةُ التوحيدِ التي أُرسل بها جميعُ الرُّسل كما قال تعالى: {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *}} [الأنبياء] وكما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ومَن كان آخرُ كلامِه مِن الدُّنيا لا إله إلا الله دَخَلَ الجنَّةَ»[(87)] فهي أفضلُ الذِّكرِ، ومعناها: لا معبودَ حقٌّ إلا الله. فـ «إله» : بمعنى مألوه، وهو اسمٌ، «لا» : النافية للجنس، وخبرها محذوف تقديره: حقّ، «إلا الله» : «إلا» أداة استثناء، و«الله» بدل مِن الخبر المحذوف، هذا أصحُّ ما قيل في معناها وفي إعرابها.

إذاً معناها: لا معبودَ حقٌّ إلا الله، فهل هناك معبودٌ باطلٌ؟

الجواب: نعم، هناك معبودٌ باطلٌ وهو مَنْ سِوى الله؛ لقوله تعالى: {{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}} [الحج: 62] . وهذه الآلهة وإن سُمِّيت آلهة فما هي إلا أسماء لا حقيقة لها، فهي باطلة كما قال تعالى: {{إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}} [النجم: 23] . وهذه الكلمة لها مقتضى، فمقتضاها التسليم التام لله عزَّ وجلَّ؛ لأن العبادة مأخوذة من الذُّلِّ، ومنه: طريق معبَّد، أي: مذلَّل مُسهَّل. فمقتضى هذه الكلمةِ العظيمةِ الاستسلامُ لله تعالى ظاهراً وباطناً، فأنت إذا قلتها تخبر خبراً تنطِقُه بلسانك، وتعتقدُه بجَنَانك بأنَّ اللَّهَ هو المعبودُ حقًّا، وما سواه فهو باطل، ثم تأمَّل كيف جاءت هذه الكلمةُ التي فيها توحيد الله بألوهيَّته بعد الثناء عليه؛ ليكون توحيده بالألوهية مبنيًّا على كماله. «سبحانك اللَّهُمَّ وبحَمْدِكَ، وتباركَ اسمُكَ، وتعالى جَدُّكَ» كُلُّ هذا ثناءٌ على الله بالكمال، ثم قال: «ولا إله غيرُكَ» فيكون هذا السَّابق كالسبب المبني عليه اللاحق، يعني: أنه لكمال صفاتِك لا معبودَ حقٌّ إلا أنت، ولا إلهَ غيرُك.

هذا هو دعاء الاستفتاح، وكان عُمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه يستفتحُ به، رواه مسلم بسند فيه انقطاع[(88)]؛ لكن وصله البيهقيُّ[(89)]. وعُمرُ أحدُ الخلفاء الراشدين الذين أُمرنا باتِّباعهم. وقد رُويَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم مرفوعاً[(90)].

هل هناك دعاءٌ آخر يُستفتح به؟

الجواب: نعم؛ فيه أنواع ـ ولشيخ الإِسلام ابن تيمية رسالة في أنواع الاستفتاحات[(91)] ـ منها ما ثَبَتَ في «الصَّحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إذا كبَّرَ للصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيَّةً، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أرأيتَ سكوتَك بين التكبير والقراءة؛ ما تقول؟ قال: أقول: «اللَّهُمَّ بَاعدْ بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللَّهُمَّ نقِّني مِن خطاياي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنسِ، اللَّهُمَّ اغسلني مِن خَطَايَاي بالماءِ والثَّلجِ والبَرَدِ»[(92)]. وهذا أصحُّ من الحديث الذي فيه الاستفتاح بـ«سُبحانكَ اللَّهُمَّ وبحمدِك...»، وكلٌّ مِن النوعين جائزٌ وسُنَّةٌ، وينبغي للإِنسان أن يستفتحَ بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة؛ ليأتي بالسُّنَنِ كلِّها، وليكون ذلك إحياءً للسُّنَّة. ولأنه أحضرُ للقلب؛ لأن الإِنسان إذا التزم شيئاً معيَّناً صار عادةً له، حتى إنه لو كَبَّر تكبيرةَ الإِحرام وغَفَلَ ومِن عادته أن يستفتح بـ «سُبحانكَ اللَّهُمَّ وبحمدِك» يَجِدُ نفسَه قد شَرَعَ فيه بدون قصد.

شرح الاستفتاح الوارد في حديث أبي هريرة: «اللَّهُمَّ باعِدْ بيني وبين خَطاياي...».

ثَبَتَ في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إذا كَبَّرَ للصلاة سكت هُنيَّةً» ومِن حِرْصِ أبي هريرة رضي الله عنه على العِلم بشهادةِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم له حين قال له: يا رسول الله، مَنْ أسعدُ النَّاسِ بشفاعتِكَ يومَ القيامةِ؟ قال: «لقد ظَنَنتُ ـ يا أبا هريرة ـ أن لا يسألَنِي عن هذا الحديث أحدٌ أوَّلُ منك، لِمَا رأيتُ مِن حرصِك على الحديثِ. ثم قال: أسعدُ النَّاسِ بشفاعتِي يومَ القيامةِ: مَنْ قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه»[(93)]. أنه لما رأى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يسكتُ بين التكبيرِ والقراءة، عَلِمَ أنه لا بُدَّ أن يقول شيئاً، لأنَّ الصلاة ليس فيها سكوتٌ مطلقٌ فقال: «أرأيتَ سكوتَك بين التكبير والقراءةِ؛ ما تقولُ؟» وكلمة «ما تقول» تدلُّ على أنه يعتقد أنه يقول شيئاً؛ لأنه لم يقل: هل أنت ساكتٌ؟ قال: أقول: «اللَّهُمَّ باعِدْ بيني وبين خَطَايَاي كما باعدت بين المشرق والمغرب» ومعناه: أنه سأل الله أن يُباعد بينه وبين خطاياه؛ كما باعَدَ بين المشرقِ والمغربِ، والمباعدة بين المشرق والمغرب هو غاية ما يبالغ فيه النَّاسُ، فالنَّاسُ يبالغون في الشيئين المتباعدين إمَّا بما بين السماء والأرض، وإما بما بين المشرقِ والمغربِ، ومعنى «باعِدْ بيني وبين خَطَاياي» أي: باعِدْ بيني وبين فِعلِها بحيث لا أَفْعَلُها، وباعِدْ بيني وبين عقوبِتها.

وقوله: «اللَّهُمَّ نقِّني مِن خطاياي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنس»، هذه الجملةُ تدلُّ على أنَّ المرادَ بذلك الخطايا التي وقعت منه، لأنه قال: «نقِّني منها كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنس». أي: كما يُغسل الثوبُ الأبيضُ إذا أصابه الدَّنس فيرجع أبيض، وإنما ذَكَرَ الأبيضَ؛ لأن الأبيض هو أشدُّ ما يؤثِّر فيه الوسخ؛ بخلاف الأسود، ولهذا في أيام الشتاء الثياب السوداء تبقى شهراً أو أكثر، لكن الأبيض لا يبقى أسبوعاً إلا وقد تدنَّسَ، فلهذا قال: «كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنَسِ» وهذا ظاهرٌ أنه في الذُّنوب التي فَعَلَهَا يُنقَّى منها، وبعد التنقية قال: «اللَّهُمَّ اغسلْنِي مِن خطاياي بالماءِ والثَّلجِ والبَرَدِ».

إذاً؛ فالذي يظهر: أنَّ الجملةَ الأُولى في المباعدة، أي: أن لا أفعلَ الخطايا، ثم إن فَعلتُها فنقِّني منها، ثم أزِلْ آثارَها بزيادة التطهير بالماء والثَّلجِ والبَرَدِ، فالماء لا شَكَّ أنه مطهِّرٌ، لكن الثَّلجُ والبَرَدُ مناسبته هنا أنَّ الذُّنوب آثارها العذابُ بالنَّارِ، والنَّارُ حارَّة، والحرارةُ يناسبها في التنقية منها الشيء البارد، فالماء فيه التنظيف، والثَّلجُ والبَرَدُ فيهما التبريدُ.

هذا هو معنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وبقي أن يُقال: هل الخطأ يقع مِن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؟

الجواب: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ اغسلْنِي مِن خطاياي» فأضاف الخطايا إلى نفسِه، وكان يقول: «اللَّهُمَّ اغفِرْ لي ذنبي كُلَّه، دِقَّهُ وجِلَّهُ، وأوَّلَه وآخره، وعَلانيته وسِرَّه»[(94)] وقال الله تعالى: {{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}} [محمد: 19] وقال الله: {{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}} [الفتح: 2] ولكن الشأن كلُّ الشأن هل الذُّنوب هذه تبقى أم لا؟

الجواب: لا، فالنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم معصومٌ مِن الإِقرارِ على الذَّنبِ، ومغفورٌ له، بخلاف غيره، فإنه يذنب، وقد يُقَرُّ على ذلك ويستمرُّ في معصيته، وقد لا يُغفر له، أما النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم فلا بُدَّ أن يُنبَّه عليه مهما كان الأمر: {{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *}} [التحريم] .

هذا هو فَصْلُ الخطاب في هذه المسألة التي تنازعَ النَّاسُ فيها، لكن هناك مِن الذنوب ذَنْبٌ لا شَكَّ أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم معصومٌ منه، وهو الكذبُ والخيانة؛ لأنه لو قيل بجواز ذلك عليه؛ لكان في ذلك قَدْحٌ في رسالته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فلا يمكن أن يقعَ منه. كذلك أيضاً معصوم مما يُخلُّ بأصل العبادة وأصلِ الأخلاق، كالشِّركِ، وكسفاسف الأخلاق مثل الزِّنا وشبهه، لكن الخطايا التي بينه وبين ربِّه هذه قد تقعُ منه ولكنها خطايا صغيرة تُكَفَّر، وقد غَفَرَ اللَّهُ له ما تقدَّم مِن ذَنْبِه وما تأخَّر.

قلتُ: ذلك؛ لأن بعض العلماء رحمهم الله قالوا: إن كلَّ شيء وَصَفَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم نفسَه به من الذُّنوبِ فالمراد ذنوبُ أُمَّتِه؛ لا ذنبه هو؛ لأنه هو لا يُذنب، وكلُّ خطيئة أضافها لنفسه فالمراد خطايا أُمَّتِه، ولا شَكَّ أن هذا قول فيه ضعف؛ لأن الله قال: {{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}} [محمد: 19] فإن العطف يقتضي المغايرة، وليس في ذلك أيُّ قَدْح في أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقعُ منه الذُّنوب الصغيرة، ولكنه لا يُقَرُّ عليها، ثم هو مغفورٌ له، وما أكثر ما يكون الإِنسان منَّا بعد المعصية خيراً منه قبلها، وفي كثير من الأحيان يخطئ الإِنسان ويقع في معصية، ثم يَجدُ مِن قلبِه انكساراً بين يدي الله عزّ وجل وإنابةً إلى الله، وتوبةً إليه حتى إن ذَنْبَه يكون دائماً بين عينيه يندم عليه ويستغفر، وقد يرى الإِنسانُ نفسَه أنه مطيع، وأنه من أهل الطاعة فيصير عنده من العُجب والغرور وعدم الإِنابة إلى الله ما يفسد عليه أمر دينه، فالله عزّ وجل حكيم قد يبتلي الإِنسان بالذنب ليُصلح حالَه، كما يبتلي الإِنسانَ بالجوع لتستقيم صحَّته. وهل حصل لآدم الاجتباء إلا بعد المعصية والتوبة منها.

كما قال: {{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ}} [طه: 122] أي: بعد أن أذنبَ وتابَ؛ اجتباه ربُّه فتاب عليه وهداه، وانظر إلى الذين تخلَّفوا في غزوة تبوك ماذا حصل لهم؟ لا شَكَّ أنه حصل لهم من الإِيمان، ورِفْعَةِ الدرجات، وعلوِّ المنزلة ما لم يكن قبل ذلك، وهل يمكن أن تنزل آيات تُتلى إلى يوم القيامة في شأنهم لولا أنهم حصل منهم ذلك ثم تابوا إلى الله؟

والمُهمُّ أن الإِنسان لا يُعصم مِن الخطأ، ولكن الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ معصومون مما أشرنا إليه، ومعصومون مِن الإِقرار على الصغائر، بل لا بُدَّ أن يتوبوا منها.

مسألة: هل يجمع بين أنواع الاستفتاح؟

الجواب: لا يجمع بينها، لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أجاب أبا هريرة رضي الله عنه حين سـأله بأنه يقول: «اللَّهُمَّ باعِدْ بيني وبين خطاياي»... إلخ. ولم يذكر «سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدِك» فدلَّ على أنه لا يجمع بينها.

فهذان نوعان من الاستفتاحات، وبقيت أنواعٌ أُخرى بعضُها في صلاة الليل خاصَّة، فليُرجع إليها في المطوَّلات.

مسألة: هل يستفتح في صلاة الجنازة؟ فيه خلاف[(95)]:

قال بعض العلماء: يَستفتح، لأنها صلاة، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَستفتح في الصَّلاةِ.

والمشهور من المذهب:[(96)] أنه لا يَستفتح؛ لأنها مبنيَّة على التَّخفيف، فلا ركوع فيها، ولا سجود، ولا تشهُّد؛ مما يدلُّ على أن الشارع لاحَظَ فيها التخفيفَ؛ وهذا أقربُ.

 

ثمَّ يَسْتَعِيذُ،..........

قوله: «ثم يستعيذ» ، أي: يقول: أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم وإن شاء قال: «أعوذُ باللَّهِ السميعِ العليمِ من الشيطانِ الرَّجيمِ؛ من همزه ونفخِه ونفثِه»[(97)] وإن شاء قال: «أعوذُ بالسميعِ العليمِ مِن الشيطانِ الرجيمِ»[(98)] والاستعاذةُ للقراءة، وليست للصَّلاةِ، إذ لو كانت للصَّلاةِ لكانت تلي تكبيرةَ الإِحرامِ، أو قبل تكبيرة الإِحرامِ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *}} [النحل] . فأمر اللَّهُ بالاستعاذة مِن الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن.

وفائدةُ الاستعاذة: ليكون الشيطانُ بعيداً عن قلب المرءِ، وهو يتلو كتابَ الله حتى يحصُل له بذلك تدبّرُ القرآن وتفهّمُ معانيه، والانتفاعُ به؛ لأن هناك فَرْقاً بين أن تقرأ القرآنَ وقلبُك حاضرٌ وبين أن تقرأ وقلبُك لاهٍ.

إذا قرأته وقلبُك حاضرٌ حصل لك من معرفة المعاني والانتفاعِ بالقرآن ما لم يحصُلْ لك إذا قرأته وأنت غافل، وجرّبْ تجدْ.

فلهذا شُرع تقديمُ الاستعاذة على القِراءة في الصَّلاةِ وخارج الصلاة.

بل قال بعض العلماء[(99)]: بوجوب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن لقوله تعالى: {{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *}} [النحل] .

ومعنى: «أعوذ بالله» أي: ألتجئ وأعتصم به؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الملاذُ وهو المعاذُ، فما الفَرْق بين المعاذ والملاذ؟

قال العلماء: الفَرْق بينهما: أن اللِّياذ لطلب الخير، والعياذ للفرار من الشرِّ، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر:

يا مَنْ ألُوذُ به فيما أُؤَمِّلُهُ

ومَنْ أعُوذُ به مِمَّا أُحاذِرُهُ

لا يَجْبُرُ النَّاسُ عظماً أنت كاسِرُهُ

ولا يَهيضُونَ عظماً أنت جَابِرُهُ

ومعنى: «مِن الشيطان الرجيم» الشيطان: اسمُ جنْسٍ يشمَلُ الشيطان الأول الذي أُمِرَ بالسُّجود لآدم فلم يسجدْ، ويشمَلُ ذُرِّيَّته، وهو مِن شَطَنَ إذا بَعُدَ؛ لبعده من رحمة الله، فإن الله لَعَنَهُ، أي: طَرَدَه وأبعدَه عن رحمته. أو مِن شَاطَ إذا غَضِبَ؛ لأنَّ طبيعته الطَّيشُ والغضبُ والتسرُّعُ، ولهذا لم يتقبَّل أمْرَ الله سبحانه وتعالى بالسُّجودِ لآدم، بل ردَّه فوراً، وأنكرَ السُّجودَ له وقال: {{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}} [الإسراء: 61] ، والمعنى الأول هو الأقربُ، ولذلك لم يُمنعْ من الصَّرْفِ؛ لأنَّ النون فيه أصليّة.

وأما الرجيم: فهو بمعنى: راجم، وبمعنى: مرجوم؛ لأن فَعيلاً تأتي بمعنى: فاعل، وبمعنى: مفعول، فمِن إتيانها بمعنى فاعل: سميع، وبصير، وعليم، والأمثلة كثيرة.

ومِن إتيانها بمعنى مفعول: جَريح، وقَتيل، وكسير، وما أشبه ذلك.

فالشيطانُ رجيمٌ بالمعنيين، فهو مرجوم بلعنة الله ـ والعياذُ بالله ـ وطَرْدِه وإبعادِه عن رحمته، وهو راجم غيره بالمعاصي، فإن الشياطين تَؤزُّ أهلَ المعاصي إلى المعاصي أزًّا.

 

ثُمَّ يُبَسْمِلُ ...........

قوله: «ثم يُبسمل» أي: يقول: {{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}} وأتى المؤلِّف مِن كلِّ كلمة بحرفٍ، أتى بالباء، والسين، والميم، واللام، ويُسمَّى هذا التَّصرُّفُ عند علماء النحو بـ«النَّحْت» لأن الإِنسان ينحِتُ الكلمات حتى استخلص هذه الكلمة. والبسملة تتضمَّن: جاراً ومجروراً، وصفة وموصوفاً. فالجار هو: الباء، والمجرور هو: اسم. والصفة: الرحمن الرحيم، والموصوف: الله، ومضافاً ومضافاً إليه، «اسم» مضاف إلى لفظ الجلالة.

هذه البسملة لا بُدَّ أن تكون متعلِّقة بشيء؛ لأن كُلَّ حرف جرٍّ لا بُدَّ أن يتعلَّق بشيء؛ كما قال ناظم قواعد الإعراب:

لا بُدَّ للجار مِن التَّعلُّقِ

بفعلٍ أو معناه نحو مرتقي

واستثنِ كلَّ زائد له عَمَل

كالبا ومِن والكاف أيضاً ولعل

فهنا الباء لا بُدَّ أن تُعلَّق بشيء، وأحسن ما قيل في متعلقها: أنه فِعْلٌ مؤخَّرٌ مناسب للمقام، فإذا كنت تسمِّي على قراءة فالتقدير: بسم الله أقرأ، وإذا كنت تُسمِّي على أكل فالتقدير: بسم الله آكل، وعلى شُرْب: بسم الله أشربُ، وعلى وُضُوء: بسم الله أتوضَّأ، وهكذا.

وهنا نقرأُ البسملةَ لنقرأ الفاتحةَ، فيكون التقدير فيها: بسم الله أقرأ.

وقلنا: بأن متعلَّقها فِعْل؛ لأن الأفعال هي الأصل في العمل.

وقلنا: محذوف، تبرُّكاً بالاقتصار على اسمِ الله عزَّ وجلَّ، ولكثرة الاستعمال.

وقلنا: متأخِّر؛ لأن في تقديره متأخِّراً فائدتين:

1 ـ التبرك بتقديم اسم الله عزَّ وجلَّ.

2 ـ الحصر؛ لأن تقديمَ المعمولِ يفيدُ الحصرَ.

وقدَّرناه مناسباً للمقام؛ لأنه أدلُّ على مقصود المُبَسْمِل، فإنك إذا قلت: بسم الله، وأنت تريد القراءة، فالتقدير بسم الله أقرأ، وهذا أخصُّ مما لو قلت: التقدير: بسم الله أبتدئُ؛ لأن القراءة أخصُّ من مطلق الابتداء.

وأما «الله» فهو عَلَمٌ على الرَّبِّ عزّ وجل، وأصلُه: الإله، لكن حُذفت الهمزةُ تخفيفاً؛ لكثرة الاستعمال، و«إله» بمعنى: مألوه، والمألوه: هو المعبود محبَّة وتعظيماً.

وأما «الرحمن»: فهو اسمٌ مِن أسماء الله، وهو من حيثُ الإِعرابُ صفة، وهو ذو الرحمة الواسعة الواصلة لجميع الخلق.

«والرحيم» فعيل مِن الرحمة أيضاً، لكن رُوعِيَ فيها الفعلُ دون الصفة؛ لأن الرحمة وصف، والفعل إيصال الرحمة إلى المرحوم.

 

سِرًّا وَلَيْسَتْ مِنَ الفَاتِحَةِ ...........

قوله: «سِرًّا» ، أي: يُبسمِلُ سِرًّا، يعني: إذا كانت الصَّلاةُ جهريَّة.

أما إذا كانت الصلاة سِرِّية فإنه سوف يُسرُّ بالبسملة وبالقراءة، فقوله: «سِرًّا» يعني: أنه لا يسمعها المأمومين، وإن كان يجهر بالقراءة؛ وذلك لأن أكثر الأحاديث الواردة عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم تدلُّ على أنه كان يقرؤها سِرًّا[(100)]. بل قد قيل: إنَّ كُلَّ حديث ذُكر فيه الجهرُ بالبسملة فهو ضعيف[(101)].

قوله: «وليست من الفاتحة» الضَّميرُ يعودُ على البسملة، بل هي آيةٌ مستقلِّة يُفتتح بها كلُّ سورة مِن القرآن؛ ما عدا براءة، فإنه ليس فيها بسملة اجتهاداً من الصحابة، لكنه اجتهاد ـ بلا شك ـ مستندٌ إلى توقيف؛ لأننا نعلم أنه لو نزلت البسملة بين الأنفال وبراءة لوجب بقاؤها؛ لأن الله يقول: {{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *}} [الحجر: 9] فلمَّا لم يكن، عُلِمَ أن اجتهاد الصَّحابة كان موافقاً للواقع.

والدليل على أنها ليست من الفاتحة ما ثبت في «الصحيح» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، قال اللَّهُ تعالى: حَمَدَني عبدي...»[(102)] الحديث.

فإن قيل: إذا لم تكن مِن الفاتحة؛ فإنه مِن المعلوم أنَّ الفاتحةَ سبعُ آيات، فكيف تُوزَّع السَّبع الآيات على الفاتحة إذا أخرجنا البسملةَ منها؟

فالجواب: أنها توزَّع كالآتي:

{{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} الأولى.

{{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}} الثانية.

{{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *}} الثالثة.

{{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} الرابعة.

{{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *}} الخامسة. {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} السادسة.

{{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}} السابعة.

هذا التَّوزيعُ هو المطابق للمعنى واللَّفظِ.

أما مطابقته للَّفظ: فإننا إذا وزَّعنا الفاتحةَ على هذا الوجه صارت الآيات متناسبة ومتقاربة.

لكن إذا قلنا: {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *}} هذه الآية السادسة. {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *}} صارت السابعة طويلة لا تتناسب مع الآية السَّابقة، فهذا تناسبٌ لفظي.

وأما التَّناسبُ المعنوي: فإن الله تعالى قال: «قَسَمْتُ الصَّلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سألَ. فإذا قال العبدُ: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} قال الله تعالى: حَمَدني عبدي. وإذا قال: {{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}} قال: أثنى عَليَّ عبدي. وإذا قال: {{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *}}، قال: مجَّدَني عبدي. فهذه ثلاث آيات كلُّها لله.

فإذا قال: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}}. قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل»[(103)]. فيقتضي أن تكون النِّصفُ هي: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} ، وهي الرابعة. والخامسة، والسادسة والسابعة: {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *}} فتكون الآيات الثلاث الأولى لله تعالى، والآيات الثلاث الأخيرة للعبد و{{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} الآية الوسطى، بين العبد وبين ربِّه.

فإن قال قائل: إذا قلتم ذلك فكيف الجواب عمَّا نجدُه في المصاحف: أن أول آية في الفاتحة هي البسملة؟

فالجواب: هذا الترقيم على قول بعض أهل العلم[(104)]: أنَّ البسملة آية من الفاتحة. ولهذا في بقية السُّور لا تُعدُّ مِن آياتها ولا تُرقَّم. والصَّحيحُ أنها ليست مِن الفاتحة، ولا مِن غير الفاتحة، بل هي آية مستقلَّة.

إذا قال قائل: قلتم: إن البسملة آية مستقلَّة. ونحن وجدناها في كتاب الله آية ضمن آية في قوله: {{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}} [النمل] قلنا: هذه حكاية وخبر عن كتابٍ صَدَرَ مِن سُليمان، وليس الإِنسان يقرؤها على أنه سيبتدئ بها في مقدمة قراءته للسُّورة، لكنها مقدِّمة كتاب كَتَبَهُ سُليمان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ونَقَلَهُ لنا اللَّهُ عزّ وجل، فليس من هذا الباب.

 

ثُمَّ يَقْرَأُ الفَاتِحةَ .............

قوله: «ثم يقرأ الفاتحة» . «أل» هذه للعموم، يعني: يقرؤها كاملة مرتَّبة بآياتها، وكلماتها، وحروفها، وحركاتها، فلو قرأ ستَّ آيات منها فقط لم تصحَّ، ولو قرأ سبع آيات؛ لكن أسقط «الضَّالين» لم تصحَّ، ولو قرأ كلَّ الآيات، ولم يسقط شيئاً من الكلمات؛ لكن أسقط حرفاً مثل أن يقول: {صراط الذين أنعم عليهم} فأسقط «التاء» لم تصحَّ، ولو أخلف الحركات فإنها لا تصحُّ؛ إنْ كان اللَّحنُ يُحيل المعنى؛ وإلا صحَّت، ولكنه لا يجوز أن يتعمَّد اللَّحنَ. مثال الذي يُحيل المعنى: أن يقول: «أَهْدِنَا» بفتح الهمزة: لأن المعنى يختلف؛ لأن معناه يكون مع فتح الهمزة أعطنا إيَّاه هدية، لكن {{اهْدِنَا}} بهمزة الوصل بمعنى: دُلَّنا عليه، ووفِّقْنَا له، وَثَبِّتْنَا عليه.

ولو قال: {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} لم تصحَّ؛ لأنه يختلف المعنى، يكون الإِنعامُ مِن القارئ، وليس مِن الله عزّ وجل.

ومثال الذي لا يُحيل المعنى: أن يقول: «الحمدِ لله» بكسر الدال بدل ضمِّها.

ولو قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ الْعَالَمِينَ} بدون تشديد الباء لم تصحَّ؛ لأنه أسقط حرفاً؛ لأن الحرف المشدَّد عبارة عن حرفين.

إذاً؛ لا بُدَّ أن يقرأها تامَّة، بآياتها، وكلماتها، وحروفها، وحركاتها، فإن ترك آية، أو حرفاً، أو حركة تُخِلُّ بالمعنى لم تصحَّ.

وقوله: «ثم يقرأ الفاتحة» أي: بعد البسملة يقرأ الفاتحة، و«ثم» هنا لا يُراد بها الترتيب والتراخي، بل هي لمجرد الترتيب؛ لأنه لا تراخي بين البسملة وقراءة الفاتحة، بل يُبسملُ ثم يَشرعُ في الفاتحة فَوراً.

وقوله: «يقرأ الفاتحة» وهي معروفة، وهي أعظم سورة في كتاب الله، وسُمِّيت «فاتحة» لأنه افتُتِحَ بها المُصحفُ في الكتابة. ولأنها تُفتتحُ بها الصَّلاةُ في القراءة، وليست يُفتتح بها كلُّ شيء؛ كما يصنعه بعض الناس اليوم إذا أرادوا أن يشرعوا في شيء قرأوا الفاتحة، أو أرادوا أن يترحَّمُوا على شخص قالوا: «الفاتحة» يعني: اقرؤوا له الفاتحة، فإن هذا لم يَرِدْ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم.

والفاتحةُ هي أمُّ القرآن؛ وذلك لأن جميعَ مقاصدِ القرآن موجودةٌ فيها، فهي مشتملة على التوحيد بأنواعه الثلاثة، وعلى الرسالة، وعلى اليوم الآخر، وعلى طُرق الرُّسل ومخالفيهم، وجميعُ ما يتعلَّق بأصول الشَّرائع موجودٌ في هذه السُّورة، ولهذا تُسمَّى «أمُّ القرآن»[(105)] وتُسمَّى «السَّبْعُ المثاني» كما صحَّ ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[(106)]. وقد خصَّها الله بالذِّكْرِ في قوله: {{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ *}} [الحجر] وعَطْفُ «القرآن العظيم» عليها من باب عَطْفِ العام على الخاص.

والفاتحة رُكْنٌ مِن أركان الصَّلاةِ، وشرطٌ لصحَّتها، فلا تصحُّ الصَّلاةُ بدونها؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحةِ الكتابِ»[(107)] وسيأتي الكلام عليها مفصَّلاً في فصل أركان الصَّلاةِ.

وقوله: «يقرأ الفاتحة» يفيد هذا القول أنه لا بُدَّ أن يقرأ الفاتحةَ بجميع حروفها وحركاتها وكلماتها وآياتها وترتيبها، هذه خمسة أمور: الآيات، والكلمات، والحروف، والحركات، والترتيب. وهو مأخوذ مِن قول المؤلِّفِ: «الفاتحة» فإن «أل» هنا للعهد الذِّهني؛ فيكون المراد به الفاتحة المعروفة التي فيها الآيات السَّبْع والكلمات والحروف والحركات على ترتيبها، ولا بُدَّ أن تكون متوالية؛ يعني: ألا يقطعها بفصل طويل؛ لأنها عبادة واحدة، فاشتُرطَ أن ينبني بعضُها على بعض، كالأعضاء في الوُضُوء.

فالوُضُوء: الوجه، ثم اليدان، ثم الرأس، ثم الرجلان، لا بُدَّ أن يتوالى غَسْلُ هذه الأعضاء الأربعة مرتَّبة، كذلك سورة الفاتحة الآية الأُولى، ثم الثانية، ثم الثالثة... إلخ، لا بُدَّ أن تتوالى.

 

فَإِنْ قَطَعَهَا بِذِكْرٍ، أوْ سكوت غَيْرِ مَشْرُوعَيْن، وَطَالَ،...........

قوله: «فإن قطعها بذِكْرٍ، أو سكوت غير مشروعين، وطَالَ» أي: قَطَعَ الفاتحةَ فلم يواصلْ قراءتها، يعني: لما قال: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} جعل يُثني على الله سبحانه وتعالى: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وقام يدعو بدعاء، ثم قال: {{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}}. نقول: هذا غيرُ مشروع، فإذا طال الفصلُ وَجَبَ عليك الإِعادة، كذلك لو قَطَعَها بسكوت، قال: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} ثم سَمِعَ ضَوضاءَ فسكت يستمعُ ماذا يقول النَّاسُ، وطال الفصلُ، فإنه يعيدها مِن جديد؛ لأنه لا بُدَّ فيها من التَّوالي، لكن اشترط المؤلِّفُ فقال: «غير مشروعين» أي: الذِّكْر والسُّكوت، فإن كانا مشروعين كما لو قَطَعَها ليسأل الله أن يكون مِن الذين أنعمَ اللَّهُ عليهم، مثل لما مرَّ {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} قال: اللَّهُمَّ اجْعلنِي منهم، وألحقني بالصَّالحين. فهذا يسير، ثم هو مشروعٌ في صلاةِ الليل. كذلك إذا سكتَ لاستماعِ قراءةِ إمامِه، وكان يعلم أن إمامَه يسكتُ قبل الرُّكوعِ سكوتاً يتمكَّن معه أن يكملها، فسكتَ استماعاً لقراءة إمامِه، ثم أتمَّها حين سكتَ الإِمامُ قبل الرُّكوعِ، فإن هذا السُّكوتَ مشروعٌ، فلا يضرُّ ولو طال.

 

أَوْ تَرَكَ مِنْهَا تَشْدِيدَةً، أَوْ حَرْفاً، أو تَرْتِيباً لَزِمَ غَيْرَ مَأْمُومٍ إعَادَتُها.

قوله: «أو ترك منها تشديدة» أي: لو تَرَكَ تشديدة حرف منها فقرأه بالتَّخفيف، مثل تخفيف الباء من قوله: {رب العالمين} لم تصحَّ، وإنما لم تَصحَّ؛ لأن الحرف المشدّد عبارة عن حرفين، فإذا تَرَكَ التشديدَ أنقصَ حرفاً.

قوله: «أو حرفاً» أي: تَرَكَ حرفاً مِن إحدى كلماتها، مثل: أن يترك (أل) في {{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}} وهذا يقعُ كثيراً مِن الذين يُدغمون بسبب إسراعهم في القراءة، فلا تصحُّ.

قوله: «أو ترتيباً» يعني: إذا أخلَّ بترتيب آياتِها أو كلماتِها فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *}{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} أو قال: الرحيم الرحمن، مالك يوم الدين. فإنها لا تصحُّ؛ لأنه أخلَّ بالترتيب، وترتيب الآيات والكلمات توقيفي عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وليس اجتهادياً، ولهذا كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ضعوا هذه الآية في السُّورة التي يُذكر فيها كذا»[(108)]، ولو لم يكن بالنسبة للفاتحة إلا قراءةُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم إيَّاها على هذا الترتيب الذي أجمعَ عليه المسلمون.

قوله: «لزم غير مأموم إعادتها» «غير» بالنصب على أنها مفعول مقدَّم للزم، و«إعادة» فاعل مؤخَّر، يعني: لزمت إعادتُها على غير مأموم؛ لأن قراءة الفاتحة في حقِّ المأموم ـ على المشهور من المذهب ـ ليست بواجبة، فلو تَرَكَها المأمومُ عمداً لم يلزمه إعادة الصَّلاةِ، ولكن مع ذلك يحرم عليه أن ينكِّس الآيات، أو أن يُنكِّس الكلمات، إنما من حيث وجوبُ إعادة الفاتحة لا يجبُ على المأموم إذا فَعَلَ ذلك؛ لأنها لا تجب عليه، ولكن هل تبطل صلاته من أجل مخالفة التَّرتيب في الكلمات أو الآيات؛ لأنه مُحرَّمٌ عليه؟ هذا محلُّ نَظَر.

وقوله: «لزم غير مأموم إعادتها» ظاهر كلامه: أنه يعيدُها من أولها، فلو أسقطَ «أل» مِن قوله: {{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}} فظاهرُ كلامِه أنه يلزمه إعادة الفاتحة كلها؛ وليس هذا بوجيه، وقد لا يكون هذا مراده، بل يلزمه إعادة ما أخلَّ به وما بعدَه؛ لأن ما قبلَه وَقَعَ صحيحاً، والمدَّة ليست طويلة حتى يُقال: إنه لو أعاد مِن حيث أخلَّ لَزِمَ طول الفصل بين الجزء الصَّحيح الأول والجزء الصَّحيح الثاني؛ لأن كلَّ الفاتحة لا تستوعب زمناً طويلاً، وعلى هذا؛ فإذا أخلَّ بشيءٍ مِن آخرِها، فإنه لا يلزمه إلاَّ إعادة ما أخلَّ به وما بعدَه، مراعاةً للترتيب، فإن كان في أول آية مثل: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} بتخفيف الباء لزمتُه الإِعادة مِن الأول.

مسألة: كيف يقرأُ هذه السُّورة؟.

نقول: يقرؤها معربةً مرتَّبةً متواليةً، وينبغي أن يفصِلَ بين آياتِها، ويقفَ عند كلِّ آية، فيقف سبعَ مرَّات، {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} ـ فيقف ـ {{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}} ـ فيقف ـ {{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *}} ـ فيقف ـ {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} ـ فيقف ـ {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *}} ـ فيقف ـ {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} ـ فيقف ـ {{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}} ـ فيقف. لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يُقطِّعُ قراءَتَهُ، فيَقِفُ عند كلِّ آية[(109)] وإن لم يقفْ فلا حرجَ؛ لأنَّ وقوفه عند كلِّ آيةٍ على سبيلِ الاستحبابِ، لا على سبيلِ الوجوبِ؛ لأنَّه مِن فِعْلِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم دون أمْرِه، وما فَعَلَه النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دون أَمْرٍ به مما يُتعبَّد به فهو مِن قبيل المستحبِّ، كما ذُكر ذلك في أصول الفقه: أنَّ الفعلَ المجرَّدَ مما يُتعبَّدُ به يفيد الاستحباب، ولأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لمَّا عَلَّمَ المسيءَ في صلاتِه أمره أن يقرأ ما تيسَّر مِن القرآن[(110)] ولم يقل: ورتِّل، أو: قِفْ عند كلِّ آية.

فإنْ قال قائل: ذكرتم أنه إذا أبدل حرفاً بحرف فإنَّها لا تصحُّ، فما تقولون فيمَن أبدَل الضَّادَ في قوله: {{وَلاَ الضَّالِّينَ}} بالظاء؟

قلنا: في ذلك وجهان لفقهاء الحنابلة:

الوجه الأول: لا تصحُّ؛ لأنه أبدلَ حَرْفاً بحرف.

الوجه الثاني: تصحُّ، وهو المشهور مِن المذهب، وعلَّلوا ذلك بتقارب المخرجين، وبصعوبة التفريق بينهما، وهذا الوجه هو الصَّحيح، وعلى هذا فمَن قال: {{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}} بالظاء فصلاته صحيحة، ولا يكاد أحدٌ من العامة يُفرِّق بين الضَّاد والظاء.

 

وَيَجْهُرُ الكُلُّ بِآمِينَ في الجَهْرِيَّة ..........

قوله: «ويجهرُ الكُلُّ بآمينَ في الجَهريَّة» أي: المنفرد، والمأموم، والإِمام بالجهرية.

أما الإِمام فواضح أنه يجهر بآمين؛ لأن ذلك ثَبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «إذا أمَّنَ الإِمامُ فأمِّنوا»[(111)] فعلَّق تأميننا بتأمين الإِمام، ولولا أننا نسمعُهُ لم يكن بتعْليقِهِ بتأمين الإِمامِ فائدة، بل لكان حَرَجاً على الأمة، ولأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يجهرُ بآمين حتى يَمُدَّ بها صوتَه[(112)]. وكذلك المأمومون يجهرون بها، كما كان الصَّحابةُ رضي الله عنهم يجهرون بذلك خلفَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؛ حتى يرتجَّ المسجدُ بهم[(113)] وهذه السُّنَّةُ صحيحةٌ ثابتة. لكن المنفرد إن جَهَرَ بقراءته؛ جَهَرَ بآمين، وإن أسرَّ؛ أسرَّ بآمين، ودليل ذلك: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان في صلاة السِرِّ كالظُّهر والعصر لا يجهر بآمين، وهذا يقتضي أنك إذا لم تجهر بالقراءة لم تجهر بآمين.

والمنفرد الذي يقوم الليل مثلاً، وأحياناً يرى أن حضورَ قلبِه وقوَّة يقظته وطرد النوم عنه بالجهر، فيجهر كما فَعَلَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم حين صَلَّى بحذيفة بن اليمان[(114)] رضي الله عنهما.

فإذا جَهَرَ بالقراءة جَهَرَ بالتأمين، وأحياناً يرى أن الإِسرار أفضل له وأخشع، وأبعد عن الرِّياء، أو أن هناك مانعاً يمنعه من الجَهْر لكون مَن حولَه نياماً، وما أشبه ذلك، فإذا أسرَّ بالقراءة فإنه يُسِرُّ بالتأمين، ولا يجهر به.

وقوله: «بآمين» :

معناها: اللَّهُمَّ اسْتجِبْ، وعلى هذا؛ فهي اسمُ فِعْلِ دعاء، واسمُ الفعل ما كان فيه معنى الفعل دون حروفه.

هلم: اسمُ فِعْلٍ؛ لأنه بمعنى أقبل. «صَهْ» اسمُ فِعْلٍ بمعنى اصمُتْ. فأحياناً أقول «صَهٍ»، وأحياناً أقول «صَهْ»، وبينهما فَرْق، فإن قلت: «صهٍ» فمعناها اسكتْ عن كُلِّ شيء، إن قلت: «صَهْ» فمعناها اسكتْ عن كلام معيَّن.

قال الفقهاء: فإن شدَّدَ الميمَ في «آمين» بطلت الصَّلاةُ؛ لأنَّ معناها حينئذٍ «قاصدين»؛ ولهذا قالوا: يحرم أن يُشدِّد الميم، وتبطل الصَّلاةُ؛ لأنه أتى بكلامٍ مِن جنسِ كلام المخلوقين.

فإن قيل: متى يقول آمين؟

فالجواب: أما الإِمامُ فإذا انتهى من قوله: {{وَلاَ الضَّالِّينَ}} وكذلك المنفرد.

وأمَّا المأموم فقال بعضُ العلماءِ[(115)]: يقول: «آمين» إذا فَرَغَ الإِمامُ مِن قول آمين.

واستدلُّوا بظاهر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمَّنَ الإِمامُ فأمِّنوا»[(116)] قالوا: وهذا كقوله: «إذا كبَّر فكبِّروا»[(117)] ومعلومٌ أنك لا تكبِّر حتى يفرغ الإِمامُ مِن التكبير فيكون معنى قوله «إذا أمَّنَ» أي: إذا فَرَغَ مِن التأمين. ولكن هذا القول ضعيف؛ لأنه مصرَّحٌ به في لفظٍ آخر: «إذا قال الإِمام: ولا الضَّالين، فقولوا: آمين»[(118)].

وعلى هذا؛ فيكون المعنى: إذا أمَّن، أي: إذا بَلَغَ ما يُؤمَّنُ عليه وهو {{وَلاَ الضَّالِّينَ}}، أو إذا شَرَعَ في التَّأمين فأمِّنوا؛ لتكونوا معه، لكن نسمع بعض الأحيان بعض الجماعة يتعجَّل؛ لا يكاد يصل الإِمام النون من {{وَلاَ الضَّالِّينَ}} إلا وقد قال: «آمين» وهذا خِلافُ السُّنَّةِ، وهذا نوعٌ مِن مسابقة الإِمام؛ لأنَّ الإِمامَ لم يَصلْ إلى الحدِّ الذي يُؤمَّنُ عليه وهو فراغه من قوله: {{وَلاَ الضَّالِّينَ}}.

مسألة: لم يفصح المؤلِّف ـ رحمه الله ـ هنا عَمَّا إذا لم يعرفْ الفاتحةَ هل يلزمه أن يتعلَّمها؟

والجواب: نعم؛ يلزم أن يتعلَّمها؛ لأن قراءتَها واجبةٌ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ. كعادم الماء؛ يجب عليه طلبُه وشراؤه للوُضُوء أو الغسل به إنْ كان يُباع؛ لأنَّ ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ، وليس هذا من باب: ما لا يتمُّ الوجوب إلا به؛ لأن وجوب الفاتحة ثابتٌ، فيلزم أن يتعلَّم هذه السُّورة، فإن ضاق الوقتُ قرأ ما تيسَّرَ من القرآن من سواها؛ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ ما تيسَّرَ معك من القرآن»[(119)] فإن لم يكن معه قرآن فإنه يُسَبِّحُ، فيقول: «سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، واللَّهُ أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله»[(120)] خمس كلمات. فإذا قال قائل: كيف يجزئ الخمس عن السَّبع؛ لأن الآيات في الفاتحة سَبْع؟

فالجواب: أنه لا يلزمُ أن يكون البدلُ مساوياً للمُبدل منه، أَلا ترى أنَّ كسوةَ العشرة في كفَّارة اليمين لا يساويها إطعامُهم في الغالب، ولا تساوي عِتْقَ الرَّقَبة أيضاً، فالبدلُ لا يلزم منه مساواة المُبدل منه، لكن قال فقهاؤنا رحمهم الله: إذا كان عنده شيءٌ من القرآن سوى الفاتحة وجب عليه أن يقرأ منه بقَدْرِ الفاتحة، وفرَّقوا بين هذا وبين الذِّكر؛ بأن ما يُقدر عليه من جنس ما عُجز عنه؛ فوجب أن يكون مساوياً له، بخلاف البدل المحض فإنه لا يلزم.

فصارت المراتب الآن: قراءة الفاتحة، فإن عجز فبما تيسَّرَ مِنَ القرآن مِن غيرها، فإن عَجَزَ فالتَّسبيحُ، والتَّحميد، والتَّكبير، والتَّهليل والحَوقلة.

فإذا قال قائل: إذا لم أجد مَنْ يُعَلِّمني إيَّاها إلا بأُجرة، فهل يلزمُني دفع أجرة إليه؟

فالجواب: نعم؛ كما لو لم يجد ماءً إلا ببيع، فإنه يلزمُه شراؤه للوُضُوء، ولكن يبقى النَّظرُ: هل يجوز للآخر أن يطلب أُجْرةً على تعليم القرآن؟

الجواب: الصحيح: الجواز؛ لعموم قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ أحَقَّ ما أخذتُم عليه أجراً كتابُ الله»[(121)] وهذا الذي استُؤجر أو طَلَبَ الأُجرةَ طَلَبَ على عَمَلٍ متعدٍّ وهو التَّعليم، بخلاف مَن طَلَبَ أُجرة على القِراءة، فإنه لا يجوز، كما لو قال: أنا أقرأُ سورةَ البقرةِ وتُعطيني كذا وكذا. قلنا: هذا حَرام. أمَّا إذا قال: أعلِّمُكَ إياها بكذا وكذا؛ فهذا جائز، ولهذا زوَّجَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم الرَّجُلَ الذي لم يجدْ مهراً بما معه من القُرآن يعلِّمُها إيَّاه[(122)].

قوله: «ثم يقرأ» هل «ثم» هنا على معناها الأصلي، أي: أنها تفيد الترتيب والتراخي، أو لمجرد الترتيب؟

هذا مبنيٌّ على القول باستحبابِ السُّكوتِ بعدَ الفاتحة أو عدمِه. فإن قلنا: باستحباب السُّكوتِ ـ وهو المذهب[(123)] ـ صارت «ثم» هنا على معناها الأصلي، أي: أنها للتَّرتيب والتَّراخي، وعلى هذا؛ فيسكتُ الإِمامُ بعدَ الفاتحةِ سكوتاً، ولكن كم مقدار هذا السُّكوت؟

قال بعض العلماء:[(124)] إنه بمقدار قراءة المأموم سُورةَ الفاتحةِ، وعلى هذا؛ فيكون طويلاً بعضَ الشَّيء.

وقيل: بل إنه سكوت ليترادَّ إلى الإِمام نفسُه (124) ، وليتأمَّل ماذا يقرأ بعدَ الفاتحةِ، ولِيَشْرَع المأموم في قراءة الفاتحة حتى يستمرَّ فيها؛ لأن الإِمام لو شَرَعَ فوراً بقراءة السُّورة لم يبدأ المأموم بالقراءة، وحينئذٍ تفوته قراءةُ الفاتحةِ.

والصَّحيح: أن هذه السَّكتة سكتة يسيرة؛ لا بمقدار أن يقرأَ المأمومُ سُورةَ الفاتحة، بل السُّكوت بهذا المقدار إلى البدعة أقرب منه إلى السُّنّة؛ لأن هذا السُّكوتَ طويلٌ، ولو كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يسكتُه؛ لكان الصَّحابةُ يسألون عنه، كما سألَ أبو هريرة رضي الله عنه النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم عن سُكوته فيما بين التكبير والقِراءة: ما يقول[(125)]؟ فالصَّحيح أنَّها سكتةٌ يسيرة فيها فوائد:

1 ـ التَّمييز بين القِراءةِ المفروضةِ والقراءة المستحبَّة.

2 ـ ليترادَّ إليه النفسُ.

3 ـ لأجل أن يشرع المأمومُ بالقِراءة.

4 ـ ربما لا يكون قد أعدَّ سورةً يقرأ بها بعدَ الفاتحة، فيتأمَّل ماذا يقرأ.

 

ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَهَا سُورَةً،...........

وقوله: «ثم يقرأ بعدها» . أي: بعدَ الفاتحة، وأفاد قوله: «بعدَها» أنه لا تُشرع القراءةُ قبل الفاتحة، فلو نسيَ وقرأ السُّورةَ قبل الفاتحةِ أعادها بعد الفاتحة؛ لأنه ذِكْرٌ قالَه في غير موضعه فلم يجزئ.

وقوله: «سورة» السُّورةُ جملةٌ من القرآن مُحَوَّطَةٌ بالبسملة قبلَها لها، وبعدَها للسُّورة التي بعدها. سُمِّيت بذلك لأن البسملتين كانتا كالسُّورِ لها.

وقراءةُ السُّورة على قول جمهور أهل العلم سُنَّةٌ[(126)]، وليست بواجبةٍ؛ لأنه لا يجب إلا قراءة الفاتحة.

وأفادنا المؤلِّف بقوله: «سُورة» إلى أنَّ الذي ينبغي للإِنسانِ أن يقرأَهُ سورةً كاملةً، لا بعضَ السُّورة، ولا آيات من أثناء السُّورة؛ لأن ذلك لم يَرِدْ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وأطلقه ابن القيم في «زاد المعاد» حيث قال: «وأمَّا قراءة أواخر السُّورِ وأواسطها فلم يُحفظ عنه». ولكن ثَبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ في سُنَّةِ الفجر آيات من السُّور، فكان أحياناً يقرأ في الرَّكعة الأُولى: {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}} [البقرة: 136] الآية، وفي الثانية: {{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}} [آل عمران: 64] ، الآية[(127)]، والأصل: أن ما ثَبَتَ في النَّفْل ثَبَتَ في الفرض؛ إلا بدليل.

ويدلُّ لهذا الأصل: أن الصَّحابة رضي الله عنهم لما حَكَوا أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يُوتِرُ على راحلته قالوا: غير أنه لا يُصلِّي عليها المكتوبةَ. فلما حَكَوا أنه يوتر، ثم قالوا: غير أنَّه لا يُصلِّي عليها المكتوبة[(128)]، دَلَّ ذلك على أنَّ المعلومَ أنَّ ما ثَبَتَ في النَّفل ثبتَ في الفرض.

ولأنهما عبادتان من جنس واحد، والأصل اتفاقهما في الأحكام.

على كُلٍّ؛ نرى أنه لا بأس أن يقرأ الإِنسانُ آيةً من سورةٍ في الفريضة وفي النافلة. وربما يُستدل له أيضاً بعموم قوله تعالى: {{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}} [المزمل: 20] لكن السُّنَّة والأفضل أن يقرأَ سورةً، والأفضلُ أن تكون كاملةً في كلِّ ركعة، فإن شَقَّ فلا حَرَجَ عليه أن يقسم السُّورة بين الركعتين؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ ذات يوم سورة {{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *}} فلما وصل إلى قصة موسى وهارون أخذته سَعْلةٌ فَرَكَعَ[(129)]. فدلَّ هذا على جواز قَسْمِ السُّورة؛ ولا سيَّما عند الحَاجة.

وقوله: «سُورة» يلزم من قراءة السُّورة أن يقرأَ قبلها: «بسم الله الرحمن الرحيم»، وعلى هذا؛ فتكون البسملةُ مكرَّرة مرَّتين: مرَّة للفاتحة، ومرَّة للسُّورة. أما إنْ قرأ مِن أثناء السُّورة فإنه لا يُبسمل؛ لأن الله لم يأمر عند قراءة القرآن إلا بالاستعاذةِ، والبسملة لا تُقرأ في أواسط السُّور، لا في الصلاة ولا خارجها.

 

تَكُونُ فِي الصُّبْحِ مِنْ طِوَالِ المُفَصَّلِ،............

قوله: «تكون في الصبح من طِوال المفصل» أي: تكون السُّورة في صلاة الصُّبح من طِوال المُفصَّلِ بكسر الطاء، ولا يقال: طُوال؛ لأن طُوال صفة للرَّجُل الطويل، وأما طِوال بالكسر فهي جمع طويلة، أي: سُورة من السُّور الطِوال مِن المفصل.

والمُفصَّل ثلاثة أقسام، كما يدلُّ عليه كلام المؤلِّف: منه طِوال، ومنه قِصار، ومنه وسط.

فمِن {ق} إلى {عَمَّ} هذا هو الطِوال.

ومِن {عَمَّ} إلى {الضُّحَى} أوساط.

ومُن {الضُّحَى} إلى آخره قِصار.

وسُمِّيَ مُفصَّلاً لكثرة فواصله؛ لأن سُورَهُ قصيرةٌ.

فمن {{ق}} إلى {{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *}} أربعة أجزاء وشيء، يساوي البقرة وآل عمران، ورُبعاً مِن النساء، ويزيد شيئاً قليلاً، وإنما شُرع أن تكون في الصُّبح مِن طِوال المُفصَّل؛ لأن الله عزَّ وجلَّ نصَّ على القرآن في صلاة الفجر فقال: {{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا *}} [الإسراء] فَعبَّرَ عن الصَّلاةِ بالقرآن إشارةً إلى أنَّه ينبغي أن يكون القرآن مستوعِباً لأكثرها، وهو كذلك[(130)]، ولهذا بقيت صلاةُ الصُّبح على ركعتين لم تُزَدْ، بينما الظُّهر والعصر والعشاء زِيدت.

 

وَفِي المَغْرِبِ مِنْ قِصَارِهِ، وَفِي الْبَاقِي مِنْ أَوْسَاطِهِ، ........

قوله: «وفي المغرب من قصاره» ، أي: من قِصار المفصَّل، يعني: من الضُّحى إلى آخره[(131)].

قوله: «وفي الباقي من أوساطه» أي: من {{عَمَّ}} إلى {الضحى} ودليل ذلك السُّنَّة الواردة عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؛ فإن الغالب مِن فِعْلِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو هذا[(132)].

لكنه أحياناً يقرأ في الفجر مِن القِصَار، وفي المغرب من الطِوال، فمرَّة صَلَّى الفجرَ بـ {{إِذَا زُلْزِلَتِ}} قرأها في الرَّكعتين[(133)]، ومرَّة قرأ في المغرب بسُورة {{الأَعْرَافِ}}[(134)]، وقرأ بسورة {{الْطُّورَ}}[(135)]، وقرأ {بالمرسلات}[(136)]، وكلُّ هذا من أطول ما يكون من السُّور، فدلَّ ذلك على أنه ينبغي للإِمام أن يكون غالباً على ما ذَكَرَ المؤلِّفُ، ولكن لا بأس أن يطيل في بعض الأحيان في المغرب، ويُقَصِّرَ في الفجر.

وقوله: «وفي الباقي من أوساطه» الدليل على ذلك: أن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أرشد معاذَ بنَ جَبَلٍ أن يقرأ في صلاة العشاء بـ{{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}}، {{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *}}، و{{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *}}[(137)] ونحوها فدلَّ هذا على أن هذا هو الأفضل.

وهنا سؤال: هل يجوز أن يقرأَ الإِنسانُ بالسُّورةِ في الرَّكعتينِ بمعنى أنْ يكرِّرها مرَّتين؟

الجواب: نعم، ولا بأس بذلك، والدَّليلُ فِعْلُ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه قرأ: {{إِذَا زُلْزِلَتِ}} في الرَّكعتين جميعاً كرَّرها[(138)].

لكن؛ قد يقول قائل: لعلَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نَسِيَ؛ لأنَّ مِن عادته أنه لا يُكرِّر السُّورة.

والجواب عن هذا: أن يُقال: احتمالُ النسيانِ وارد، ولكن احتمال التشريع ـ أي: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كرَّرها تشريعاً للأمة ليبيِّن أن ذلك جائز ـ يُرجَّح على احتمالِ النسيان؛ لأنَّ الأصلَ في فِعْلِ الرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ التشريعُ، وأنه لو كان ناسياً لَنُبِّهَ عليه، وهذا الأخيرُ ـ أي: أنَّ ذلك مِن باب التشريع ـ أحوطُ وأقربُ إلى الصَّوابِ.

تتمة : في تنكيس السُّور، والآيات، والكلمات، والحروف.

أما تنكيس الحروف؛ بمعنى: أن تكون الكلمة مشتملة على ثلاثة أحرف؛ فيبدؤها الإِنسان مِن آخرها مثلاً، فهذا لا شكَّ في تحريمه، وأنَّ الصَّلاةَ تبطلُ به؛ لأنه أخرج القرآنَ عن الوجه الذي تكلَّم الله به، كما أن الغالب أنَّ المعنى يختلفُ اختلافاً كبيراً.

وأما تنكيس الكلمات؛ أي: يبدأ بكلمة قبل الأُخرى، مثل: أن يقول: الحمد لربِّ العالمين، الله الرحمن الرحيم. فهذا أيضاً محرَّم بلا شكٍّ؛ لأنه إخراجٌ لكلامِ الله عن الوجه الذي تكلَّم اللَّهُ به. وتبطلُ به الصَّلاةُ.

وأما تنكيس الآيات أيضاً؛ فمحرَّم على القول الرَّاجح؛ لأن ترتيب الآيات توقيفي، ومعنى توقيفي: أنه يُتوقَّفُ فيه على ما وَرَدَ به الشَّرعُ. ولهذا تَجِدُ أحياناً بعضَ الآيات بين آيات لا يَظهرُ لك تَعَلُّقُها بها، أو مقدَّماً على ما سَبَقَه في النُّزول مما يدلُّ على أن الأمر توقيفي مثل: قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}} [البقرة: 234] وقوله: {{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَِزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}} الآية [البقرة: 240] .

الأولى: سابقة بالقراءة.

والثانية: أسبق نزولاً، ولو كان التَّرتيبُ غيرَ توقيفي؛ لكان على حسب النُّزولِ.

ومثال الأول: قوله تعالى: {{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ *فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ *}} [البقرة] الآية فإنَّ هاتين الآيتين كانتا بين آيات المعتدات، وهذا دليلٌ على أنَّ ترتيب الآيات توقيفي.

وأما تنكيس السُّور؛ فيُكره، وقيل: يجوز.

أما الذين قالوا بالجواز فاستدلُّوا: بحديث حذيفة بن اليمان الذي في «صحيح مسلم» أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قامَ مِن اللَّيلِ فقرأَ بسورةِ البقرةِ، ثم بالنِّساءِ، ثم آل عمران[(139)]، وهذا على غير التَّرتيبِ المعروف، قالوا: وفِعْلُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم دليلٌ على الجواز.

وأما الذين قالوا بالكراهة، فقالوا: إنَّ الصَّحابةَ رضي الله عنهم وَضَعُوا المُصحفَ الإِمام ـ الذي يكادون يجمعون عليه ـ في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وَضَعوه على هذا التَّرتيب[(140)]، فلا ينبغي الخروجُ عن إجماعهم، أو عمَّا يكون كالإِجماع منهم؛ لأنَّهم سلفُنا وقدوتُنا، وهو من سُنَّة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد أُمِرْنَا باتِّباعِه. ولأنه قد يكون فيه تشويشٌ على العامة، وتَنَقُّصٌ لكلام الله عزّ وجل إذا رأوا أنَّ النَّاسَ يقدِّمون، ويؤخِّرون فيه.

ولكن؛ القول بالكراهة قولٌ وسطٌ، فيقال: إنَّ الصحابةَ لم يجمعوا على هذا الترتيب، فإن في مصاحف بعضِهم ما يخالف هذا التَّرتيب كمصحف ابن مسعود رضي الله عنه، وأما قراءة النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في حديث حذيفة «النساء» قبل «آل عمران» فهذا ـ لعلَّه ـ قبل العرضة الأخيرة؛ لأنَّ جبريلَ كان يُعارِضُ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم القرآن في كُلِّ رمضان[(141)]، فيكون ما اتَّفق عليه الصحابةُ أو ما كادوا يتَّفقون عليه هو الذي استقرَّ عليه الأمر، ولا سيما وأنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرُنُ بين البقرة وآل عمران[(142)]، مما يدلُّ على أنهما قرينتان، فيكون تقديمه للنساء في حديث حذيفة قبل الترتيب الأخير.

والحق: أن الترتيب بين السُّور منه توقيفي، ومنه اجتهادي، فما وَرَدَتْ به السُّنَّةُ كالترتيب بين «الجُمعة» و«المنافقين»، وبين «سَبِّحِ» و«الغاشية» فهو على سبيل التوقيف؛ فالنبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قرأَ «الجمعة» قبل «المنافقين»[(143)].

وقرأ «سَبِّح» قبل «الغاشية»[(144)] فهذا على سبيل الترتيب التوقيفي، وما لم تَرِدْ به السُّنَّةُ فهو اجتهادٌ من الصَّحابةِ، والغالب أنَّ الاجتهادَ، إذا كان معه الأكثر أقربُ للصَّوابِ.

 

وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِقِرَاءَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ..........

قوله: «ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان» .

قوله: «الصلاة» : عامة تشمَلُ الفريضةَ والنافلةَ.

قوله: «لا تَصِحُّ» نفيُ الصِّحَّة يقتضي الفساد، فإذا قرأ بقراءة خارجة عن مصحف عثمان فصلاتُه فاسدة على كلام المؤلِّف.

وما المرادُ بالصحَّة إذا قال العلماء: تصحُّ، أو: لا تصحُّ؟

قال العلماء: الصَّحيح: ما سقطَ به الطَّلبُ وبَرئت به الذِّمةُ. والفاسد: ما ليس كذلك. فإذا فَعَلَ الإِنسانُ عبادة ولم يسقطِ الطلبُ بها عنه لاختلال شرط، أو وجود مفسد، قلنا: إنها فاسدة.

وإذا فَعَلَ عبادةً وسقط بها الطلبُ، وبرئت بها الذِّمةُ، قلنا: إنَّها صحيحةٌ.

وقوله: «بقراءة خارجة عن مصحف عثمان» . مصحف عثمان رضي الله عنه هو الذي جَمَعَ الناسَ عليه في خلافته، وذلك أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم تُوفِّيَ والقرآن لم يُجمعْ، بل كان في صُدورِ الرِّجال، وفي عُسُبِ النَّخْل، وفي اللِّخَافِ «الحجارة البيضاء الرهيفة» وما أشبه ذلك، ثم جُمِعَ في خلافة أبي بكر رضي الله عنه حين استحرَّ القتلُ بالقُرَّاء في اليَمامةِ[(145)]، ثم جُمِعَ في عهدِ عُثمان رضي الله عنه[(146)].

وسبب جمعه: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ القرآنَ أُنزِلَ على سبعةِ أحرفٍ»[(147)] فكان النَّاس يقرأون بهذه الأحرف، وقد اختلفت لهجاتُ النَّاسِ؛ فصار فيه خلافٌ في الأجناد؛ الذين يقاتلون في أطراف المملكة الإِسلامية، فخشيَ بعضُ القُوَّادِ من الفتنة، فكتبوا إلى عثمان رضي الله عنه في ذلك؛ فاستشار الصحابةَ بجَمْعِ القراءات، على حرفٍ واحد، يعني على لغة واحدة وهي لغة قريش[(148)]، واختارها؛ لأنها أشرف اللغات، حيث إنَّها لغةُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وهي أعربُ اللُّغاتِ أيضاً، يعني: أنها أرسخها في العربية، فَجَمَعَ المصاحفَ كلَّها على مصحفٍ واحدٍ وأحرقَ ما سواها، فاجتمعت الأمةُ على هذا المصحف، ونُقِلَ إلينا نقلاً متواتراً، ينقله الأصاغرُ عن الأكابرِ، ولم تختلف فيه الأيدي ولا النَّقَلَةُ، بل هو محفوظٌ بحفظِ الله عزّ وجل إلى يوم القيامة.

لكن؛ هناك قراءات خارجة عن هذا المصحف الذي أَمَرَ عثمان بجَمْعِ المصاحف عليه، وهذه القراءات صحيحة ثابتة عمَّن قرأ بها عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، لكنها تُعَدُّ عند القُرَّاء شاذَّة اصطلاحاً، وإنْ كانت صَحيحةً.

وقد اختلف العلماءُ رحمهم الله في هذه القِراءةِ الشاذَّةِ في أمرين:

الأمر الأول: هل تجوزُ القراءة بها داخل الصَّلاة وخارجها، أو لا تجوز؟

الأمر الثاني: هل هي حُجَّة في الحُكْمِ، أو ليست بحُجَّة؟ فمنهم من قال: إنها ليست بحُجَّة، ومنهم من قال: إنها حُجَّة.

وأصحُّ الأقوال: أنه إذا صحَّت هذه القراءة عَمَّن قرأ بها مِن الصَّحابة فإنها مرفوعةٌ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتكون حُجَّةً، وتصحُّ القراءةُ بها في الصَّلاة وخارج الصَّلاة؛ لأنها صحَّت موصولةً إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

لكن؛ لا نقرأ بها أمامَ العامَّة؛ لأننا إذا قرأنا بها أمامَ العامَّة حصل بذلك فتنةٌ وتشويشٌ، وقِلَّةُ اطمئنان إلى القرآن الكريم، وقِلَّةُ ثقةٍ به، وهذا لا شَكَّ أنه مؤثِّرٌ ربما على العقيدة فضلاً عن العمل، لكن الكلام فيما بين الإِنسان وبين نفسِه، أو فيما بينه وبين طَلَبَةِ العِلم الذين يفهمون حقيقة هذا الأمر.

فإن قال قائل: إذا صحَّت القراءةُ، وصحَّحتُم الصَّلاةَ والقراءةَ بها، وأثبتم الأحكامَ بها، فلماذا لا تقرأونها على العامَّة؟

فالجواب أنَّ هديَ الصَّحابة رضي الله عنهم ألا تُحدِّثَ النَّاسَ بحديث لا تبلغه عقولُهم، كما في حديث عليٍّ رضي الله عنه: «حَدِّثوا النَّاس بما يعرفون ـ أي: بما يمكن أن يعرفوه ويهضموه وتبلغه عقولُهم ـ أتحبُّونَ أن يُكذَّبَ اللَّهُ ورسولُه؟»[(149)] لأنَّ العاميَّ إذا جاءه أمرٌ غريبٌ عليه نَفَرَ وكَذَّبَ، وقال: هذا شيء مُحَال. وقال ابنُ مسعود: «إنك لا تُحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولُهم إلا كان لبعضهم فتنة»[(150)] وصَدَقَ رضي الله عنه، فلهذا نحن لا نحدِّثُ العامة بشيء لا تبلغه عقولُهم؛ لئلا تحصُلَ الفتنة ويتضرَّرَ في عقيدته وفي عَمَلِهِ.

ومِن ذلك أيضاً: ما يكثُر السُّؤال عنه من بعض الطَّلبة، وهو: أنه ثَبَتَ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه لما قرأ قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *}} [النساء] أنَّه وَضَعَ إبهامَه وسبَّابته على أُذُنِهِ وعلى عينِهِ[(151)]. فقال: هل يجوز أن أفعل مثل هذا؟

فجوابنا على هذا أنْ نقول: لا تفعلْه أمامَ العامَّة؛ لأن العامَّة ربَّما ينتقلون بسرعة إلى اعتقادِ المشابهة والمماثلة؛ بخلاف طالب العلم، ثم هذا فِعْلٌ مِن الرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وليس أمراً، لم يقل: ضعوا أصابعكم على أعينكم وآذانكم، حتى نقول: لا بُدَّ مِن تنفيذِ أمْرِ الرَّسول، بل قَصَدَ بهذا تحقيق السَّمع والبصر، لا التعبُّد في ذلك فيما يظهر لنا، فلماذا نلزم أنفسنا ونكرِّر السؤال عن هذا من أجل أن نقوله أمام العامَّة؟

فالحاصلُ: أنه ينبغي لطالب العِلم أن يكون معلِّماً مربيًّا، والشيءُ الذي يُخشى منه الفتنة؛ وليس أمراً لازماً لا بُدَّ منه؛ ينبغي له أن يتجنَّبه.

وأشدُّ مِن ذلك ما يفعله بعضُ النَّاسِ، حين يسوق حديث: «إن قلوبَ بني آدم بين أصبعين مِن أصابعِ الرَّحمن»[(152)] فيذهب يُمثِّل ذلك بضمِّ بعض أصابعه إلى بعض، مُمَثِّلاً بذلك كون القلب بين أصبعين من أصابع الله، وهذه جرأة عظيمة، وافتراءٌ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لم يمثِّل بذلك. وما الذي أدرى هذا المسكين المُمثِّلُ أن كون القلوب بين أصبعين من أصابع الله على هذا الوصف؟ فليتَّقِ الله ربَّه ولا يتجاوز ما جاء به القرآنُ والحديثُ.

يقول المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ: لو قرأ بقراءةٍ خارجةٍ عن مصحف عثمان لم تصحَّ الصَّلاة.

مثال ذلك: قوله تعالى في آيةِ كَفَّارةِ اليمين: {{الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}} [المائدة: 89] في قراءة ابن مسعود: «فمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيامٍ مُتَتَابِعَةٍ»[(153)].

فلو قرأ الإِنسانُ في الصَّلاة «فصيامُ ثَلاثَةِ أيامٍ مُتَتَابِعَةٍ» بطلتْ صلاتُهُ على هذا القول.

قالوا: لأن هذه الكلمة ليست مِن كلامِ الله حُكماً، وإن كانت قد تكون مِن كلام الله حقيقة، لكنَّنَا لا نعتبرها حكماً مِن كلامِ الله، فتكون مِن كلام الآدميين، وقد قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يصلحُ فيها شيءٌ مِن كلامِ النَّاسِ»[(154)].

ولكن هذا القول إذا تأمَّلته وجدته ضعيفاً، وكيف تكون مِن كلام الآدميين وقد صَحَّ أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ بها؟ ولا سيَّما قراءة ابن مسعود، الذي قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من سَرَّه أن يقرأ القرآنَ غَضًّا كما أُنزل ـ وفي لفظٍ: طريًّا كما أُنزل ـ فليقرأ بقراءة ابنِ أمِّ عَبْدٍ»[(155)]

يعني: قراءة ابن مسعود.

فقراءة أوصى بها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم كيف يقول قائل ـ بعد صحَّتها وثبوتها عن ابن مسعود ـ: إنَّ الصَّلاةَ لا تصحُّ بها؟

 

ثُمَّ يَرْكَعُ مُكَبِّراً ............

قوله: «ثم يركع مكبِّراً» . أي: بعد القراءة يركع مكبِّراً، وقوله: «ثم يركع» نقول فيها مثل ما قلنا في «ثم يقرأ بعد الفاتحة» أنها للترتيب والتراخي، فينبغي قبل أن يركع أن يسكت سكوتاً؛ لكنه ليس سكوتاً طويلاً، بل بقَدْرِ ما يرتدُّ إليه نَفَسُه، فإن ذلك قد جاء في حديث سَمُرَة بن جُندب رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسكتُ سكتتين: إذا دَخَلَ في الصَّلاةِ، وإذا فَرَغَ مِن قراءة فاتحةِ الكتابِ وسورة عند الرُّكوعِ. فأنكر ذلك عليه عمران بن حصين! فكتبوا إلى أُبَيٍّ في ذلك إلى المدينة. قال: فَصَدَقَ سَمُرة[(156)].

وقوله: «يركع» الركوع: هو الانحناء، والانحناء في الظَّهْرِ، وهذا الرُّكوع المقصودُ به تعظيم الله عزّ وجل، فإنَّ هذه الهيئة مِن هيئات التَّعظيم؛ ولذلك كان النَّاسُ يفعلونها أمام الملوك والكبراء والسَّادة ينحنون لهم ورُبَّما يركعون، ورُبَّما يسجدون والعياذ بالله، فالرُّكوعُ هيئةٌ تدلُّ على تعظيم الرَّاكعِ بين يدي مَنْ رَكَعَ له، ولهذا قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «أما الرُّكوع فَعَظِّموا فيه الربَّ عزّ وجل»[(157)] ليجتمع فيه التعظيم القولي والتعظيم الفِعلي.

وقوله: «مكبِّراً» حال من فاعل «يركع» حال مقارنة، يعني: في حال هويه إلى الرُّكوعِ يكبِّرُ فلا يبدأ قبل، ولا يؤخِّره حتى يَصِل إلى الرُّكوعِ، أي: يجب أن يكون التَّكبيرُ فيما بين الانتقالِ والانتهاءِ، حتى قال الفقهاءُ رحمهم الله: «لو بدأ بالتَّكبير قبل أن يهويَ، أو أتمَّهُ بعد أن يَصِلَ إلى الرُّكوع؛ فإنه لا يجزئه». لأنهم يقولون: إنَّ هذا تكبيرٌ في الانتقال فمحلُّه ما بين الرُّكنين، فإنْ أدخلَه في الرُّكن الأول لم يصحَّ، وإن أدخله في الرُّكن الثاني لم يصحَّ؛ لأنه مكان لا يُشرع فيه هذا الذِّكرُ، فالقيامُ لا يُشرع فيه التَّكبيرُ، والرُّكوع لا يُشرع فيه التكبيرُ، إنما التكبيرُ بين القيام وبين الرُّكوعِ.

ولا شَكَّ أن هذا القولَ له وجهة مِن النَّظر؛ لأن التَّكبيرَ علامةٌ على الانتقالِ؛ فينبغي أن يكون في حالِ الانتقال.

ولكن؛ القول بأنه إن كمَّلَه بعد وصول الرُّكوع، أو بدأ به قبل الانحناء يُبطلُ الصَّلاةَ فيه مشقَّةٌ على النَّاس، لأنك لو تأملت أحوال الناس اليوم لوجدت كثيراً مِن النَّاسِ لا يعملون بهذا، فمنهم من يكبِّرُ قبل أن يتحرَّك بالهوي، ومنهم مَن يَصِلُ إلى الرُّكوعِ قبل أن يُكمل.

والغريب أن بعض الأئمة الجُهَّالِ اجتهد اجتهاداً خاطئاً وقال: لا أكبِّرُ حتى أصل إلى الرُّكوع، قال: لأنني لو كبَّرت قبل أن أَصِلَ إلى الرُّكوع لسابقني المأمومون، فيهوُون قبل أن أَصِلَ إلى الرُّكوع، وربما وصلوا إلى الرُّكوع قبل أنْ أَصِلَ إليه، وهذا مِن غرائب الاجتهاد؛ أن تُفسد عبادتك على قول بعض العلماء؛ لتصحيح عبادة غيرك؛ الذي ليس مأموراً بأن يسابقك، بل أُمر بمتابعتك.

ولهذا نقول: هذا اجتهادٌ في غير محلِّه، ونُسمِّي المجتهدَ هذا الاجتهاد: «جاهلاً جهلاً مركَّباً»؛ لأنه جَهِلَ، وجَهِلَ أنه جاهلٌ.

إذاً؛ نقول: كَبِّرْ مِن حين أن تهويَ، واحرصْ على أن ينتهي قبل أن تَصِلَ إلى الرُّكوع، ولكن لو وصلت إلى الرُّكوع قبل أن تنتهي فلا حرجَ عليك، والقولُ بأن الصَّلاةَ تفسدُ بذلك حَرَج، ولا يمكن أن يُعملَ به إلا بمشقَّةٍ.

فالصوابُ: أنه إذا ابتدأ التَّكبيرَ قبل الهوي إِلى الرُّكوعِ، وأتمَّه بعدَه فلا حرج، ولو ابتدأه حين الهوي، وأتمَّه بعد وصولِهِ إلى الرُّكوعِ فلا حَرَجَ، لكن الأفضل أن يكون فيما بين الرُّكنين بحسب الإمكان. وهكذا يُقال في: «سمعَ الله لمن حمده» وجميعِ تكبيرات الانتقال. أمَّا لو لم يبتدئ إلا بعد الوصول إلى الرُّكن الذي يليه، فإنه لا يعتدُّ به.

 

رَافِعاً يَدَيْهِ،............

قوله: «رافعاً يديه» أي: إلى حَذوِ مَنكبيه، أو إلى فُروع أُذنيه كما سبق عند تكبيرة الإِحرام[(158)]. ويرفع يديه إذا أراد أن يركع، ثم يضعهما على رُكبتيه، ودليل ذلك: حديث ابن عُمر أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «كان يرفعُ يديه إذا كَبَّرَ للرُّكوعِ» والحديث ثابت في «الصحيحين» وغيرهما[(159)].

قوله: «ويضعهما على رُكبتيه» «ويضعهما» أي: اليدين، والمراد باليدين هنا: الكَفَّان؛ لأنه سبق لنا بيان قاعدة: أنَّ اليدَ إذا أُطلقت فهي الكَفُّ. ودليل هذه القاعدة: أنَّ الله لما أراد ما زَادَ عن الكَفِّ بَيَّنه في قوله تعالى: {{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}} الآية [المائدة: 6] .

ولهذا يُقطع السارق مِن مفصل الكَفِّ؛ لقوله تعالى: {{فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}} الآية [المائدة: 38] ولا يُقطع من المِرفق؛ لأن الله لو أرادَ ذلك لقيَّده.

 

وَيَضَعُهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مُفَرَّجَتَيْ الأَصَابِع،............

وقوله: «يضعهما على رُكبتيه» هذا هو السُّنَّة، وهي السُّنَّة الأخيرة، وقد كانت السُّنَّة قبل ذلك التطبيق، وهي: أن يضعَ المصلِّي بطن كَفِّه على بطن كَفِّه الأُخرى، ثم يضعهما بين رُكبتيه أو فخذيه، ثم نُسِخَ هذا بعد ذلك، كما في «صحيح مسلم»[(160)]، وقد كان عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه يَعملُ بذلك؛ لأنه لم يبلغه الناسخ[(161)].

وعلى هذا؛ فيضعُ الكفَّين على الرُّكبتين معتمداً عليهما؛ وليس مجرد لَمْسٍ.

قوله: «مفرَّجتي الأصابع» يعني: لا مضمومة بل مفرَّجة؛ كأنه قابض رُكبتيه، كما جاءت بذلك السُّنَّة[(162)].

 

مُسْتَوِياً ظَهْرُهُ، وَيَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ»،..........

قوله: «مستوياً ظهره» . الاستواء: يشمل استواء الظهر في المَدِّ، واستواءه في العلوِّ والنزول، يعني لا يقوِّس ظهره، ولا يهصره حتى ينزل وسطه، ولا ينزل مقدم ظهره، بل يكون ظهره مستوياً، وقد جاء ذلك عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان إذا ركع لم يُشْخِصْ رأسه ولم يُصَوِّبْهُ»[(163)] لم يُشْخِصْه يعني: لم يرفعه، ولم يُصوِّبْه: لم ينزله، ولكن بين ذلك.

وجاء فيما رواه الإِمام أحمد أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «كان يسوِّي ظهره»[(164)] وجاء عنه أيضاً: «أنه كان يُسوِّيه، حتى لو صُبَّ عليه الماء لاستقرَّ»[(165)] وهذا يدلُّ على كمالِ التَّسوية، فيكون الظَّهرُ والرأسُ سواء، ويكون الظَّهرُ ممدوداً مستوياً.

وينبغي كذلك أن يفرِّج يديه عن جنبيه، ولكنه مشروط بما إذا لم يكن فيه أذيَّة، فإنْ كان فيه أذيَّة لِمَن كان إلى جنبه؛ فإنه لا ينبغي للإِنسان أن يفعل سُنَّة يؤذي بها غيره؛ لأن الأذية فيها تشويش على المصلِّي إلى جنبه وتلبيس عليه، ثم إنه يُخشى أن يكون ذلك داخلاً في قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *}} [الأحزاب] فإنَّ هذا يشمَل الأذى القولي والفِعلي.

والواجبُ مِن الرُّكوع: أن ينحني بحيث يكون إلى الرُّكوع التَّامِّ أقربَ منه إلى الوقوفِ التَّامِّ، يعني: بحيث يعرف مَن يراه أنَّ هذا الرَّجُلَ راكعٌ. هكذا قال بعض العلماء[(166)].

والمشهور من المذهب (166) : أنه ينحني بحيث يمكن أن يَمَسَّ رُكبتيه بيديه إذا كان وسطاً، يعني: إذا كانت يداه ليستا طويلتين ولا قصيرتين، لكن القول الأول أظهر.

قوله: «ويقول: سبحان رَبِّيَ العظيم» أي: يقول في ركوعه: «سبحان رَبِّي العظيم»، سبحان: اسم مصدر منصوب على المفعولية المطلقة دائماً، محذوف العامل دائماً أيضاً، ومعنى التسبيح: التنزيه، والذي يُنزَّه الله عنه أمور:

أحدها: مطلق النقص.

والثاني: النقص في كمالِهِ.

والثالث: وقد يكون مِن الثاني ـ مماثلة المخلوقين. فهذه ثلاثة أشياء يُنزَّه اللهُ عنها.

أمَّا الأول: فيُنزَّه عزّ وجل عن الجهلِ، والعجزِ، والضَّعفِ، والموتِ، والنومِ وما أشبه ذلك.

أمَّا الثاني: فيُنزَّه عن التَّعبِ فيما يفعله، كما في قوله تعالى: {{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ *}} [ق] فالقُدْرَة والخلق لا شَكَّ أنها كمال، لكن قد يعتريها النقص بالنسبة للمخلوق، فالمخلوق قد يصنع باباً، وقد يصنع قِدْراً، وقد يبني بناءً، ولكن مع التعب والإِعياء، فيكون هذا نقصاً في الكمال. أمَّا الرَبُّ عزّ وجل؛ فإنَّه لا يلحقُه تعبٌ ولا إعياءٌ، حتى مع خَلْقِهِ لهذه المخلوقات العظيمة السماوات والأرض، وفي هذه المدَّة الوجيزة.

وأما الثالث: مماثلة المخلوقين، فإن مماثلة المخلوقين نقصٌ؛ لأن إلحاق الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، بل مقارنة الكامل بالناقص يجعله ناقصاً كما قيل:

ألم تَرَ أنَّ السَّيفَ ينقصُ قَدْرُه

إذا قيل: إنَّ السيفَ أمضى مِن العَصَا

لأنك لو قلت: عندي سيف حديد قويٌ أمضى مِن العصا. فسيفهم الناس مِن هذا السيف أنه ضعيف؛ لأن قولك: «أمضى مِن العصا» معناه: أنه ليس بشيء.

وقوله: «رَبِّي العظيم» . العظيم في ذاتِهِ وصفاتِهِ، فإنه سبحانه وتعالى في ذاته أعظم مِن كلِّ شيء، قال الله تعالى: {{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ *}} [الأنبياء] .

وطَيُّ السِّجِلِّ للكُتُب سهل جدًّا، إذا كَتَبَ الإِنسانُ وثيقةً فطيُّها عنده سهل، وقال عزّ وجل: {{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *}} [الزمر] .

وما السماوات السبع والأرضون السبع في كَفِّ الرحمن إلا كخَرْدَلة في كَفِّ أحدنا.

وأمَّا عِظَمُ صفاته فلا تسأل عنها، ما من صفة من صفاته إلا وهي عُظمى كما قال الله تعالى: {{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}} [النحل: 60] .

إذاً؛ أنت تُنزِّه الله سبحانه وتعالى، وتصفه بعد تنزيهه بأمرين كماليين كاملين وهما: الربوبية والعظمة، فيجتمع مِن هذا الذِّكرِ: التَّنزيه والتَّعظيم.

والتَّنزيه والتَّعظيم باللسان تعظيم قوليٌّ، وبالرُّكوع تعظيم فعليٌّ، فيكون الراكع جامعاً بين التعظيمين: القوليّ والفعليّ.

ولهذا قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «ألا وإنِّي نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرَّب»[(167)].

ولما كان القرآنُ أشرفَ الذِّكْرِ؛ لم يُناسبْ أن يقرأه الإِنسانُ وهو في هذا الانحناء، بل يُقرأ في حال القيام.

وقوله: «يقول: سبحان ربِّيَ العظيم» .

لم يذكر المؤلِّفُ كم يقول ذلك، ولكن سيأتينا إنْ شاءَ اللهُ تعالى في ذِكْرِ واجبات الصَّلاةِ أنَّ الواجبَ مرَّة، وما زاد فهو سُنَّة[(168)].

وظاهرُ قولِ المؤلِّفِ: أنَّه لا يزيد عليها شيئاً، فلا يقول: «وبحمدِه» وهذا هو المشهور مِن المذهب[(169)]، وهو أن الاقتصار على قول: «سبحان ربي العظيم» أفضل من أن يزيد قوله: «وبحمدِه».

ولكن الصَّحيح أنَّ المشروعَ أن يقولَ أحياناً: «وبحمدِه»؛ لأنَّ ذلك قد جاءت به السُّنَّةُ[(170)]. وقد نَصَّ الإِمام أحمد رحمه الله أنه يقول هذا وهذا؛ لورود السُّنَّةِ به، فيقتصر أحياناً على: «سبحان رَبِّيَ العظيم»، وأحياناً يزيد: «وبحمدِه»[(171)].

وظاهر كلامه أيضاً: أنه لا يقول: «سبحانك اللَّهُمَّ رَبَّنا وبحمدِك، اللهم اغفِرْ لي» ولكن السُّنَّةُ قول ذلك؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقوله كما في حديث عائشة رضي الله عنها[(172)].

وكذلك أيضاً ظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يقول: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكة والرُّوحِ»، ولكن السُّنَّةُ قد جاءت به وصحَّت عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم[(173)]. فعلى هذا يزيد: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكةِ والرُّوحِ»، ولكن هل يقول هذه الزِّيادة الأخيرة دائماً بالإِضافة إلى: «سبحان رَبِّيَ العظيم» و«سبحانك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبحمدك» أو أحياناً؟

هذا محلُّ احتمال، وقد سبق أن الاستفتاحات الواردة لا تُقال جميعاً، إنما يُقال بعضها أحياناً وبعضها أحياناً[(174)]، وبيَّنا دليل ذلك، لكن أذكار الرُّكوع المعروفة تُقال جميعاً عند عامَّة العلماء.

 

ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ قَائلاً إِمَامٌ وَمُنْفَرِدٌ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه».

قوله: «ثم يرفع رأسه» مراده: يرفعُ رأسَه وظهرَه، لأنَّ المؤلِّفَ قال: «ثم يركع» والرُّكوع هو انحناء الظَّهر.

قوله: «ويديه» أي: ويرفع يديه، والمراد إلى حذو منكبيه، كما سَبَقَ في رفعهما عند تكبيرة الإحرام.

ورفعهما هنا سُنَّة ثَبَتَت في حديث ابنِ عُمر رضي الله عنهما الثابت في «الصحيحين» وغيرهما أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «كان يرفعُ يديه إذا كَبَّرَ للرُّكوعِ، وإذا رَفَعَ مِن الرُّكوعِ»[(175)].

قوله: «قائلاً إمام ومنفرد: سَمِع الله لمن حمده» . «قائلاً» حال من فاعل «يرفع» إذاً؛ فيكون القول في حال الرَّفْعِ، ويكون هذا الذِّكْرُ «سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه» مِن أذكار الرَّفْعِ، فلا يُقال قبل الرَّفْعِ، ولا يُؤخَّر لما بعدَه، ويُقال في هذا ما قيل في التكبير للرُّكوعِ، فمن العلماء من قال: يجب أن يكون قوله: «سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه» ما بين النهوض إلى الاعتدال، فإن قاله قبل أن ينهض، أو أخَّرَ بعضه، أو كلَّه حتى اعتدل فلا عِبْرة به.

لكن؛ سَبَقَ لنا أن الأمر في هذا واسعٌ، وأنه لا ينبغي إلحاق الحَرَجِ بالنَّاسِ في هذا الأمر[(176)].

قوله: «إمام ومنفرد» خَرَجَ به المأمومُ، وسيأتي الكلامُ عليه إن شاء الله.

وقوله: «سَمِعَ اللهُ لمن حَمِدَه» : سمع: مِن المعروف أنَّها تتعدَّى بنفسها كما قال تعالى: {{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}} [المجادلة: 1] وهنا تعدَّت باللام، ولا يمكن أن نقول: إنَّ تعديتها باللام مِن أجل ضَعْفِ العامل، لأن العامل هنا فِعْلٌ، وهو الأصل في العمل، ولكن نقول: تعدَّت باللام؛ لأنها ضُمِّنت معنى فعل يُعدَّى باللام.

وأقربُ فِعْلٍ يتناسب مع هذا الفعل «استجاب» قال الله تعالى: {{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}} الآية [آل عمران: 195] وعلى هذا؛ فمعنى «سَمِعَ» أي: استجابَ، وهذا هو المراد بدلالة اللفظ ودلالة المقام عليه.

أما دلالة اللفظ: فهو تعدِّي الفعل باللام.

وأما دلالة المقام: فلأن مجرَّدَ السَّمْعِ لا يستفيدُ منه الحامدُ، إنَّما يستفيد بالاستجابة، فإن الله يسمعُ مَنْ يحمدُه، ومَنْ لم يحمدْه.

وقوله: «سمع الله لمن حمده» سَبَقَ أنَّ «الحَمْد» هو: وَصْفُ المحمود بالكمال مع المحبَّة والتَّعظيم[(177)].

ولكن قد يقول قائل: كيف تقولون بأن «سَمِعَ» بمعنى: استجاب، والحمد ليس فيه دعاء؟

الجواب على ذلك: أن نقول: إنَّ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ، فإنه قد دعا رَبَّه بلسان الحال؛ لأن الذي يحمَدُ اللهَ يرجو الثَّوابَ، فإذا كان يرجو الثَّوابَ فإن الثناء على الله بالحَمْد والذِّكر والتكبير متضمِّنٌ للدُّعاء؛ لأنه لم يَحمَدِ الله إلا رجاءَ الثَّوابِ، فيكون قولنا: «استجاب»؛ مناسباً تماماً لذلك.

وقوله: «سمع الله لمن حمده» لا بُدَّ أن يكون بهذا اللفظ، فلو قال: استجاب الله لمن أثنى عليه فلا يصحُّ؛ لأن هذا ذِكْرٌ واجبٌ، فيُقتصرُ فيه على الوارد، ولا بُدَّ أن يكون على هذا الترتيب: «سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه» فلو قال: اللهُ سَمِعَ لمن حَمِدَه، لم يصحَّ، ولو قال: لمَن حَمِدَه سَمِعَ اللهُ، لم يصحَّ أيضاً؛ لأن السُّنَّة وردت هكذا، وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»[(178)] ولأنه ذِكْرٌ واجبٌ فوجب الاقتصار فيه على الوارد.

 

وَبَعْدَ قِيَامِهِمَا: «رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، مِلْءَ السَماء، ومِلْءَ الأَرْض، ومِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ»...........

قوله: «وبعد قيامهما ربَّنا ولك الحمد، ملءَ السماء، وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيء بعد» .

الضمير: يعودُ على الإِمامِ والمنفرد، أي: بعد قيامهما يقولان: ربَّنا ولك الحمدُ، ملءَ السماء، وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت مِن شيءٍ بعدُ.

ولم يذكر المؤلِّف غير هذه الصيغة: «ربنا ولك الحمد» فهل هذا يقتضي أن تكون هي الواجبة؟ يحتمل أن يكون هذا، ويحتمل أن المؤلِّف اقتصر على هذه الصيغة طلباً للاختصار، وعلى كلٍّ؛ فهذه الصيغة لها أربع صفات:

الصفة الأولى: رَبَّنا ولك الحمدُ[(179)].

الصفة الثانية: رَبَّنا لك الحمدُ[(180)].

الصفة الثالثة: اللَّهُمَّ رَبَّنا لك الحمدُ[(181)].

الصفة الرابعة: اللَّهُمَّ رَبَّنا ولك الحمدُ[(182)].

وكلُّ واحدة من هذه الصِّفات مجزئة، ولكن الأفضل أن يقول هذا أحياناً، وهذا أحياناً، على القاعدة التي قرَّرناها فيما سبق، مِن أنَّ العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة الأفضلُ فيها فِعْلُها على هذه الوجوه. وذكرنا أن في ذلك ثلاث فوائد[(183)] وهي:

1 ـ المحافظة على السُّنَّة.

2 ـ اتِّباع السُّنَّة.

3 ـ حضور القلب.

لأنَّ الإِنسانَ إذا صار مستمرًّا على صيغة واحدة؛ صار كالآلة يقولها وهو لا يشعر، فإذا كان يُغيِّرُ، يقول هذا أحياناً، وهذا أحياناً؛ صار ذلك أدعى لحضور قلبه.

وقوله: «سمع الله لمن حمده» وبعد قيامهما: «ربَّنا ولك الحمد».

الحمدُ: وصف المحمود بالكمال مع المحبَّة والتَّعظيم، فيُقال: حَمِدَ فلانٌ رَبَّه، أي: وَصَفَه بصفات الكمال مع محبَّته وتعظيمه، وأنه ذو احترام في قلبه. قال ابن القيم: وبهذا يُعرف الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمدح؛ فإنَّ المدحَ: وَصْفُ الممدوح بالكمال، أو بالصِّفات الحميدة، لكن لا يلزم منه أن يكون محبوباً معظَّماً، فقد يمدحُه مِن أجل أن ينالَ غَرَضاً له، وقد يمدحُه مِن أجل أن يتَّقي شَرَّه، لكن؛ الحمدُ لا يكون إلا مع محبَّةٍ وتعظيمٍ. وبهذا نعرف قوَّةَ سِرِّ اللغةِ العربيةِ، حيث إن الحروف واحدة هنا «حمد» و«مدح» لكن لما اختلف ترتيب الحروف اختلف المعنى.

وأمَّا من عَرَّفَ «الحَمْدَ» بأنه: الثناء بالجميل الاختياري، فهذا قاصر:

أولاً: لأن الثناء أخصُّ من المدح؛ لأن الثناء هو مدحٌ مكرَّر كما جاء في الحديث القدسي الصحيح: «أن الإِنسان إذا قال: الحمد لله رَبِّ العالمين، قال الله: حَمِدَني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى عَليَّ عبدي»[(184)] ففرَّقَ اللهُ سبحانه وتعالى بين الحَمْدِ والثناء.

ثانياً: أنه بالجميل الاختياري يخرجُ الحَمْدُ على كمال الصِّفات اللازمة؛ التي لا تتعدَّى كالعظمة والكبرياء، وما أشبه ذلك، والله تعالى محمود على صفات الكمال اللازمة، وصفات الكمال المتعدية، فهو محمودٌ على كمالِهِ ومحمودٌ على إحسانِهِ سبحانه وتعالى.

وقوله: «ملءَ السماء، وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيء بعد» . ملءَ: صفة لموصوف محذوف؛ والتقدير: حمداً ملء، وحمداً المحذوفة منصوبة على المصدر، والعامل فيها المصدر في قوله: «رَبَّنَا ولك الحمدُ».

وقوله: «ملءَ السماء» هكذا قال المؤلِّف بلفظ الإِفراد، وأكثرُ الرِّوايات الواردة في هذا عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الجمع «مِلءَ السماواتِ ومِلءَ الأرضِ»[(185)] وفي روايةٍ لمسلم: «مِلءَ السماء»[(186)] وقوله: «مِلءَ الأرض»، جاء بها مفردة؛ لأن هذا هو التعبير القرآني، فالله سبحانه وتعالى في القرآن يعبِّر عن الأرض بالإِفراد، وعن السماوات بالجمع غالباً.

وقوله: «ملءَ السماء والأرض» . قال بعضُ أهل العِلم[(187)]: معناه أنه لو كان الحَمْدُ أجساماً لملأ السَّماءَ والأرضَ، فيكون ملأهما بالحجم.

ولكن؛ الصحيحُ خِلافُ ذلك، وأن معنى قوله: مِلءَ السَّماءِ: هو أنَّ الله سبحانه وتعالى محمودٌ على كلِّ مخلوق يخلُقُه، وعلى كلِّ فِعْلٍ يفعلُهُ. ومعلومٌ أن السماواتِ والأرضَ بما فيها كلُّها مِن خَلْقِ الله، فيكون الحمدُ حينئذٍ مالئاً للسماوات والأرض؛ لأن المخلوقات تملأ السَّماواتِ والأرضَ. وهذا أَولى؛ لأن الإِنسانَ يستحضرُ به أنَّ الله محمودٌ على كلِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ، وعلى كُلِّ خَلْقٍ خَلَقَهُ. أمَّا أن يُقدَّر أنه أجسامٌ متراكمة فهذه أيضاً تختلف؛ لأن الأجسامَ قد تكون صغيرة وقد تكون كبيرة، ومعلومٌ الفَرْقَ بين ما مُلِئ بأجسام صغيرة، وما مُلِئ بأجسامٍ كبيرة؛ لأن ما مُلِئ بأجسام كبيرة في الغالب يكون فيه فراغات، وقَدِّرْ ذلك بصاع مِن الأقط المقروص الذي جُعل كالقُرصان، وصاعٍ من الرُّزِّ تجد الفراغات الكثيرة في الأول دون الثاني.

وقوله: «وملء ما شئت من شيء بعد» تحتمل معنيين:

أحدهما: أن يُراد بذلك ما سِوَى السَّماواتِ والأرضِ مما لا نعلمُه.

والثاني: أن يُراد بذلك ما يشاؤه تعالى بعد فناء السَّماءِ والأرضِ. والأول أشمل.

تنبيه: في بعض روايات مسلم: «وملءَ ما بينهما». والأكثر على حَذْفِها، وإنْ أتى بها أحياناً فَحَسنٌ.

 

ومَأْمُومٌ فِي رَفْعِهِ: «رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ فَقَطْ»............

قوله: «ومأموم في رفعه» ، أي: أنَّ المأمومَ يقول في حال الرَّفْعِ: «رَبَّنا ولك الحمدُ» أما الإِمامُ والمنفردُ فيقول في رَفْعِهِ: «سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه».

قوله: «فقط» بمعنى: فحسب، يعني: لا يزيد على ذلك، فيقتصر على ذلك ويقفُ ساكتاً، والدَّليلُ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قال الإِمامُ: سَمِعَ اللهُ لمن حِمِدَه؛ فقولوا: ربَّنا ولك الحمدُ»[(188)]. ولكن عند التأمل نجد أنَّ هذا القولَ ضعيفٌ، وأنَّ الحديثَ لا يدلُّ عليه، وأنَّ المأموم ينبغي أن يقول كما يقول الإِمامُ والمنفردُ، يعني: يقول بعد رَفْعِهِ: «مِلءَ السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد» وذلك لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قال الإِمام: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربَّنا ولك الحمدُ» فَجَعَلَ قولَ المأموم: «رَبَّنا ولك الحمدُ» معادلاً لقول الإمام: «سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه»، والإِمام يقول: «سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه» في حال الرَّفْعِ، فيكون المأموم في حال الرَّفْعِ يقول: «رَبَّنا ولك الحمدُ»، أما بعد القيام فيقول: «مِلءَ السماوات...» إلخ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»[(189)] وهذا هو القول الرَّاجح في هذه المسألة.

وعُلِمَ مِن كلام المؤلِّف: أنَّ المأمومَ لا يقول: «سَمِعَ اللهِ لمَن حَمِدَه» وهو كذلك.

فإذا قال قائل: ما الجوابُ عن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»، وقد كان يقول: «سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه» فيقتضي أنَّ المأمومَ يقول ذلك؟.

فالجوابُ على هذا سهلٌ: وهو أن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي» عامٌ، وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإذا قال: سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه»، فقولوا: «رَبَّنا ولك الحمدُ» فهذا خاصٌّ، والخاصُّ يقضي على العامِّ، فيكون المأموم مُستثنى مِن هذا العموم بالنسبة لقول: «سَمِعَ الله لمَن حَمِدَه» فإنه يقول: رَبَّنا ولك الحمدُ.

وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنَّه لا يزيدُ على هذا الذِّكر بعد القيام مِن الرُّكوع، ولكن الصَّحيح أنه يزيد ما جاءت به السُّنَّةُ مثل: «أهلَ الثناءِ والمَجْدِ، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلُّنا لك عَبدٌ، اللَّهُمَّ لا مانِعَ لِمَا أعطِيتَ، ولا مُعطيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ»[(190)].

وعلى هذا، فالظَّاهرُ: أنَّ المؤلِّف حذفَ هذه الجملةَ اقتصاراً أو اختصاراً، إن كان اختصاراً فالمعنى: أن المؤلِّف اقتصر على بعض الذِّكر الوارد، وإذا كان اقتصاراً فالمعنى: أن المؤلِّفَ يرى ألا يقول سواها، بل يقتصر على هذا. ولكن الذي يظهر أنه حذفها اقتصاراً؛ لأن المقام مقام ذِكْرٍ، والذِّكرُ ينبغي أن يُذكر كلُّ ما فيه؛ إلا أن يدَّعي مُدَّعٍ أن المؤلِّف رأى أنَّ هذا الكتابَ مختصرٌ فاختصرَ.

تتمة: لم يذكر المؤلِّفُ رحمه الله ماذا يصنع بيديه بعد الرَّفع من الرُّكوع، هل يعيدهما على ما كانتا عليه قبل الرُّكوعِ؛ فيضعُ يدَه اليُمنى على ذراعه اليُسرى، أو يرسلهما؟

والمنصوص عن الإِمام أحمد رحمه الله: أن الإِنسان يُخيَّر بين إرسالهما، وبين وَضْعِ اليد اليُمنى على اليُسرى. وكأن الإِمام أحمد رحمه الله رأى ذلك؛ لأنه ليس في السُّنَّة ما هو صريح في هذا، فرأى أنَّ الإِنسان مخيَّرٌ. وهذا كما يقول بعض العلماء في مثل هذه المسألة: الأمرُ في ذلك واسع. ولكن الذي يظهر أن السُّنَّة وَضْعُ اليد اليُمنى على ذراع اليُسرى؛ لعموم حديث سهل بن سعد الثابت في «صحيح البخاري»: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرَّجُل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة»[(191)] فإنك إذا نظرتَ لعموم هذا الحديث: «في الصَّلاة» ولم يقل في القيام تبيَّن لك أن القيام بعد الرُّكوع يُشرع فيه الوضع، لأن الصَّلاةَ اليدان فيها حال الركوع: تكونان على الرُّكبتين، وفي حال السُّجودِ: على الأرض، وفي حال الجلوس: على الفخذين، وفي حال القيام ـ ويشمل ما قبل الرُّكوعِ وما بعدَ الرُّكوعِ ـ يَضَعَ الإِنسانُ يدَه اليُمنى على ذراعِهِ اليُسرى، وهذا هو الصحيح.

 

ثُمَّ يَخِرُّ مُكَبِّراً ساجداً.............

قوله: «ثم يخرُّ مكبِّراً ساجداً» . «ثم» حرف عطف يفيدُ الترتيب والتَّراخي، ولم يبيِّن المؤلِّفُ رحمه الله مقدار هذا التَّراخي، ولكن قد دلَّت السُّنَّةُ مِن حديث البراء بن عازب وغيره أن هذا القيام ـ أعني الاعتدال بعد الرُّكوع ـ يكون بمقدار الرُّكوع تقريباً، فقد قال البراء بن عازب رضي الله عنه: «رَمَقْتُ الصَّلاةَ مع محمد صلّى الله عليه وسلّم فوجدت قيامَهُ فركعَتَه، فاعتدَالَه بعد رُكُوعه، فسجدَتَهُ، فجلسَتَهُ بين السَّجدتين، فسجدَتَه، فجلسَتَه ما بين التسليم والانصراف قريباً من السَّواء»[(192)].

وعلى هذا؛ فالسُّنَّة الواردةُ عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام إطالة هذا الرُّكن أعني: ما بين الرُّكوعِ والسُّجودِ خلافاً لمن كان يُسرعُ فيه، بل لمن كان لا يطمئنُّ فيه، كما نشاهدُه من بعض المصلِّين، من حين أن يرفعَ من الرُّكوع يسجد، فالذي يفعل هذا ـ أي: لا يطمئنُّ بعد الرُّكوع ـ صلاتُه باطلة؛ لأنه تَرَكَ رُكناً مِن أركان الصَّلاةِ. وقد رأى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلاً يُصلِّي ولا يطمئنُّ، فَصلَّى الرَّجُلُ ثلاث مرَّات، وكلُّها يقول فيها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعْ فصلِّ فإنك لم تُصلِّ»[(193)].

والآفةُ التي جاءت المسلمين في هذا الرُّكن: القيام بعد الرُّكوعِ، وفي الرُّكن الذي بين السجدتين كما يقول شيخ الإِسلام: إنَّ هذا من بعض أمراء بني أميَّة، فإنهم كانوا لا يطيلون هذين الرُّكنين، والنَّاسُ على دين ملوكهم، فتلقّى النَّاسُ عنهم التَّخفيفَ في هذين الرُّكنين فظنَّ كثيرٌ من النَّاسِ أنَّ ذلك هو السُّنَّة، فماتت السُّنَّةُ حتى صار إظهارُها من المنكر، أو يكاد يكون منكراً، حتى إن الإِنسان إذا أطال فيهما ظَنَّ الظَّانُّ أنه قد نسيَ أو وَهِمَ.

وبناءً على ذلك؛ في صلاة الكُسوف يُطيل الرُّكوع إطالةً طويلةً، فإذا رَفَعَ من الرُّكوع الثاني فإنه ـ أيضاً ـ يُطيل القيام نحواً من الرُّكوع، ولكن ماذا يقول؟

إنْ كان يعرف ما وَرَدَ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في هذا المقام قاله، وإن كان لا يعرفُ كرَّرَ الحمدَ، لأن هذا الرُّكن ذِكْرُه الحَمْدُ من حين الرَّفْع، ولو قلت: «لربِّي الحَمْد»[(194)]، «رَبِّي ولك الحَمْد» وما أشبه ذلك من الكلمات كفى.

وقوله: «ثم يَخِرُّ مكبِّراً ساجداً» . «مكبراً» حال من فاعل «يَخِرُّ» والحال الأصل فيها أنها مقارنة للفعل، فإذا قلت مثلاً: جاء زيدٌ راكباً، فركوبُه حين مجيئه، فيكون التَّكبير إذاً حالَ الخُرور من القيام إلى السُّجودِ، وكذلك جميع تكبيرات الانتقال، محلُّها ما بين الرُّكنِ الذي انتقلتَ منه، والرُّكن الذي انتقلتَ إليه، وقد سبق لنا البحث في هذا.

ولم يذكر المؤلِّفُ رحمه الله رَفْعَ اليدين، فهل هذا مِن باب الاختصار، أو الاقتصار، أو العمد؟

الجواب: الثالث من باب العَمْد؛ لأن رَفْعَ اليدين عند السُّجودِ ليس بسُنَّة، فقد ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عُمرَ رضي الله عنهما ـ وهو مِن أشدِّ النَّاسِ حِرصاً على السُّنَّةِ، وأضبط النَّاسِ لها ـ أنه ذكر «أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم كان يرفع يديه إذا كَبَّرَ للإِحرام، وإذا كَبَّرَ للرُّكوع، وإذا رَفَعَ من الرُّكوع قال: وكان لا يفعل ذلك في السُّجودِ»[(195)] يعني: لا إذا سَجَدَ، ولا إذا قام من السُّجودِ. والرَّجُلُ قد ضَبَطَ وفَصَّلَ وبَيَّنَ، وليس هذا من باب النفي المجرَّد، هذا نفيٌ يدلُّ على إثبات تَرْكِ الفعل؛ لأن الرَّجُلَ قد تحرَّى الصَّلاةَ وضَبَطَ تكبيرَه ورَفْعَه عند الدُّخول في الصَّلاةِ، وعند الرُّكوع، وعند الرَّفع منه، فأثبت التَّكبيرَ والرَّفْعَ في ثلاثة مواضع، ونَفَى الرَّفعَ في السُّجود وعند القيام من السُّجود. وعلى هذا؛ فليس من السُّنَّة أن يرفعَ يديه إذا سَجَدَ.

وقد رُويَ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه كان يرفع يديه في كلِّ خَفْضٍ ورَفْعٍ. ولكن الحافظ ابن القيم[(196)] رحمه الله ذكر أن هذا وَهْمٌ، وأن صواب الحديث: «كان يكبِّرُ في كلِّ خَفْضٍ ورَفْعٍ»[(197)] ووَجْهُ الوَهْمِ فيه حديثُ ابن عُمر؛ فإنه صريحٌ بعدم الرَّفْعِ عند السُّجودِ، وعند الرَّفْعِ من السُّجودِ، وليس هذا من باب تعارض مثبت ومنفي؛ حتى نقول بالقاعدة المشهورة: إن المثبتَ مقدَّم على النَّافي؛ لأنَّ النفي هنا في قوة الإِثبات، فإنه رَجُلٌ يحكي عن عَمَلٍ واحد فَصَّلَه، قال: هذا فيه كذا وأثبته، وهذا ليس فيه كذا ونَفَاه، وفَرْقُ بين النَّفْي المطلق وبين النَّفْي المقرون بالتفصيل، فإن النَّفْيِ المقرون بالتفصيل دليلٌ على أن صاحبَه قد ضَبَطَ حتى وصل إلى هذه الحال، عرف ما ثبت فيه الرَّفْعُ وما لم يثبت فيه الرَّفْعُ، وعلى هذا فنقول: إن حديث ابن عُمرَ الثابتَ في «الصحيحين» مقدَّمٌ على ذلك الحديث الضَّعيف، والوهم فيه قريب.

فإذا قال قائل: ما الفَرْقُ بين الهوي للرُّكوعِ والهوي للسُّجودِ، أليس كلٌّ منهما انتقالاً من أعلى إلى أسفل؟

فالجواب: بلى، ولكن العبادات مبنيَّة على التوقيف، فلا قياس فيها، ولو دخل القياس في صفات العبادات، وما أشبهها لضاع انضباطُ النَّاسِ، ولصار كلُّ إنسان يقيس على ما يريد، أو على ما يظنُّ أن القياسَ فيه تامُّ الأركان، ويضيع الاتفاق بين الأمة في عبادتهم التي يتقرَّبون بها إلى الله عزّ وجل.

وقوله: «ساجداً» . حال من فاعل «يَخِرُّ» ولكنها حالٌ لاحقة؛ لأن هذه الحال ـ أعني: السجود ـ لا تكون في حال الخُرور، ولكنها تكون بعد انتهاء الخُرور، فهي حالٌ لاحقة، والسُّجود بحيث تتساوى أطرافه العليا والسُّفلى، فلو فُرض أنه سَجَدَ على شيء مرتفع منزلق، وصار إلى القعود أقرب منه إلى السجود، فإن ذلك لا يُعَدُّ سجوداً، فلا بُدَّ من تساوي الأعالي والأسافل، أو على الأقل أن يكون إلى السُّجودِ التام أقربَ منه إلى الجلوس التام؛ فيما لو كانت الأرض متصاعدة.

 

عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاء: رِجْلَيْهِ، ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَبْهَتِهِ مَعَ أَنْفِهِ

قوله: «على سبعة أعضاء: رجليه، ثم ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته مع أنفه» .

قال: «سبعة أعضاء» وبيَّنها قال: رجليه، ثم ركبتيه، ـ أربعة.

ثم يديه ـ ستة.

ثم جبهته مع أنفه ـ سبعة.

والواقع أن الجبهة والأنف ليسا شيئاً واحداً، لكن الرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ألحق الأنفَ بالجبهة إلحاقاً، والدَّليل على ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أُمِرْتُ أن أسجُدَ على سَبْعَة أعظُم: على الجبهة ـ وأشار بيده على أنفه ـ، واليدين، والرُّكبتين، وأطراف القدمين، ولا نَكْفِتَ الثِّيابَ والشَّعْرَ»[(198)] وهنا لو كان الأنفُ من الجبهة حكماً وحقيقةً ما أشار إليه، ولو كان عضواً مستقلاً لنصَّ عليه، وجَعَله مستقلاً، فكانت الأعضاءُ ثمانية. إذاً فهو تابع، فهو من الجبهة حُكماً لا حقيقة، ولهذا أشار إليه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إشارة.

وقوله: «ثم يديه» أي: كفَّيه، كما في الحديث؛ لأن اليَد عند الإِطلاق هي الكفُّ فقط، كما في قوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}} الآية [المائدة: 38] ، وقوله تعالى: {{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}} الآية [المائدة: 6] ، فالمراد باليدين في الآيتين الكفُّ، ولهذا يُقطع السارقُ مِن مفصلِ الكفِّ، وفي التيمم أرى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عمارَ بن ياسر كيف مَسْح اليدين، فمسحَ ظاهرَ كفَّيه، ومسحَ الشمالَ على اليمين[(199)].

إذاً؛ كلامُ المؤلِّف لا يُعارِض الحديثَ، لأن اليدين عند الإِطلاق يُراد بهما الكفُّ، وأما إذا قُيِّدت اليدُ فعلى حسب ما قُيِّدت به، كما في قوله تعالى: {{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}} الآية [المائدة: 6] .

وقوله: «ثم جبهته مع أنفه» لم يقل: جبهته وأنفه، أو ثم أنفه، بل قال: «مع» إشارة إلى أنَّ الأنفَ تابعٌ مصاحبٌ وهو كذلك.

وبقي علينا نَظَرٌ آخر في هذه العبارة، فقوله: «على سبعة أعضاء،... رجليه» أليس هو قائماً على رجليه مِن الأصل؟

الجواب: أنه رُبَّما يرفعهما إذا سَجَدَ، ولهذا نصَّ عليهما حتى لا يرفعهما.

وقوله: «ثم ركبتيه، ثم يديه» أفادنا المؤلِّفُ بالنصِّ الصَّريح أنَّ الرُّكبتين مقدمتان على اليدين في السُّجود، كما ذَهَبَ إليه عُمرُ بنُ الخطَّاب[(200)] رضي الله عنه، وعامةُ أهلِ العِلم؛ ومنهم الأئمةُ الثلاثةُ: أحمدُ وأبو حنيفة والشافعيُّ، وهذا مقتضى النصِّ المرويِّ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم من فِعْلِه، والذي ثبت عنه أو كاد يثبت من قوله، وأيضاً: هو مقتضى النظر.

أمَّا أنه مقتضى النصِّ المرويِّ من فِعْلِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فلأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رُوي عنه أنَّه كان إذا سَجَدَ بدأ بركبتيه قبل يديه.[(201)] لكن هذا الحديث طَعَنَ فيه كثيرٌ من أهلِ العِلم، وقالوا: إنه ضعيف.

وأما أنَّه ثَبَتَ عنه من قوله، أو كاد يثبت؛ فلحديث أبي هريرة، وهو قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إذا سَجَد أحدُكم فلا يَبْرُك كما يبرك البعيرُ»[(202)] فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يَبْرُكَ الرَّجلُ كما يَبْرُك البعيرُ، والبعيرُ إذا بَرَكَ يُقدِّم يديه، فيقدِّم مقدمه على مؤخره كما هو مشاهد، وقد ظَنَّ بعضُ أهل العِلم أن معنى قوله: «فلا يبرك كما يبرك البعير» يعني: فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير، وأنه نهى أن يبركَ الإِنسانُ على رُكبتيه، وعلى هذا؛ فيقدِّم يديه، ولكن بين اللفظين فَرْقاً واضحاً، فإنَّ النهيَ في قوله: «كما يبرك» نهيٌ عن الكيفية؛ لأن الكاف للتشبيه، ولو كان اللفظ: «فلا يبرك على ما يبرك» لكان نهياً على ما يسجد عليه، وعلى هذا؛ فلا يسجد على رُكبتيه؛ لأن البعير يبرك على ركبتيه، وعلى هذا فيقدِّم يديه.

وأما كونه مقتضى النظر: فلأن الوضعَ الطبيعيَّ للبدن أن ينزلَ شيئاً فشيئاً، كما أنه يقومُ مِن الأرض شيئاً فشيئاً، فإذا كان ينزلُ شيئاً فشيئاً، فالأسفلُ منه ينزل قبل الأعلى، وإذا قامَ شيئاً فشيئاً، فالأعلى يكون قبل الأسفل. وعلى هذا؛ فيكون هذا القول الذي عليه عامة أهل العِلم هو الموافق للمنقول والطبيعة، لكن مع ذلك لو أن إنساناً كان ثقيلاً، أو مريضاً، أو في ركبتيه ما يشقُّ عليه به السُّجودُ على الرُّكبتين، ففي هذه الحال لا بأس أن يُقدِّمَ اليدين، ويكون النَّهيُ ما لم يوجد سببٌ يقتضيه، فإن وُجِدَ سببٌ يقتضيه فإن هذا لا بأس به؛ لأن مبنى الدِّين الإسلامي ولله الحمد على اليسر والسهولة، ففي القرآن الكريم يقول الله تعالى: {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}} الآية [البقرة: 185] والإرادة هنا شرعية، يعني: أن الشَّرعَ هو التيسير، وفي السُّنَّة: «بُعثتُ بالحنيفية السَّمحة»[(203)] و«يسِّرُوا ولا تعسِّرُوا»[(204)]. فالمقصود الوصول إلى السجود، فإن تمكَّن الإنسانُ أن يأتيَ به على الوجهِ الأكملِ فهو أكملُ، وإنْ شَقَّ عليه فإنه يفعل ما تيسَّر.

ومِن العلماء مَن يقول: بل يسجدُ على يديه أولاً[(205)]، ظنًّا منه أن قوله: «فلا يبركْ كما يبركُ البعيرُ» يُراد به: فلا يبركْ على ما يَبركُ عليه البعيرُ، وقال: إن ركبتي البعير في يديه، وهذا صحيحٌ أنَّ ركبتي البعيرِ وكلُّ ذات أربع في اليدين، لكن الحديث لا يساعدُ لفظُه على هذا المعنى، وأما آخرُ الحديث المفرَّع على أوله وهو قوله: «وليضعْ يديه قبل ركبيته» ففيه انقلابٌ كما حقَّقه ابنُ القيم[(206)]؛ لأنه لو لم يكن فيه انقلابٌ لكان مناقضاً لأول الحديث، وكلامُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لا مناقضةَ فيه.

ومِن الإخوة المبتدئين مَن حاول أن يجمعَ بين الأمرين، فقال: لا أُنْزل أعالي بدني، ولا أسجدُ على الرُّكبتين، أجلسُ مستوفزاً، ثم أضعُ يدي على الأرض، ثم أرفعهما إلى الأمام، فنقول: مَنْ جاء بهذه الصِّفة؟!

فهذه الصِّفة ما قال بها أحدٌ مِن المتقدِّمين، والجَمْعُ بين النصوص في صفةٍ تُخالفُ ما تقتضيه النصوص، وتخرج عما قاله العلماءُ خطأ، ثم إن هذا فِعْلٌ يُخالف الطبيعةَ والجِبِلَّةَ، وكلُّ فِعْلٍ يُخالفُ الطبيعةَ والجِبِلَّةَ في الصَّلاةِ يحتاجُ إلى دليل، لأن الصَّلاة عبادةٌ كلَّها بأفعالها وأقوالها، وهذه قاعدةٌ أُحِبُّ أن يُنْتَبَه لها:

«كلُّ فِعْلٍ يُخالفُ مقتضى الطَّبيعةِ الحاصلةِ عند تنقلاتِ البَدَن يحتاجُ إلى دليلٍ على إثباته، ليكون مشروعاً».

وبناءً على ذلك نقول: الأصلُ وَضْعُ الأعضاء على ما هي عليه بمقتضى الطَّبيعةِ حتى يقوم دليلٌ على المخالفة، ولهذا لولا أنه وَرَدَ ما يدلُّ على تطابق الرِّجلين في السُّجُودِ[(207)]، لكنا نقول: إنَّ الإنسانَ يجعلها طبيعيتين، فإذا كانت الرُّكبتان متباعدتين فلتكن القدمان كذلك، لكن لمَّا وَرَدَ ما يدلُّ على أنه يلصَقُ بعضُها ببعض، خرجنا عن هذا الأصل، فكلُّ شيء لم ينقل عن عادة البدن؛ فإنه يبقى على ما هو عليه مِن عادة البدن.

 

وَلَوْ مَعَ حَائلٍ لَيْسَ مِنْ أَعْضَاءِ سُجُودِهِ ...........

قوله: «ولو مع حائلٍ ليسَ من أعضاءِ سجودِهِ» أي: يَسجُد على الأرض؛ ولو مع حائل ليس مِن أعضاء السُّجودِ. والحائل: يشمَلُ الثوبَ، والغُترةَ، والمشلحَ، وما كان مِن جنس الأرضِ، وما كان من غير جنسها فهو عامٌّ، لكن لا بُدَّ أن يكون طاهراً؛ لأنه لا يمكن السُّجود على النَّجِسِ؛ إذ إن مِن شرط الصَّلاةِ كما سَبَقَ اجتنابُ النجاسة[(208)].

قوله: «ليسَ من أعضاءِ سجودِهِ» أي: لا يجوز أن يسجد على حائلٍ من أعضاء السُّجود: بأن يضع جبهته على كفَّيه مثلاً، أو يضع يديه بعضهما على بعض، أو يضع رجليه بعضهما على بعض، لأنه إذا فَعَلَ ذلك فكأنما سَجَدَ على عضوٍ واحدٍ.

وقوله رحمه الله: «ولو مع حائلٍ ليسَ من أعضاءِ سجودِهِ» : لم يبيِّن حُكمَ السُّجودِ على حائلٍ إذا كان مِن غير أعضاء السُّجودِ، إنما بَيَّنَ أنَّ السجودَ يجزئُ مع الحائل، فما حُكم وَضْعِ الحائل؟

قال أهلُ العلم: إن الحائل ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون متَّصلاً بالمصلِّي، فهذا يُكره أن يسجدَ عليه إلا مِنْ حَاجةٍ مثل: الثَّوب الملبوس، والمشلح الملبوس، والغترة، وما أشبهها، ودليل ذلك:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كُنَّا نُصَلِّي مَع النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في شِدَّة الحَرِّ، فإذا لم يستطع أحدُنا أن يُمكِّنَ جبهتَه مِن الأرض؛ بَسَطَ ثوبَه فَسَجَدَ عليه»[(209)].

فقوله: «إذا لم يستطع أحدُنا أن يُمكِّنَ» دَلَّ على أنَّهم لا يفعلون ذلك مع الاستطاعة، ثم التعبير بـ«إذا لم يستطع»؛ يدلُّ على أنه مكروه، لا يُفعل إلا عند الحاجة.

القسم الثاني: أن يكون منفصلاً، فهذا لا بأس به ولا كراهة فيه؛ لأنه ثَبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه صَلَّى على الخُمْرَة[(210)].

والخُمْرة: عبارة عن خَصيف مِن النَّخْلِ، يسعُ جبهةَ المصلِّي وكفِّيه فقط، وعلى هذا فتكون الحوائل ثلاثة أقسام:

1 ـ قسم مِن أعضاء السُّجود، فهذا السُّجودُ عليه حرام، ولا يجزئ السُّجود.

2 ـ قسم من غير أعضاء السجود؛ لكنه متَّصل بالمصلِّي، فهذا مكروه، ولو فُعِلَ لأجزأ السُّجود؛ لكن مع الكراهة.

3 ـ قسم منفصل، فهذا لا بأس به، ولكن قال أهل العِلم: يُكره أن يخصَّ جبهته فقط بما يسجد عليه.

وعلَّلوا ذلك: بأن هذا يشابه فِعْلَ الرافضة في صلاتِهم، فإن الرافضة يتَّخذون هذا تديناً يُصلُّون على قطعة من المَدَر كالفخَّار يصنعونها مما يسمونه «النَّجف الأشرف»، يضعون الجبهة عليه فقط، ولهذا تَجِدُ عند أبواب مساجدهم «دواليب» ممتلئة من هذه الحجارة، فإذا أراد الإنسان أن يدخل المسجد أخذ حجارة ليسجد عليها، ومنهم من يفعل ذلك؛ لأنه يرى أنه لا يجوز السجود إلا على شيء من جنس الأرض، فلا يجوز السجود على الفراش ولو من خصيف النخل، مع أنه ثبت عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سجد على خصيف النخل، كما في حديث أنس حينما غَسَل للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم الحصير الذي اسْوَدَّ من طُولِ ما لُبِسَ وصَلَّى عليه صلّى الله عليه وسلّم[(211)].

والسُّجود على هذه الأعضاء السَّبعة واجب في كل حال السُّجود، بمعنى أنه لا يجوز أن يرفع عضواً من أعضائه حال سجوده، لا يداً، ولا رِجْلاً، ولا أنفاً، ولا جبهة، ولا شيئاً من هذه الأعضاء السبعة. فإن فَعَلَ؛ فإن كان في جميع حال السجود فلا شَكَّ أن سجوده لا يصحُّ؛ لأنه نقص عضواً من الأعضاء التي يجب أن يسجد عليها.

وأمَّا إن كان في أثناء السجود؛ بمعنى أن رَجُلاً حَكَّته رِجْلُهُ مثلاً فَحَكَّها بالرِّجْلِ الأخرى فهذا محلُّ نظر، قد يُقال: إنها لا تصحُّ صلاته لأنه تَرَكَ هذا الرُّكن في بعض السجود.

وقد يُقال: إنه يجزئه لأن العبرة بالأَعمِّ والأكثر، فإذا كان الأعمُّ والأكثر أنه ساجد على الأعضاء السبعة أجزأه، وعلى هذا فيكون الاحتياط: ألا يرفع شيئاً وليصبر حتى لو أصابته حِكة في يده مثلاً، أو في فخذه، أو في رِجْلِهِ فليصبر حتى يقومَ من السُّجود.

مسألة: إذا عَجَزَ عن السُّجود ببعض الأعضاء فماذا يصنع؟

الجواب: لدينا قاعدةٌ؛ وهي قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] .

وقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»[(212)]. فإذا قُدِّرَ أنَّ إحدى يديه جريحة، لا يستطيع أن يسجدَ عليها، فليسجدْ على بقية الأعضاء؛ لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] وإذا قُدِّر أنه قد عَمل عمليَّة في عينيه، وقيل له: لا تسجدْ على الأرض؛ فليومئ ما أمكنه، وليضع مِن أعضاء السجود ما أمكنه.

وأما قول بعض الفقهاء: من عَجَزَ عن السُّجودِ بالجبهة لم يلزمه بغيرها[(213)]، فهذا مُسلَّمٌ في بعض الأحوال، مُسَلَّم فيما إذا كان لا يستطيع أن ينحني؛ بحيث يكون إلى السُّجود التامِّ؛ أقرب منه إلى الاعتدال التامِّ، فهذا لا يلزمُه السُّجود. أما إذا كان يستطيع أن يومئ؛ بحيث يكون إلى السُّجود التامِّ؛ أقرب منه إلى الجلوس التامِّ، فهذا يلزمه أن يسجدَ ببقية الأعضاء؛ فيدنو من الأرضِ بِقَدْرِ ما يمكنه؛ ثم يضع يديه.

فإذا قال قائل: ما هو الدَّليل على هذا؟

فالجواب: أنَّ الدَّليل: أننا أمرنا بالسُّجودِ، وأمرنا أن نتَّقي الله ما استطعنا، فإذا كنا نستطيع أن نَقْرُبَ إلى السُّجودِ التامِّ وَجَبَ أن نَقْرُبَ؛ لأننا نكون كهيئة السَّاجدِ الذي رَفَعَ جبهته. أما إذا كُنَّا لا نستطيع أن ندنو إلى الأرض؛ بحيث نكون إلى السُّجودِ أقربَ؛ ففرضنا حينئذٍ الإيماء، فيومئ الإنسان ولا يلزمه أن يضع يديه أو ركبتيه على الأرض.

والحكمة مِن السُّجودِ: أنه مِن كمال التعبُّد لله والذُّلِّ له، فإن الإنسان يضع أشرف ما فيه وهو وجهه؛ بحذاء أسفل ما فيه وهو قدمه.

وأيضاً: يضعه على موطء الأقدام، يفعل كلَّ هذا تعبُّداً لله تعالى وتقرُّباً إليه.

ومِن أجل هذا التَّطامن والنزول الذي فَعَلَهُ لله تعالى صار أقرب ما يكون الإنسان من رَبِّه وهو ساجد، مع أنه لو قام لكان أعلى وأقرب، لكن لنزوله لله عزَّ وجلَّ صار أقرب إلى الله، «فما تواضعَ أحدٌ لله إلا رَفَعَهُ اللَّهُ»[(214)].

هذه هي الحكمة والسِّرُّ في هذا السجود العظيم، ولهذا ينبغي لنا أن تسجد قلوبُنا قبل أن تسجدَ جوارحنا؛ بأن يشعر الإنسان بهذا الذُّلِّ والتَّطامن والتواضع لله عزَّ وجلَّ، حتى يدرك لذَّةَ السُّجود وحلاوته، ويعرف أنَّه أقرب ما يكون إلى الله.

وهذا المعنى قد يغفل عنه أصحابُ الظَّواهر الذين يريدون أن يُجمِّلُوا الطاعات بظاهرها، وهم يُحمدون على هذا، ولا شَكَّ أنَّنا مأمورون أن نُجَمِّلَ الطاعات بظواهرها، بتمام الاتِّباعِ وكماله، لكن هناك شيءٌ آخر يَغْفُلُ عنه كثيرٌ من الناس؛ ويعتني به أربابُ السُّلوكِ، وهو تكميل الباطن؛ بحيث يركعُ القلبُ قبل رُكوع البدن، ويسجد قبل سجودِ البدن، ولكن قد يُقصِّر أربابُ السُّلوكِ الذين يعتنون بالبواطن في إصلاح الظواهر؛ فتجدهم يُخِلُّون كثيراً في إصلاح الظواهر، والكمال هو إصلاح الأمرين جميعاً؛ والعنايةُ بكمالهما جميعاً؛ بكمال البواطن وكمال الظواهر.

وإنِّي والله، وأشهد الله، أننا لو أقمنا الصَّلاةَ كما ينبغي؛ لكُنَّا كُلَّما خرجنا من صلاة؛ نخرج بإيمان جديد قوي؛ لأن الله يقول: {{اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}} الآية [العنكبوت: 45] .

لكن؛ نسألُ اللهَ أن يعاملنا بعفوه؛ ندخل فيها بقلب ونخرج بقلب، هو القلب الأول؛ لأننا لا نأتي بما ينبغي أن نأتيَ به مِن خضوع القلب وحضوره؛ وشعوره بهذه التنقُّلات؛ التي هي رياض متنوِّعة وأفعال مختلفة، وأقوال هي ما بين قراءة كلام الله عزَّ وجلَّ، وذكره وتعظيمه، وتكبيره ودعائه، والثناء عليه، ووصفه بأكمل الصفات «التحيات لله والصلوات... إلخ»، فهي رياض عظيمة، لكن فينا قصور مِن جهة مراعاة هذه الأسرار.

وقد وَرَدَ في الحديث: «إن الله حَرَّمَ على النَّار أن تأكل أثَرَ السُّجود»[(215)] فيمن يدخل النارَ من العُصاة؛ لأن عُصاةَ المؤمنين إذا لم يَتُبِ الله عليهم، ولم يكن لهم حسنات ترجح على سيئاتهم، فإنهم يُعذَّبون بالنار بقَدْرِ ذنوبهم؛ لكن أعضاء السُّجود محترمة لا تأكلها النار، ولا تؤثر فيها، ولهذا قال بعضهم:

يا ربِّ أعضاءَ السُّجودِ أعتقتَها

مِن فَضْلِكَ الوافي وأنت الباقي

والعتقُ يسري في الغني يا ذا الغنى

فامْنُنْ على الفاني بعتق الباقي

فتوسَّلَ إلى الله بعتق هذه الأعضاء إلى أن يعتق جميعَ البَدَنِ لسريان العتق إليه.

 

وَيُجَافِي عَضُدَيْه عَنْ جَنْبَيْه، وبَطْنهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَيُفَرِّقُ رُكْبَتَيْهِ،..........

قوله: «ويجافي عضديه عن جنبيه» . الفاعل المُصلِّي السَّاجد، يجافي عضديه عن جنبيه، يعني: يبعدهما؛ لأنه ثَبَتَ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه كان يفعل ذلك، حتى إنَّ الصحابة يرِقُّون له من شدَّة مجافاته صلوات الله وسلامه عليه[(216)]، وحتى إنه ليُرى بياضُ إبطه من شدَّة مجافاته[(217)]، وحتى إنه لو شاءت أن تمرَّ البَهْمَةُ ـ وهي صغار الغنم ـ من تحته لمرَّت من شدَّة مجافاته[(218)].

ويُسْتثنى من ذلك: ما إذا كان في الجماعة؛ وخشي أن يؤذي جاره، فإنه لا يُستحبُّ له؛ لأذيَّة جاره، وذلك لأن هذه المجافاة سُنَّةٌ، والإيذاء أقلُّ أحواله الكراهة، ولا يمكن أن يفعل شيء مكروه مؤذٍ لجاره مشوِّش عليه من أجل سُنَّة، ولهذا استثنى العلماء رحمهم الله ذلك، فقالوا: ما لم يؤذِ جاره، فإن آذى جاره فلا يفعل. ولكن اعلمْ أنك متى تركت السُّنَّةَ لدرء المفسدة ـ والله يعلم أنه لولا ذلك لفعلت ـ فإنه يكتب لك أجرها، فإن الرَّجُلَ إذا تَرَكَ العملَ لله عوَّضه الله عزَّ وجلَّ، بل حتى إذا تركه بغير اختياره، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مَرِضَ العبدُ، أو سافرَ، كُتِبَ له مثلُ ما كان يعملُ مقيماً صحيحاً»[(219)].

قوله: «وبطنَه عن فَخِذَيهِ» . أي: يرفعه عن فخذيه، وكذلك أيضاً يرفع الفخذين عن الساقين، فهذه ثلاثة أشياء:

1 ـ التَّجافي بالعَضُدين عن الجنبين.

2 ـ وبالبطن عن الفخذين.

3 ـ وبالفخذين عن السَّاقين.

ولهذا قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «اعتدلوا في السُّجود»[(220)] أي: اجعلوه سجوداً معتدلاً، لا تهصرون فينزل البطنُ على الفخذ، والفخذ على السَّاق، ولا تمتدُّون أيضاً؛ كما يفعل بعضُ الناس إذا سجد يمتدُّ حتى يَقْرُبَ من الانبطاح، فهذا لا شَكَّ أنه من البدع، وليس بسُنَّة، فما ثَبَتَ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا عن الصَّحابةِ ـ فيما نعلم ـ أن الإنسان يمدُّ ظهره في السُّجود، إنما مدُّ الظهر في حال الرُّكوع. أما السجود فإنه يرتفع ببطنه ولا يمدُّه.

قوله: «ويفرق ركبتيه» . أي: لا يضمُّ ركبتيه بعضهما إلى بعض، بل يفرِّقُهما، وأما القدمان فقد اختلف العلماءُ في ذلك:

فمِن العلماء من يقول: إنه يفرِّق قدميه أيضاً[(221)]، لأن القدمين تابعان للساقين والرُّكبتين، فإذا كانت السُّنَّة تفريق الرُّكبتين، فلتكن السُّنَّة أيضاً تفريق القدمين، حتى إن بعض الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قدَّروا ذلك بأن يكون بينهما مقدار شبر بالتفريق.

ولكن الذي يظهر مِن السُّنَّة: أن القدمين تكونان مرصوصتين، يعني: يرصُّ القدمين بعضهما ببعض، كما في «الصحيح» من حديث عائشة حين فَقَدَتِ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فوقعت يدُها على بطن قدميه ، وهما منصوبتان، وهو ساجد[(222)]. واليد الواحدة لا تقع على القدمين إلا في حال التَّراصِّ، وقد جاء ذلك أيضاً في «صحيح ابن خزيمة» في حديث عائشة المتقدِّم: «أنَّ الرسولَ صلّى الله عليه وسلّم كان رَاصًّا عقبيه»[(223)]. وعلى هذا؛ فالسُّنَّةُ في القدمين هو التَّراصُّ بخلاف الرُّكبتين واليدين.

ولم يذكرِ المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ هنا محلَّ اليدين، ولكنه ذَكَرَه في أول باب صفة الصلاة حين قال: «يرفع يديه حَذوَ منكبيه كالسُّجود»[(224)].

وعلى هذا؛ يكون موضع اليدين على حذاء المنكبين، وإن شاء قدَّمهما وجعلهما على حذاء الجبهة، أو فُروع الأذنين؛ لأن كلَّ هذا مما جاءت به السُّنَّةُ.

مسألة: لو طال السُّجودُ؛ بأن كان خلف إمامٍ يُطيلُ السُّجودَ، هل يضع ذراعيه على الأرض يتَّكئ على الأرض؟

نقول: لا يَتَّكئ على الأرض؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن ذلك قال: «اعتدلوا في السُّجود، ولا يبسط أحدُكم ذراعيه انبساط الكلبِ»[(225)] لكن قال العلماء رحمهم الله[(226)]: يعتمِدُ بمرفقيه على ركبتيه إذا شقَّ عليه طول السُّجود، وهذا إذا كان مع إمام، أما إذا كان يُصلِّي لنفسه؛ فإنه لا ينبغي له أن يكلِّف نفسه ويشقَّ عليها، بل إذا شَقَّ عليه وتعب فإنه يقوم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يَسَّر على عباده.

 

وَيَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى»،..............

قوله: «ويقول: سبحان ربي الأعلى» . أي: حال السُّجودِ يقول: «سبحان ربي الأعلى» وقد سَبَقَ معنى التسبيح، وما الذي يُسبَّح الله عنه، أي: يُنَزَّه عنه[(227)].

وأما قوله: «رَبِّي الأعلى» دون أن يقولَ رَبِّيَ العظيم؛ لأن ذِكْرَ علوِ الله هنا أنسب من ذكر العظمة، لأن الإنسان الآن أنزل ما يكون، لذا كان من المناسب أن يُثني على الله بالعلو، وانظر إلى الحكمة والمناسبة في هذه الأمور، كيف كان الصَّحابةُ في السفر إذا علوا شيئاً كَبَّروا، وإذا هبطوا وادياً سَبَّحوا[(228)]؛ لأن الإنسان إذا علا وارتفع قد يتعاظم في نفسه ويتكبَّر ويعلو، فمناسبٌ أن يقول: «الله أكبر» لِيُذكِّرَ نفسَه بكبرياء الله عزَّ وجلَّ، أما إذا نزل فإن النزول نقص، فكان ذِكْرُ التسبيح أَولى؛ لتنزيه الله عزَّ وجلَّ عن النقص الذي كان فيه الآن، فكان من المناسب أن يُذَكِّرَ الإنسانُ نفسَه بِمَنْ هو أعلى منها.

ونظير هذا من بعض الوجوه: أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان إذا رأى شيئاً يعجبه من الدنيا يقول: «لبيكَ، إنَّ العيشَ عيشُ الآخرة»[(229)] لأن الإنسان إذا رأى ما يعجبُه مِن الدُّنيا رُبَّما يلتفت إليه فيُعرض عن الله، فيقول: «لبيك» استجابةً لله عزَّ وجلَّ، ثم يوطِّنُ نفسه فيقول: «إنَّ العيشَ عيشُ الآخرة» فهذا العيش الذي يعجبك عيش زائل، والعيش حقيقة هو عيش الآخرة، ولهذا كان من السُّنَّة إذا رأى الإنسانُ ما يعجبُه في الدُّنيا أن يقول: «لبيك، إن العيشَ عيشُ الآخرة».

وما المراد بالعلو في قول: «سبحانَ ربِّيَ الأعلى» أعلوُّ المكان، أم علوُّ الصفة؟

الجواب: يشمَلُ الأمرين جميعاً، وهذا متفق عليه في فِطَرِ الناس؛ إلا مَن اجتالتْهُ الشياطين عن فطرته، فإن علوَّ الله عزَّ وجلَّ علو ذات، أمرٌ مفطور عليه الخلق، فلو أنك قلت للعامي: ماذا تريد بقولك «سبحان رَبِّيَ الأعلى»؟ لقال: أريد أنه فوق كلِّ شيءٍ، ولا يدري عن علوِّ الصِّفة، ومع ذلك فقد أنكر علوه في ذاته مَنْ أنكر ممن يستقبلون قبلتنا، ولا شَكَّ أنهم خالفوا الكتابَ والسُّنَّةَ وإجماعَ السَّلفِ والعقلَ والفطرةَ، ولو رجعوا إلى فِطَرهم لعلموا أن الإيمان بعلوِّ الله تعالى بذاته أمرٌ لا بُدَّ منه، ولا بُدَّ من الإقرار به، فهم عندما يصيبهم شيءٌ تنصرفُ قلوبُهم إلى السَّماء إلى العلوِّ.

وهم يقفون بعَرَفَة يدعون الله، فهل يرفعون أيديهم، أم ينزلوها إلى الأرض؟

ومن العجيب أنهم يرفعون أيديهم، ويدَّعون أنَّ الله في الأرض! نسأل الله العافية.

المهم أننا نشعر في قولنا: «سُبحانَ رَبِّيَ الأعلى» أنَّ اللَّهَ عَلِيٌّ في ذاته، وعَلِيٌّ في صفاته، بل هو أعلى مِنْ كلِّ شيء، والله تعالى وَصَفَ نفسَه أحياناً بالأعلى، وأحياناً بالعليِّ، لأن الوصفين ثابتان له: العلو، وكونه أعلى، كما أنه يوصف بأنه الكبير وأنه الأكبر، وبالعليم وبالأعلم. وصيغة التفضيل في هذه الأشياء على بابها، وليست بمعنى اسم الفاعل كما يدَّعيه بعض العلماء.

وفي قوله: «ويقول سبحان رَبِّي الأعلى» قد ذكرنا في أول باب صِفة الصَّلاةِ أنه لا بُدَّ من أن يُسمِعَ الإنسانُ نفسَه في كلِّ قولٍ واجب، وذكرنا أنَّ القولَ الرَّاجح أن ذلك ليس بشرط[(230)]، فالشرطُ أن يخرجَ الحروفَ مِن مخارجها سواءٌ أسْمَعَ نفسه أم لم يُسمعها.

ولم يذكرِ المؤلِّفُ هنا كم مرَّة يقولها؟ ولم يذكر هل يذكر معها غيرها؟ والسُّنَّة أن تُكرر ثلاث مرات، وأن يزيد معها ما جاءت به السُّنَّةُ أيضاً مثل: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكةِ والرُّوح»[(231)]، «سبحانك اللهمَّ رَبَّنا وبحمدك، اللهمَّ اغْفِرْ لي»[(232)]، لكن؛ عُذْرُ المؤلِّف أنه كتاب مختصر، فيقتصر المؤلِّف فيه على أدنى الكمال، أو أحياناً على أدنى الواجب.

 

ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّراً، وَيَجْلِسُ مُفْتَرِشاً يُسْرَاهُ، نَاصِباً يُمْنَاهُ .......

قوله: «ثم يرفع رأسه مكبِّراً» . أي: يرفعُ رأسَه وما يتبعه من اليدين «مكبِّراً» حال من فاعل «يرفع». وعلى هذا؛ فيكون التَّكبيرُ في حال الرَّفْعِ؛ لأن هذا التكبير تكبيرُ انتقال، وتكبيرات الانتقال كلُّها تكون ما بين الرُّكنين، لا يبدأ بها قبلُ، ولا يؤخِّرها إلى ما بعدُ؛ لأنه إنْ بدأها قبلُ أدخلها على أذكار الرُّكن الذي انتقلَ منه، وإن أخَّرها أدخلها على أذكار الرُّكن الذي انتقلَ إليه، فالسُّنَّةُ أن يكون التَّكبيرُ في حال الانتقال[(233)].

قوله: «ويجلس مفترشاً يسراه» . «يجلس»: أي: بعد السَّجدة الأُولى «مفترشاً يسراه» أي: يُسرى رِجليه، أي: جاعلاً إيَّاها كالفراش، والفراش يكون تحت الإنسان، أي: يضعها تحته مفترشاً لها لا جالساً على عقبيه، بل يفترشها، وعليه؛ فيكون ظهرُها إلى الأرض وبطنُها إلى أعلى.

قوله: «ناصباً يُمناه» . أي: جاعلها منتصبة، والمراد: القدم، وحينئذٍ لا بُدَّ أن يخرجها من يمينه، فتكون الرِّجلُ اليُمنى مخرجة من اليمين، واليسرى مُفتَرشةً، أي: أنه يجلس بين السَّجدتين هكذا، لا يجلس متورِّكاً وهذه الصفة متفق عليها.

وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يُسَنُّ في هذا الجلوس سوى هذه الصِّفَة. وذهب بعضُ أهل العلم[(234)] إلى أنه يجلس على عقبيه ناصباً قدميه.

واستدلُّوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إنَّ ذلك هو السُّنَّة»[(235)] ولكن المعروف عند أصحاب الإمام أحمد رحمه الله أن ذلك ليس مِن السُّنَّةِ؛ لأن أكثر الأحاديث الواردة عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم كُلّها تصف هذه الجلسة بالافتراش، ولا يبعد أن يكون ابن عباس رضي الله عنهما ذَكَرَ ما كان أولاً، فإن صفة الجلوس قد تكون كصفة الرُّكوعِ، وكان المسلمون في أول الأمر يركع الرَّجل فيضع يديه بين فخذيه، ولا يضعهما على الرُّكبتين، حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه تمسَّك بهذا[(236)] ويُسمَّى عندهم «التطبيق» ولم يعلم ابنُ مسعود بالسُّنَّة التي نسخت هذا الفعل، مع أنه منسوخٌ بلا شَكٍّ، صَحَّ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم هذا[(237)]، ففقهاؤنا رحمهم الله يرون أن هذه الجلسة ليس لها إلا صفة الافتراش فقط.

تنبيه: لم يذكر المؤلِّف ـ رحمه الله ـ أين يضع اليدين؟ وكيف تكونان؟ مع أنه من الأمر المهمِّ في هذه الجلسة، فلنبينه:

الصفة الأُولى: أن يضع يديه على فخذيه، وأطراف أصابعه عند ركبتيه[(238)].

الصفة الثانية: أنه يضع اليد اليُمنى على الرُّكبة، واليد اليُسرى يلقمها الرُّكبة كأنه قابض لها[(239)].

وأما كيف تكون اليدان:

أما بالنسبة لليُسرى: فتكون مبسوطة مضمومة الأصابع موجهة إلى القبلة، ويكون طرف المرفق عند طرف الفخذ، بمعنى: لا يُفرِّجها، بل يضمُّها إلى الفخذ.

أما اليمين: فإن السُّنَّة تدلُّ على أنه يقبض منها الخنصر والبنصر، ويُحَلِّقُ الإبهام مع الوسطى، ويرفع السَّبَّابة، ويُحرِّكُها عند الدُّعاء. هكذا جاء فيما رواه الإمام أحمد من حديث وائل بن حُجْر[(240)] بسند قال فيه صاحب «الفتح الرباني»: «إنه جيد»[(241)]. وقال فيه المحشِّي على «زاد المعاد»: إنه صحيح، وإلى هذا ذهب ابنُ القيم رحمه الله[(242)].

أما الفقهاء: فيرون أن اليد اليُمنى تكون مبسوطة في الجلسة بين السجدتين كاليد اليُسرى[(243)]، ولكن اتِّباعُ السُّنَّة أَولى، ولم يَرِدْ في السُّنَّة لا في حديث صحيح، ولا ضعيف، ولا حَسَن أن اليد اليُمنى تكون مبسوطة على الرِّجْلِ اليُمنى، إنما وَرَدَ أنها تُقبض، يقبض الخنصر والبنصر، ويُحلِّق الإِبهام مع الوسطى[(244)]، أو تضم الوسطى أيضاً، ويضم إليها الإبهام إذا جلس في الصَّلاة[(245)]، هكذا جاء عامًّا، وفي بعض الألفاظ: «إذا جلس في التشهُّد»[(246)] وكلاهما في «صحيح مسلم»، فنحن إذا أخذنا كلمة «إذا جلس في الصلاة» قلنا: هذا عام في جميع الجلسات، وقوله: «إذا جلس في التشهد» في بعض الألفاظ لا يدلُّ على التخصيص؛ لأن لدينا قاعدة ذكرها الأصوليون، وممن كان يذكرها دائماً الشوكاني في «نيل الأوطار» والشنقيطي في «أضواء البيان» أنه إذا ذُكِرَ بعضُ أفراد العام بحكم يُطابق العام، فإن ذلك لا يَدلُّ على التَّخصيص، إنما التخصيص أن يُذكر بعضُ أفراد العام بحكم يُخالف العام.

مثال الأول: قلت لك: أكرمِ الطَّلبةَ، هذا عام يشمل كلَّ طالب، ثم قلت: أكرم فلاناً وهو من الطلبة، فهل يقتضي هذا ألاَّ أُكْرِمَ سواه؟ الجواب: لا، لكن يقتضي أن هناك عناية به من أجلها خَصَّصْتُهُ بالذِّكر.

ومثال الثاني: أكرمِ الطَّلبةَ، ثم قلت: لا تكرم فلاناً وهو من الطلبة، فهذا تخصيص؛ لأنني في الأول ذكرت فلاناً بحكم يوافق العام لدخوله في العموم، وهنا ذكرته بحكم يخالف العام، ولهذا يقولون في تعريف التَّخصيص: تخصيص بعض أفراد العام بحكم مخالف. أو: إخراج بعض أفراد العام من الحكم. فلا بُدَّ أن يكون مخالفاً، أما إذا كان موافقاً فإن جمهور الأصوليين كما حكاه صاحب «أضواء البيان» يرون أنه لا يفيد التَّخصيص، وهو ظاهر كما في المثال الذي ذكرناه. وعلى هذا فيكون بعض ألفاظ حديث ابن عمر الذي خَصَّ القبض بالتشهد[(247)] لا يقتضي التخصيص من بعضِ ألفاظه الدَّالة على العموم. أمَّا الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فقالوا: في هذه الجلسة يبسط يده اليُمنى كما يبسط يده اليُسرى، وبناءً على كلام الفقهاء: تكون كلُّ جلسة من جلسات الصلاة مخالفة للأخرى من أجل التمييز.

فالجلسة بين السَّجدتين: افتراش مع كون اليدين مبسوطتين.

وفي التشهد الأول: افتراش لكن اليُمنى تقبض.

وفي التشهد الأخير: تَورُّك، وإن كان يوافق التشهد الأول في قَبْضِ اليد، فهم ـ رحمهم الله ـ يجعلون لكلِّ جلسة صفة تميّزها عن الجلسات الأخرى.

 

ويقول: رَبِّ اغفِر لي ...............

قوله: «ويقول: رَبِّ اغفرْ لي» أي: يقول حال جلوسه: رَبِّ اغفرْ لي، أي: يا رَبِّ، اغفرْ لي. واقتصر ـ رحمه الله ـ على الواجب[(248)].

ولكن الصحيح أنه يقول كلَّ ما ذُكر عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «ربِّ اغفرْ لي، وارحمني، (وعافني)، واهدني، وارزقني»[(249)] أو «اجبرني»[(250)] بدل «ارزقني» وإن شاء جمع بينهما؛ لأن المقام مقام دعاء.

وقوله: «رَبِّ اغفرْ لي» : أي: أنك تسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفرَ لك الذُّنوبَ كلَّها الصغائر والكبائر.

والمغفرة هي: ستر الذَّنبِ والعفو عنه، مأخوذة من المِغْفر الذي يكون على رأس الإنسان عند الحَرْبِ يتَّقي به السهام.

وأما «ارحمني»: فهو طلبُ رحمة الله عزّ وجل التي بها حصول المطلوب، وبالمغفرة زوال المرهوب، هذا إذا جُمع بينهما.

أما إذا فُرِّقت المغفرة عن الرحمة؛ فإنَّ كُلَّ واحدة منهما تشمَلُ الأخرى، ولهذا نظائر في اللغة العربية: فالفقير والمسكين إذا ذُكِرَا جميعاً صار لكلِّ واحد منهما معنى، وإذا أُفرد أحدُهما عن الآخر صار معناهما واحداً، أي: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

وأما قوله: «ارزقني» فهو طلب الرزق، وهو ما يقوم به البدن، وما يقوم به الدِّين.

يعني؛ أنَّ رِزْقَ الله عزّ وجل ما يقوم به البدن من طعام وشراب ولباس وسَكَنٍ، وما يقوم به الدِّين من عِلْمٍ وإيمانٍ وعَمَلٍ صالح. والإنسان ينبغي له أن يعوِّد نفسَه على استحضار هذه المعاني العظيمة حتى يخرج منتفعاً.

فإذا قال: «ارزقني» يعني: ارزقني ما به قِوام البدن، وما به قِوام الدِّين.

قوله: «وعافني» أي: أعطني العافية مِن كلِّ مرضٍ ديني أو بدني، ثم إن كان متَّصفاً بهذا المرض؛ فهو دعاء برَفْعِهِ، وإن كان غير متَّصف فهو دعاء بدَفْعِهِ، بحيث لا يتعرَّض له في المستقبل.

فينبغي للإنسان إذا سأل العافية في هذا المكان أو غيره أن يستحضر أن يسأل الله العافية: عافية البدن، وعافية الدِّين.

قوله: «واجبرني» الجَبْرُ يكون من النَّقْصِ، وكلُّ إنسان ناقص مفرِّط مُسِرفٌ على نفسه بتجاوز الحدِّ أو القصور عنه، ويحتاج إلى جَبْرٍ حتى يعود سليماً بعد كَسْرِه؛ لأن الإنسان يحتاج إلى جَبْرٍ يَجبرُ له النَّقْصَ الذي يكون فيه.

فهذه المعاني التي تُذكر في الأدعية ينبغي للإنسان أن يستحضرها. فإن قال قائل: أليس يغني عن ذلك كله أن يقول: «اللَّهُمَّ ارحمني»؟ لأنَّ الرحمة عند الإطلاق: بها حصولُ المحبوب وزوال المكروه؟

فالجواب: بلى، لكن مقام الدُّعاء ينبغي فيه البسط، لكن على حسب ما جاءت به السُّنَّة، وليس البسط بالأدعية المسجوعة التي ليس لها معنى، أو يكون لها معنى غير صحيح.

وإنما كان البسط مشروعاً في الدُّعاء لأسباب:

1 ـ لأنّ الدُّعاء عبادة، وكلما ازددتَ من العبادة ازددتَ خيراً.

2 ـ أنَّ الدُّعاء مناجاة لله عزّ وجل، وأحبُّ شيء للمؤمن هو الله عزّ وجل، ولا شكَّ أنَّ كثرةَ المناجاة مع الحبيب مما تزيد الحُبَّ.

3 ـ أن يستحضر الإنسانُ ذنوبَه على وجه التفصيل، لأن للذُّنوب أنواعاً، فإذا زِيدَ في الدُّعاء استحضرت، ولهذا كان من دُعاء الرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذنبي كُلَّهُ، دِقَّهُ وجِلَّهُ، وأوَّلَهُ وآخرهُ، وعلانيتَهُ وسِرَّهُ»[(251)].

 

وَيَسْجُدُ الثَّانِيَةَ كَالأُْولَى، ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّراً نَاهِضاً عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ

قوله: «ويسجد الثانية كالأُولى» .أي: في القول والفعل، يعني: فيما يُقال فيها من الأذكار، وما يُفعل فيها من الأفعال، وسبق لنا أن أقوال السُّجودِ: أن يقول: «سبحان ربِّي الأعلى»[(252)]، «سبحانك اللَّهُمَّ ربَّنَا وبحمدِك، اللهمَّ اغْفِرْ لي»[(253)] «سُبُّوحٌ قدوسٌ رَبُّ الملائكة والرُّوح»[(254)] ويدعو، وكُلَّما أكثر من الدُّعاء في السُّجود كان أَولى؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «وأما السُّجود؛ فاجتهدوا في الدُّعاء؛ فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم»[(255)].

وهل يقرأ القرآن وهو ساجد؟

الجواب: لا، لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نُهِيَ أن يقرأ القرآن وهو راكع، أو ساجد[(256)]، اللهم إلا إذا دعا بجملة من القرآن مثل: {{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *}} [آل عمران] فهذا لا يضرُّ، لأن المقصود به الدُّعاء.

قوله: «ثم يرفع مكبِّراً ناهضاً على صدور قدميه» . أي: من السجدة الثانية «مكبِّراً» حال من فاعل «يرفع» فيكون التكبير في حال الرَّفْعِ.

قوله: «ناهضاً على صدور قدميه» قال في «الرَّوض»: ولا يجلس للاستراحة، يعني: ينهض على صدور قدميه؛ معتمداً على رُكْبَتَيْه بدون جلوس.

 

مُعْتَمِداً عَلَى رُكْبَتيه إنْ سَهُلَ .............

قوله: «معتمداً على ركبتيه إن سهل» أي: وإن لم يَسْهُلْ عليه فإنه يعتمدُ على الأرض، ويبدأ بالنُّهوض مِن السُّجود بالجبهة والأنف، ثم باليدين؛ فيضعهما على الرُّكبتين، ثم ينهض على صدور القدمين. هذا هو السُّنَّةُ على ما قاله المؤلِّف ـ رحمه الله ـ وهو المذهب.

فاستفدنا مِن كلامه أنه لا يجلس إذا قام إلى الركعة الثانية، وهذه المسألة فيها خِلاف بين أهل الحديث وبين الفقهاء أيضاً[(257)].

فالقول الأول: لا يجلس كما ذَكَرَه المؤلِّفُ، فلا يُسَنُّ الجلوس مطلقاً. وهو المذهب.

القول الثاني: يجلس مطلقاً، سواء احتاجَ للجلوس أم لم يحتجْ، يجلس تعبُّداً لله عزّ وجل. وهذا قول أكثر أهل الحديث، وهذان قولان متقابلان.

القول الثالث: وسط؛ وافق هؤلاء في حال؛ ووافق هؤلاء في حال، فقالوا: إن كان الإنسان محتاجاً إلى الجلوس؛ أي: لا يستطيع أن ينهضَ بدون جلوس؛ فيجلس تعبُّداً، وإذا كان يستطيع أن ينهض فلا يجلس. وهو اختيار صاحب «المغني»[(258)] وابن القيم[(259)]، ولكلِّ قول من هذه الأقوال الثلاثة دليل.

وهذه الجِلْسة تُسَمَّى عند العلماء: جِلْسَةَ الاستراحة.

ومعلوم أن إضافتها إلى الاستراحة يعطيها حكماً خاصاً بما إذا كان الإنسان يستريح بها، ولهذا رفض بعضهم أن تُسمَّى جِلْسَة الاستراحة، وقال: يجلس؛ ولا نقول: جِلْسَة الاستراحة؛ لأننا إذا سمَّيناها جِلْسَة الاستراحة رفعنا عنها حكم التعبُّد، وصارت لمجرد الاستراحة، ولكن في هذا شيء من النظر؛ لأن الاستراحةَ للتقوِّي على العبادة عبادةٌ؛ لقوله تعالى: {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} الآية [البقرة: 185] فتسمية العلماء لها قاطبة فيما نعلم بجِلْسَة الاستراحة لا يُنكر؛ لأننا نقول: حتى وإن سمَّيناها جِلْسَة الاستراحة؛ فإنَّ التعبُّدَ لله بها إذا كان الإنسان يستريح بها لينشطَ على العبادة يجعلها عبادة.

استدلّ من قال: يجلس مطلقاً: أنه ثبت في «صحيح البخاري» من حديث مالك بن الحُويرث أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا كان في وِتْرٍ مِن صلاتِه لم ينهض حتى يستوي قاعداً»[(260)]، وكذلك في الحديث نفسِه أنَّه كان يعتمدُ على الأرض ثم يقوم[(261)].

قالوا: وهذا دليل على أنها جِلْسَةٌ يستقرُّ فيها؛ لأن الاستواء بمعنى الاستقرار، ومنه قوله تعالى: {{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ *وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ *}} [الزخرف] فإذا كان مالك بن الحويرث يروي هذا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الذي روى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»[(262)] وقد جاء في وَفْدِ قومِه في السَّنَةِ التاسعة في آخر حياة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فإن هذا يدلُّ على أنها مستحبَّةٌ، وأنها مِن الجِلسات المندوبة وليست مِن الجِلسات التي تُفعل بمقتضى الطبيعة والجِبلَّة.

واستدلَّ مَنْ قال: «لا يجلس» بحديث وائل بن حُجْر بأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا نَهَضَ؛ نَهَضَ على رُكبتيه، واعتمدَ على فَخِذيهِ»[(263)].

واستدلَّ من يرى التفصيل بأنه مِن المعلوم أن للرسول صلّى الله عليه وسلّم حالين:

حالاً كان فيها نشيطاً شابًّا قويًّا. وحالاً كان فيها دون ذلك، فإنه كان عليه الصلاة والسلام في آخر حياته يُصلِّي الليلَ قاعداً أكثر من سَنَة[(264)]، وكان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يسابق عائشة فَسَبَقَتْهُ[(265)]، ثم إنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يحبُّ أن يُيسِّرَ على نفسِه في العبادة، وكذلك يحبُّ أن ييسر الإنسان على نفسه في العبادة، حتى إنه أنكر على الذين قالوا: نصومُ ولا نفطرُ، ونقومُ ولا ننامُ، ولا نتزوجُ النساء[(266)]. ومَنَعَ عبدَ الله بن عَمرو بن العاص أن يصوم الدَّهر، وأرشده إلى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً[(267)]، ومَنَعَه من أن يقوم الليلَ كلَّه وأرشده إلى أن ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سُدسه (267) . وهذا دليل على أنَّ شريعة النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبنية على اليُسرِ والسُّهولة.

وكان مالك بن الحُويرث قدم إليه في آخر حياته؛ فكان صلّى الله عليه وسلّم يحبُّ التيسير على نفسِه، فيجلس ثم يعتمد بيديه على الأرض[(268)] وهذا يدلُّ على أن قيامه فيه شيء من المشقَّة، بدليل اعتماده على الأرض؛ لأن من كان نشيطاً؛ فإنه وإنْ جَلَسَ للتشهُّد أو لغير التشهد لا يحتاج إلى الاعتماد.

وقالوا أيضاً: إنَّ مِن المعلوم أن جميع أفعال الصَّلاة المستقلَّة أركان أو واجبات، وهذه ليست ركناً ولا واجباً بالإجماع، وأكثر ما فيها أن العلماء اختلفوا في مشروعيتها، وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أنها غير ركن.

وأيضاً: كُلُّ فِعْلٍ من أفعال الصلاة له ذِكْرٌ وفيه ذِكْرٌ، وهذه ليس لها ذِكْرٌ، وليس فيها ذِكْرٌ. فدلَّ على أنها ليست على سبيل التعبُّد.

وعليه؛ فنقول: إن احتاجَ الإنسانُ إليها صارت مشروعة لغيرها للراحة وعدم المشقَّة، وإن لم يحتج إليها فليست بمشروعة.

وهذا القول كما ترى قولٌ وَسَطٌ، تجتمع فيه الأخبار كما قال صاحب «المغني» رحمه الله، وهو اختيار ابن القيم، أننا لا نقول سُنَّة على الإطلاق، ولا غير سُنَّة على الإطلاق، بل نقول هي سُنَّة في حَق مَنْ يحتاج إليها لكبر أو مرض أو غير ذلك. وكنت أميلُ إلى أنها مستحبَّة على الإطلاق وأن الإنسان ينبغي أن يجلس، وكنت أفعلُ ذلك أيضاً بعد أن كنت إماماً، ولكن تبيَّن لي بعد التأمل الطويل أن هذا القول المفصَّل قول وسط، وأنه أرجح من القول بالاستحباب مطلقاً، وإن كان الرُّجحان فيه ليس قوياً عندي، لكن تميل إليه نفسي أكثر، فاعتمدت ذلك.

مسألة: إذا كان الإنسان مأموماً فهل الأفضل له أن يجلس إذا كان يرى هذا الجلوس سُنَّة، أو متابعة الإمام أفضل؟

الجواب: أنَّ متابعةَ الإمام أفضل، ولهذا يَتركُ الواجبَ وهو التشهُّد الأول، ويَفعلُ الزَّائدَ؛ كما لو أدرك الإمامَ في الرَّكعةِ الثانية، فإنه سوف يتشهَّدُ في أول ركعة؛ فيأتي بتشهد زائد مِن أجل متابعة الإمام، وسوف يترك التشهُّد الأول إذا قامَ الإمامُ للرابعة، مِن أجل متابعة الإمام، بل يتركُ الإنسانُ الرُّكنَ من أجل متابعة الإمام، فقد قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إذا صَلَّى قاعداً فصلُّوا قعوداً»[(269)] فيترك رُكنَ القيام، ورُكنَ الرُّكوع فيجلس في موضع القيام، ويومئ في موضع الرُّكوع، كلُّ هذا من أجل متابعة الإمام.

فإن قال قائل: هذه الجِلْسة يسيرة، لا يحصُل بها تخلُّف كثير عن الإمام.

فالجواب: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رَكَعَ فاركعوا وإذا سَجَدَ فاسجدوا[(270)]» فأتى بالفاء الدَّالة على الترتيب والتعقيب بدون مُهلة، وهذا يدلُّ على أن الأفضل في حَقِّ المأموم ألا يتأخَّر عن الإمام ولو يسيراً، بل يبادر بالمتابعة، فلا يوافق، ولا يسابق، ولا يتأخَّر، وهذا هو حقيقة الائتمام.

فإن كان الأمرُ بالعكس، بأن كان الإمامُ يرى هذه الجِلْسَة وأنت لا تراها، فإن الواجب عليك أن تجلس؛ لأنك لو لم تجلس لقمت قبل إمامك وهذه مسابقة للإمام والمسابقة حرام، لقول النبيِّ عليه الصلاة والسلام: «أما يخشى الذي يرفعُ رأسَه قبل الإمام أن يحوِّلَ اللَّهُ رأسَه رأسَ حِمَارٍ، أو يجعلَ صورتَهُ صورةَ حِمَارٍ»[(271)].

وقد يقول: أنا لا أقوم قبله، لكن أتأنَّى في السُّجودِ حتى أظنَّ أنه قام، قلنا: إنك حينئذٍ لم تفعل محرَّماً؛ لكنك تركت سُنَّة وهي المبادرة بمتابعة الإمام، فإذا كنت لا ترى أنها مستحبَّة، والإمام يرى ذلك فاجلسْ مع إمامك؛ كما أنك تجلس معه في التشهُّد الذي ليس في محلِّ تشهُّدك مِن أجل المتابعة.

 

وَيُصَلِّي الثَّانِيَةَ كَذَلِكَ،.............

قوله: «ويصلي الثانية كذلك» . أي: يُصلِّي الركعةَ الثانية كالأُولى. وعلى هذا؛ فالثانية صفة لموصوف محذوف والتقدير كالركعة الثانية.

فإذا قال قائل: هل يجوز أن يُحذف الموصوفُ وتبقى الصِّفةُ؟

فالجواب: نقول: نعم، وهذا كثير جدًّا في القرآن، وفي كلام الناس قال الله تعالى: {{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}} [سبأ: 11] أي: دروعاً سابغات وقال: {{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}} [التين: 6] أي: الأعمال الصالحات، وأمثالها كثير، لكن الذي يقلُّ هو العكس، وهو حذف النعت وبقاء المنعوت، لأن النعت وهي الصفة هو المقصود ولهذا قال ابن مالك:

وما مِن المنعوتِ والنعت عُقِل

يجوزُ حذفُه وفي النَّعتِ يقِل

قوله: «كذلك» ، أي: يصلِّيها كالأُولى، يعني: في القيام والرُّكوعِ والسُّجودِ والجلوسِ، وما يُقال فيها.

قوله: «ما عدا التحريمة» ، أي: تكبيرة الإحرام؛ لأن التحريمة تُفتتح بها الصَّلاةُ، وقد اسْتُفْتِحَتْ، بل لو كَبَّرَ ناوياً التَّحريمة بطلت صلاتُه؛ لأن لازم ذلك أن يكون قد قطع الركعة الأُولى، وابتدأ الثانية مِن جديد، وهذا يُبطل الصَّلاةَ.

 

مَا عَدَا التَّحْرِيمَةَ والاسْتِفْتَاحَ،.............

قوله: «ما عدا التحريمة» بالنصب وجوباً؛ لأنها مسبوقة بـ«بما»، أما لو خلت من «ما» لجاز الوجهان: النصب، والجر.

قوله: «والاستفتاح» أيضاً الاستفتاح لا يُسَنُّ في الركعة الثانية؛ لأن الاستفتاح تُفتتح به الصَّلاةُ بعد التحريمة.

فإن قال قائل: لو أن أحداً مِن النَّاس استفتحَ في الركعة الأُولى بنوعٍ من الاستفتاحات، واستفتحَ في الركعة الثانية بنوعٍ آخر؟

لقلنا: هذا بدعة؛ لأن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم كان يستفتح مرَّة واحدة في أوَّل الصَّلاةِ[(272)] ولم يُنقل عنه أنه كرَّر نوعين مِن الاستفتاح.

 

والتَّعَوُّذَ، .............

قوله: «والتعوذ» أي: وما عدا التعوُّذَ، يعني: قوله «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، فإنه يُشرع في الأُولى ولا يُشرع في الثانية؛ لأن قراءة الصَّلاة واحدة، فإنَّ الصَّلاةَ عبادةٌ واحدةٌ من أوَّلها إلى آخرها، فإذا تعوَّذَ لأوَّل مرَّة كفى، ولهذا قالوا: لو قرأ في الرَّكعة الأُولى سورةً، ثم قرأ في الركعة الثانية ما قبلها؛ لكان ذلك مكروهاً؛ لمخالفة التَّرتيب، ولو كان في الركعة الثانية؛ لأن قراءة الصَّلاةِ واحدة.

قال في «الرَّوض»[(273)]: إلا إذا لم يتعوَّذ في الأُولى فيتعوَّذُ في الثانية، وهذا استثناء جيد، مثل أن يدركَ الإمامَ راكعاً فإنه سوف يُكبِّر تكبيرة الإحرام؛ ثم يُكبِّر للرُّكوع ويركع، وتكون القراءة في الرَّكعةِ الثانيةِ هي أوَّل قراءته، وحينئذٍ يتعوَّذ.

وهذا الذي قاله في «الرَّوض» هو مرادهم فيما يظهر، لأن تعليلهم يدلُّ عليه حيث قالوا: إنه يتعوَّذ في القراءةِ الأُولى. وقراءةُ الصَّلاةِ قراءةٌ واحدة.

وقال بعض أهل العلم[(274)]: بل يتعوَّذ في كلِّ رَكعة؛ وذلك لأنه حال بين القراءتين أذكارٌ وأفعالٌ، فيستعيذ بالله عند القراءة في كلِّ رَكعة.

والأمرُ في هذا واسعُ.

 

وَتَجْدِيدَ النِّيَّةِ، ثُمَّ يَجْلِسُ مُفْترشاً، ..............

قوله: «وتجديد النية» ، أي: أنَّه لا يأتي بنيَّةٍ جديدة، بخلاف الرَّكعةِ الأُولى، فإن الرَّكعةَ الأُولى يدخُلُ بها في الصَّلاةِ بنيَّةٍ جديدة، فلو نوى الدخول بنيَّةٍ جديدةٍ في الرَّكعة الثانية لبطلت الأُولى؛ لأنَّ لازمَ تجديد النيَّة في الركعة الثانية قَطْعُ النيّة في الركعة الأُولى، ولم تنعقد الثانية لعدم التَّحريمة.

وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ ـ رحمه الله ـ أن الركعة الثانية كالأُولى في مقدار القراءة؛ لأنه لم يَستثنِ إلا هذه المسائل الأربع وهي: التحريمة، والاستفتاح، والتعوُّذ، وتجديد النيَّة.

فظاهره: أنَّ القراءة في الرَّكعة الثانية كالقراءة في الرَّكعة الأُولى، ولكن الصواب خِلافُ ذلك، فإنَّ القراءةَ في الركعةِ الثانيةِ دون القراءة في الركعة الأُولى، كما هو صريح حديث أبي قتادة[(275)]، لكن في حديث أبي سعيد[(276)] ما يدلُّ على أن الركعة الثانية كالأُولى، إلا أن حديث أبي سعيد يدلُّ على أن القراءة مشروعة في الركعات الأربع، فإن حديث أبي سعيد الخدري يدلُّ على أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقرأ مع الفاتحة في كلِّ ركعة، لكن في الركعتين الأوليين يقرأ قراءة سواء، وفي الركعتين الأخريين سواء، لكن على النِّصْفِ مِن الأوليين.

قوله: «ثم يجلس مفترشاً» أي: بعد أن يُصلِّي الثانيةَ بركوعها وسجودها وقيامها وقعودها. «يجلس» وهذا الجلوس للتشهُّدِ إمَّا الأول، وإمَّا الأخير، إن كانت الصَّلاةُ رباعية أو ثلاثية فهو أوَّل، وإن كانت سوى ذلك فهو أخير.

«مفترشاً» سَبَقَ تفسيرُها، وأنَّ معنى الافتراش أن يجعلَ رِجْلَهُ اليسرى تحت مقعدته كأنها فراش، ويُخرج اليُمنى مِن الجانب الأيمن ناصباً لها.

 

وَيَدَاهُ عَلَى فَخِذَيْهِ ..............

قوله: «ويداه على فخذيه» هذه الجملةُ يحتملُ أن تكون في مَوضعِ نَصْبٍ على الحال مِن فاعل «يجلس»، يعني: يجلس والحالُ أن يديه على فخذيه، ويحتملُ أنها جملةٌ استثنائية، وعلى كُلِّ تقديرٍ؛ فإنَّ معنى العبارة: أنه في هذا الجلوس يَجعلُ يديه على فخذيه.

وظاهر كلامه: أنه لا يقدمهما حتى تكونا على الرُّكبة؛ لأن الفخذَ حَدُّهُ الرُّكبة، والرُّكبة ليست مِن الفخذِ، فتجعل اليد اليمنى واليد اليسرى على الفخذ لا تصل إلى حِذاء الرُّكبة، بل على حَدِّها؛ لأنها لو وصلت إلى حِذاء الرُّكبة خرجت عن الفخذ، وعلى هذا؛ فلا يُلْقِم اليُسرى ركبته، ولا يضع اليُمنى على حرف الفخذِ، هذا ما قاله المؤلِّفُ، ولكن السُّنَّة دَلَّت على مشروعية الأمرين، أي: أن تضعَ اليدين على الفخذين، وأن تُلْقِمَ اليُسرى الرُّكبةَ اليُسرى وتَجعلَ اليُمنى على حَرْفِ الفخذِ، أي: على طَرَفِهِ، فكلتاهما صفتان[(277)].

وعلى هذا نقول: إن اليدين لهما صفتان في الرَّفْعِ والسُّجود والجلوس.

في الرفع: حَذْوَ المَنكبين[(278)]، أو فُروع الأذنين[(279)].

في السجود: حَذْوَ المَنكبين[(280)] أو أن يسجدَ بينهما[(281)].

في الجلوس: إمَّا أن يجعلَهما على الفخذين، أو على الرُّكبتين، فاليُمنى على حَرْفِ الفخذِ، واليُسرى تُلْقَم الرُّكبة.

 

يَقْبِضُ خِنْصَرَ يَدِهِ الْيُمْنَى وَبنْصَرَهَا، وَيُحَلِّقُ إبْهَامَهَا مَعَ الْوُسْطَى، ويُشِيرُ بِسبَّابَتِهَا في تَشَهُّدِهِ ............

قوله: «يقبض خنصر يده اليمنى وبنصرها، ويحلق إبهامها مع الوسطى» الخنصر: الأصبع الأصغر، والبنصر: الذي يليه، والوسطى: هي التي تلي البنصر، ويُحَلِّقُ الإبهامَ مع الوسطى، وتبقى السَّبَّابةُ مفتوحةً لا يضمُّها.وهذه صفة أيضاً، واقتصار المصنِّف ـ رحمه الله ـ عليها لا يسلتزم نفي ما عداها، وهناك صفة أخرى؛ بأن يضمَّ الخنصرَ والبنصرَ والوسطى، ويضمَّ إليها الإبهامَ وتبقى السَّبَّابةُ مفتوحةً، فهاتان أيضاً صفتان في كيفية أصابع اليد اليُمنى.

قوله: «ويشير بسبابتها» أي: يشير بسبَّابته إلى أعلى.

والسَّبَّابة: ما بين الإبهام والوسطى، وسُمِّيت سَبَّابة، لأن الإنسان يُشيرُ بها عند السَّبِّ، وتُسَمَّى أيضاً سَبَّاحة، لأنه يُسَبَّح بها اللَّهُ عزّ وجل؛ لأنه يُشيرُ بها عند تسبيح الله.

قوله: «في تشهده» : «في» للظَّرفية، والظَّرفُ أوسعُ مِن المظروف، فهل المراد: يُشيرُ بها في تشهُّدِه مِن حين ما يبدأ إلى أن ينتهي، أو المراد: يُشيرُ بها في تشهُّدِه في موضع الإشارة؟

كلامُ المؤلِّف فيه احتمال، لكن غيره بَيَّنَ أنه يُشيرُ بها عند وجودِ سبب الإشارة. وما هو سبب الإشارة؟

سببُهُ ذِكْرُ الله، واختلف الفقهاءُ في معنى كلمة «ذِكْر الله» فقيل: عند ذِكْرِ الجلالة، وعلى هذا؛ فإذا قلت: التحيات لله ـ تُشِيرُ، السَّلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله ـ تُشِيرُ، السَّلام علينا وعلى عباد الله ـ تُشِيرُ، أشهد أنْ لا إله إلا الله ـ تُشِيرُ، هذه أربع مرَّات في التشهُّدِ الأول. اللَّهم صَلِّ ـ خَمْس؛ لأن «اللهم» أصلُها «يآلله»، ـ اللَّهُمَّ بارك ـ سِتٌّ، أعوذ بالله مِن عذاب جهنم ـ سبع.

وقيل: المراد بذِكْرِ الله: الذِّكْر الخاصُّ وهو «لا إله إلا الله»، وعلى هذا؛ فلا يُشيرُ إلا مَرَّةً واحدةً، وذلك عندما يقول: أشهد أنْ لا إله إلا الله.

هذا اختلاف الفقهاء، ولكن السُّنَّة دَلَّت على أنه يُشير بها عند الدعاء فقط لأن لفظ الحديث: «يُحرِّكُها يدعو بها»[(282)] وقد وَرَدَ في الحديث نَفْيُ التَّحريك وإثباتُ التحريك[(283)]. والجمعُ بينهما سهل: فنفيُ التَّحريك يُراد به التَّحريكُ الدَّائم، وإثباتُ التَّحريك يُراد به التَّحريكُ عند الدُّعاء، فكلما دعوت حرِّكْ إشارة إلى علوِّ المدعو سبحانه وتعالى، وعلى هذا فنقول:

«السلام عليك أيُّها النبيِّ» فيه إشارة؛ لأن السَّلامَ خَبَرٌ بمعنى الدُّعاءِ، «السَّلامُ علينا» فيه إشارة، «اللهم صَلِّ على محمَّد» فيه إشارة، «اللهم بارك على محمَّد» فيه إشارة، «أعوذ بالله من عذاب جهنَّم» فيه إشارة، «ومِن عذاب القبر» فيه إشارة، «ومِن فتنة المحيا والممات» فيه إشارة، «ومِن فتنة المسيح الدَّجَّال» فيه إشارة، وكُلَّما دعوت تُشيرُ إشارةً إلى عُلُوِّ مَنْ تدعوه سبحانه وتعالى، وهذا أقربُ إلى السُّنَّة.

 

وَيَبْسُطُ الْيُسْرَى،.............

قوله: «ويبسط اليسرى» يعني: أصابعها على الفخذِ الأيسر؛ لأنه قال في الأول: «ويداه على فخذيه».

 

وَيَقُولُ: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، ...........

قوله: «ويقول: التحيات لله...» يقول بلسانه متدبِّراً ذلك بقلبه وهل يُشترطُ أن يُسمعَ نفسَه؟

فيه خِلافٌ سَبَقَ ذِكْرُه[(284)]. أمَّا المذهبُ فيُشترط أن يُسمعَ نفسَه في الفاتحة، وفي كُلِّ ذِكْرٍ واجبٍ.

قوله: «التحيات لله» التحيات: جمع تحيَّة، والتحيَّة هي: التَّعظيم، فكلُّ لَفْظٍ يدلُّ على التَّعظيم فهو تحيَّة، و«الـ» مفيدة للعموم، وجُمعت لاختلاف أنواعها، أما أفرادها فلا حدَّ لها، يعني: كُلَّ نوع من أنواع التَّحيَّات فهو لله، واللام هنا للاستحقاق والاختصاص؛ فلا يستحقُّ التَّحيَّات على الإطلاق إلا الله عزّ وجل.

ولا أحد يُحَيَّا على الإطلاق إلا الله، وأمَّا إذا حَيَّا إنسانٌ إنساناً على سبيل الخصوص فلا بأس به.

لو قلت مثلاً: لك تحيَّاتي، أو لك تحيَّاتُنَا، أو مع التحيَّة، فلا بأس بذلك، قال الله تعالى: {{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}} الآية [النساء: 86] لكن التَّحيَّات على سبيل العموم والكمال لا تكون إلا لله عزّ وجل.

فإذا قال قائل: هل اللَّهُ بحاجة إلى أن تحييه؟

فالجواب: كلاَّ؛ لكنه أهْلٌ للتعظيم، فأعظِّمه لحاجتي لذلك لا لحاجته لذلك، والمصلحة للعبد قال تعالى: {{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}} [الزمر: 7] .

قوله: «والصلوات» أي: لله، وهو شاملٌ لكلِّ ما يُطلق عليه صلاة شرعاً أو لُغةً، فالصَّلوات كلُّها لله حقًّا واستحقاقاً، لا أحد يستحقُّها؛ وليست حقًّا لأحد سوى الله عزّ وجل، والدُّعاءُ أيضاً حقٌّ واستحقاق لله عزّ وجل كما قال تعالى: {{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ *}} [غافر] فكلُّ الصلوات فرضُها ونفلُها لله، وكُلُّ الأدعية لله.

قوله: «والطيبات» . الطيبات لها معنيان:

المعنى الأول: ما يتعلَّق بالله.

المعنى الثاني: ما يتعلَّق بأفعال العباد.

فما يتعلَّق بالله فله مِن الأوصاف أطيبها، ومِن الأفعال أطيبها، ومن الأقوال أطيبها، قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله طيب، لا يَقبلُ إلا طيباً...»[(285)] يعني: لا يقول إلا الطيب، ولا يَفعلُ إلا الطَّيب، ولا يتَّصفُ إلا بالطيب، فهو طيب في كُلِّ شيء؛ في ذاته وصفاته وأفعالِه.

وله أيضاً مِن أعمال العباد القولية والفعلية الطَّيبُ (285) ، فإن الطَّيبَ لا يليقُ به إلا الطَّيب ولا يقدم له إلا الطيب، وقد قال الله تعالى: {{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}} [النور: 26] فهذه سُنَّةُ الله عزّ وجل.

فهل أنت أيُّها المصلِّي تستحضر حين تقول «الطيبات لله» هذه المعاني، أو تقولها على أنها ذِكْرٌ وثناء؟

أغلبُ النَّاسِ على الثاني، لا يستحضر عندما يقول: «الطيبات» أن الله طيِّب في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه وأقوالِه، وأنه لا يليقُ به إلا الطَّيب مِن الأقوال والأفعال الصَّادرة مِن الخَلْقِ.

وضدُّ الطَّيِّب شيئان: الخبيث، وما ليس بطيب ولا خبيث؛ لأن الله سبحانه له الأوصاف العُليا {{وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى}} [الروم: 27] فلا يُمكنُ أن يكون في أوصافه أو أفعاله أو أقواله ما ليس بطيب ولا خبيث، بل كُلُّ أفعالِه وأقوالِه وصفاتِه كلُّها طيبة.

أما ما يصدرُ مِن الخَلْق؛ فمنه ما هو طيِّبٌ، ومنه ما هو خبيثٌ، ومنه ما ليس كذلك، لكن ما الذي يَصعد إلى الله ويُرفع إلى الله؟

الجواب: {{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}} [فاطر: 10] وما ليس بطيِّبٍ فهو إلى الأرض، لا يصعدُ إلى السَّماءِ.

قوله: «السلام عليك» «السَّلام» قيل: إنَّ المراد بالسَّلامِ: اسمُ الله عزّ وجل؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللَّهَ هو السَّلامُ»[(286)] كما قال عزّ وجل في كتابه: {{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ}} [الحشر: 23] وبناءً على هذا القول يكون المعنى: أنَّ الله على الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم بالحِفظ والكَلاءة والعناية وغير ذلك، فكأننا نقول: اللَّهُ عليك، أي: رقيب حافظ مُعْتَنٍ بك، وما أشبه ذلك.

وقيل: السلام: اسم مصدر سَلَّمَ بمعنى التَّسليم كما قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}} [الأحزاب: 56] فمعنى التسليم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم: أننا ندعو له بالسَّلامة مِن كُلِّ آفة.

إذا قال قائل: قد يكون هذا الدُّعاء في حياته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واضحاً، لكن بعد مماته كيف ندعو له بالسَّلامةِ وقد مات صلّى الله عليه وسلّم؟

فالجواب: ليس الدُّعاءُ بالسَّلامة مقصوراً في حال الحياة، فهناك أهوال يوم القيامة، ولهذا كان دعاء الرُّسل إذا عَبَرَ النَّاسُ على الصِّراط: «اللَّهُمَّ، سَلِّمْ؛ سَلِّمْ»[(287)]، فلا ينتهي المرءُ مِن المخاوف والآفات بمجرد موته.

إذاً؛ ندعو للرَّسول صلّى الله عليه وسلّم بالسَّلامةِ من هول الموقف، ونقول أيضاً: قد يكون بمعنى أعم، أي: أنَّ السَّلامَ عليه يشمَلُ السَّلامَ على شرعِه وسُنَّتِهِ، وسلامتها من أن تنالها أيدي العابثين؛ كما قال العلماءُ في قوله تعالى: {{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}} [النساء: 59] قالوا: إليه في حياته، وإلى سُنَّتِهِ بعد وفاته.

 

السَّلامُ عَلَيْك أيُّهَا النَّبيُّ ............

وقوله: «السلام عليك» هل هو خَبَرٌ أو دعاءٌ؟ يعني: هل أنت تخبر بأن الرسولَ مُسَلَّمٌ، أو تدعو بأن الله يُسلِّمُه؟

الجواب: هو دُعاءٌ تدعو بأنَّ الله يُسلِّمُه، فهو خَبَرٌ بمعنى الدُّعاء قوة رجاء الإجابة أمرٌ واقع.

ثم هل هذا خطاب للرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كخطابِ النَّاسِ بعضهم بعضاً؟

الجواب: لا، لو كان كذلك لبطلت الصَّلاة به؛ لأن هذه الصلاة لا يصحُّ فيها شيء من كلام الآدميين. ولأنَّه لو كان كذلك لجَهَرَ به الصَّحابةُ حتى يَسمعَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، ولردَّ عليهم السَّلام كما كان كذلك عند ملاقاتِهم إيَّاه، ولكن كما قال شيخ الإسلام في كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم»: لقوَّة استحضارك للرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام حين السَّلامِ عليه، كأنه أمامك تخاطبه.

ولهذا كان الصَّحابةُ يقولون: السلام عليك، وهو لا يسمعهم، ويقولون: السلام عليك، وهم في بلد وهو في بلد آخر، ونحن نقول: السلام عليك، ونحن في بلد غير بلده وفي عصر غير عصره.

وأمّا ما وَرَدَ في «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنهم كانوا يقولون بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «السَّلامُ على النَّبيِّ ورحمة الله وبركاته»[(288)] فهذا مِن اجتهاداتِه رضي الله عنه التي خالَفه فيها مَنْ هو أعلمُ منه؛ عُمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه، فإنه خَطَبَ النَّاسَ على مِنبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال في التشهُّدِ: «السَّلامُ عليك أيُّها النبيُّ ورحمة الله» كما رواه مالك في «الموطأ» بسَنَدٍ من أصحِّ الأسانيد[(289)]، وقاله عُمرُ بمحضر الصَّحابة رضي الله عنهم وأقرُّوه على ذلك.

ثم إن الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ علَّمه أمَّته، حتى إنه كان يُعَلِّم ابنَ مسعود، وكَفُّه بين كفَّيه[(290)] من أجل أن يستحضر هذا اللَّفظَ، وكان يُعلِّمُهم إيَّاه كما يُعلِّمُهم السُّورة من القرآن، وهو يعلم أنه سيموت؛ لأن الله قال له: {{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ *}} [الزمر] ولم يقلْ: بعد موتي قولوا: السَّلامُ على النَّبيِّ، بل عَلَّمَهم التشهُّدَ كما يُعلِّمُهم السُّورةَ من القرآن بلفظها. ولذلك لا يُعَوَّلُ على اجتهاد ابن مسعود، بل يُقال: «السَّلامُ عليك أيُّها النبيُّ».

قوله: «أيُّها النبيُّ» مُنادى حُذفت منه ياء النداء، والأصل: يا أيها النبيُّ، وحُذفت ياء النداء لكثرة الاستعمال والتخفيف، والبداءة بالكناية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

ويُقال: النَّبيءُ بالهمزة، ويقال: النَّبيُّ بتشديد الياء بدون همزة.

أمّا إذا قيل: النبيءُ بالهمزة، فهو فعيل مِن النبأ بمعنى الخَبَر، لكنه فعيل، بمعنى فاعل ومفعول؛ لأنه منبئ ومنبأ.

وأما إذا قيل: النَّبيُّ بتشديد الياء بلا همز، فإما أن تكون أصلها مهموزاً وحُذفت الهمزة تخفيفاً، وإمَّا أن تكون من «النَّبْوَة» وهي الارتفاع وسُمِّيَ بذلك لارتفاع رُتبته صلّى الله عليه وسلّم.

فإن قيل: ألا يمكن أن نقول بأنها النَّبي بالياء من الأمرين جميعاً من النَّبْوَة وهو الارتفاع، ومن النبأ وهو الخبر؟

فالجواب: يمكن، لأن القاعدة: أن اللفظ إذا احتمل معنيين لا يتنافيان ولا مُرَجِّح لأحدهما على الآخر؛ حُمل عليهما جميعاً. ولا شَكَّ أن الرسولَ صلّى الله عليه وسلّم مقامُه أرفع المقامات وأنه منبأ ومنبئ.

 

وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ...........

قوله: «ورحمة الله» «رحمة» معطوفة على «السَّلام عليك» يعني: ورحمة الله عليك، فيكون عطف جملة على جملة والخبر محذوف، ويجوز أن يكون مِن باب عطف المفرد على المفرد، فلا يحتاج إلى تقدير الخبر.

والرحمة إذا قُرنت بالمغفرة أو بالسَّلامِ صار لها معنى، وإن أُفردت صار لها معنى آخر، فإذا قُرنت بالمغفرة، أو بالسلام صار المراد بها: ما يحصُل به المطلوب، والمغفرة والسلام: ما يزول به المرهوب، وإن أُفردت شملت الأمرين جميعاً، فأنت بعد أن دعوت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسَّلام دعوت له بالرَّحمة؛ ليزول عنه المرهوب ويحصُل له المطلوبُ.

فإن قال قائل: لماذا بدأ بالسَّلام قبل الرحمة؟

فالجواب: أنَّ التَّخلية قبل التحلية.

فالتخلية: السَّلامة من النقائص، والتَّحلية: ذِكْرُ الأوصاف الكاملة، فنبدأ بطلب السلامة أولاً، ثم بطلب الرحمة.

قوله: «وبركاته» جمع بَرَكَة، وهي الخير الكثير الثَّابت، لأن أصلها من «الْبِرْكة» بكسر الباء «والْبِرْكة» مجتمع الماء الكثير الثابت.

والْبَرَكَةُ هي: النَّمَاءُ والزِّيادة في كلِّ شيء من الخير، فما هي البركات التي تدعو بها للرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد موته؟ ففي حياته ممكن أن يُبارك له في طعامه، في كسوته، في أهله، في عمله.

فأما البَرَكة بعد موته: فبكثرة أتباعه وما يتبع فيه، فإذا قَدَّرنا أن شخصاً أتباعه مليون رَجُل، وصار أتباعه مليونين فهذه بَرَكَة.

وإذا قَدَّرْنا أن الأتباع يتطوَّعون بعشر ركعات، وبعضهم بعشرين ركعة صار في الثاني زيادة.

إذاً؛ نحن ندعو للرسول صلّى الله عليه وسلّم بالبَرَكَة وهذا يستلزم كَثْرَة أتباعه، وكَثْرَة عمل أتباعه؛ لأنّ كلَّ عمل صالح يفعلهُ أتباع الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فله مثل أجورهم إلى يوم القيامة.

وأقول استطراداً: إن هذا أحد الأوجه التي يُرَدُّ بها على من يهدون ثواب القُرَب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن بعض المحبِّين للرَّسُول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يهدون إليه القُرَب؛ كالختمة والفاتحة على روح محمَّد كما يقولون وما أشبه ذلك، فنقول: هذا من البدع ومن الضلال. أسألك أيُّها المُهْدي للرسول عبادة، هل أنت أشدُّ حُبًّا للرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من أبي بكر وعُمر وعُثمان وعليّ؟

إن قال: نعم، قلنا: كذبت، ثم كذبت، ثم كذبت، ثم كذبت. وإن قال: لا، قلنا: لماذا لم يُهْدِ أبو بكر والخلفاء بعده للرسول صلّى الله عليه وسلّم ختمة ولا فاتحة ولا غيرها؟ فهذا بدعة. ثم إن عملك الآن وإن لم تُهْدِ ثوابه سيكون للرَّسول صلّى الله عليه وسلّم مثله. فإذا أهديت الثَّوابَ، فمعناه أنك حرمت نفسك من الثواب فقط، وإلاَّ فللرسول صلّى الله عليه وسلّم مثل عملك أهديت أم لم تُهْدِ.

 

السَّلامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، ..........

قوله: «السلام علينا» . نقول في السلام كما قلنا في الأول[(291)].

وأما علينا فـ«نا» لا شَكَّ أنه لا يُراد بها الشخص نفسه فقط، وإنما يُراد بها الشَّخص ومَن معه، فمن الذي معه؟

قيل: المصلُّون. وقيل: الملائكة. وقيل: المراد جميع الأُمَّة المحمَّدية. وهذا القول الأخير أصحُّ، فكما دعونا لنبينا محمَّد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالسَّلامِ؛ ندعو أيضاً لأنفسنا بالسَّلام؛ لأننا أتباعه.

قوله: «وعلى عباد الله الصالحين» . هذا تعميم بعد تخصيص؛ لأن عباد الله الصالحين هم كُلُّ عبدٍ صالح في السماء والأرض؛ حيّ أو ميِّت من الآدميين والملائكة والجِنِّ.

وعباد الله هم الذين تعبَّدوا لله: أي تذلَّلوا له بالطاعة امتثالاً للأمر واجتناباً للنهي، وأفضل وَصْفٍ يتَّصف به الإنسان هو أن يكون عبداً لله، ولهذا ذَكَرَ اللهُ وَصْفَ رسوله بالعبودية في أعلى مقاماته.

في الإسراء {{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}} [الإسراء: 1] والمعراج {{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ}} [النجم: 10] ، والإسراء والمعراج مِن أفضل ما يكون من المقامات للرسول صلّى الله عليه وسلّم.

ووَصَفَهُ بذلك في مقام الدِّفاع عنه {{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}} [البقرة: 23] .

ووَصَفَهُ بذلك في مقام التنزيل عليه {{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}} [الفرقان: 1] {{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}} [الكهف: 1] .

فالحاصل: أن أشرف وصف للإنسان أن يكون عبداً لله ـ أسأل الله أن يحقِّق ذلك لعباده المؤمنين ـ لا عبداً لهواه، إذا سَمِعَ أَمْرَ رَبِّه قال: سمعنا وأطعنا، وإذا سَمِعَ نهيه، قال: سمعنا وَتَجَنَّبْنَا، وإذا سَمِعَ خبراً قال: سمعنا وصدَّقنا وقبلنا.

وعباد الله الصالحون هم الذين صَلُحتْ سرائرُهم وظواهرُهم.

فصلاح السرائر: بإخلاص العبادة لله، والظَّواهر: بمتابعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

هؤلاء هم الصَّالحون، وضِدُّ ذلك عباد الله الفاسدون، إما بالسَّرائر، وإما بالظَّواهر، فالمشركُ فاسدُ السَّريرة، والمبتدعُ فاسدُ الظَّاهر؛ لأنَّ بعض المبتدعة يريد الخيرَ، لكنه فاسدُ الظَّاهر لم يمشِ على الطَّريق الذي رَسَمَهُ رسولُ الله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.

والمشركُ فاسدُ الباطن، ولو عَمِلَ عملاً ظاهرُه الصِّحة والصَّلاح مثل المرائي.

مسألة: هل هناك عباد لله فاسدون؟

نعم؛ كُلُّ مَنْ في السماوات والأرض فهم عباد لله بالعبودية الكونية كما قال تعالى: {{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا *}} [مريم] ، فالكُفَّار عبيد لله، بالعبودية الكونية القدرية؛ لا بالعبودية الشرعية.

 

أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، ...........

قوله: «أشهد أن لا إله إلا الله» . الشهادة هي الخبر القاطع، فهي أبلغ مِن مجرد الخبر. لأن الخبر قد يكون عن سماع، والشهادة تكون عن قَطْعٍ، كأنما يشاهد الإنسانُ بعينيه ما شَهِدَ به.

تنبيه: يقول بعض الناس: «أشهد أنَّ لا إله إلا الله» بتشديد «أنّ»، وهذا خطأ من حيث اللغةُ العربيةُ، لأن «أنَّ» لا تكون بمثل هذا التركيب، والتي تكون بمثل هذا التركيب «أنْ» المخفَّفة مِن الثقيلة وجملة «لا إله إلا الله» في مَحلِّ رَفْعِ خبرها، واسمُها ضمير الشأن محذوف وجوباً.

إذاً؛ النُّطقُ الصحيحُ: أشهد أنْ لا إله إلا الله، بتخفيف «أنْ».

و«لا إله إلا الله» كلمةُ التوحيد التي بعثَ اللهُ بها جميعَ الرُّسلِ كما قال تعالى: {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *}} [الأنبياء] ، وبها يكون تحقيق توحيد الألوهية، وإن شئت فقل: تحقيق توحيد العِبادة، وهما بمعنى واحد، لكن يُسمَّى توحيدُ الألوهية باعتبار إضافته إلى الله، وتوحيد العِبادة باعتبار إضافته إلى العبد.

ومعنى «لا إله إلا الله»: أي: لا معبود حقٌّ إلا الله، وفَسَّرْناها بهذا التفسير؛ لأن «إله» فِعَال بمعنى مفعول، والمألوه: هو المعبود حُبًّا وتعظيماً وخبر «لا» محذوف والتقدير: لا إله حَقٌّ إلا الله، و«الله» بدل مِن الخبر المحذوف، ومعنى هذه الجملة العظيمة: أنه لا معبود حقٌّ سوى الله عزّ وجل، أما المعبود بغير حقٍّ فليس بإله حقاً وإنْ سُمِّيَ إلهاً، ولهذا قال الله عزّ وجل: {{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}} [لقمان: 30] ، وفي الآية الأخرى: {{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}} [الحج: 62] ، ولا بطلان أعظم مِن بطلانه، وقال الله تعالى يخاطب الذين يعبدون مِن دون الله: {{إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}} [النجم: 23] ، وليست حقائق بل هي مجرَّد أسماء.

 

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».

قوله: «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» ، سبق معنى «أشهد».

وأما «محمد» فهو محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، بَعَثَهُ اللَّهُ عزّ وجل بمكَّة أمِّ القرى، وأحبِّ البلاد إلى الله، وهاجر إلى المدينة، وتُوفِّي فيها صلّى الله عليه وسلّم.

قوله: «عبده» أي: العابد له، وليس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شَرِكَةٌ في مِلْكِ الله أبداً، وهو بَشَرٌ مثلُنا تميَّز عنا بالوحي، وبما جَبَلَه الله عليه مِن العبادة والأخلاق العظيمة. قال الله تعالى: {{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}} [الكهف: 110] ، وقال اللَّهُ تعالى: {{}} [القلم: 4] .

قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّما أنا بَشَرٌ مثلُكم، أنسَى كما تَنْسَون»[(292)] وأمَرَه اللَّهُ تعالى أن يقول: {{لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}} [الأنعام: 50] .

وقال له في آية أخرى: {{قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا *قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا *}} [الجن] ، يعني: لو أرَادَ اللَّهُ به سوءاً ما مَنَعَه أحدٌ، فهو عَبْدٌ مِن العباد، وهو صلّى الله عليه وسلّم أشدُّ الناسِ خشيةً لله، وأقومهم تعبّداً لله، حتى إنه كان يقوم لله عزّ وجل حتى تتورَّمَ قدماه، فيُقال له: لقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر. فيقول: «أفلا أكون عَبْداً شكوراً»[(293)].

وقوله: «ورسولُهُ» أي: مُرْسَلُهُ، أرسله الله عزّ وجل وجعله واسطة بينه وبين الخَلْق في تبليغ شرعه فقط، إذْ لولا رسول الله ما عرفنا كيف نعبد الله عزّ وجل، فكان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رسولاً مِن الله إلى الخَلْقِ، ونِعْمَ الرسول، ونِعْمَ المرسِل، ونعم المرسَل به، فالنبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو رسولٌ مرسلٌ مِنَ الله، وهو أفضل الرُّسل، وخاتمهم، وإمامهم، ولهذا لما جُمِعُوا له ليلة المعراج تقدَّمهم إماماً مع أنه آخرهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ[(294)].

وعُلِمَ من هذين الوصفين للرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ العبودية والرسالة ـ ضلالُ طائفتين ضَلَّتا فيه.

الطائفة الأولى: ظَنَّتْ أنَّ له حقًّا في الرُّبوبية، فصارت تدعو الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وصار تعظيمُه في قلوبهم أشدَّ مِن تعظيم الله ـ نعوذ بالله ـ حتى إنه إذا ذُكِرَ الرَّسولُ اقشعرت جلودهم؛ ثم تلين كأنما ذكر الله.

وإذا ذُكِرَ الله فإنما هو كالماء البارد على جلودهم لا يتحرَّكون، فهؤلاء أشركوا بالله حيث ساووا الرَّسولَ بالله بل جعلوه أعظم مِن الله عزّ وجل.

الطائفة الثانية:{ . / 0 1 2 {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}} [ص: 24] وإمَّا أنه كاذب في تعميم الرِّسالة كما يقول النَّصارى الذين يداهنون المسلمين، وانخدعَ بهم بعضُ العرب قالوا: محمدٌ رسولُ الله لكن إلى العرب فقط. ولبَّسوا على النَّاسِ بقوله تعالى: {{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}} [الجمعة: 2] وهم يقولون: نحن لسنا بأميين، نحن مِن بني إسرائيل مِن أهل الكتاب.

والنصارى يقولون: رسولنا عيسى، ويَغْلُون به حتى جعلوه إلهاً مع الله.

واليهود يقولون: عيسى كاذبٌ ابن زانية ـ والعياذ بالله ـ مقتولٌ مصلوبٌ، ونبيهم موسى.

وعلى كُلٍّ؛ نقول لمن ادعى خصوصية رسالة الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام في العرب: هل تؤمن بأنه رسول؟

إذا قال: نعم، نقول: هل الرسول يكذب؟

إنْ قال: نعم، بطلت شهادتُه، فالرَّسولُ لا يكذب، وإنْ قال: لا، قلنا: اقرأ قولَ الله تعالى: {{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *}} [الأعراف] . أما أن تُلبِّس وتأتي بآيات متشابهة فإنك أحقُّ مَنْ يدخلُ في قوله تعالى: {{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}} [آل عمران: 7] .

 

هذا التَّشَهُّدُ الأوَّلُ،............

قوله: «هذا التشهد الأول» هذا المشار إليه ما ذُكِرَ مِن قوله: «التحيات» إلى قوله «وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله». وقوله: «التشهُّدُ الأول» يعني: في الثلاثية والرباعية.

واعْلَمْ أن الأحاديث وَرَدَتْ في التشهُّدِ على أكثر من وَجْهٍ، فما موقفنا مِن هذه الوجوه؟

الجواب: أنَّ العلماء رحمهم الله اختلفوا في مثل هذه الوجوه، وهذا بعد أن نعلم أنه لا يمكن جَمْع الذِّكْرَين في آنٍ واحدٍ، أمَّا إذا كان يُمكن أن نجمعهما في آنٍ واحدٍ فجمعُهما أولى، إلا إذا كان هناك قرينة تدلُّ على أن كلَّ واحد منهما يُقال بمفرده كما في دعاء الاستفتاح. فالتشهُّدُ عَلَّمَه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَبدَ الله بن مسعود[(295)]، وعَلَّمَه عبدَ الله بن عبَّاس[(296)]. وحديث عبد الله بن مسعود في «الصحيحين»، وحديثُ عبدِ الله بن عبَّاس في «مسلم» وكلاهما صحيح، وليس بينهما إلا اختلاف يسير مما يدلُّنا على أن كلَّ واحد منهما يُقال بمفرده، وأن هذا الاختلاف اليسير مما جاءت به السُّنَّةُ.

وقد سَبَقَ ذِكْرُ الخِلافِ والتفصيل في العبادات الواردة على وجوه متنوِّعةٍ عند الكلام على رَفْعِ اليدين عند تكبيرة الإحرام.

مسألة: ظاهر كلام المؤلِّف أنه لا يزيد في التشهُّدِ الأولِ على ما ذَكَرَ. وعلى هذا؛ فلا يستحبُّ أن تُصلِّيَ على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في التشهُّد الأوَّل، وهذا الذي مشى عليه المؤلِّف ظاهرُ السُّنَّة، لأنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يُعلِّم ابنَ مسعود[(297)] وابنَ عباس[(298)] إلا هذا التشهُّد فقط، وقال ابنُ مسعود: «كُنَّا نقولُ قبلَ أن يُفرضَ علينا التشهُّدِ»[(299)] وذكر التشهد الأول فقط؛ ولم يَذكرِ الصَّلاةَ على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في التشهُّدِ الأول. فلو كان سُنَّةً لكان الرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يعلِّمهم إيَّاه في التشهُّدِ.

وأما قولهم: «يا رسولَ الله، أمَّا السَّلامُ عليك فقد عَرفنَاه، فكيف نُصَلِّي عليك[(300)] إذا نحن صَلَّينا عليك في صلاتِنا؟»[(301)]، فهو سؤال عن الكيفيَّة وليس فيه ذِكْرُ الموضع، وفَرْقٌ بين أن يُعَيَّنَ الموضع أو تُبَيَّنَ الكيفيَّة، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»: كان من هدي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم تخفيف هذا التشهد جدًّا، ثم ذَكَرَ الحديث أنه كان كأنَّما يجلس على الرَّضْفِ ـ يعني: الحجارة المحمَّاة ـ من شِدَّة تعجيله[(302)]، وهذا الحديث وإن كان في سنده نظر، لكن هو ظاهر السُّنَّة، أي: أنه لا يزيد على هذا، وفي «صحيح ابن خزيمة»: «أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا كان في وَسَطِ الصَّلاة نَهَضَ حين يفرُغ من تشهُّدِه، وإنْ كان في آخرها دعا بعد تشهُّدِه بما شاء الله أن يدعوَ، ثم يُسلّم»[(303)].

ومع ذلك لو أن أحداً مِن النَّاس صَلَّى على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في هذا الموضع ما أنكرنا عليه، لكن لو سألنا أيُّهما أحسن؟ لقلنا: الاقتصار على التشهُّدِ فقط، ولو صَلَّى لم يُنْهَ عن هذا الشيء؛ لأنه زيادة خير، وفيه احتمال، لكن اتباع ظاهر السُّنَّة أَولى.

 

ثم يقول: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ .........

قوله: «ثم يقول» أي: بعد التشهد الأول «اللهم» معناها: يا الله. لكن حُذفت ياء النداء، وعُوِّضَ عنها الميم، وجُعِلت الميم في الآخر تيمُّناً بالبداءة باسم الله عزّ وجل، وكانت ميماً ولم تكن جيماً ولا حاءً ولا خاءً، لأن الميم أدلُّ على الجَمْعِ، ولهذا تجتمع الشفتان فيها، فكأن الدَّاعي جمع قَلْبَه على رَبِّه ودعا وقال: اللَّهُمَّ.

إعراب «اللَّهُمَّ»: «الله» منادى مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصب. ومعنى «الله»: أي: ذو الألوهية الذي يألهه كلُّ مَن تعبَّد له سبحانه وتعالى.

قوله: «صلِّ على محمد» قيل: إنَّ الصَّلاةَ مِن الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدُّعاء.

فإذا قيل: صَلَّتْ عليه الملائكة، يعني: استغفرت له.

وإذا قيل: صَلَّى عليه الخطيبُ يعني: دعا له بالصلاة.

وإذا قيل: صَلَّى عليه الله، يعني: رحمه.

وهذا مشهورٌ بين أهل العلم، لكن الصحيح خِلاف ذلك، أن الصَّلاةَ أخصُّ من الرحمة، ولذا أجمع المسلمون على جواز الدُّعاء بالرحمة لكلِّ مؤمن، واختلفوا: هل يُصلَّى على غير الأنبياء؟ ولو كانت الصَّلاةُ بمعنى الرحمة لم يكن بينهما فَرْقٌ، فكما ندعو لفلان بالرحمة نُصلِّي عليه.

وأيضاً: فقد قال الله تعالى: {{أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}} [البقرة: 157] فعطف «الرحمة» على «الصلوات» والعطفُ يقتضي المغايرة فتبيَّن بدلالة الآية الكريمة، واستعمال العلماء رحمهم الله للصلاة في موضع، والرحمة في موضع أن الصَّلاة ليست هي الرحمة.

وأحسن ما قيل فيها: ما ذكره أبو العالية ـ رحمه الله ـ أنَّ صلاةَ الله على نبيه: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى[(304)].

فمعنى «اللَّهمَّ صَلِّ عليه» أي: أثنِ عليه في الملأ الأعلى، أي: عند الملائكة المقرَّبين.

فإذا قال قائل: هذا بعيد مِن اشتقاق اللفظ، لأن الصَّلاة في اللُّغة الدُّعاء وليست الثناء.

فالجواب على هذا: أن الصلاة أيضاً من الصِّلَة، ولا شَكَّ أن الثناء على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الملأ الأعلى من أعظم الصِّلات؛ لأن الثناء قد يكون أحياناً عند الإنسان أهمُّ من كُلِّ حال، فالذِّكرى الحسنة صِلَة عظيمة.

وعلى هذا؛ فالقول الرَّاجح: أنَّ الصَّلاةَ عليه تعني: الثناء عليه في الملأ الأعلى.

وقوله: «على محمَّد» قد يقول قائل: لماذا لم يقلْ على النبيِّ أو على نبيك محمَّد، وإنما ذَكَرَه باسمه العَلَم فقط.

الجواب: أنَّ هذا من باب الخبر، والخبر أوسع من الطَّلب.

قوله: «وعلى آل محمَّد» . أي: وصَلِّ على آل محمَّد.

وآل محمد، قيل: إنهم أتباعه على دينه[(305)]؛ لأن آل الشخص: كلُّ مَنْ ينتمي إلى الشخص، سواءٌ بنسب، أم حمية، أم معاهدة، أم موالاة، أم اتِّباع كما قال الله تعالى: {{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}} [غافر: 46] .

فيكون «آله» هم أتباعُه على دينِهِ.

وقيل: «آل النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم» قرابته المؤمنون[(306)]، والقائل بذلك خَصَّ القرابة المؤمنين، فخرج بذلك سائر الناس، وخَرَجَ بذلك كُلُّ مَن كان كافراً مِن قرابة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكن الصحيح الأول، وهو أن الآل هم الأتباع، لكن لو قُرِنَ «الآل» بغيره فقيل: على محمد وآله وأتباعه. صار المراد بالآل المؤمنين مِن قرابته.

 

كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ...........

قوله: «كما صَلَّيت على آل إبراهيم» هل الكاف هنا للتشبيه أو للتعليل؟

الجواب: أكثر العلماء يقولون: إنها للتشبيه، وهؤلاء فتحوا على أنفسهم إيراداً يحتاجون إلى الجواب عنه، وذلك بأن القاعدة أن المشبَّه دون المُشبَّه به، وعلى هذا؛ فأنت سألت اللَّهَ صلاةً على محمَّدٍ وآله دون الصَّلاة على آل إبراهيم؟ ومعلومٌ أنَّ محمداً وآله أفضل مِن إبراهيم وآله، فلذلك حصل الإشكال؛ لأن هذا يعارض القاعدة المتفق عليها وهي: أن المشبَّه أدنى من المشبَّه به.

وأجابوا عن ذلك بأجوبة.

فقال بعض العلماء: إن آل إبراهيم يدخل فيهم محمَّد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، لأنه من آله، فإبراهيم أبوه، فكأنه سُئل للرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الصَّلاة مرَّتين، مرَّة باعتبار الخصوص «اللهم صَلِّ على محمَّد»، ومرَّة باعتبار العموم «كما صَلَّيت على آل إبراهيم» ولكن هذا جواب فيه شيء، وليس بواضح.

وقال بعض العلماء: إنها للتعليل ـ أي: الكاف ـ وأنَّ هذا مِن باب التوسُّل بفعل الله السابق؛ لتحقيق الفعل اللاحق، يعني: كما أنك سبحانك سَبَقَ الفضلُ منك على آل إبراهيم؛ فألْحِقِ الفضلَ منك على محمد وآله، وهذا لا يلزم أن يكون هناك مشبَّه ومشبَّه به.

فإن قال قائل: وهل تأتي الكاف للتعليل؟

قلنا: نعم، تأتي للتعليل، استمعْ إليها من كلام العلماء، واستمعْ إلى مثالها.

قال ابن مالك:

شَبِّه بكافٍ وبها التَّعليل قد

يُعنى وزائداً لتوكيد وَرَدْ

فأفاد بقوله: «وبها التعليل قد يُعنى» أنه قد يُقصد بها التعليل.

وأمّا المثال فكقوله تعالى: {{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ}} [البقرة: 151] فإن الكاف هنا للتعليل لما سبق.

وكقوله تعالى: {{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}} [البقرة: 198] أي: لهدايتكم، وإن كان يجوز فيها التشبيه، يعني: واذكروه الذِّكرَ الذي هداكم إليه.

فهذا القول ـ أعني: أنَّ الكاف في قوله: «كما صَلَّيت» للتعليل من باب التوسل بالفعل السابق إلى تحقيق اللاحق ـ هو القول الأصحُّ الذي لا يَرِدُ عليه إشكال.

 

وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ،...........

قوله: «وبارك على محمَّد» أي: أنزل عليه البَرَكَةَ، ولهذا جاءت متعدِّية بعلى دون اللام، والبَرَكَة: مأخوذة من «البِرْكَة» وهو مجتمع الماء، ولا يكون إلا على وَجْهِ الكثرة والقرار والثبوت، وعليه فالبَرَكة كثرة الخيرات ودوامها واستمرارها، ويشمَلُ البَرَكَة في العمل والبَرَكة في الأثر.

أما البَرَكَة في العمل: فأن يُوفِّق الله الإنسان لعمل لا يُوفَّق له مَن نُزعت منه البَرَكة.

وأما البَرَكَة في الأثر: بأن يكون لعمله آثار جليلة نافعة ينتفع بها الناس، ولا شَكَّ أن بَرَكَة النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا نظيرَ لها، وذلك لأن أمَّته أكثر الأمم، ولأن اجتهادهم في الخير أكثر من اجتهادِ غيرهم، فَبُورِكَ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيمن اتبعَه، وبُورِكَ له في عَمَلِ من اتبعَه.

قوله: «وعلى آل محمد كَمَا باركت على آل إبراهيم» سَبَقَ أنَّ الآل إذا أُفرِدت تشمَلُ جميعَ الأتباعِ، فالمرادُ بآله أتباعه، وسَبَقَ الشَّاهدُ من كون الآل بمعنى الأتباع، وهو قوله تعالى: {{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}} [غافر: 46] يعني: أتباعه.

أما إذا قُرنت الآلُ بالأصحاب والأتباع؛ صار المرادُ بها المؤمنين مِن قرابتِه من بني هاشم، ومَن تفرَّع منهم؛ لأن الآل يشمَلُ إلى الجَدِّ الرابع.

ولا عَجَبَ أن يكون لِلَّفْظِ معنًى عند الانفراد، ومعنًى عند الاقتران، فالمسكين مثلاً والفقير بمعنى واحد عند الانفراد، ولكُلِّ واحدٍ منهما معنى عند الاقتران والاجتماع، والبِرُّ والتقوى كذلك؛ لكُلِّ واحدة منهما معنى عند الاقتران، ويتَّفق معناهما عند الافتراق.

والكاف هنا على القول الذي رجَّحناه فيما مضى في قوله: «كما صَلَّيت» للتَّعليل، وعلى هذا؛ فيكون ذِكْرُها مِن باب التوسُّلِ بفِعْلِ الله السَّابق إلى فِعْله اللاحق، كأنك تقول: كما أنك يا رَبِّ قد تفضَّلت على آل إبراهيم وباركت عليهم فبارك على آل محمَّد.

قوله: «إنك حميد مجيد» ، الجملة هذه استئنافية تفيد التَّعليل.

«حميد»: فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، فهو حامد ومحمود، حامد لعباده وأوليائه الذين قاموا بأمره، ومحمود يُحمدُ عزّ وجل على ما له من صفات الكمال، وجزيل الإنعام.

وأما «المجيد»: فهي فعيل بمعنى فاعل، أي: ذو المجد. والمجدُ هو: العظمة وكمالُ السُّلطان، ويُقال: «في كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ»[(307)].

هذا مثلٌ مشهور عند العرب، والمَرْخُ والعَفَار نوعان من الشَّجرِ في الحجاز معروفان، يعني: أنهما أسرعُ الشَّجرِ انقداحاً إذا ضربت بالزَّنْدِ، وإلا ففي كُلِّ الأشجار نار، كما قال تعالى: {{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا}} [يس: 80] .

 

وَيَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ومنْ عَذابِ الْقَبْرِ ............

قوله: «ويستعيذ» أي: يقول: أعوذُ بالله مِن عذابِ جهنَّم، والعياذ: هو الالتجاء أو الاعتصام مِن مكروه، يعني: أن يعتصم بالله من المكروه.

واللِّياذ: أن تلجأ إليه لحصول المطلوب، كما قال الشاعرُ:

يا مَنْ ألُوذُ به فيما أُؤَمِّلُهُ

ومَنْ أعُوذُ به مِمَّا أُحَاذِرُهُ

لا يَجْبُرُ النَّاسُ عظماً أنت كاسِرُهُ

ولا يَهيضُونَ عظماً أنت جَابِرُهُ

فجعلَ اللِّياذ فيما يُؤمَّل، والعياذ فيما يُحذَرُ مِن الأشياء المكروهة.

وهذان البيتان لا يصلحان إلا للَّهِ تعالى، وإنْ كان قائلُهما يَمدحُ بهما مخلوقاً، فهما مِن شطحاتِ الشُّعراء.

قوله: «من عذاب جهنم» أي: العذاب الحاصل منها، فالإضافة هنا على تقدير «من» فهي جنسيَّة كما تقول: خاتم حديد، أي: خاتم مِن حديد، ويحتمل أن تكون الإضافة على تقدير «في»، أي: عذابٌ في جهنم كما قال تعالى: {{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ}} [سبأ: 33] أي: مكرٌ في الليل، والإضافة تأتي على تقدير «مِن» وعلى تقدير «في» وعلى تقدير «اللام» وهي الأكثر.

وقوله: «جهنم» عَلَمٌ على النَّارِ التي أعدَّها عزّ وجل للكافرين، قال تعالى: {{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ *}} [آل عمران: 131] ، وهذه النَّار وَرَدَ في صفاتها وصفات العذاب فيها في الكتاب والسُّنَّة ما تقشعِرُّ منه الجلودُ، والبحث فيها من عِدَّة وجوه.

الوجه الأول: هل هي موجودة الآن، أو ليست بموجودة؟

الجواب: هي موجودة؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم عُرضت عليه النَّارُ في صلاة الكسوف وهو يُصلِّي بالنَّاسِ[(308)]، وكذلك في المعراج رأى النَّارَ أيضاً[(309)] والقرآن يدلُّ على ذلك كما قال تعالى: {{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}} [البقرة: 24] والإعداد بمعنى: التهيئة والفعل ماضٍ، فيقتضي: أن الإعداد حاصل الآن.

الوجه الثاني: هل هي مؤبَّدة أو مؤمَّدة؟ يعني: هل تفنى أو هي دائمة أبد الآبدين؟

الجواب: المتعيِّن قطعاً أنها مؤبَّدة، ولا يكاد يُعرف عند السَّلفِ سوى هذا القول، ولهذا جَعَله العلماء مِن عقائدهم؛ بأن نؤمن ونعتقد بأن النار مؤبَّدة أبد الآبدين، وهذا أمرٌ لا شَكَّ فيه؛ لأن الله تعالى ذَكَرَ التأبيد في ثلاثة مَواضع مِن القرآن في سورة «النساء» في قوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا *} {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}} [النساء: 168، 169] .

والثاني في سورة «الأحزاب» في قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا *} {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}} [الأحزاب: 64، 65] .

والثالث في سورة «الجن» في قوله تعالى: {{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}} [الجن: 23] ، ولو ذَكَرَ اللَّهُ عزّ وجل التأبيد في موضعٍ واحد لكفى، فكيف وهو قد ذَكَرَه في ثلاثة مواضعٍ؟ ومِن العجب أن فِئةً قليلة مِن العلماء ذهبوا إلى أنها تفنى بناءً على عِللٍ عَليلة؛ لمخالفتها لمقتضى الكتاب والسُّنَّة، وحَرَّفوا مِن أجلها الكتابَ والسُّنَّةَ فقالوا: إن {{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}} ما دامت موجودة. فكيف هذا؟!!

إذا كانوا خالدين فيها أبداً لزم أن تكون هي مؤبَّدة، لأن قوله: {{فِيهَا}} أي: هم كائنون فيها، وإذا كان الإنسان خالداً مؤبَّداً تخليده لزم أن يكون مكان الخُلود مؤبَّداً، لأنه لو فَنِيَ مكانُ الخلود ما صَحَّ تأبيد الخُلود.

والتعليلات المخالفة للنصِّ مردودة على صاحبها، وهذا الخلاف الذي ذُكِرَ عن فِئةٍ قليلة مِن أهل العِلم خلافٌ مُطَّرَحٌ؛ لأنه مخالف للنصِّ الصَّريح الذي يجب على كُلِّ مؤمن أن يعتقده، ومَن خالفَه لشُبهة قامت عنده فيُعذر عند الله، لكن من تأمَّل نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ عَرَفَ أنها مؤبَّدة، والحكمة تقتضي ذلك؛ لأن هذا الكافر أفنى عُمُرَه في محاربة الله عزّ وجل ومعصيته، والكفر به وتكذيب رُسُله، مع أنه جاءه النذيرُ، وأعذر، وبُيِّنَ له الحقُّ، ودُعِي إليه، وقوتِلَ عليه، وأصرَّ على الكفر والباطل، فكيف نقول: إنَّ هذا لا يؤبَّد عذابه! والآيات في هذا صريحة.

الوجه الثالث: هل عذابها حقيقي يُؤلِم، أو أنَّ أهلَها يكونون فيها كأنهم حِجارة لا يتألَّمون؟

الجواب: أن عذابها حقيقي يُؤلِم، ومَنْ قال خِلاف ذلك فقد أخطأ، وأبعد النَّجْعَة، فهم يُعَذَّبون ويألمون ألماً عظيماً شديداً، كما قال تعالى في عِدَّة آيات {{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [البقرة: 10] حتى إنهم يتمنَّون الموتَ، والذي يتمنَّى الموت، هل يُقال: إنه يتألَّم أو إنه تأقلم؟

الجواب: لو تأقلمَ ما تألَّمَ، ولا دعا الله أنْ يقضيَ عليه، قال تعالى: {{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ *لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ *}} [الزخرف] .

إذاً؛ هم يتألَّمون بلا شَكٍّ، والحرارة النارية تؤثِّر على أبدانهم ظاهرِها وباطنِها، قال الله تعالى في كتابه العزيز: {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا *}} [النساء] وهذا واضحٌ؛ أن ظاهر أبدانهم يتألَّم وينضج، وقال تعالى: {{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}} [الكهف: 29] ، وشَيُّ الوجه واللَّحم معروف، فهم إذا استغاثوا {{يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ}} [الكهف: 29] بعد مُدَّة طويلة، وهذا الماء إذا أقبل على وجوههم شواها وتساقطت ـ والعياذ بالله ـ فإذا شَرِبوه قَطَّعَ أمعاءَهم كما قال تعالى: {{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}} [محمد: 15] وهذا عذاب الباطن، وقال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في أهونِ أهلِ النَّارِ عذاباً: «إنَّه في ضَحْضَاح مِنْ نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغُه»[(310)] فإذا كان الدِّماغ يَغْلي، فما بالك بما دونه مما هو أقرب إلى النَّعلين، وهذا دليل واضحٌ على أنَّهم يتألَّمون، وأنَّ هذه النارَ تؤثِّر فيهم، وقال تعالى: {{وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}} [الحج: 22] أي: المُحرِق، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة.

الوجه الرابع: هل هناك ناران: نارٌ لأهل الكفر، ونار لأهل التوحيد الذين يُعذَّبون فيها ثم يخرجون؟

الجواب: زَعَمَ بعضُ العلماء ذلك، وقال: إنَّ النَّارَ ناران، نارٌ لأهل الكفر؛ ونار لأهل المعاصي من المؤمنين، وبينهما فَرْقٌ، ولكن هذا لا أعلمُ له دليلاً؛ لا مِن القرآن ولا من السُّنَّة، والذي أعلمُه أنَّ النَّارَ واحدة لا تختلف لكن عذابها يختلفُ، فلا شَكَّ أنَّها على عُصاة المؤمنين ليست كما هي على الكافرين.

وكوننا نقول بالتقسيم بناءً على استبعاد عقولنا أن تكون ناراً واحدة تؤثِّر تأثيرين مختلفين لا وَجْهَ له لما يلي:

أولاً: أن الله على كلِّ شيءٍ قدير، والله تعالى قادرٌ على أن يجعل النَّارَ الواحدة لشخص سلاماً ولآخر عذاباً.

ثانياً: أن أحوال الآخرة لا تُقاس بأحوال الدنيا أبداً؛ لظهور الفَرْقِ العظيم بينهما، فلا يجوز أنَّ تقيس أحوال الآخرة بأحوال الدُّنيا؛ لتنفي ما لا يتَّسعُ له عقلك، بل عليك ـ بالنسبة لأحوال الآخرة ـ أن تسلِّم وتقبل وتُصدِّق. أليست هذه الشمسُ تدنو مِن الخلائق قَدْرَ ميل يوم القيامة؟ ولو كانت أحوالُ النَّاسِ يوم القيامة كأحوالهم في الدنيا لأحرقتهم؛ لأنَّ هذه الشمسَ في أوجها لو نزلت في الدُّنيا ولو يسيراً أحرقت الأرضَ ومَحَتْهَا عن آخرها، ونحن نحسُّ بحرارتها الآن، وبيننا وبينها مسافات عظيمة، ولا سيَّما في أيام الصيف حين تكون عمودية، ومع ذلك تدنو مِن الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل، ولا يحترقون بها.

وكذلك أيضاً في يوم القيامة؛ الناسُ في مقام واحد، المؤمنون لهم نورٌ يَسعى بين أيديهم وبأيمانهم، والكُفَّار في ظُلْمَة، لكن في الدنيا لو كان بجانبك واحد على يمينه نورٌ وبين يديه نورٌ فإنك تنتفع به، أمَّا في الآخرة فلا.

وفي الآخرة أيضاً يَعْرَقُ النَّاسُ، فيختلف العَرَقُ اختلافاً عظيماً بينهم؛ وهم في مكانٍ واحد، فمِن النَّاسِ مَن يَصِلُ العَرَقُ إلى كعبيه، ومنهم مَن يَصِلُ إلى ركبتيه، ومنهم مَن يَصِلُ إلى حقويه، ومنهم مَنْ يُلجمُه العَرَقُ.

فلا يجوز أن نقيسَ أحوالَ الآخرة بأحوال الدُّنيا، ثم نذهب ونُحدِث أشياء لم تأتِ في الكتاب والسُّنَّة، كتقسيم النَّار إلى نارين: نار للعصاة، ونار للكافرين. فالذي بلغنا ووصل إليه عِلمُنا أنها نارٌ واحدة لكنها تختلف.

الوجه الخامس: أين مكان وجودها؟

الجواب: مكانها في الأرض، ولكن قال بعضُ أهل العِلْم: إنَّها البحار. وقال آخرون: بل هي في باطن الأرض. والذي يظهر: أنَّها في الأرض، ولكن لا ندري أين هي مِن الأرض على وَجْهِ التعيين.

والدَّليل على أنَّ النَّارَ في الأرض:

قول الله تعالى: {{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ *}} [المطففين: 7] وسِجِّين الأرض السُّفلى كما جاء في حديث البَراءِ بن عَازبٍ فيمن احتُضِرَ وقُبِضَ مِن الكافرين، أنَّها لا تُفتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ، ويقول الله تعالى: «اكتبوا كتابَ عبدي في سِجِّين في الأرض السُّفلى، وأعيدوه إلى الأرض»[(311)] ولو كانت النَّارُ في السَّماء لكانت تُفتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ ليدخلوها؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رأى أصحابَها يعذَّبون فيها، وإذا كانت في السَّماءِ لَزِمَ مِن دخولهم في النَّارِ التي في السماء أن تُفَتَّحَ لهم أبوابُ السَّماءِ.

لكن؛ بعضُ الطَّلبة استشكلَ وقال: كيف يراها الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم ليلة عُرِجَ به[(312)] وهي في الأرض؟

وأنا أعجب لهذا الاستشكال! ولا سيَّما وقد وَرَدَ مِن طالب عِلم، فإذا كُنَّا ـ ونحن في الطائرة ـ نرى الأرضَ تحتنا بعيدة وندركها، فكيف لا يرى النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ النَّارَ وهو في السماء؟!!

ثم إن أمورَ الغيب لا تُقاس بأمور الشهادة.

فالحاصل: أنَّ النَّارَ في الأرض، وقد رُوِيَ في هذا أحاديثُ؛ لكنها ضعيفة، ورُوِيَ آثار عن السَّلف كابن عباس، وابن مسعود[(313)]، وهو ظاهر القرآن قال تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}} [الأعراف: 40] ، والذين كذَّبوا بالآيات واستكبروا عنها لا شَكَّ أنهم في النّار.

الوجه السادس: ما أسماؤها؟

الجواب: لها أسماء متعدِّدة، وهذا التعدُّد في الأسماء لاختلاف صفاتها؛ فتُسمَّى الجحيم، وتُسمَّى جهنَّم، وتُسمَّى لَظَى، وتُسمَّى السَّعير، والمُسمَّى واحد، فكلُّ ما وَرَدَ في كتاب الله أو صَحَّ في سُنَّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم مِن أسمائها فإنه يجب على المؤمن أن يصدِّق به ويُثْبِتَه.

وقوله: «من عذاب جهنَّم» هل المراد أنه يتعوَّذ بالله من فِعْلِ المعاصي المؤدِّية إلى جهنم، أو يتعوَّذ بالله من جهنَّم، وإن عَصَى فهو يطلب المغفرة من الله، أو يشمَلُ الأمرين؟

الجواب: يشمَلُ الأمرين، فهو يستعيذُ بالله مِن عذاب جهنَّم، أي: مِن فِعْلِ الأسباب المؤدِّية إلى عذاب جهنَّم.

ومِن عذاب جهنَّم، أي: من عقوبة جهنَّم إذا فَعل الأسباب التي توجب ذلك؛ لأن الإنسان بين أمرين: إمَّا عصمة مِن الذُّنوبِ، فهذا إعاذة الله من فِعْلِ السبب، وإما عفوٌ عن الذُّنوبِ وهذا إعاذة الله مِن أَثَرِ السبب.

وقولنا: العصمة مِن الذُّنوبِ، ليس معناه العصمة المطلقة؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلُّ بني آدم خَطَّاء، وخيرُ الخَطَّائين التوَّابُون»[(314)]. وقال: «لو لم تُذنبوا؛ لذهبَ اللَّهُ بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون؛ فيستغفرون الله؛ فيغفر لهم»[(315)].

قوله: «ومن عذاب القبر» معطوفة على «مِن عذاب جهنَّم» وعذاب القبر ما يحصُل فيه من العقوبة، وأصل القبر مدفن الميِّت، قال الله تعالى: {{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *}} [عبس] قال ابنُ عباس: «أي: أكرمه بدفنه». وقد يُراد به البرزخ الذي بين موت الإنسان وقيام الساعة، وإن لم يُدفن، كما قال تعالى: {{وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}} [المؤمون: 100] يعني: مِن وراء الذين ماتوا؛ لأن أوَّلَ الآية يدلُّ على هذا، قال تعالى: {{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *}} [المؤمنون] .

فهل الدَّاعي إذا استعاذ بالله مِن عذابِ القبر؛ يريد مِن عذاب مدفن الموتى، أم مِن عذاب البرزخ الذي بين موته وبين قيام السَّاعة؟

الجواب: يُريد الثاني؛ لأن الإنسان في الحقيقة لا يدري هل يموت ويُدفن، أو يموت وتأكله السِّباع، أو يَحترق ويكون رماداً، قال الله تعالى: {{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}} [لقمان: 34] فاستحضر أنك إذا قلت: «من عذاب القبر» أي: مِن العذاب الذي يكون للإنسان بعد موتِه إلى قيام السَّاعة.

والبحث في عذاب القبر مِن عِدَّة أوجه:

الوجه الأول: بماذا ثبت عذاب القبر؟

الجواب: ثبت بصريح السُّنَّة، وظاهر القرآن، وإجماع المسلمين.

أمَّا صريحُ السُّنَّة: فحديث البَراء بن عَازبٍ وأمثاله، قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «استعيذوا بالله مِن عذابِ القبر، استعيذوا بالله مِن عذاب القبر، استعيذوا بالله مِن عذاب القبر»[(316)].

وأمَّا إجماع المسلمين: فلأن جميع المسلمين يقولون في صلاتهم: «أعوذُ بالله من عذاب جهنَّم، ومِن عذاب القبر»، حتى العامَّة الذين ليسوا من أهل الإجماع، ولا من العلماء.

وأما ظاهر القرآن: فمثل قوله تعالى في آل فرعون: {{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ *}} [غافر] قال: {{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}} ثم قال: {{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}} ولا شَكَّ أن عَرْضهم على النَّارِ مِن أجل أن يصيبهم مِن عذابها، وقال تعالى: {{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ}} [الأنعام: 93] فهم يَشِحُّون بأنفسهم لا يريدون أن تخرج {{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}} [الأنعام: 93] .

فقال: {{الْيَوْمَ}} «أل» هنا للعهد الحضوري، يعني: اليوم الحاضر الذي هو يوم وفاتهم {{تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}} [الأنعام: 93]

وهذا الظَّاهر من القرآن يكاد يكون كالصَّريح؛ لأن الآيتين اللتين ذكرناهما كالصَّريح في ذلك.

الوجه الثاني: هل هو على البدن، أو على الرُّوح، أو عليهما؟

الجواب: الأصلُ أنَّه على الرُّوح؛ لأن الحُكْمَ بعد الموت للرُّوح، والبدن جُثَّة هامدة، ولهذا لا يحتاج البدن إلى إمداد لبقائه، فلا يأكل ولا يشرب، بل تأكله الهوام، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الرُّوح قد تتَّصلُ بالبَدَنِ فيتعذَّب. واعتمدوا في ذلك على أنَّ هذا قد رُئِيَ حِسًّا في القبر، فقد فُتِحَتْ بعضُ القبور ورُئِيَ أثرُ العذاب على الجسم، وفُتِحت بعضُ القبور ورُئِيَ أثر النَّعيم على الجسم، وقد حدثني بعضُ النَّاسِ أنَّهم في هذا البلد هنا في «عُنَيزة» كانوا يَحْفِرُون لسور البلد الخارجي، فمرُّوا على قَبْرٍ فانفتح اللَّحْدُ فوجدوا فيه ميتاً قد أكلت كَفَنَه الأرضُ، وبقي جسمُه يابساً؛ لكن لم تأكل منه شيئاً، حتى إنهم قالوا: إنهم رأوا لحيته وفيها الحناء، وفاح عليهم رائحة كأطيب ما يكون من المسك، فتوقَّفوا وذهبوا إلى الشيخ، وكان في ذلك الوقت «عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين» وسألوه فقال: دعوه على ما هو عليه وجنِّبوا عنه، فاحفِروا عن يمين أو يسار.

فبناءً على ذلك قال العلماء: إن الرُّوح قد تتَّصل بالبدن فيكون العذابُ على هذا وهذا، وربما يُستأنس لذلك بحديث البَراءِ بن عازبٍ المتقدِّم الذي قال فيه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن القبرَ ليضيق على الكافر؛ حتى تختلف فيه أضلاعُه»[(317)]، فهو يدلُّ على أن العذابَ يكون على الجسم؛ لأن الأضلاع في الجسم.

الوجه الثالث: إذا لم يُدفن الميِّت وأكلته السِّباعُ، أو ذرَّته الرِّياحُ، أو سقط في اليَمِّ فأكلته الحيتان. هل يكون عليه عذاب؟

الجواب: نعم، ويكون العذاب على الرُّوح؛ لأن الجسدَ قد زال وتَلِفَ وفَنِيَ، وإنْ كان هذا أمراً غيبيًّا لا أستطيع أن أجزم بأن البدن لا يناله مِن هذا العذاب شيء؛ ولو كان قد فَنِيَ واحترق؛ لأن الأمر الأُخروي لا يستطيع الإنسان أن يقيسه على المشاهد في الدُّنيا.

الوجه الرابع: هل عذابُ القبر دائم، أو منقطع؟.

الجواب: أما إنْ كان الإنسان كافراً ـ والعياذ بالله ـ فإنه لا طريق إلى وصول النَّعيم إليه أبداً، ويكون عذابُه مستمرًّا، وأما إنْ كان عاصياً وهو مؤمن فإنه إذا عُذِّبَ في قَبْرِه يُعذَّب بقَدْرِ ذنوبه، وربَّما يكون عذابُ ذنوبه أقل مِن البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة، وحينئذٍ يكون منقطعاً.

الوجه الخامس: هل يُخفَّفُ عذابُ القبر بالنسبة للمؤمن العاصي؟

الجواب: نعم، قد يُخفَّف؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم مرَّ بقبرين فقال: «إنَّهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبير، بلى إنه كبير، أمَّا أحدهما فكان لا يستبرئ أو قال: لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة»، ثم أخذ جريدةً رطبةً فشقَّها نصفين، فغرز في كُلِّ قبر واحدة، وقال: «لعله يخفَّف عنهما ما لم ييبسا»[(318)]، وهذا دليل على أنه قد يُخفَّف العذابُ، ولكن ما مناسبة هاتين الجريدتين لتخفيف العذاب عن هذين المعذَّبين؟

الجواب[(319)]: قيل: لأنَّهما تسبِّحان ما لم تيبسا، والتسبيح يخفِّف مِن العذاب على الميِّت، وفرَّعوا على هذه العِلَّة المستنبطة التي قد تكون مستبعدة؛ أنه يُسنُّ للإنسان أن يذهب إلى القبور ويسبِّح عندها مِن أجل أن يخفِّف عنها العذاب.

وقال بعضُ العلماء: هذا التَّعليل ضعيف؛ لأن الجريدتين تسبِّحان، سواء كانتا رطبتين أم يابستين لقول الله تعالى: {{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}} [الإسراء: 44] .

وسُمِعَ تسبيحُ الحَصى بين يدي الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أن الحَصى يابس ولا ينمو.

والعِلَّة القريبة: أنَّ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم رجا مِن الله عزّ وجل أن يخفِّف عنهما مِن العذاب ما دامت هاتان الجريدتان رطبتين، يعني: أن المدَّة ليست طويلة.

وذلك مِن أجل التَّحذير عن فِعْلِهما؛ لأن فِعْلَهما كبير كما جاء في الرواية: «بلى؛ إنه كبير» أحدهما لا يستبرئ من البول، وإذا كان لا يستبرئ مِن البول صَلَّى بغير طهارة، والثاني يمشي بالنميمة؛ يُفسد بين عباد الله ـ والعياذ بالله ـ ويُلقي بينهم العداوة والبغضاء، فالأمر كبير، وهذا هو الأقرب أنها شفاعة مؤقَّتة تحذيراً للأمة، لا بُخلاً مِن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالشفاعة الدائمة.

ونقول استطراداً: إن بعض العلماء ـ عفا الله عنهم ـ قالوا: يُسَنُّ أن يضع الإنسان جريدة رطبة أو شجرة أو نحوها على القبر ليخفِّف عنه، لكن هذا الاستنباط بعيد جدًّا؛ ولا يجوز أن نصنع ذلك لما يلي:

أولاً: أنه لم يُكشف لنا أن هذا الرَّجل يُعذَّب، بخلاف النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فقد كُشِفَ له عن القبرين.

ثانياً: أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميِّت؛ لأننا ظننَّا به ظَنَّ سوءٍ أنه يُعذَّب، وما يدرينا فلعله يُنَعَّم، لعل هذا الميت ممن مَنَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته؛ لوجود سبب مِن أسباب المغفرة الكثيرة، فمات وقد عفا رَبُّ العباد عنه، وحينئذٍ لا يستحقُّ عذاباً.

ثالثاً: أنَّهُ مخالفٌ لهدي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فإنه لم يكن يفعل ذلك في كلِّ قَبْرٍ.

رابعاً: أنَّه مخالفٌ لما كان عليه السَّلف الصَّالح الذين هم أعلمُ النَّاس بشريعة الله، فما فَعَلَ هذا أحدٌ من الصَّحابة رضي الله عنهم.

خامساً: أنَّ الله تعالى قد فَتَحَ لنا ما هو خير منه، فكان النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام إذا فَرَغَ مِن دفن الميِّت وَقَفَ عليه وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسأل»[(320)].

الوجه السادس: هل عذاب القبر من أمور الغيب، أم من أمور الشَّهادة؟

الجواب: مِن أمور الغيب، وكم من إنسان في هذه المقابر يُعذَّب، ونحن لا نشعرُ به، وكم جار له مُنعَّم مفتوح له باب إلى الجنة ونحن لا نشعر به، فما في القبور لا يعلمه إلا علاَّم الغيوب، فشأن عذاب القبر من أمور الغيب، ولولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرنا به ما علمنا؛ ولهذا لمَّا دَخَلَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة، وعندها امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرتِ أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة: فارتاعَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «إنَّما تُفْتَنُ يَهُودُ» قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل شعرتِ أنه أُوحي إلي أنكم تُفتنون في القبور» قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بَعْدُ يستعيذُ مِن عذاب القبر[(321)].

ولكن قد يُطلع الله تعالى عليه مَنْ شاء مِن عباده، مثل ما أطلع نبيه صلّى الله عليه وسلّم على الرَّجُلين اللذين يعذَّبان، أحدُهما يمشي بالنميمة، والآخر لا يستنزه من البول[(322)]. والحكمة من جَعْلِهِ من أمور الغيب ما يلي:

أولاً: أنَّ الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين؛ فلو كُنَّا نَطَّلِعُ على عذاب القبور لَمِتنا؛ لأن الإنسان إذا اطَّلع على أنَّ أباه، أو أخاه، أو ابنه، أو زوجه، أو قريبه يُعذَّب في القبر ولا يستطيع فِكَاكَه، فإنه يَقْلق ولا يستريح، وهذه مِن نعمة الله سبحانه.

ثانياً: أنه أستر للميِّت، فهذا الميِّت قد سَتَرَ الله عليه، ولم نعلم عن ذنوبه التي بينه وبين رَبِّه عزّ وجل، فإذا مات وأطلعنا الله على عذابِهِ صار في ذلك فضيحة عظيمة له، ففي سَتْرِه رَحْمةٌ مِن الله بالميِّت.

ثالثاً: أنه قد يَصعُب على الإنسان دَفْنُ الميِّت؛ كما صَحَّ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لولا ألاَّ تدافنوا؛ لسألتُ اللَّهَ أن يسمِعَكم مِن عذاب القبر الذي أسمعُ منه»[(323)].

رابعاً: أنَّ في ذلك إزعاجاً لأهله وذويه، وربما عُيِّرُوا بذلك وأُهينُوا.

خامساً: لو كان العذاب ظاهراً لم يكن للإيمان به مزيَّة، لأنه يكون مشاهداً، وهو من أمور الغيب التي يُثنى على مَنْ آمن بها، ثم إنَّه قد يحمِلُ النَّاسَ على أن يؤمنوا كلهم؛ لقوله تعالى: {{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}} [غافر: 84] فلو رأى النَّاسُ هؤلاء المدفونين وسمعوهم يتصارخون لآمنوا وما كفر أحد، لأنه أيقن بالعذاب عين اليقين، فكأنه نزل به فلم يكن للإيمان به فائدة. وحِكَمُ الله سبحانه وتعالى عظيمة والإنسان المؤمن حقيقة هو الذي يجزمُ بخبر الله أكثر مما يجزمُ بما شاهده بعينه، لأن خَبَرَ الله عزّ وجل لا يتطرَّقُ إليه احتمال الوهم ولا الكذب، وما تراه بعينك يمكن أن تتوهمه.

فكم مِن إنسان شَهِدَ أنَّه رأى الهلالَ؛ وإذا هي نجمة. وكم مِن إنسان شَهِدَ أنه رأى الهلال؛ وإذا هي شعرة بيضاء على حاجبه، وهذا وَهْمٌ، وكم مِن إنسان يرى شَبَحاً ويقول: هذا إنسان مقبل؛ وإذا هو جذع نخلة. وكم من إنسان يرى السَّاكن متحرِّكاً والمتحرِّك ساكناً. لكن خبر الله لا يتطرَّق إليه الاحتمال أبداً. ولهذا نسألُ الله لنا ولكم الثبات. فالمؤمن يُوقن بخبر الله أشدَّ مما يراه في عينه مِن قَبوله والإيمان به.

 

وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَيَدْعُو بِمَا وَرَدَ.

قوله: «ومن فتنة المحيا والممات» معطوفة على «من عذاب جهنم» والمراد بالفتنة اختبار المرء في دينه؛ في حياته وبعد مماته، وفتنة الحياة عظيمة وشديدة، وقلَّ من يتخلَّص منها إلا مَنْ شاء الله، وهي تدور على شيئين:

1 ـ شُبُهات.

2 ـ شهوات.

أما الشُّبُهات فتعرض للإنسان في عِلْمِهِ، فيلتبس عليه الحقُّ بالباطل، فيرى الباطل حقًّا، والحقَّ باطلاً، وإذا رأى الحقَّ باطلاً تجنَّبه، وإذا رأى الباطلَ حقاً فَعَلَهُ، وأمَّا الشَّهوات فتعرض للإنسان في إرادته، فيريد بشهواته ما كان محرَّماً عليه، وهذه فتنة عظيمة، فما أكثر الذين يرون الرِّبا غنيمة فينتهكونه! وما أكثر الذين يرون غِشَّ النَّاسِ شطارةً وجَودةً في البيع والشِّراء فيغشُّون! وما أكثر الذين يرون النَّظَرَ إلى النساء تلذُّذاً وتمتُّعاً وحرية، فيطلق لنفسه النظر للنساء! بل ما أكثر الذين يشربون الخمر ويرونه لذَّة وطرباً! وما أكثر الذين يرون آلاتِ اللهو والمعازف فنًّا يُدرَّسُ ويُعطى عليه شهادات ومراتب!

وأما فتنة الممات فاختلف فيها العلماءُ على قولين[(324)]:

القول الأول: إن فتنة الممات سؤال الملكين للميِّت في قَبْرِه عن ربِّه، ودينه ونبيِّه؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنه أُوحِيَ إلي أنكم تُفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدَّجَّال»[(325)]. فأمَّا مَنْ كان إيمانُه خالصاً فهذا يسهل عليه الجواب.

فإذا سُئل: مَنْ ربُّك؟ قال: ربِّي الله.

مَنْ نبيُّك؟ قال: نبيِّي محمَّد.

ما دينك؟ قال: ديني الإسلام. بكلِّ سُهولة.

وأما غيره ـ والعياذ بالله ـ فإذا سُئل قال: هاه... هاه... لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته[(326)].

وتأمل قوله: «هاه... هاه...» كأنه كان يعلم شيئاً فنسيه، وما أشدَّ الحسرة في شيء علمتَه ثم نسيتَه؛ لأن الجاهل لم يكسب شيئاً، لكن النَّاسي كسب الشيء فخسره، والنتيجة يقول: لا أدري مَنْ ربِّي، ما ديني، مَنْ نبيي. فهذه فتنة عظيمة؛ أسألُ الله أن ينجِّيني وإيَّاكم منها، وهي في الحقيقة تدور على ما في القلب، فإذا كان القلب مؤمناً حقيقة يرى أمور الغيب كرأي العين، فهذا يجيب بكلِّ سُهولة، وإن كان الأمر بالعكس فالأمر بالعكس.

القول الثاني: المراد بفتنة الممات: ما يكون عند الموت في آخر الحياة، ونصَّ عليها ـ وإنْ كانت مِن فتنة الحياة ـ لعظمها وأهميتها، كما نصَّ على فِتنة الدَّجَّال مع أنها مِن فتنة المحيا، فهي فِتنة ممات؛ لأنها قُرب الممات، وخصَّها بالذِّكر؛ لأنها أشدُّ ما يكون، وذلك لأن الإنسان عند موته ووداع العمل صائر إما إلى سعادة، وإما إلى شقاوة، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحدَكُم ليعملُ بعملِ أهلِ الجنَّة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتابُ؛ فيعملُ بعملِ أهل النَّارِ»[(327)] فالفتنة عظيمة.

وأشدُّ ما يكون الشيطانُ حرصاً على إغواء بني آدم في تلك اللحظة، والمعصومُ مَنْ عَصَمَه الله، يأتي إليه في هذه الحال الحرجةِ التي لا يتصوَّرها إلا من وقع فيها قال تعالى: {{كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ *وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ *وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ *وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ *}} [القيامة] ، حال حرجة عظيمة، الإنسانُ فيها ضعيفُ النَّفْسِ، ضعيفُ الإِرادة، ضعيفُ القوَّة، ضيقُ الصَّدر، فيأتيه الشيطانُ ليغويه؛ لأن هذا وقت المغنم للشيطان، حتى إنه كما قال أهل العلم: قد يعرضُ للإِنسان الأديان اليهودية، والنصرانية، والإسلامية بصورة أبويه، فيعرضان عليه اليهودية والنصرانية والإسلامية، ويُشيران عليه باليهودية أو بالنصرانية، والشيطان يتمثَّلُ كُلَّ واحد إلا النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذه أعظم الفِتَنِ.

ولكن هذا والحمد لله لا يكون لكلِّ أحد، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وحتى لو كان الإنسان لا يتمكَّن الشيطان من أن يَصِلَ إلى هذه الدرجة معه، لكن مع ذلك يُخشى عليه منه.

يقال: إنَّ الإمام أحمد رحمه الله وهو في سكرات الموت كان يُسمَعُ وهو يقول: بعدُ.. بعدُ. فلما أفاق قيل له في ذلك؟ قال: إنَّ الشيطان كان يعضُّ أنامله يقول: فُتَّني يا أحمد. يعضُّ أنامله ندماً وحسرة كيف لم يُغوِ الإمام أحمد؟ فيقول له أحمد: بعدُ.. بعدُ. أي: إلى الآن ما خرجت الرُّوح، فما دامت الرُّوح في البدن فكلُّ شيء وارد ومحتمل {{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}} [آل عمران: 8] في هذه الحال فتنة عظيمة جدًّا، ولهذا نصَّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عليها قال: «مِن فِتنة المحيا والممات».

فالحاصل: أنَّ فتنة الممات فيها تفسيران:

التفسير الأول: الفتنة التي تكون عند الموت.

والثاني: التي تكون بعد الموت، وهي سؤال الملكين الإنسان عن رَبِّه ودينه ونبيِّه.

ولا مانع بأن نقول: إنَّها تشمَلُ الأمرين جميعاً، ويكون قد نصَّ على الفتنة التي قبل الموت وعند الموت؛ لأنَّها أعظم فتنة تَرِدُ على الإنسان، وذكر ما يُخشى منها من سوء الخاتمة إذا لم يُجِرِ اللَّهُ العبد من هذه الفتنة.

وعلى هذا، ينبغي للمتعوِّذ مِن فِتنة الممات أن يستحضر كلتا الحالتين.

مسألة: هل سؤال الملكين حقيقي، بمعنى: أن الإنسان يُجْلَسُ في قبره ويُناقش، أو أنه خيال؟

الجواب: هو حقيقي بلا شَكٍّ، وأن الإنسان في قبره يُجْلَسُ ويُناقش ويُسأل؛ نسأل الله الثبات.

فإن قال قائل: إن القبر محدود ضيِّق فكيف يجلس؟

فالجواب على ذلك: أولاً: أنَّ الواجب على المؤمن في الأمور الغيبية أن يقبل ويصدِّق، ولا يسأل عما وراء ذلك، بل يقول: سمعنا وآمنَّا، وصدَّقنا وقَبِلْنَا، ولا يسأل: كيف ولِمَ؛ لأنه لا يَسأل عن كيف ولِمَ إلا مَنْ شَكَّ، وأما من آمن وانشرح صدرُه لأخبار الله ورسوله فإنه يُسَلِّم ويقول: الله أعلم بكيفية ذلك.

ثانياً: أن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدُّنيا، لظُهور الفَرْق العظيم بينهما، وعدم الجامع المقتضي لإلحاق إحداهما بالأخرى. وتـعلُّق الـرُّوح بالبدن بعد الموت ليس كتعلُّقها به في حال الحياة، بل إن تعلُّقَ الرُّوح بالبدن في حال النوم ليس كتعلقها به في حال اليقظة، فللرُّوح مع البدن شؤون عظيمة لا يدركها الإنسان، وتعلُّقها بالبدن بعد الموت لا يمكن أن يُقاس بتعلُّقها به في حال الحياة، وها هو الإنسان في منامه؛ يرى أنه ذهب وجاء وسافر وكَلَّم أُناساً والتقى بأناس أحياء وأموات، ويرى أنه له بستاناً جميلاً؛ أو داراً موحشة مظلمة، ويرى أنه راكب على سيَّارة مريحة، ويرى مرَّة أنه صَدَمَ، ومرَّة أنه صُدِم، كلُّ هذا يمكن، مع أن الإنسان على فراشه لم يتغيَّر، حتى الغطاء الذي عليه لم يتغيَّر، وهذا أمر يكون حقًّا إذا كانت رؤيا صالحة.

فالإنسان يمكن أن يُجْلَسَ في قبره ويُسأل، ولو كان القبر محدوداً ضيِّقاً.

إذاً؛ فالفتنة حقيقة؛ يُسأل المرءُ عن ثلاثة أشياء: عن ربِّه، ودينه، ونبيِّه. وسَبَقَ لنا ذِكْرُ كيفيَّة الجواب من المسؤول، وأن المؤمن يقول: ربِّي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما الكافر أو المرتاب فيقول: هاه... هاه... لا أدري، سمعتُ النَّاسَ يقولون شيئاً فقلتُه[(328)].

قوله: «وفتنة المسيح الدَّجَّال» . معطوفة على قوله: «مِن عذاب جهنَّم» المراد بفتنة المسيح الدَّجَّال ما يحصُلُ به مِن الإضلال والإغواء بما معه من الشُّبهات و«المَسيْح» فعيل بمعنى مفعول من المسح؛ لأنه يمسح الأرض بسرعة سيره فيها، أو لأنه كان ممسوح العين؛ لأنه أعور العين اليُمنى، كأن عينه عِنَبَة طافية، أو عنبة طافئة.

إن كانت طافئة فهي خابئة، أي: أنها غائرة، وإن كانت طافية بالياء فهي كالعنبة الطافية فوق الماء أي: أنها ناتئة.

وعلى كُلٍّ؛ فإن هذا المسيح الدَّجَّال فِتنته مِن فتنة الدُّنيا؛ لأنه لا يَفتن إلا الأحياء، فالأموات قد سَلِموا منه.

فإن قال إنسان: إذا كان مِن فِتنة الدُّنيا أو مِن فِتنة المحيا، فلماذا ذُكِرَ وحده؟

فالجواب: لأن أعظمَ فِتنة على وَجْهِ الأرض منذ خُلق آدم إلى قيام الساعة هي فِتنةُ الدَّجَّال، كما قال ذلك النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم[(329)]، ولهذا ما من نبيٍّ مِن نوح إلى محمَّد صلوات الله وسلامه عليهم إلا أنذر قومَه منه[(330)] تنويهاً بشأنه وتحذيراً منه، وإلا فإن الله يعلم أنه لن يخرج إلا في آخر الزمان، ولكن أَمَرَ الرُّسل أن ينذروا قومهم إيَّاه من أجل أن يتبيَّن عِظَمُه وفداحته، وقد صَحَّ ذلك عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلامُ وقال: «إنْ يخرجْ وأنا فيكم، فأنا حَجيجُهُ دونكم ـ يعني: أكفيكم إيَّاه ـ وإن يخرجْ، ولست فيكم؛ فامرؤٌ حجيجُ نفسه، والله خليفتي على كلِّ مسلم»[(331)] نِعْمَ الخليفةُ ربُّنا جَلَّ وعلا. لذلك كان الدَّجَّال حريًّا بأن تُخصَّ فِتنته من بين فِتَنِ المحيا.

وأما الدَّجَّال فهو مأخوذ من الدَّجَل وهو التمويه؛ لأن هذا أعظم مموِّه، وأشدُّ الناس دجلاً.

والبحث فيه من وجوه:

أولاً: زَمنه، هو من علامات الساعة؛ ولكنه غير محدَّد، فلا نعلمه؛ لأنه لا يعلم متى تكون السَّاعة إلا الله، فكذلك أشراطها لا نعلم منها إلا ما ظهر، فوقت خروجه غير معلوم لنا.

ثانياً: مكانه، فإنه يخرج من المشرق جهة الفتن والشَّرِّ، كما قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: «الفتنة هـهنا؛ وأشار إلى المشرق»[(332)] فالمشرق منبع الشَّرِّ والفِتن مِن خُراسان؛ مارًّا بأصفهان؛ داخلاً الجزيرة من بين الشام والعراق، ليس له هَمٌّ إلا المدينة، لأن فيها البشير النذير عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيحبُّ أن يقضي على أهل المدينة، ولكنَّها محرَّمة عليه، كما ثَبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أن على كُلِّ باب منها ملائكة يحفظونها[(333)]، يخرج خَلَّةً بين الشام والعراق[(334)]، ويتبعه مِن يهود أصفهان سبعون ألفاً[(335)]؛ لأنهم جنوده، واليهود من أخبث عباد الله، وهو أضلُّ عباد الله، فيتبعونه ويؤيدونه وينصرونه، ويكونون مسالح له، أي: جنوداً مجندين هم وغيرهم ممن يتبعهم، قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسلام: «يا عباد الله فاثبتوا...»[(336)] يثبتنا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأن الأمر خطير، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : «مَنْ سَمِعَ بالدَّجَّالِ فلينأ عنه فإن الرَّجُل يأتيه وهو مؤمن؛ فلا يزال به حتى يتبعه لما يُلقي من الشُّبهات»[(337)] أي: يأتيه الإنسان ويقول: لن يضلَّني، ولن أتأثَّر به، ولكن لا يزال يُلقي عليه من الشُّبهات حتى يتبعه والعياذ بالله.

ثالثاً: دعوته، فقد ذُكِرَ أنَّه أول ما يخرج يدعو إلى الإسلام، ويقول: إنه مسلم، وينافح عن الإسلام، ثم بعد ذلك يدَّعي النبوة، ثم بعد ذلك يدَّعي أنه إلـه، فهذه دعواه، نهايتها بداية فرعون، وهي ادّعاء الرُّبوبية.

رابعاً: فِتنته، مِن حكمة الله عزّ وجل أن الله سبحانه وتعالى يعطيه آيات فيها فِتَنٌ عظيمة، فإنه يأتي إلى القوم يدعوهم فيتَّبعونه فيصبحون وقد نبتت أراضيهم، وشبعت مواشيهم، فتعود إليهم أوفر ما تكون لبناً وأسبغ ضروعاً، يعني: أنهم يعيشون برغدٍ، لأنهم اتبعوه.

ويأتي القومَ فيدعوهم فلا يتَّبعونه فيصبحون ممحلين ليس في أراضيهم شيء، وهذه فِتنة عظيمة ولا سيما في الأعراب، ويمرُّ بالخَرِبَة فيقول: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه كيعاسيب النحل من ذهب وفضَّة وغيرها بدون آلات وبدون أيِّ شيء، فِتنةً من الله عزّ وجل، فهذه حاله ومعاملته مع أهل الدُّنيا لمن يريد التمتُّع بالدنيا أو يبأس فيها.

ومِن فِتنته: أن الله تعالى جَعَلَ معه مثل الجنة والنَّار[(338)]، بحسب رؤيا العين، لكن جنته نار، وناره جنَّة، مَن أطاعه أدخله هذه الجنَّة فيما يرى النَّاسُ، ولكنها نار محرقة والعياذ بالله، ومن عصاه أدخله النار فيما يراه النَّاسُ، ولكنها جَنَّةٌ وماء عذب طيِّب.

إذاً؛ يحتاج الأمرُ إلى تثبيت مِن الله عزّ وجل، إنْ لم يثبِّت اللَّهُ المرءَ هلك وضلَّ.

ومن فتنته: أنه يخرجُ إليه شابٌ فيقول له: أنت الدَّجَّالُ الذي ذَكَرَ لنا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، فيدعوه فيأبى أن يتبعه، فيضربه ويشجّه في المرَّة الأولى، ثم يقتله، ويمرُّ بين شقيه، ثم يدعوه فيقوم يتهلَّلُ وجهه، ويقول: أنت الدَّجَّالُ الذي ذَكَرَ لنا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم يأتي ليقتله فلا يُسلَّط عليه، ويعجزُ عن قتله، ولن يُسلَّط على أحد بعدَه، فهذا من أعظم النَّاس شهادةً عند الله[(339)]، لأنه في هذا المقام العظيم الرهيب الذي لا يتصوَّر رهبته إلا مَن باشره، يُصرِّحُ على الملأ إعذاراً وإنذاراً بأنك أنت الدَّجَّال الذي ذَكَرَ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

خامساً: مقدار لُبثه في الأرض أربعون يوماً فقط، يوم كسنةٍ، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، هكذا حدَّث النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، قال الصَّحابةُ رضي الله عنهم: يا رسولَ الله، هذا اليوم الذي كَسَنَة أتكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ قال: «لا، اقدُروا له قَدْرَه»[(340)] انظروا إلى هذا المثال، لنأخذ منه عبرة، كيف كان تصديق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرسول الله؟ ما ذهبوا يحرِّفون أو يؤوِّلُون، أو يقولون: إنَّ اليوم لا يمكن أن يطول؛ لأن الشمس تجري في فلكها ولا تتغيَّر، ولكنه يطول لكثرة المشاق فيه وعِظَمِها، فطولُه لأنه متعب، لم يقولوا هذا، كما يقوله بعضُ المتحذلقين.

ولكن صَدَّقوا بأن هذا اليوم سيكون اثني عشر شهراً حقيقة، بدون تحريف ولا تأويل، وهكذا حقيقة المؤمن، ينقاد لما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب، وإن حَارَ فيها عقلُه، لكن يجب أن نعلم أن خبر الله ورسوله لا يكون فيما يكون محالاً في العقول، لكن فيما يكون حيرةً لأنها لا تدركه.

ولو أن هذا الحديث مَرَّ على المتأخِّرين الذين يدَّعون أنهم هم العقلاء؛ لقالوا: إنَّ طوله مجاز عمَّا فيه مِن التَّعبِ والمشاق؛ لأن أيام السرور قصيرة، وأيام الشرور طويلة، ولكن الصَّحابة رضي الله عنهم مِن صفائهم وقَبولهم سَلَّموا في الحال، وقالوا: إنَّ الذي خَلَقَ الشَّمسَ؛ وجعلها تجري في أربع وعشرين ساعة في اليوم والليلة؛ قادر على أن يجعلها تجري في اليوم اثني عشر شهراً، لأن الخالق واحد عزّ وجل؛ فهو قادر، ولذلك سَلَّموا؛ وقالوا: كيف نُصلِّي؟ لم يسألوا عن الأمر الكوني؛ لأنهم يعلمون أن الله قادر على كلِّ شيء، بل سألوا عن الأمر الشرعي الذي هم مكلَّفون به وهو الصَّلاة، وهذا ـ والله ـ حقيقة الانقياد والقَبول. فأجابهم بقوله: «اقدروا له قَدْرَه»[(341)].

وإذا تأملت؛ وجدت أن هذا الدِّينَ تامٌّ كامل؛ لا يمكن أن تكون مسألة يَحتاجُ النَّاسُ إليها إلى يوم القيامة إلا وُجِدَ لها أصلٌ، انظر كيف أنطقَ اللَّهُ سبحانه وتعالى الصَّحابةَ أن يسألوا هذا السؤال؟ حتى يكون الدِّين كاملاً لا يَحتاجُ إلى تكميل، وقد احتاج النَّاسُ إلى هذا الآن، كما في المناطق القُطبية؛ يبقى الليل فيها سِتَّة أشهر والنهار ستة أشهر، فنحتاج إلى هذا الحديث، وانظر كيف أفتى الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذه الفتوى قبل أن تقع هذه المسألة؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: {{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}} [المائدة: 3] والله لو نتأمَّل هذه الكلمة {{أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}} فلا يوجد شيء ناقص في الدِّين أبداً، فهو كامل مِن كلِّ وَجْهٍ، لكن النقص فينا، إما قصور في عقولنا، أو في أفهامنا أو في عُلُومنا، أو في إرادات تكون غير منضبطة، فمِن النَّاسِ من يريد أن ينصر قوله فيَعْمَى عن الحقِّ؛ نسأل الله العافية.

فلو نظرنا بعلم وفَهْمٍ وعَقْلٍ وحُسْنِ نية لوجدنا أن الدِّينَ ولله الحمدُ لا يحتاج إلى مكمِّل، وأنه لا يمكن أن تقع مسألة صغيرة ولا كبيرة إلا وُجِدَ حَلُّها في الكتاب والسُّنَّة، لكن لما كَثُرَ الهوى، وغلب على كثير من النَّاسِ صار بعض الناس يَعْمَى عليه الحقُّ، ويَخْفَى عليه، وتجدهم إذا نزلت فيهم الحادثة التي لم تكن معروفة مِن قبل بعينها، وإن كان جنسها معروفاً يختلفون فيها أكثر من أصابعهم، وإذا كانت تحتمل قولين وجدت فيها عشرة؛ لأنَّ الهوى غلب على النَّاسِ الآن، وإلا فلو كان القصد سليماً والفهم صافياً والعلم واسعاً والعقل راجحاً لما حصل هذا.

ثم بعد أن يمكث الدَّجَّال أربعين يوماً، ينزل المسيحُ عيسى بن مريم؛ الذي رَفَعَهُ الله إليه، وقد جاء في الأحاديث أنه ينزِلُ عند المنارة البيضاء شرقيِّ دمشق، فلا يَحِلُّ لكافرٍ يجد ريح نَفَسِهِ إلا مات، ونَفَسُهُ ينتهي حيث ينتهي طَرْفُهُ ـ وهذه من آيات الله ـ فيلحق الدَّجَّال عند باب اللُّدِّ في فلسطين فيقتله هناك[(342)]، وحينئذٍ يقضي عليه نهائياً، ولا يقبل عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلا الإسلام، لا يقبل الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويريق الخمر[(343)]، فلا يُعبد إلا الله.

وعلى هذا؛ فالجزية التي فرضها الإسلامُ جَعَلَ الإسلامُ لها أمداً تنتهي إليه عند نزول عيسى، ولا يُقال: إن هذا تشريع مِن عيسى؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك مقرِّراً له، فَوَضْعُ الجزية عند نزول عيسى من سُنَّة الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، لأن سُنَّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم هي قوله، وفِعْلُه، وإقراره، وكونه يتحدَّث عن عيسى بن مريم مقرًّا له، هذا من سُنَّتِهِ، وإلا فإن عيسى لا يأتي بشرعٍ جديد ولا أحد يأتي بشرعٍ جديد بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم، فليس إلا شرعُ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام إلى يوم القيامة.

تنبيه: قال بعضُ أهل العِلْمِ: إن الرُّسل الذين أنذروا قومهم به لم ينذروهم بعينه، وإنما أنذروهم بجنس فِتنتِه، يعني: أنذروهم من الدَّجَاجِلة، ولكن هذا القول ضعيف، بل هو نوع مِن التَّحريف؛ لأن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر بأنه ما مِن نبيٍّ إلا أنذر به قومَه، وهذا صريحٌ بأن الأنبياء أنذروا قومهم بعين الرَّجُل هذا، وقد سَبَقَ لنا بيان الحكمة من إنذار الرُّسل به، ولكن يجب علينا أن نعلم أن جِنْسَ هذه الفِتنة موجود حتى في غير هذا الرَّجُل، فيوجد مِن بني آدم الآن من يُضِلُّ النَّاسَ بحالِه وقالِه، وبكل ما يستطيع، وتجد أن الله سبحانه وتعالى بحكمته أعطاه بياناً وفصاحة {{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}} [الأنفال: 42] .

فالدَّجَّال المعيَّن لا شَكَّ أن فِتنته أعظم شيء، لكن هناك دَجَاجِلة يدجِّلُون على النَّاسِ ويموِّهون عليهم، فيجب الحذر منهم ومعرفة إراداتهم ونواياهم، ولهذا قال الله تعالى في المنافقين: {{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}} ـ مع أنه قال ـ {{وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}} أي: لبيانه وفصاحته وعِظَمِه يجرُّك جَرًّا إلى أن تسمع لكن {{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}} [المنافقون: 4] حتى الخُشُب ليست قائمة بنفسها {{مُسَنَّدَةٌ}} أي: تقوم على الجدار؛ فلا خير فيها، فهؤلاء الذين يتزيَّنون للناس بأساليب القول سواء في العقيدة، أو في السلُّوك والمنهج يجب الحذر منهم، وأن تُعرضَ أقوالُهم وأفعالهم على كتاب الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فما خالفهما فهو باطل مهما كان، ولا يُغترُّ بما فيها من زخارف القول؛ فإن هذه الزخارف كما قيل:

حُججٌ تهافت كالزُّجاج تخالها

حقًّا، وكلٌّ كاسر مكسور

ولا تقولوا: إن هؤلاء القوم أُعطوا فصاحة وبياناً لينصروا الحقَّ، فإن الله تعالى قد يبتلي فيعطي الإنسانَ فصاحة وبياناً، وإنْ كان على باطل، كما ابتلى اللَّهُ الناسَ بالدَّجَّال وهو على باطل بلا شَكٍّ.

سادساً: هل الدَّجَّال مِن بني آدم؟

الجواب: نعم، هو مِن بني آدم.

وبعض العلماء يقول: إنه شيطان. وبعضهم يقول: إن أباه إنسي وأمه جنيَّة. وكلُّ هذه الأقوال ليست صحيحة؛ لأنه يَحتاجُ إلى الأكل والشُّرب وغير ذلك، ولهذا يقتله عيسى قتلاً عاديًّا كما يقتل البشر.

سابعاً: هل هو موجود الآن؟

الجواب: هو غير موجود، ولكن الله يبعثه متى شاء؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خطب النَّاسَ في آخر حياته وقال: «إنه على رأس مِئَةِ سَنَة لا يبقى على وَجْهِ الأرض ممن هو عليها اليوم أحد»[(344)] وهذا خَبَرٌ، وخَبَرُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لا يدخله الكذب نهائيًّا، وهو مُتلقَّى من الوحي، لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لا يعلم الغيب.

وقول المؤلِّف: «ويستعيذ بالله من أربع»، لم يُفصح ـ رحمه الله ـ هل هذه الاستعاذة واجبة أم لا؟

وسيأتي ما يفيد حكمها في ذِكْرِ الأركان والواجبات.

وفي التعوّذ من هذه الأربع قولان[(345)]:

القول الأول: أنه واجب، وهو رواية عن الإمام أحمد، لما يلي:

1 ـ لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بها[(346)].

2 ـ ولشدَّة خطرها وعظمها.

والقول الثاني: أنه سُنَّة، وبه قال جمهور العلماء.

ولا شَكَّ أنه لا ينبغي الإخلالُ بها، فإن أخلَّ بها فهو على خَطَرٍ من أمرين:

1 ـ الإثم.

2 ـ ألا تصح صلاته، ولهذا كان بعضُ السَّلف يأمر مَنْ لم يتعوَّذ منها بإعادة الصَّلاة[(347)].

قوله: «ويدعو بما ورد» . ليت المؤلف قال: «ويدعو بما أحبَّ» لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لما ذَكَرَ حديث ابن مسعود في التشهُّدِ قال: «ثم يتخيَّر من الدُّعاء ما شاء»[(348)] لكن يمكن أن نجيب عن كلام المؤلِّف فنقول: إنه ينبغي أن يبدأ الإنسان بما وَرَدَ؛ لأن الدُّعاء الوارد خير من الدُّعاء المصطنع، فإذا وجد دعاءً وارداً، فالتزامه أَولى، ثم تدعو بما شئت.

ومما وَرَدَ في هذا: «اللَّهُمَّ أعنِّي على ذِكْرِك، وشُكرك، وحُسْن عبادتك»[(349)] فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ معاذ بن جبل أن يدعو به دُبُرَ كُلِّ صلاة مكتوبة، وفي بعض الألفاظ أمره أن يدعو به في كُلِّ صلاة، فإذا جمعنا بين اللفظين قلنا: في صلاته في دُبُرِها أي: في آخرها، والقول بأن هذا الدُّعاء في آخر الصَّلاة أصحُّ من القول بأنه بعد السَّلام؛ لأن الذي بعد السَّلام إنما هو الذِّكر، {{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ}} [النساء: 103] وأما ما قيد بدُبُر الصَّلاة وهو دُعَاء فإنه في آخرها.

وسُئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كيف يكون في آخر الصلاة وقد قيِّد بدُبُرِها فقال: دُبُرُ الشيء منه كدُبُرِ الحيوان، فإن الحيوان له دُبُر، ودُبُره في نفس الجسم، فكذلك دُبُر الصَّلاة يكون من الصَّلاة، وإذا كان الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم أرشدنا بأن ندعو بعد التشهُّدِ صار الدُّعاء المقيَّد بالدُّبُر محلَّه قبل السَّلام آخر الصَّلاة.

أما بعدَ الصَّلاة فهو الذِّكر، ولهذا لا يَرِدُ علينا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُسَبِّحُون وتحمدُون وتُكبِّرون في دُبُر كُلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين مَرَّة»[(350)] ومعلومٌ أن هذا بعد السَّلام بالاتفاق؛ لأن هذا مطابق للآية: {{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ}} [النساء: 103] والأول الدُّعاء الذي في آخر الصلاة قبل السَّلام مطابق للحديث: «ثم ليتخيَّر من الدُّعاء ما شاء»[(351)].

وقوله: «يدعو بما ورد» يفيد أن الدُّعاء يكون بعد التشهُّدِ والتعوُّذ من الأربع.

وهذا الذي دلَّ عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم علَّمه التشهُّدَ ثم قال: «ثم يَتَخَيَّرُ من الدُّعاء ما شاء» وبناءً على ذلك؛ إذا سألَنا سائل: هل أدعو بعد السَّلام أو قبل السَّلام؟ قلنا له: ادعُ قبل السَّلام؛ لأن هذا هو الذي أرشد إليه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، ولأنك ما دمت في صلاة فإنك تناجي رَبَّك، وإذا سَلَّمتَ انصرفتَ، وكونك تدعو في الحال التي تناجي فيها ربَّك خيرٌ من كونك تدعو بعد الانصراف، وهذا ترجيح نظريٌّ، وأما ما يفعلُه بعضُ النَّاسِ من كونهم كلَّما سَلَّموا دَعَوا في الفريضة، أو في النافلة؛ فهذا لا أصل له، ولم يَرِدْ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فيما نعلم؛ إلا حين وضع كُفَّار قريش سَلا النَّاقة عليه وهو ساجد، فإنه لما سَلَّم رَفَعَ صوته يدعو عليهم[(352)] وهذا قد يُقال: إنه فَعَلَ ذلك لمناسبة، وهي تخويفهم؛ لأنه لو دعا وهو يُصلِّي ما علموا بذلك.

وأما الاستدلال بقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم حين سُئل: أيُّ الدُّعاء أسمعُ؟ ـ يعني: أقرب إجابة ـ قال صلّى الله عليه وسلّم: «جوف الليل، وأدبار الصلوات المكتوبة»[(353)] قالوا: والأدبار تكون بعدُ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «تُسبِّحون وتَحمدُون وتُكبِّرون دُبُرَ كُلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين مرَّة»[(354)] ومعلومٌ أن هذا لا يُقال إلا بعد السَّلام فيكون قوله: «أدبار الصَّلوات المكتوبة»، أي: بعد السَّلام.

فنقول: هذا الفهم للحديث غير متعيِّن، بل يجب أن يُحمل على أنه المراد بالأدبار آخرُ الصَّلوات؛ بدليل حديث ابن مسعود، حيث أمره النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بالدُّعاء بعد التشهُّدِ[(355)]، والسُّنَّة يُفسِّر بعضُها بعضاً، أما أدبار الصَّلوات فقد أرشد الله سبحانه وتعالى عبادَه إلى أن يذكروا الله بعدَها فقال: {{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ}} [النساء: 103] ، وليس فيه الأمر بالدُّعاء.

وعلى هذا فنقول: ما وَرَدَ مقيَّداً بدُبُر الصَّلاة، فإن كان ذِكْراً فهو بعد السَّلام، وإن كان دُعاء فهو قبل السَّلام.

فإن قال قائل: دُبُرُ الشيء بعدَه كما في الحديث: «أن رَجُلاً أعتقَ غلاماً له عن دُبُرٍ»[(356)]، أي: بعد موته؟

الجواب: أن الدُّبُر ما كان الشيء مستدبراً له، وقد يكون منه، وقد لا يكون منه، والذي يُعيِّن كونه منه أو ليس منه القرائن والسِّياق، ولهذا يقال: دُبُر الحيوان وهو منه، فالدُّبر يُفسَّر في كلِّ موضع بما يقتضيه الحال والسِّياق.

بقي علينا المحافظة على الدُّعاء بعدَ النَّافلة كما يفعله بعضُ العوام، فهم يحافظون عليه محافظةً شديدة، حتى إن بعضَهم إذا أُقيمت الصَّلاةُ وهو يُسلِّم مِن النَّافلة، وقبل أن يقوم يُصلِّي الفريضة يرفع يديه، حتى إنك تَشكُّ هل دعا أم لا؟ ثم يمسحُ وجهَه، ويمسحُ يديه بعضهن ببعض، ثم يُصلِّي، فيُلازمون على هذا ظنًّا منهم أنَّه أمرٌ واجب، أو قريب مِن الوجوب، فهذا لا شَكَّ أنه لا أصل له، ولهذا ينبغي لطَلَبةِ العِلم أن يُنبِّهوا النَّاسَ، ولكن بالرفق، لأنَّ العامة إذا أُنكِرَ عليهم ما اعتادوه نفروا، فإذا أُتوا بالحكمة واللِّين قَبِلوا، ولذلك ما أكثر الذين يسألون عن حُكم رَفْعِ اليدين بعد الصَّلاة النَّافلة! فيظنُّون أن الحُكم معلَّق برَفْعِ اليدين، والحكم ليس معلَّقاً برِفْعِ اليدين، بل الحُكم معلَّق بالدُّعاء، سواء رَفَعْتَ أم لم ترفع، فما دُمت تريد أن تدعو الله فادعه قبل أن تُسلِّم، فهذا هو المشروع.

قوله: «ويدعو بما وَرَدَ»، «ما» اسم موصول يشمَلُ كُلَّ الوارد، ولكن ليس مراده أن كلَّ دُعاء وَرَدَ في السُّنَّة يُدعَى به هنا، وإنما مراده بما وَرَدَ الدُّعاء به في هذا المكان، ومنه ما سبق: «اللَّهُمَّ أعنِّي على ذِكْرِك، وشكرك، وحُسن عبادتك»[(357)]، ومنه ما علَّمه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر رضي الله عنه حين قال: يا رسول الله، علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: «قل: اللَّهُمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفِرُ الذُّنوبَ إلا أنت، فاغفِرْ لي مغفرةً من عندك، وارحمنِي؛ إنك أنت الغفور الرحيم»[(358)]. ولكن لو دعا بدعاء غير ذلك فإنه يجوز.

وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا بُدَّ أن يكون الدُّعاء وارداً، ولكن هل مراده أن يكون وارداً باعتبار الجنس، أو باعتبار النوع والعين؟

الجواب: فيه احتمال، يحتمل أن يريد بما وَرَدَ بعينه، ويحتمل أن يريد بما وَرَدَ بجنسه، والذي وَرَدَ الدُّعاء بجنسه في الصَّلاة هو ما يتعلَّق بأمر الآخرة، وإذا قلنا بهذا الاحتمال؛ صار معنى كلام المؤلِّف: أن يدعو بدعاء يتعلَّق بأمور الآخرة، سواء وَرَدَ هذا الدُّعاء بعينه أم لم يرد، وإنْ قلنا بالاحتمال الأول بما وَرَدَ بعينه صار يتقيَّد بما وَرَدَ بعينه في هذا الموضع.

لكن الاحتمال الأول أشمل، وهو أن يدعو بما وَرَدَ باعتبار الجنس، وهو ما يتعلَّق بأمور الآخرة، فيدعو بما يتعلَّق بأمور الآخرة بما شاء، ولكن ههنا مسألة؛ وهي أنه ينبغي المحافظة على الوارد في هذا المكان بعينه، ثم بعد ذلك يدعو بما شاء.

وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يدعو بغير ما وَرَدَ، سواء قلنا: إن المراد ما وَرَدَ بجنسه أو قلنا: ما وَرَدَ بعينه، فلا يدعو بشيء مِن أمور الدُّنيا مثل أن يقول: اللَّهُمَّ ارزقني بيتاً واسعاً، أو: اللَّهُمَّ ارزقني زوجة جميلة، أو: اللَّهُمَّ ارزقني مالاً كثيراً، أو: اللَّهُمَّ ارزقني سيارة مريحة، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا يتعلَّق بأمور الدُّنيا، حتى قال بعض الفقهاء رحمهم الله: لو دعا بشيء مما يتعلَّق بأمور الدنيا بطلت صلاتُه[(359)]، لكن هذا قول ضعيف بلا شَكٍّ.

والصحيح[(360)]: أنه لا بأس أن يدعو بشيء يتعلَّق بأمور الدُّنيا؛ وذلك لأن الدُّعاء نفسه عبادة؛ ولو كان بأمور الدنيا، وليس للإنسان ملجأ إلا الله، وإذا كان الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أقربُ ما يكون العبدُ مِن ربِّه وهو ساجد»[(361)] ويقول: «أمَّا السُّجودُ فأكثروا فيه مِن الدُّعاء فَقَمِنٌ أن يُستجاب لكم»[(362)] ويقول في حديث ابن مسعود لما ذَكَرَ التَّشهُّدَ: «ثم ليتخيَّر مِن الدُّعاء ما شاء»[(363)] والإنسان لا يجد نفسه مقبلاً تمام الإقبال على الله إلا وهو يُصلِّي، فكيف نقول: لا تسأل الله ـ وأنت تُصلِّي ـ شيئاً تحتاجه في أمور دنياك! هذا بعيد جدًّا.

وقد جاء في الحديث عن الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «ليسألْ أحدُكم ربَّه حاجته كلها حتى شِسْعَ نَعْلِه»[(364)] وشِسْع النَّعل: يتعلَّق بأمور الدُّنيا. فالصَّواب بلا شَكٍّ أن يدعو بعد التشهُّدِ بما شاء مِن خير الدُّنيا والآخرة، وأجمع ما يُدعى به في ذلك: «ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً، وقِنَا عذابَ النَّار» فإن هذه جامعة لخير الدنيا والآخرة.

مسألة: هل يجوز الدُّعاء لمعين، بأن يقول: اللهم اجْزِ فلاناً عنِّي خيراً، أو اللَّهُمَّ اغفِرْ لفلان؟

الجواب: يجوز، لأن هذا دعاء؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثبت عنه أنه في نفس الصَّلاة دعا على قوم معينين، ودعا لقوم معينين، فدعا للمستضعفين في مكَّة، ودعا على الطُّغاة في مكَّة[(365)]، لكنه نُهِيَ عن الدُّعاء على الطُّغاة باللَّعن[(366)].

لكن؛ لو دعا لشخص بصيغة الخطاب فقال مثلاً: غَفَرَ الله لك يا شيخ الإسلام ابن تيمية. فالفقهاء يقولون: تبطل[(367)]؛ لأنه أتى بكاف الخطاب، والخطابُ لا يجوز في الصَّلاة؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلام النَّاسِ»[(368)] ولم يستثنوا إلا النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: إنك تخاطبه: «السَّلامُ عليك أيُّها النَّبيُّ»، أما غيره فلا تأتِ له بكاف الخطاب مطلقاً، ولكن هذا القول في النَّفْسِ منه شيء، وذلك لأنك إذا قلت: غَفَرَ الله لك يا فلان؛ وأنت تُصلِّي، فإنك لا تشعر بأنك تخاطبه أبداً، ولكن تشعرُ بأنك مستحضرٌ له غاية الاستحضار حتى كأنه أمامك، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال حين تفلَّت عليه الشيطان: «ألعنك بلعنة الله التَّامَّة»[(369)] فخاطبه، فبعضهم قال: إن هذا الحديث قبل تحريم الكلام، وبعضهم يؤوِّله، ولكن في كلا الجوابين نَظَرٌ.

فالذي يظهر: أن خطاب الآدميين المنهيِّ عنه: أن تخاطبه المخاطبة المعتادة، فتقول مثلاً: يا فلان تعال، فهذا كلام آدميين تبطل به الصَّلاة، لكن شخصاً يستحضر شخصاً ثم يقول: غَفَرَ الله لك يا فلان، فكون هذا مبطلاً للصَّلاةِ فيه نَظَر، ولكن درءاً للشُّبهة بدل أن تقول: غَفَرَ الله لك، فقل: اللَّهُمَّ اغفِر له، فهذا جائز بالاتفاق.

 

ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ،............

قوله: «ثم يُسلِّم عن يمينه» أي: بعد التشهُّدِ والدُّعاء، يُسلِّم عن يمينه وعن يساره، فيقول، عن يمينه: «السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله»، وعن يساره: «السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله» وهذا خطابٌ، لكنه خطابٌ يخرجُ به من الصَّلاة، بخلاف الخطابِ الذي يكون في أثناء الصَّلاة.

مسألة: إذا قيل: على مَنْ يُسلِّم؟

فالجواب: يقولون: إذا كان معه جماعة فالسَّلام عليهم، وإذا لم يكن معه جماعة فالسَّلام على الملائكة الذين عن يمينه وشماله يقول: السَّلامُ عليكم ورحمة الله.

وإذا سَلَّمَ الإنسانُ مع الجماعة، هل يجب على الجماعة أن يردُّوا عليه؟

الجواب: لا، وإن كان قد روى أبو داود أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمرَهم أن يردُّوا على الإمام، ويُسلِّم بعضهم على بعض[(370)] فمراده: أن يسلِّموا كما سلَّم بعد انتهاء سلامه، فيكون سلامُهم بعدَه كالردِّ عليه، وليس مراده أن يقولوا: عليك السَّلام، لأن ذلك يُنافي عملهم الذي كانوا عليه. وأما قوله: «ويُسلِّم بعضهم على بعض» فمراده أن كلَّ واحد يقول: السَّلام عليكم، فكلُّ واحد يُسلِّم على الآخر بهذا اللفظ؛ فاكتفى بسلام الثاني عن الرَّدِّ؛ هذا هو أقرب ما يُقال في رَدِّ هذا السلام، ولا شَكَّ أن المأمومين يُسلِّم بعضُهم على بعض بهذا، كما قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام حينما كانوا يرفعون أيديهم يُوْمِئُون بها قال: «عَلاَمَ تُؤْمُونَ بأيديكم كأنَّها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ؟ إنما كان يكفي أحدكُم أن يضعَ يده على فخذه، ثم يُسَلِّمُ على أخيه مِن على يمينه وشماله»[(371)].

وهذا يدلُّ على أن السَّلام يقصد به السَّلام على مَن بجانبه، لكنه لما كان كُلُّ واحد يُسلِّم على الثاني اكتُفي بهذا عن الرَّدِّ، والله أعلم.

قوله: «السلام عليكم ورحمة الله» سَبَقَ شرحُها عند شرح التشهُّدِ[(372)].

 

وَعَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ .............

قوله: «وعن يساره كذلك» أي: يقول: «السَّلامُ عليكم ورحمة الله». وهنا بحثٌ في السَّلام:

أولاً: لو قال: سلام عليكم بدون (أل) هل يجزئ؟

الجواب: نعم، لكن السُّنَّة أن يكون بـ(أل) فيقول: «السَّلام عليكم».

ثانياً: لو جاء بالإفراد فقال: «السَّلام عليك ورحمة الله»، فإنه لا يجزئ، لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»[(373)] وَلِوُجُود الفَرْقِ بين الإفراد وبين الجمع.

ثالثاً: لو قال: «السَّلام عليكم» فقط، فهل يجزئ؟

فيه خلاف بين العلماء[(374)]:

مِنهم مَن قال: لا يجزئ، وهو المذهب[(375)].

ومِنهم مَن قال: يجزئ، وهو رواية عن أحمد[(376)]؛ لأنه قد وَرَدَ في حديث جابر بن سَمُرَة قال: «صَلَّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكُنَّا إذا سَلَّمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم...»[(377)]. بدون ذِكْرِ «ورحمة الله» وعلى هذا فيكون قوله: «ورحمة الله» سُنَّة، وليس بواجب.

رابعاً: هل يزيد في ذلك فيقول: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟

الجواب: هذا موضع خلاف بين العلماء[(378)]، فمنهم من قال: الأفضل ألا يزيد، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد[(379)]، لا في التسليمة الأولى، ولا في التسليمة الثانية.

وذهب بعضُ أهل العلم: إلى أن يزيد في التَّسليمةِ الأُولى «وبركاته» دون الثانية، فيقول في الأولى: «السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته»، وفي الثانية: «السلام عليكم ورحمة الله» الحديث أخرجه أبو داود[(380)] قال الحافظ ابن حجر: إن إسناده صحيح.

خامساً: لو اقتصرَ على تسليمةٍ واحدةٍ فهل يجزئ؟

الجواب: هذا أيضاً موضع خلاف بين العلماء[(381)]، فمنهم مَن قال: يجزئ؛ لحديث عائشة: «وكان يختِم الصَّلاة بالتسليم»[(382)]، وهذا لفظ مطلق يصدق بواحدة.

ومنهم مَن قال: لا يجزئ؛ لأن «أل» في «التسليم» للعهد الذهني، أي: بالتسليم بالمعهود وهو «السلام عليكم ورحمة الله» عن اليمين، و«السلام عليكم ورحمة الله» عن اليسار، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة[(383)]، واستدلُّوا لذلك:

1 ـ بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّما كان يكفي أحدُكم أن يضع يدَه على فخذه ويسلِّم على أخيه من على يمينه ومن على شماله»[(384)] وقالوا: إن ما دون الكفاية لا يكون مجزياً.

2 ـ محافظته صلّى الله عليه وسلّم على التسليمتين حضراً وسفراً، في حـضـور البوادي، والأعـراب، والعالم، والجاهل وقوله: «صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»[(385)] يدلُّ على أنه لا بُدَّ منهما.

وقال بعض أهل العلم: تجزئ واحدة في النَّفل دون الفرض[(386)]؛ لأنه وَرَدَ عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام «أنه سَلَّم في الوتر تسليمةً واحدةً تِلقاء وجهه»[(387)] وقالوا: إن النَّفل قد يُخفَّف فيه ما لا يُخفَّف في الفرض.

فهذه أقوال ثلاثة. والاحتياط فيها أن يُسلِّم تسليمتين؛ لأنه إذا سَلَّم مرَّتين لم يقل أحدٌ مِن أهل العلم إن صلاتك باطلة، ولو سلَّمَ مرَّةً واحدة لقال له بعضُ أهل العلم: إن صلاتك باطلة. ومن المعلوم أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بالاحتياط فيما لم يتضح فيه الدَّليل، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهات، فمَنِ اتقى الشُّبهات استبرأ لدينه وعِرْضِهِ، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبهات وَقَعَ في الحرامِ»[(388)].

وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك»[(389)]. وأنت إذا أتيت بالتَّسليمةِ الثانية فقد أتيت بذِكْرٍ تتقرَّبُ به إلى الله عزَّ وجلَّ، وتَسْلَمُ به مِن أن يُقال: إن صلاتك باطلة.

على أن الذين قالوا بوجوب التسليمتين في الفرض والنَّفل أجابوا عن فِعْلِ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بأنه قضية عين تحتمل النسيان أو غير ذلك، فلا يقدَّم هذا الفعل على القول الذي قال فيه: «إنَّما كان يكفي أحدُكم أن يقول كذا، وكذا، وذَكَرَ التَّسليمتين»[(390)] ولكن هذا الاحتمال فيه نظر؛ لأن الأصل في فِعْلِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم التشريعُ وعدم النسيان، ولا سيما أنه سلَّم واحدة تلقاء وجهه على خلاف العادة، مما يدلُّ على أنه أرادها قصداً، لكن كما قلت: الاحتياط أن يُسلِّمَ مرَّتين في الفرض والنَّفل.

 

وإِنْ كَانَ فِي ثُلاَثِيَّةٍ أَوْ رُبَاعِيَّةٍ نَهَضَ مُكَبِّراً بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَوَّلِ

قوله: «وإن كان في ثلاثية، أو رباعية» «ثلاثية» مثل المغرب، «رباعية» مثل الظُّهر، والعصر، والعشاء.

قوله: «نهض مكبِّراً» مكبِّراً: حال مِن فاعل «نهض»؛ يدلُّ على أنه يكون التكبيرُ في حال النُّهوضِ، وهو كذلك؛ لأن جميع تكبيرات الانتقال محلُّها ما بين الرُّكنين.

قوله: «بعد التشهد الأول» التشهُّدُ الأول ينتهي عند قوله: «أشهدُ أنْ لا إله إلا الله؛ وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسولُه» وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يرفع يديه؛ لأنه لم يذكره، وهذا هو المشهور من المذهب[(391)]: أنه لا يرفع يديه إذا قام مِن التشهُّدِ الأول؛ لأن مواضع رَفْعِ اليدين على المذهب ثلاثة فقط: عند تكبيرة الإحرام، وعند الرُّكوع، وعند الرَّفع منه.

ولكن الصَّحيح: أنه يرفع يديه؛ لأنه صَحَّ عن ابن عُمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم[(392)].

ولأنه انتقال مِن نوع إلى نوع آخر في الصَّلاة، فإن الرَّكعتين الأوليين يُشرع فيهما ما لا يُشرع في الرَّكعتين الأخريين، فصار مِن الحكمة أن يميِّز هذا الانتقال بالرَّفْعِ، كأنه صلاة جديدة؛ لتميزها عن الرَّكعتين الأوليين.

وعلى هذا؛ فمواضع رَفْع اليدين أربعة:

عند تكبيرة الإحرام، وعند الرُّكوعِ، وعند الرَّفْعِ منه، وإذا قام من التشهُّدِ الأول. ويكون الرَّفْعُ إذا استتمَّ قائماً؛ لأن لفظ حديث ابن عُمر: «وإذا قام من الرَّكعتين رَفَعَ يديه»[(393)]، ولا يَصدُق ذلك إلا إذا استتمَّ قائماً، وعلى هذا، فلا يرفع وهو جالس ثم ينهض، كما توهَّمَهُ بعضهم، ومعلوم أن كلمة «إذا قام» ليس معناها حين ينهض؛ إذ إن بينهما فرقاً.

ولا رَفْعَ فيما سوى ذلك.

 

وَصَلَّى مَا بَقِيَ كَالثَّانِيَةِ بِالْحَمْدِ فَقَطْ،..........

قوله: «وصلَّى ما بقي كالثَّانية بالحمد فقط» : أي: كالرَّكعة الثانية، أي: فليس فيه تكبيرة إحرام، ولا استفتاح، ولا تعوُّذ، ولا تجديد نيَّة، وتمتاز هاتان الرَّكعتان عن الأوليين، بأنه يُقتصر فيهما على الحَمْد، وأنه يُسرُّ فيهما بالقراءة في الصلاة الجهرية، فهما ركعتان مِن نوع جديد.

وقوله: «بالحمد فقط» أي: بالفاتحة لا يزيد عليها، وهذا هو مُقتضى حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثَّابت في «الصحيحين» أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الرَّكعتين الأخريين بفاتحة الكتاب فقط[(394)]، ولكن في حديث أبي سعيد الخدري ما يدلُّ على أن الركعتين الأخريين يقرأ فيهما؛ لأنه ذَكَرَ أنَّ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام كان يقرأ في الرَّكعتين الأوليين بسورة، ولا يطوّل الأولى على الثانية، ويقرأ بالرَّكعتين الأخريين بنصف ذلك[(395)].

وهذا يدلُّ على أنه جَعَلَ الرَّكعتين الأوليين سواء، والرَّكعتين الأخريين سواء.

لكن بعض العلماء رجَّحَ حديث أبي قتادة؛ لأنه متفق عليه، وحديث أبي سعيد في مسلم، ولأن حديث أبي قتادة جَزَمَ به الرَّاوي، وأما حديث أبي سعيد فقال: «حزرنا قيامه» أي: خرصناه وقدَّرناه، وفَرْقٌ بين مَن يجزم بالشيء وبين مَن يخرُصُه ويقدِّرُه[(396)].

وهذا هو المذهب كما مشى عليه المؤلِّف[(397)].

ولكن الذي يظهر أن إمكان الجَمْعِ حاصلٌ بين الحديثين، فيُقال: إن الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم أحياناً يفعل ما يدلُّ عليه حديث أبي سعيد، وأحياناً يفعل ما يدلُّ عليه حديث أبي قتادة؛ لأن الصلاة ليست واحدة حتى نقول: فيه تعارض، بل كلُّ يوم يصلِّي الرسول صلّى الله عليه وسلّم خمس مرَّات، وإذا أمكن الجَمْعُ وَجَبَ الرُّجوعُ إليه قبل أن نقول بالنَّسخ، أو بالترجيح.

 

ثُمَّ يَجْلِسُ فِي تَشَهُّدِهِ الأخِير مُتَوَرِّكاً ............

قوله: «ثم يجلس في تشهده الأخير متورِّكاً» ، أي: إذا أتى بما بقي إما ركعة إن كانت الصَّلاةُ ثلاثية، وإما ركعتين إن كانت رباعية جَلَسَ في التشهُّدِ الأخير متورِّكاً.

وكيفية التورُّك: أن يُخرِجَ الرِّجلَ اليُسرى مِن الجانب الأيمن مفروشة، ويجلس على مَقعدته على الأرض، وتكون الرِّجل اليُمنى منصوبة[(398)]. وهذه إحدى صفات التورُّكِ.

الصفة الثانية: أن يَفرُشَ القدمين جميعاً، ويخرجهما مِن الجانب الأيمن[(399)].

الصفة الثالثة: أن يَفرُشَ اليُمنى، ويُدخل اليُسرى بين فخذ وساق الرِّجل اليُمنى[(400)].

كلُّ هذه وردت عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في صفة التورُّك، وعلى هذا فنقول: ينبغي أن يَفعلَ الإنسانُ هذا مرَّة، وهذا مرَّة، بناءً على القاعدة التي قعَّدها أهلُ العلم وهي: أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة؛ ينبغي أن يفعلَها على جميع الوجوه الواردة، لأن هذا أبلغ في الاتَّباعِ مما إذا اقتصر على شيء واحد[(401)].

وعُلِمَ مِن قوله: «في تشهُّدِه الأخير» أنه لا تورُّك إلا في التشهُّدِ الأخير من صلاةٍ ذات تشهُّدين، والمراد التشهُّدُ الأخير الذي يعقبه السَّلام، وقولنا: «الذي يعقبه السَّلام» احترازٌ مِن التشهُّدِ الأخير الذي لا يعقبه سلام، كما لو سُبِقَ المأمومُ بركعة، وجَلَسَ مع إمامه في تشهُّدِه الأخير؛ فإنه لا يتورَّك لأن تشهُّدَه هذا لا يعقبه سلام.

ولكن ههنا مسألة؛ وهي أنه يجب على الإنسان الذي يفعل هذه العبادات المتنوِّعة أن يكون على يقين منها، فإن شكَّ رَجَعَ إلى ما يتيقَّنُه، فمثلاً: حديث ابن عباس في التشهُّدِ[(402)]، وحديث ابن مسعود[(403)]، بينهما بعض الاختلاف فأحياناً ينسى الإنسان ما جاء في حديث ابن عباس، وحينئذ يقتصر على الذي يعلم، كما قلنا في القراءات الواردة في قراءة القرآن الكريم، إذا كُنتَ حافظاً لها مجيداً متقناً لها فالأفضل أن تقرأ بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة؛ ما لم يكن بحضرة العَوَام، وأما إذا كنت غير مجيد لها فإنك تقتصر على ما تعلم؛ لئلا تخلِّط في القرآن، وهكذا العبادات.

 

وَالْمَرْأَةُ مِثْلُهُ ............

قوله: «والمرأة مثله» أي: مثل الرَّجل؛ لعدم الدليل على التفريق بين الرَّجُل والمرأة، والأصل في النِّساء أنهن كالرِّجال في الأحكام، كما أن الأصل في الرِّجَال أنهم كالنِّساء في الأحكام.

ولهذا مَنْ قَذَفَ رجلاً ترتَّب عليه حَدُّ القَذْفِ، كما لو قَذَفَ امرأة مع أن آية القذف في النساء قال تعالى: {{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *}{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا}} [النور: 4 ـ 5] وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في المُوبِقَات: «وقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الغَافلاتِ المؤمناتِ»[(404)].

فالأصلُ اشتراكُ المكلَّفين مِن الرِّجَال والنِّساء في الأحكام؛ إلا ما قام الدَّليلُ عليه. مثل: الولاية العامة كالإمارة، والقضاء، وما أشبهه، فهي خاصَّة بالرِّجال، لكن قد تتولَّى المرأةُ إمارةً محدودة، كما لو سافرت مع نساء وصارت أميرتهنَّ في السَّفر، وكمديرة المدرسة، وما أشبه ذلك.

 

لَكِنْ تَضُمُّ نَفْسَهَا، وتسدل رجليها في جانب يمينها.............

قوله: «لكن تَضُمُّ نفسها» أي: أن المرأة تضمُّ نفسها في الحال التي يُشرع للرَّجل التَّجافي، كما في حال الرُّكوعِ والسُّجود يشرع للرَّجُل مجافاة العضدين عن الجنبين، وفي حال السجود مجافاة العضدين عن الجنبين، والفخذين عن الساقين.

والمرأة لا تجافي، بل تضمُّ نفسَها، فإذا سَجَدَتْ تجعل بطنَها على فخذيها، وفخذيها على ساقيها، وإذا ركعتْ تضمُّ يديها.

والدَّليل على ذلك: القواعد العامة في الشريعة، فإن المرأة ينبغي لها السَّتر، وضمُّها نفسها أستر لها مما لو جافت.

هكذا قيل في تعليل المسألة!.

والجواب على هذا من وجوه:

أولاً: أن هذه عِلَّة لا يمكن أن تقاوم عمومَ النُّصوص الدَّالة على أن المرأة كالرَّجُل في الأحكام، لا سيما وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»[(405)] فإن هذا الخطاب عامٌّ لجميع الرِّجال والنساء.

ثانياً: ينتقض فيما لو صَلَّت وحدَها، والغالبُ والمشروعُ للمرأة أن تُصلِّي وحدها في بيتها بدون حضرة الرِّجال، وحينئذٍ لا حاجة إلى الانضمام ما دام لا يشهدها رِجَال.

ثالثاً: أنهم يقولون: إنها ترفع يديها، في مواضع الرَّفْعِ، ورَفْعُ[(406)] اليدين أقربُ إلى التكشُّف مِن المجافاة، ومع ذلك يقولون: يُسَنُّ لها رَفْعُ اليدين؛ لأن الأصل تساوي الرِّجَال والنِّساء في الأحكام.

فالقول الرَّاجح: أن المرأة تصنعُ كما يصنعُ الرَّجُلُ في كلِّ شيء، فترفَعُ يديها وتجافي، وتمدُّ الظَّهرَ في حال الرُّكوعِ، وترفعُ بطنَها عن الفخذين، والفخذين عن الساقين في حال السُّجود.

قوله: «وتسدل رجليها في جانب يمينها» يعني: أنها تخالف الرَّجل في كيفيَّة الجلوس، فلا تفترش، ولا تتورَّك، ولكن تسدلُ الرِّجْلين بجانب اليمين في الجلوس بين السَّجدتين، وفي التشهُّدين. وهذا أيضاً ليس عليه دليل، بل الدليل يدلُّ على أنها تفعل كما يفعل الرَّجل تفترش في الجلوس بين السَّجدتين، وفي التشهُّدِ الأول، وفي التشهُّدِ الأخير في صلاة ليس فيها إلا تشهُّدٌ واحدٌ، وتتورَّك في التشهُّدِ الأخير في الثلاثية والرباعية.

وعلى هذا؛ تكون المرأةُ مساوية للرَّجُل في كيفية الصَّلاة.

انتهى المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ من الكلام على صفة الصَّلاة، ولكن لم يذكر رحمه الله ماذا يقول بعد السَّلام مِن الصَّلاة؛ لأن الكتاب مختصر، ولكن ينبغي أن نعرفَ ماذا يقول الإنسان بعد السَّلام من الصَّلاة.

فيقول إذا سَلَّم: «أستغفرُ الله» ثلاث مرَّات[(407)] أي: أطلبُ مِن الله المغفرةَ، وإنما شُرع للإنسان سؤال المغفرة بعد أداء هذه العبادة العظيمة؛ لأنها جديرة بالاعتناء والاهتمام.

وكثيرٌ من الناس يُفرِّط فيها، إما بالمشروعات الظَّاهرة، أو بالمشروعات الباطنة. ففي المشروعات الباطنة يفرِّط تفريطاً كثيراً فيستولي الوسواسُ على صلاته أو أكثرها، وما أكثر الذين يُصلُّون بظواهرهم لا ببواطنهم، وفي المشروعات الظَّاهرة أيضاً لا يخلو الإنسان من تقصير أو تجاوز، ربما يُقصِّرُ في وَضْعِ اليدين، أو في استواء الظَّهر مع الرَّأس في الرُّكوع، أو في التَّجافي، أو في غير ذلك، وربَّما يكون منه تجاوز بالحركات، كما يشاهد مِن بعض المصلِّين.

وهذا كلُّه مِن الشيطان يُذكِّرُ الإنسان بالشيء، وإذا انتهى من الصَّلاة أنساه إيَّاه، حتى تأتي الصلاة الثانية ثم يذكره، ولهذا يُذكرُ أن رجلاً جاء إلى أبي حنيفة وقال: إنه نسيَ كذا وكذا، فقال له: اذهبْ فَصَلِّ، فذهب الرَّجُل وصَلَّى؛ فتذكَّر؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر بأن الشيطان يقول للإنسان في حال صلاته: «اذكرْ كذا»[(408)].

فأبو حنيفة ـ رحمه الله ـ استنبط مِن هذا الحديث: أن الصَّلاةَ سببٌ للتذكُّر.

والمهمُّ أن الاستغفار بعد السَّلام له مناسبةٌ عظيمة، وهي جَبْرُ التقصير والخلل في الصَّلاة، فنسأل الله المغفرةَ، ولهذا استُحبَّ للإنسان أن يختِمَ عملَه بالاستغفار، وأن يختِمَ عُمُرَه بالاستغفار، أما العُمُرُ فقد قال الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا *}} [النصر] قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا نعيُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال عُمرُ: ما أعلم منها إلا ما تقول[(409)]. وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «خَبَّرَني رَبِّي أنِّي سأرى علامةً في أُمَّتي، فإذا رأيتُها أكثرتُ مِن قول: سبحان الله وبحمدِه، أستغفُر الله وأتوب إليه، فقد رأيتُها، {{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *}} فَتْح مكة، {{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا *}}»[(410)] فجاء نَصْرُ الله والفتحُ، ورأى العلامةَ، ولهذا كان يُكثر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ذلك أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللَّهمَّ؛ ربّنا وبحمدك، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي»[(411)].

ثم يقول بعد الاستغفار: «اللَّهُمَّ أنت السَّلامَ ومنك السَّلامُ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام»[(412)]، والمناسبة في هذا ظاهرة، كأنك تقول: اللَّهُمَّ أنت السَّلام، فسلِّمْ لي صلاتي مِن الرَّدِّ والنَّقْصِ، لأن الصَّلاةَ قد تُقبل وقد لا تُقبل، قد تُلَفُّ ويُضرب بها وَجْهُ صاحبها والعياذ بالله، وقد تُقبل، وما أربح الذين يَقبل الله صلاتهم!

ثم يقول ما وَرَدَ من الذِّكرْ.

والتَّرتيب بعد الاستغفار، وقوله: «اللَّهمَّ أنت السَّلامُ، ومنك السَّلامُ» لا أعلم فيه سُنَّة، فإذا قَدَّم شيئاً على شيء فلا حَرَجَ.

والمهمُّ أن يحرِصَ الإنسانُ على ما وَرَدَ عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا الباب، ومنه التسبيح والتحميد والتكبير وقد وَرَدَ على عدَّة أوجه:

الوجه الأول أن يقول: «سبحان الله» ثلاثاً وثلاثين، و«الحمد لله» ثلاثاً وثلاثين، و«الله أكبر» ثلاثاً وثلاثين، ويختمُ بـ«لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كُلِّ شيء قدير» فتكون مِئَة[(413)].

الوجه الثاني أن يقول: «سبحان الله» ثلاثاً وثلاثين، و«الحمد لله» ثلاثاً وثلاثين، و«الله أكبر» أربعاً وثلاثين، فيكون الجميع مِئَة[(414)].

الوجه الثالث أن يقول: «سبحان الله» عشراً، و«الحمد لله» عشراً، و«الله أكبر» عشراً، فيكون الجميع ثلاثين[(415)].

الوجه الرابع أن يقول: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» خمساً وعشرين مرَّة، فيكون الجميع مِئَة[(416)].

وهذا الاختلاف مِن اختلاف التنوُّع، وقد مَرَّ علينا أنه ينبغي للإنسان في العبادات الواردة على وجوه متنوِّعة أن يفعل هذا تارةً وهذا تارةً، وذكرنا فوائد ذلك[(417)] وينبغي أيضاً أن يَقرأ آيةَ الكرسيِّ؛ لأنه رُويَ فيها أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم[(418)] لكن إن صَحَّت فقد وقعت محلَّها، وإن لم تكن صحيحة فهي زيادة حِرْزٍ للإنسان، لأن قراءة «آية الكرسي» يحفظُ الإنسانَ من الشياطين، وكذلك: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}} و{{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ *}} و{{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *}}[(419)] ومن أراد بَسْطَ هذا فليرجعْ إلى الكتب المؤلَّفة في ذلك، مثل كتاب «الأذكار» للنووي، وكتاب «الوابل الصَّيِّب» لابن القيم، وهو كتاب مفيد؛ لأنه ـ رحمه الله ـ ذَكَرَ فيه فوائد الذِّكر، وذَكَرَ فيه فوق مِئَة فائدة من فوائد الذِّكر..

 

فَصْلٌ

 

وَيُكْرَهُ فِي الصَّلاةِ التِفَاتُهُ،.........

قوله: «ويكره في الصلاة التفاتُهُ» «التفات» نائب فاعل، يعني: يُكره للمصلِّي أن يلتفت؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سُئل عن الالتفات في الصَّلاة فقال: «هو اختلاسٌ يختلسُهُ الشيطانُ مِن صلاة العبد»[(420)] أي: سرقة ونهب، يختلسه الشيطان مِن صلاة العبد، وقال لأنس بن مالك: «يا بُنيَّ، إيَّاك والالتفات في الصَّلاة، فإنه هَلَكَة، فإنْ كان لا بُدَّ ففي التطوّع لا في الفريضة»[(421)] ولأن الالتفات حركة لا مبرر لها، والأصل كراهة الحركات في الصَّلاة، ولأن في الالتفات إعراضاً عن الله عزّ وجل، فإذا قام الإنسان يُصلي فإنَّ اللهَ تعالى قِبَلَ وجهه، ولهذا حُرِّمَ على المُصلِّي أن يتنخَّعَ قِبَلَ وجهه؛ لأنه مِن سوءِ الأدب مع الله.

ولكن إذا كان الالتفات لحاجة فلا بأس، فمن الحاجة ما جرى للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم يوم حُنين حيث أرسلَ عيناً تترقَّبُ العدوَ، فكان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُصلِّي ويلتفت نحو الشِّعْبِ الذي يأتي منه هذا العين[(422)] ـ والعين هو الجاسوس ـ ولأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمَرَ الإنسان إذا أصابه الوسواسُ في صلاته أن يَتْفُلَ عن يساره ثلاث مرات، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم[(423)]، وهذا التفاتٌ لحاجة.

ومِن ذلك: لو كانت المرأة عندها صبيُّها؛ وتخشى عليه؛ فصارت تلتفت إليه؛ فإن هذا مِن الحاجة ولا بأس به، لأنه عمل يسير يحتاج إليه الإنسان، ثم اعْلَمْ أن الالتفات نوعان:

1 ـ التفات حسِّي بالبدن، وهو التفات الرأس.

2 ـ التفات معنوي بالقلب، وهو الوساوس والهواجيس التي تَرِدُ على القلب.

فالالتفات بالبدن سبق حكمُه، أما الالتفات المعنوي القلبي فهذا هو العِلَّة التي لا يخلو أحدٌ منها، وما أصعب معالجتها! وما أقل السالم منها! وهو منقص للصلاة، ويا ليته التفات جزئي! ولكنه التفات من أول الصلاة إلى آخرها، وينطبق عليه أنه اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاة العبد، بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما شَكَى إليه الرَّجُلُ هذه الحال قال له: «ذاك شيطان يُقال له: خِنْزَبٌ، فإن أحسست به فاتفل عن يسارِك ثلاث مَرَّات، وتعوَّذ بالله منه»[(424)].

 

وَرَفْعُ بَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ...........

قوله: «ورفع بصره إلى السماء» أي: يُكره رَفْعُ بصرِه إلى السماء وهو يُصلِّي، سواءٌ في حال القراءة أو في حال الرُّكوعِ، أو في حال الرَّفْعِ من الرُّكوع، أو في أي حال من الأحوال؛ بدليل وتعليل:

أما الدليل ، فلأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لينتهينَّ أقوامٌ عن رَفْعِ أبصارِهم إلى السَّماءِ في الصَّلاة؛ أو لتُخْطَفَنَّ أبصارُهم»[(425)] أي: إما أن ينتهوا، وإما أن يعاقبوا بهذه العقوبة وهي: أن تُخطف أبصارهم فلا ترجع إليهم، واشتدَّ قوله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، والحقيقة أن الدَّليل أقوى من المدلول؛ لأن الدليل يقتضي أن يكون رَفْعُ البصرِ إلى السَّماءِ محرَّماً، فإن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم حَذَّر منه، واشتدَّ قوله فيه، ثم ذَكَرَ عقوبة محتملة، وهي أن تُخطف أبصارهم، ولا ترجع إليهم. ومن المعلوم أن التحذير عن الشيء بِذِكْرِ عقوبة يدلُّ على أنه حرام، كما قلنا في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أَمَا يَخشى الذي يرفعُ رأسَه قبل الإمام أن يحوِّل اللهُ رأسَه رأسَ حِمارٍ، أو يجعل صورتَه صورةَ حِمار»[(426)]، إن هذا دليل على تحريم مسابقة الإمام، وقلنا في قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفَّن اللهُ بين قلوبكم»[(427)]، إنَّ فيه دليلاً على القول الرَّاجح، وهو وجوب تسوية الصفِّ.

وهذا الحديث في رَفْع البصرِ إلى السَّماءِ لا يقصر دلالة عن دلالة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أَمَا يَخشى الذي يرفعُ رأسَه قبل الإِمام أن يحوِّل اللهُ رأسَه رأسَ حِمار، أو يجعل صورتَه صورةَ حِمار»، بل قد يكون أشدَّ وأبلغَ أن يرجع بصرُ الإنسان إلى عمى قبل أن يرتدَّ إليه.

وأما التعليل: فلأن فيه سوء أدب مع الله تعالى؛ لأن المصلِّي بين يدي الله، فينبغي أن يتأدَّبَ معه، وأن لا يرفعَ رأسَه، بل يكون خاضعاً، ولهذا قال عَمرو بن العاص رضي الله عنه: إنه كان قبل أن يُسْلِمَ يكره النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كراهةً شديدةً، حتى كان يحبُّ أن يتمكَّن منه فيقتله، فلما أسلَمَ قال: ما كنت أطيق أن أملأ عينيَّ منه؛ إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقتُ[(428)].

ولهذا كان القول الرَّاجح في رَفْعِ البصرِ إلى السَّماءِ في الصَّلاة أنه حرام[(429)]؛ وليس بمكروه فقط، ولكن إذا قلنا بأنه حرام؛ ثم رَفَعَ بصرَه إلى السَّماءِ؛ فهل تبطل صلاتُه؟

الجواب: اختلفَ في ذلك أهلُ العِلم[(430)]، فقال بعضُهم: إنها تبطل الصلاة، وعلَّلوا ذلك بتعليلين:

التعليل الأول: أنه فِعْلٌ منهيٌّ عنه في العبادة، والإنسان إذا فَعَلَ فِعْلاً منهيًّا عنه في العبادة أبطلها؛ كالكلام في الصَّلاة، والأكل والشُّرب في الصَّوم؛ لأنه ينافيها.

التعليل الثاني: أن فيه انحرافاً عن القِبْلة؛ لأنه إذا رَفَعَ رأسَه صار مستقبلاً القِبْلة بجسده لا بوجهه.

ولكن الذي يظهر لي أن المسألة لا تَصِلُ إلى حَدِّ البطلان.

أما التعليل: بأنه انحرافٌ عن القِبْلة فإنه منقوضٌ بالالتفات، فإن الملتفت إلى اليمين أو اليسار قد انحرفَ عن القِبْلة، ومع ذلك لا تبطل صلاتُه.

وأما التعليل: بأنه فِعْلٌ منهيٌّ عنه في العبادة فأبطلها، كما أن الصَّلاة تبطل بالكلام؛ والصوم بالأكل والشُّرب؛ فهذا مثله، فهذا لا شَكَّ أنه تعليل قويٌّ؛ لكن النَّفْسَ لا تطمئنُّ إلى أَمْرِ المُصلِّي بالإعادة إذا رَفَعَ رأسَه إلى السَّماءِ، إنما نقول: إنَّ صلاتك على خَطَرٍ، وأما الإثم فإنك آثم، وبناءً على ذلك يجب على طالب العِلم إذا رأى الذين يرفعون أبصارهم في الصَّلاة أن يعلمهم أن هذا حرام، وأنا أرى كثيراً من الناس إذا رفَعَ رأسَه من الرُّكوع خاصَّة رَفَعَ وجهَه إلى السَّماءِ! فليَحْذَرْ ذلك.

 

وَتَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ، ..............

قوله: «وتغميض عينيه» أي: أنه يُكره تغميض عينيه، أي: تطبيقهما، وعُلِّلَ ذلك: بأنه فِعْلُ اليهود في صلاتهم، ونحن منهيُّون عن التَّشبُّهِ بالكُفَّار من اليهود وغيرهم، لا سيما في الشَّعائر الدينية؛ لأن دياناتهم ديانات منسوخة نَسَخَهَا الله تعالى بِشَرْعِ مُحمَّد صلّى الله عليه وسلّم، فلا يجوز أن نتشبَّه بهم في العبادات ولا غيرها.

ولكن يذكر كثيرٌ من الناس أنه إذا أغمض عينيه كان أخشع له. وهذا من الشيطان، يُخَشِّعُهُ إذا أغمض عينيه من أجل أن يفعل هذا المكروه، ولو عالجَ نفسَه وأبقى عينيه مفتوحة وحاول الخشوع لكان أحسن.

لكن لو فُرِضَ أن بين يديك شيئاً لا تستطيع أن تفتح عينيك أمامه؛ لأنه يشغلك، فحينئذٍ لا حَرَجَ أن تُغمض بقَدْرِ الحاجة، وأما بدون حاجة فإنه مكروه كما قال المؤلِّف، ولا تغترَّ بما يُلقيه الشيطان في قلبك من أنك إذا أغمضتَ صار أخشعَ لك.

 

وَإِقْعَاؤُهْ، ...........

قوله: «وإقعاؤه» أي: يُكره للمصلِّي إقعاؤه في الجلوس؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن إقعاء كإقعاء الكلب[(431)]، ولأنَّ الإنسانَ لا يستقرُّ في حال الإقعاء؛ لأنه يتعب.

والإقعاء له صُوَر:

الأولى: أن يَفْرُشَ قدميه، أي: يجعل ظُهُورَهما نحو الأرض، ثم يجلس على عقبيه، وهذا مكروه لما يلي:

أولاً: لأنه يشبه من بعض الوجوه إقعاء الكلب.

ثانياً: أنه مُتْعِبٌ، فلا يستقرُّ الإنسانُ في حال جلوسه على هذا الوجه.

الصورة الثانية: أن ينصبَ قدميه ويجلسَ على عقبيه، وهذا لا شَكَّ أنه إقعاء، كما ثَبَتَ ذلك في «صحيح مسلم» مِن حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما،بعضُ أهل العلم[(432)] قال: إن هذه الصورة من الإقعاء من السُّنَّة، لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إنها سنة نبيِّك»[(433)]، ولكن أكثرُ أهلِ العِلم على خلاف ذلك (432) وأن هذا ليس من السُّنَّة، ويُشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون قول ابن عباس رضي الله عنهما تحدُّثاً عن سُنَّة سابقة نُسخت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة بأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يفرُشُ رِجْلَه اليُسرى وينصب اليُمنى[(434)].

الثالثة: ـ وهي أقربُها مطابقة لإقعاء الكلب ـ أن ينصب فخذيه وساقيه ويجلسَ على أليتيه، ولا سيما إن اعتمد بيديه على الأرض، وهذا هو المعروف من الإقعاء في اللغة العربية.

الصورة الرابعة: أن ينصبَ قدميه ويجلسَ على الأرض بينهما.

بقي صفات أخرى للجلوس لا تُكره لكنها خلاف السُّنَّة، كالتربُّع مثلاً؛ فليست مشروعةً ولا مكروهةً، ولكنها مشروعة في حال القيام إذا صَلَّى الإنسان جالساً في موضع القيام، والرُّكوع يتربَّع، وفي موضع السُّجود والجلوس يفترش إلا في حال التورُّك[(435)].

 

وافْتِرَاشُ ذِرَاعَيْهِ سَاجِداً، ...........

قوله: «وافتراش ذراعيه ساجداً» أي: يُكره أن يفترش ذراعيه حال السُّجود، وإنما قال: «ساجداً» لأن هذا هو الواقع؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اعتدلوا في السُّجود؛ ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب»[(436)] لأن الإنسان لا ينبغي أن يتشبَّه بالحيوان، فإن الله لم يَذكرْ تشبيه الإنسان بالحيوان إلا في مقام الذَّمِّ كما قال تعالى: {{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}} [الجمعة: 5] وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في الذي يتكلَّم والإمامُ يخطب: «كمثل الحِمَار يحمِلُ أسفاراً»[(437)].

وقال تعالى: {{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ *}{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}} [الأعراف: 175، 176] وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «العائدُ في هِبَتِهِ كالكلب يَعودُ في قَيئِهِ، ليس لنا مَثَلُ السَّوْء»[(438)].

إذاً؛ فالإنسان لا يُشبَّه بالحيوان إلا في حال الذَّمِّ، وبناءً على ذلك نقول: إذا كان التَّشبُّه بالحيوان في غير الصَّلاة مذموماً؛ ففي الصلاة من باب أَولى.

فيجافي ذراعيه، ويرفعهما عن الأرض، إلا أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا طال السُّجودُ وشَقَّ عليه؛ فله أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه[(439)]؛ لأن هذا مما فيه تيسير على المكلَّف، والشارعُ يريد منَّا اليُسر، ومن ثم شُرعت جلسة الاستراحة لمن يتثاقل أن ينهض بدون جلوس.

 

وَعَبْثُهُ، ..........

قوله: «وعبثه» أي: يُكره عبث المصلِّي، وهو تشاغله بما لا تدعو الحاجة إليه، وذلك لأن العبث فيه مفاسد:

المفسدة الأولى: انشغال القلب، فإنَّ حركةَ البَدَنِ تكون بحركة القلب، ولا يمكن أن تكون حركةُ البَدَن بغير حركة القلب، فإذا تحرَّك البَدَنُ لزم من ذلك أن يكون القلب متحرِّكاً، وفي هذا انشغال عن الصَّلاة، وقد قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلام حينما نَظَرَ إلى الخميصة نظرةً واحدةً: «اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جَهْم، وأْتُوني بأنبجانيَّة أبي جَهْم، فإنَّها ألهتني آنفاً عن صلاتي»[(440)] فيؤخذ من هذا الحديث: تجنُّب كل ما يُلهي عن الصَّلاة.

المفسدة الثانية: أنَّه على اسمه عبثٌ ولغو، وهو ينافي الجديَّة المطلوبة مِن الإنسان في حال الصَّلاة.

المفسدة الثالثة: أنه حركة بالجوارح، دخيلة على الصَّلاة، لأنَّ الصَّلاةَ لها حركات معيَّنة مِن قيام وقعود ورُكوع وسُجود.

وأما ما ذَكَرَه صاحب «الرَّوض»[(441)] ـ رحمه الله ـ بقوله: لأنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رأى رَجُلاً يعبث في صلاته فقال: «لو خَشَعَ قلبُ هذا لخشعتْ جوارحُه»[(442)] فهذا الحديث ضعيف، ولا يُحتجُّ به.

ورُويَ عن سعيد بن المسيِّب[(443)]، ولكن المفاسد التي ذكرناها واضحة تُغْني عنه.

 

وَتَخَصُّرُهُ، .........

قوله: «وتخصُّره» أي: وَضْعُ يده على خاصرته، والخاصرة هي: المستدق من البطن الذي فوق الورك، أي: وسط الإنسان، فإنه يُكره؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نَهى أن يُصلِّي الرَّجلُ[(444)] متخصراً أي: واضعاً يديه على خاصرته. وقد جاء تعليل ذلك في حديث عائشة بأنه فِعْلُ اليهود[(445)]، فكان اليهود يفعلون هذا في صلاتهم، ولأنَّه في الغالب يأتي في حال انقباض الإنسان، وكأنه يُفكِّرُ في شيء.

 

وَتَرَوُّحُهُ، ...........

قوله: «وتروحه» أي: أن يروِّحَ على نفسه بالمروحة، مأخوذة من الرِّيح، والمروحة تُصنع من خوص النَّخل، تُخصف ويوضع لها عود، ثم يتروَّح بها الإنسان، يحرِّكُها يميناً وشمالاً، فيأتيه الهواء، وهذا مكروه؛ لأنه نوع من العبث والحركة، ومُشْغِلٌ للإنسان عن صلاته، لكن إنْ دعت الحاجةُ إلى ذلك بأن كان قد أصابه غَمٌّ وحَرٌّ شديد ورَوَّحَ عن نفسِه بالمروحة، من أجل أن تخفَّ عليه وطأة الغَمِّ والحرِّ في الصَّلاةِ فإن ذلك لا بأس به؛ لأن القاعدة عند الفقهاء: أنَّ المكروه يُباح للحاجة.

وأما التروُّح الذي هو المراوحة بين القدمين بحيث يعتمد على رِجْل أحياناً، وعلى رِجْل أُخْرى أحياناً؛ فهذا لا بأس به، ولا سيما إذا طال وقوف الإنسان، ولكن بدون أن يقدِّمَ إحدى الرِّجلين على الثانية، بل تكون الرِّجْلان متساويتين، وبدون كثرة.

 

وَفَرْقَعَةُ أَصَابِعهِ، وَتَشْبِيكُهَا،...........

قوله: «وفرقعة أصابعه» أي: ويُكره فرقعة أصابعه، أي: غمزها حتى تفرقع ويكون لها صوت، لأن ذلك مِن العبث، وفيه أيضاً تشويش على مَنْ كان حوله إذا كان يُصلِّي في جماعة.

قوله: «وتشبيكها» أي: يُكره التشبيك بين الأصابع؛ وهو إدخال بعضها في بعض في حال صلاتِه؛ لحديث وَرَدَ فيمَن قَصَدَ المسجدَ أن لا يُشَبِّكَنَّ بين أصابعه[(446)]، فإذا كان قاصدَ المسجد للصَّلاة منهيًّا عن التشبيك بين الأصابع، فمن كان في نَفْسِ الصَّلاةِ، فهو أَولى بالنَّهي، ويُذكر أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رأى رَجُلاً قد شَبَّكَ بين أصابعه ففرَّج النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بينهما[(447)]، وأما بعد الصلاة فلا يُكره شيء من ذلك، لا الفرقعة، ولا التشبيك، لأن التشبيك ثَبَثَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه فَعَلَه، وذلك في حديث ذي اليدين؛ حين صَلَّى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه إحدى صلاتي العشيِّ، فَسَلَّمَ من ركعتين، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتَّكأ عليها، وشَبَّكَ بين أصابعه[(448)].

وأما الفرقعة فإن خشيَ أن تشوش على مَن حوله إذا كان في المسجد فلا يفعل.

 

وَأَنْ يَكُونَ حَاقِناً أَوْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ يَشْتَهِيهِ،..........

قوله: «وأن يكون حاقناً» أي: يُكره أن يُصلِّي وهو حاقن، والحاقن هو المحتاج إلى البول، لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الصَّلاةِ في حضرة طعام، ولا وهو يُدافعه الأخبثان[(449)].

والحكمة من ذلك: أن في هذا ضرراً بدنيًّا عليه، فإن في حبس البول المستعدِّ للخروج ضرراً على المثانة، وعلى العصب التي تمسك البول، لأنه ربما مع تَضخُّمِ المثانة بما انحقن فيها مِن الماء تسترخي الأعصاب، لأنها أعصاب دقيقة، وربما تنكمش انكماشاً زائداً، وينكمش بعضُها على بعض، ويعجز الإنسان عن إخراج البول، كما يجري ذلك أحياناً.

وفيه أيضاً ضررٌ يتعلَّقُ بالصَّلاة؛ لأن الإنسان الذي يُدافع البول لا يمكن أن يُحضر قلبه لما هو فيه من الصَّلاة؛ لأنه منشغل بمدافعة هذا الخَبَث، وإذا كان حاقباً فهو مثله، والحاقب: هو الذي حَبَسَ الغائط، فيُكره أن يُصلِّي وهو حابس للغائط يدافعه، والعِلَّة فيه ما قلنا في عِلَّة الحاقن، وكذلك إذا كان محتبس الرِّيح فإنه يُكره أن يُصلِّي وهو يدافعها.

مسألة: إذا قال قائل: رَجُلٌ على وُضُوء، وهو يدافع البول أو الرِّيح، لكن لو قضى حاجته لم يكن عنده ماء يتوضَّأ به، فهل نقول: اقْضِ حاجتك وتيمَّم للصَّلاة، أو نقول: صَلِّ وأنت مدافع للأخبثين؟

فالجواب: نقول: اقْضِ حاجتك وتيمَّم، ولا تُصَلِّ وأنت تُدافع الأخبثين، وذلك لأن الصلاة بالتيمُّم لا تُكره بالإجماع، والصَّلاةُ مع مدافعة الأخبثين منهيٌّ عنها مكروهة، ومِن العلماء مَن حَرَّمها وقال: إن الصَّلاةَ لا تصحُّ مع مدافعة الأخبثين[(450)]، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يُدافعه الأخبثان»[(451)].

مسألة: لو قال قائل: إنه حاقن، ويخشى إنْ قضى حاجته أن تفوته صلاة الجماعة، فهل يُصلِّي حاقناً ليدرك الجماعة، أو يقضي حاجته ولو فاتته الجماعة؟

فالجواب: يقضي حاجته ويتوضَّأ ولو فاتته الجماعة، لأن هذا عُذر، وإذا طرأ عليه في أثناء الصَّلاة فله أن يُفارق الإمام.

مسألة: إذا قال قائل: إنَّ الوقت قد ضاقَ، وهو الآن يُدافع أحد الأخبثين فإن قضى حاجته وتوضَّأ خرج الوقتُ، وإن صَلَّى قبل خروج الوقت صَلَّى وهو يدافع الأخبثين، فهل يُصلِّي وهو يدافع الأخبثين، أو يقضي حاجته ويُصلِّي؛ ولو بعد الوقت؟

فالجواب: إنْ كانت الصَّلاةُ تُجمع مع ما بعدَها فليقضِ حاجته وينوي الجمع؛ لأن الجمع في هذه الحال جائز، وإن لم تكن تُجمع مع ما بعدَها كما لو كان ذلك في صلاة الفجر، أو في صلاة العصر، أو في صلاة العشاء، فللعلماء في هذه المسألة قولان[(452)]:

القول الأول: أنه يُصلِّي ولو مع مُدافعة الأخبثين حفاظاً على الوقت، وهذا رأي الجُمهور.

القول الثاني: يقضي حاجته ويُصلِّي ولو خرج الوقت.

وهذا القول أقرب إلى قواعد الشريعة؛ لأن هذا بلا شَكٍّ من اليُسر، والإنسان إذا كان يُدافع الأخبثين يَخشى على نفسِه الضَّرر مع انشغاله عن الصَّلاة.

وهذا في المدافعة القريبة.

أما المدافعة الشديدة التي لا يدري ما يقول فيها، ويكاد يتقطَّع من شدة الحصر، أو يخشى أن يغلبه الحَدَث فيخرج منه بلا اختيار، فهذا لا شَكَّ أنه يقضي حاجته ثم يُصلِّي، وينبغي ألا يكون في هذا خلاف.

قوله: «أو بحضرة طعام يشتهيه» أي: يكره أن يُصلِّي بحضرة طعام تتوقُ نفسُه إليه فاشترط المؤلِّف شرطين وهما:

1 ـ أن يكون الطَّعام حاضراً.

2 ـ أن تكون نفسه تَتُوقُ إليه.

وينبغي أن يُزاد شرطٌ ثالث وهو: أن يكون قادراً على تناوله حِسًّا وشرعاً.

فإنْ لم يحضر الطَّعام ولكنه جائع، فلا يؤخِّر الصَّلاة؛ لأننا لو قلنا بهذا؛ لزم أن لا يُصلِّي الفقير أبداً؛ لأن الفقير قد يكون دائماً في جوع، ونفسه تتوقُ إلى الطعام.

ولو كان الطَّعام حاضراً ولكنه شبعان لا يهتمُّ به فليصلِّ، ولا كراهة في حَقِّهِ.

وكذلك لو حضر الطَّعامُ، لكنه ممنوع منه شرعاً أو حِسًّا.

فالشرعي: كالصَّائم إذا حَضَرَ طعامُ الفطور عند صلاة العصر، والرَّجُل جائعٌ جدًّا، فلا نقول: لا تُصَلِّ العصر حتى تأكله بعد غروب الشمس. لأنه ممنوع من تناوله شرعاً، فلا فائدة في الانتظار.

وكذلك لو أُحضر إليه طعامٌ للغير تتوق نفسُه إليه، فإنه لا يُكره أن يُصلِّي حينئذٍ؛ لأنه ممنوع منه شرعاً.

والمانعُ الحسِّي: كما لو قُدِّمَ له طعام حارٌّ لا يستطيع أن يتناوله فهل يُصلِّي، أو يصبر حتى يبرد؛ ثم يأكل؛ ثم يُصلِّي؟

الجواب: يُصلِّي، ولا تُكره صلاتُه؛ لأن انتظاره لا فائدة منه.

كذلك لو أُحضر إليه طعام هو مِلْكه، لكن عنده ظالم يمنعه من أكله، فهنا لا يُكره له أن يُصلِّي؛ لأنه لا يستفيد مِن عدم الصَّلاةِ؛ لمنعه مِن طعامه حسًّا.

وخلاصة المسألة: أنها تحتاج إلى ثلاثة قيود:

1 ـ حضور الطَّعام.

2 ـ توقان النفس إليه.

3 ـ القُدْرة على تناوله شرعاً وحِسًّا.

ودليل ذلك قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاةَ بحضرة طعامٍ، ولا وهو يُدافعه الأخبثان»[(453)].

وكلام المؤلِّف يدلُّ على أن الصَّلاة في هذه الحال مكروهة؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة...»، وهل هذا النفي نفي كمال، أو نفي صحة؟

الجواب: جمهور أهل العِلم على أنه نفيُ كمال، وأنه يُكره أن يُصلِّي في هذه الحال، ولو صَلَّى فصلاتُه صحيحة[(454)].

وقال بعض العلماء: بل النفيُ نفيٌ للصِّحَّة[(455)]، فلو صَلَّى وهو يُدافع الأخبثين بحيث لا يدري ما يقول فصلاتُه غيرُ صحيحة، لأن الأصل في نفي الشَّرع أن يكون لنفي الصِّحَّة، وعلى هذا تكون صلاتُه في هذه الحال محرَّمة؛ لأن كلَّ عبادة باطلة فتلبُّسه بها حرام؛ لأنه يشبه أن يكون مستهزئاً؛ حيث تَلَبَّسَ بعبادة يعلم أنها محرَّمة.

وكلٌّ مِن القولين قويٌّ جدًّا.

 

وَتِكْرَارُ الْفَاتِحَةِ، .........

قوله: «وتكرار الفاتحة» أي: ويُكره تكرار الفاتحة مرَّتين، أو أكثر.

وتعليل ذلك: أنه لم يُنقل عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم. والمُكرِّرُ للفاتحة على وجه التعبُّد بالتكرار لا شَكَّ أنه قد أتى مكروهاً؛ لأنه لو كان هذا مِن الخير لفَعَلَهُ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، لكن إذا كرَّر الفاتحةَ لا على سبيل التعبُّد، بل لفوات وصف مستحبّ؟ فالظَّاهرُ الجواز، مثل: أن يكرِّرها لأنه نسيَ فقرأها سِرًّا في حال يُشرع فيها الجهرُ، كما يقعُ لبعض الأئمة ينسى فيقرأ الفاتحةَ سِرًّا، فهنا نقول: لا بأس أن يُعيدها من الأول استدراكاً لما فات من مشروعية الجهر، وكذلك لو قرأها في غير استحضار، وأراد أن يكرِّرها ليحضر قلبه في القراءة التالية؛ فإن هذا تكرار لشيء مقصود شرعاً، وهو حضور القلب، لكن إن خشيَ أن ينفتح عليه باب الوسواس فلا يفعل، لأن البعض إذا انفتحَ له هذا البابُ انفتح له باب الوسواس الكثير، وصار إذا قرأها وقد غَفَلَ في آية واحدة منها رَدَّها، وإذا رَدَّها وغَفَلَ رَدَّها ثانية، وثالثة، ورابعة، حتى ربما إذا شدَّد على نفسه شَدَّد الله عليه، وربَّما غَفَلَ في أول مرَّة عن آية، ثم في الثانية يغفُلُ عن آيتين، أو ثلاث.

 

لاَ جَمْعُ سُوَرٍ فِي فَرْضٍ كَنَفْلٍ.

قوله: «لا جمعُ سور في فرض كنفل» أي: لا يُكره جَمْعُ السُّور في الفرض. كما لا يُكره في النَّفل، يعني: أن يقرأ سورتين فأكثر بعد الفاتحة.

والدليل: حديث حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه صَلَّى مع النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلةٍ فقرأ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم سورة «البقرة» و«النساء»، و«آل عمران»[(456)] وهذا جمعٌ بين السُّور في النَّفل، وما جاز في النَّفل جاز في الفرض إلا بدليل، وما جاز في الفرض وَجَبَ في النَّفْل إلا بدليل، لأن الأصل تساويهما في الحُكم.

والدليل على هذا الأصل: أن الصَّحابة لما حَكَوا صلاةَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم على راحلته في السَّفر وأنه يُوتر عليها قالوا: «غير أنه لا يُصلِّي عليها المكتوبة»[(457)]، فلولا أن الفرض يُحذى به حذو النَّفل ما كان للاستثناء فائدة، فلما قالوا: «غير أنه لا يُصلِّي عليها المكتوبة» علمنا أنهم فهموا أن ما ثَبَتَ في النَّفل؛ ثَبَتَ في الفرض، وإلا لما احتيجَ إلى الاستثناء، وعلى هذا فنقول: إنه لا بأس أن يجمع الإنسانُ في الفَرْضِ بين سورتين فأكثر.

مسألة: هل تفريق السُّورة في الركعتين جائز أم لا؟

الجواب: جائز؛ إلا إذا كان لما بقي تعلُّق بما مضى، فهنا ينبغي ألا يفعل، مثل لو قال: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *} {لَمْ يَلِدْ}} [الإخلاص: 1 ـ 3] فهنا لا ينبغي أن يقفَ على هذا الموقف؛ لانقطاع الكلام بعضه عن بعض. أما إذا لم يكن محذور في الوقف فلا بأس.

ودليل ذلك: أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ في صلاة المغرب بالأعراف فَرَّقها في الرَّكعتين[(458)] وهذا يدلُّ على جواز تفريق السُّورة في الرَّكعتين، لكن ينبغي ملاحظة ما يُشرع مِن التطويل والتوسُّط والتقصير، كما هو معروف في أول صفة الصَّلاة[(459)].

مسألة: هل يقرأ من أثناء السُّورة أم لا؟

الجواب: يجوز أن يقرأ آية أو آيتين أو أكثر مِن أثناء السُّورة. هذا؛ وإن كان الأفضل عدمه حتى إن ابنَ القيم ذَكَرَ في «زاد المعاد»[(460)]: أنه لم يُحفظ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ مِن أثناء السُّورة. ولكن يُقال: إنه قد ثَبَتَ عنه أنه كان يقرأ في سُنَّةِ الفجر في الرَّكعةِ الأولى: {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} ...} [البقرة: 136] ، وفي الثانية {{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ...}[(461)] [آل عمران: 64] .

والأصلُ أن ما ثَبَتَ في النَّفل ثَبَتَ في الفرض إلا بدليل، فالصَّحيح أنه يجوز أن يقرأ الإنسانُ الآية أو الآيتين أو أكثر من أثناء السُّورة، ولا بأس في ذلك في الفرض والنَّفل.

 

وَلَهُ رَدُّ المَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَدُّ الآي، وَالْفَتْحُ عَلَى إمَامِهِ وَلُبْسُ الثَّوْبِ، وَلَفُّ العِمَامَةِ، وَقَتْلِ حَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ وقَمْلٍ ............

قوله: «وله ردٌّ المارِّ بين يديه» . «له»: الضمير يعود على المُصلِّي، واللام هنا للإباحة كما هي القاعدة في أصول الفقه: أن العلماء إذا عَبَّروا باللام فهي للإباحة، كما أنَّهم إذا عَبَّروا بـ«على» فهي للوجوب، فإذا قالوا:

عليه أن يفعل... أي: واجب.

له أن يفعل.. أي: جائز.

فقول المؤلِّف: «له رَدُّ المارِّ بين يديه» يقتضي أن هذا مُباح.

وقوله: «ردُّ المَارِّ» يشمَلُ الآدمي وغير الآدمي، ومَنْ تبطل الصَّلاةُ بمروره، ومَنْ لا تبطل الصَّلاةُ بمروره.

وعلى هذا فإذا أراد أحدٌ أن يَمُرَّ بين يدي المُصلِّي؛ قلنا للمُصلِّي: أنت بالخيار؛ إنْ شئت فردَّه، وإنْ شئت فلا تردَّه، وإن رددته فليس لك أجر، وإنْ لم تردَّه فليس عليك وِزْر؛ لأن هذا شأن المباح، حتى لو أرادت امرأة أن تمُرَّ بين يديك ـ على كلام المؤلِّف ـ فأنت بالخيار؛ إنْ شئت فردَّها، وإن شئت فلا تردَّها. ولكن ما يقتضيه كلام المؤلِّف ـ رحمه الله ـ خِلاف المذهب.

فالمذهب: أن الرَّدَّ سُنَّة[(462)]، أي: يُسَنُّ للمُصلِّي، ويُطلب منه شرعاً أن يردَّ المارَّ بين يديه.

ودليل ذلك: أمرُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بهذا؛ حيث قال: «إذا صَلَّى أحدُكم إلى شيء يستره مِن الناس، فأرادَ أحدٌ أن يجتاز بين يديه؛ فَلْيَدْفَعْهُ، فإن أبى فَلْيُقَاتِلْهُ فإنَّما هُو شيطان»[(463)] فأمر بِدَفْعِهِ، وأقلُّ أحوال الأمر الاستحباب.

وقال أيضاً: «إذا كان أحدُكم يصلِّي، فلا يدعْ أحداً يمرُّ بين يديه، فإن أبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فإنَّ معه القَرِينَ»[(464)].

وعن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ رواية ثالثة: أنَّ رَدَّ المارِّ واجب[(465)]، فإن لم يفعل فهو آثم، ولا فَرْقَ بين ما يقطع الصَّلاة مروره، أو لا يقطع.

واستدلُّوا لهذا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فليدفعه» والأصلُ في الأمر الوجوب. ويقوِّي الوجوب: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «فإن أبى فَلْيُقَاتِلْهُ» وأصل مقاتلة المسلم حرام، لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «سبابُ المسلم فُسُوق، وقتاله كُفْرٌ»[(466)].

لكن من المعلوم أن المراد بالمقاتلة في رَدِّ المَارِّ الدَّفْع بشدة، لا أن تقتله بسلاح معك، أي: ليس قَتْلاً، ولكن مقاتلة، ومقاتلة كل شيء بحسبه، وحتى المقاتلة التي لا تؤدِّي إلى قتل هي حرام بالنسبة للمسلم مع أخيه إلا إذا وُجِدَ ما يسوِّغها.

قالوا: ولا يؤمر بما أصله الحرام إلا لتحصيل واجب، فلا يُؤمر بالقتال إلا إذا كان الدَّفْعُ واجباً؛ لأنه لا يبيح المُحَرَّم إلا الشيء الواجب. وقالوا أيضاً: في هذا فائدة وهي تعزير المعتدي؛ لأن المَارَّ بين يديك معتدٍ عليك، ولهذا قال الرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «فإنَّما هو شيطان» وفي لفظ: «فإن معه القَرِينَ»[(467)] أي: أنَّ الشيطان يأمره، ورَدْعُ المعتدي أمْرٌ واجب.

وقالوا أيضاً: إنَّ فيه إحياء قلوب الغافلين؛ لأن كثيراً مِن النَّاسِ يمشي في المسجد وعيناه في السَّماءِ، ولا يبالي أكان الذي بين يديه مصلِّين أو غير مصلِّين، فإذا رَدَدتَهُ نبَّهتَه فيكون بذلك تنبيهاً للغافلين. وهذه الرواية عن أحمد كما ترى دليلُها الأثريُّ والنظريُّ قويان.

ويحتمل أن يُقال: يُفرَّق بين المارِّ الذي يقطعُ الصَّلاةَ مروره، والمَارِّ الذي لا يقطع الصَّلاةَ مروره، فالذي يقطع الصَّلاةَ مروره يجب رَدُّه، والذي لا يقطع الصَّلاةَ مروره لا يجب رَدُّه؛ لأن غاية ما يحصُل منه أن تنقص الصَّلاةُ ولا تبطل، بخلاف الذي يقطع الصَّلاةَ مروره؛ فإنه سوف يبطل صلاتك ويفسدها عليك، ولا سيما إذا كانت فرضاً، فإن تمكينك مِن شخص يقطع صلاة الفَرْض عليك يعني أنك قطعت فرضك، والأصل في قَطْعِ الفرض التحريم.

وهذا قول وسطٌ بين قول مَن يقول بالوجوب مطلقاً، ومن يقول بالاستحباب مطلقاً، وهو قول قويٌّ.

مثال ذلك: إذا مَرَّت امرأة؛ فإنه يجب عليك أن تردَّها، وإذا مَرَّ كلبٌ أسود يجب أن تردَّه، وإذا مَرَّ حِمار يجب أن تردَّه، بخلاف ما إذا مَرَّ رَجُلٌ، أو بَهيمة غير حِمار، أو كلب غير أسود، أو أُنثى دون البلوغ، فإنه لا يجب عليك رَدُّه، ولكن يُسَنُّ ذلك.

ويحتمل أن يُفرَّق بين الفرض والنَّفل، فإذا كانت الصَّلاة فريضة ومَرَّ مَنْ يقطعها وجب رَدُّه، لأن الفريضة إذا شَرَعَ فيها حَرُمَ أن يقطعَها إلا لضرورة، وإلا لم يجب رَدُّه، بل يُسَنُّ. ولهذا كثيراً ما يأتي في كلام شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مثل هذا التَّفصيل بين القولين، ويقول: وهو بعضُ قول من يقول بالوجوب، أو ما أشبه ذلك، مثل قوله في الوِتر: إنَّ الوتر واجب على مَن كان له وِرْدٌ في الليل. قال: وهو بعض قول من يوجبه مطلقاً، لأن الوتر فيه ثلاثة أقوال للعلماء: سنة مطلقاً ـ وهو الصحيح، وواجب مطلقاً، وتفصيل؛ وهو اختيار شيخ الإسلام[(468)]. والشاهد أنه يقول: وهو بعضُ قول من يوجبه مطلقاً. فإذا قلنا: يجب مَنْعُ المار إذا كان ممن يقطع الصَّلاةَ، صار بعض قول مَن يوجبه مطلقاً، فإن قال قائل: كيف نعتذر عن كلام المؤلِّف حيث إن ظاهره الإباحة مع ورود السُّنَّة بالأمر به؟

فالجواب: أنه يمكن أن يُحمل على أن الإباحة هنا في مقابلة توهُّمِ المَنْعِ، أو في مقابلة الكراهة، لأن رَدَّ المار عَمَلٌ وحركة مِن غير جنس الصَّلاة، والأصل فيها إما الكراهة؛ وإما المنع، فتكون الإباحة هنا يُراد بها نفي الكراهة، أو نفي المنع، فلا ينافي أن يكون الحكم مستحبًّا، يعني: يمكن أن يُقال هذا، لكن يمنعه أن هذه المسألة فيها قول بالإباحة مستقلٌّ معروف.

وقوله: «بين يديه» . أي: بين يدي المصلِّي.

وقد اختُلف في المراد بما بين يديه[(469)]، فقيل: إنه بمقدار ثلاثة أذرع مِن قدمي المصلِّي. وقيل: بمقدار رَمية حَجَر، يعني بالرَّمي المتوسط لا بالقويِّ جدًّا ولا بالضعيف. وقيل: ما للمصلِّي أن يتقدَّم إليه بدون بطلان صلاتِه. وقيل: إن مَرْجِعَ ذلك إلى العُرف، فما كان يعدُّ بين يديه، فهو بين يديه، وما كان لا يُعدُّ عُرفاً بين يديه، فليس بين يديه.

وقيل: ما بين رجليه وموضع سجوده. وهذا أقرب الأقوال، وذلك لأن المصلِّي لا يستحقُّ أكثر مما يحتاج إليه في صلاته، فليس له الحقُّ أن يمنعَ النَّاس مما لا يحتاجه.

أما إذا كان له سُترة فلا يجوز المرور بينه وبينها، لكن ينبغي أن يقرُبَ منها، بحيث يكون سجودُه إلى جنبها؛ لئلا يتحجَّر أكثر مما يحتاج، وقد كان بين مصلَّى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وبين الجدار الذي صَلَّى إليه قَدْرَ ممرِّ شاة.

وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنه لا فَرْقَ بين أن يكون المَارُّ محتاجاً للمرور أو غير محتاج، فالمحتاج للمرور مثل: أن يكون باب المسجد على يمين المُصلِّي أو على يساره، وهو يريد أن يَعْبُرَ إلى باب المسجد، فهذا محتاجٌ للمرور، وذلك لعموم الأمر: «... فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه...»[(470)]، ولم يفصِّل النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بين أن يكون المارُّ محتاجاً أو غير محتاج.

والغالب أن الإنسان لا يمرُّ بين يدي المصلِّي إلا وهو محتاج إلى المرور، فكيف نُخرِج ما كان هو الغالب مِن دلالة الحديث إلى ما ليس بغالب.

فالصحيح: أنه لا فَرْقَ بين أن يكون محتاجاً أو غير محتاج، فليس له الحقُّ أن يمرَّ بين يدي المصلِّي، وقد قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: «لو يعلمُ المارُّ بين يديِ المصلِّي ماذا عليه؛ لكان أن يقفَ أربعينَ خيراً له من أن يَمُرَّ بين يديه»[(471)] أي: أربعين خريفاً؛ كما في رواية البزَّار: «لكان أنْ يقومَ أربعين خريفاً...»[(472)].

وظاهرُ كلام المؤلِّف أيضاً: أنه لا فَرْقَ بين مَكَّة وغيرها، وهذا هو الصَّحيح، ولا حُجَّة لمن استثنى مَكَّة[(473)] بما يُروى عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أنه كان يُصلِّي والنَّاسُ يمرُّون بين يديه، وليس بينهما سُترة»[(474)] وهذا الحديث فيه راوٍ مجهول، وجهالة الرَّاوي طعنٌ في الحديث. وعلى تقدير صحَّتِه فهو محمولٌ على أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يُصلِّي في حاشية المطاف، والطائفون هم أحقُّ النَّاسِ بالمطاف؛ لأنه لا مكان لهم إلا هذا، أما المصلِّي فيستطيع أن يُصلِّي في أيِّ مكان آخر، لكن الطائف ليس له مكان إلا ما حول الكعبة، فهو أحقُّ به. هذا إن صحَّ الحديث، ولهذا بوَّبَ البخاريُّ ـ رحمه الله ـ في «صحيحه» باب: السُّتْرة بمَكَّة وغيرها[(475)]. يعني: أن مكَّة وغيرها سواء.

فإن قال قائل: إذا غلبه المَارُّ ومَرَّ فما الحكم؟

فالجواب: الإثم على المَارِّ، أما أنت إذا كنت قد قمت بما أمرك به النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام، ولم تتمكَّن مِن دَفْعِ هذا المَارِّ فإنَّ صلاتك لا تنقص، ولكن هل تبطل بمرور المرأة؟

الظَّاهر: أنها تبطل، وأنه يلزم استئنافها، وفي نفسي مِن هذا شيء، لأن المُصلِّي إذا فَعَلَ ما أُمِرَ به، وجاء الأمرُ بغير اختياره ولم يحصُل ذلك عن تفريط منه أو تهاون، فكيف نبطِلُ عبادته بفعل غيره؟ لأن الآثم هنا هو المَارُّ.

أما إذا كان هذا بتهاون منه، وعدم مبالاة كما يفعل بعضُ الناس، فهذا لا شَكَّ أن صلاته تبطل.

قوله: «وعَدُّ الآي» أي: وله عَدُّ الآي، أي: المُصلِّي. والآي: جَمْعُ آية، وعَدُّ الآيات قد يكون له حاجة، وقد لا يكون له حاجة، فمن الحاجة لعدِّ الآي إذا كان الإنسان لا يعرف الفاتحة؛ وأراد أن يقرأ بعدد آياتها مِن القرآن، فهو حينئذٍ يحتاج إلى العَدِّ، وإلاَّ فالغالب أنه لا يحتاج إلى عَدِّ الآي، لكن إذا احتاج فله ذلك، ولكن لا يعدُّها باللفظ؛ لأنه لو عَدَّها باللفظ لكان كلاماً، والكلام مبطلٌ للصَّلاة، لكن يعدُّها بأصابعه، أو يعدُّها بقلبه، ولا تبطل الصَّلاةُ بعمل القلب، ولا تبطل بعمل الجوارح؛ إلا إذا كَثُر وتوالى لغير ضرورة.

وله عَدُّ التسبيح، وهذا قد يحتاج إليه الإنسان، خصوصاً الإمام؛ لأن الإمام حَدَّدَ الفقهاء ـ رحمهم الله ـ التسبيحَ له بعشر تسبيحات، قالوا: أكثر التسبيح للإمام عشر، وأدنى الكمال ثلاث[(476)].

وله عَدُّ الركعات، وهذه قد تكون أحوج مما سَبَقَ، لأن كثيراً من الناس ينسى ويعدُّها بالأصابع، فهنا مشكل؛ لأنه إذا رَكَعَ لا بُدَّ أن يفرِّجَ أصابعه، وإذا سَجَدَ لا بُدَّ أن تكون أصابعه مبسوطة، وعلى هذا فيعدُّها بأحجار أو نَوى، فيجعل في جيبه أربع نَوى فإذا صَلَّى الرَّكعة الأُولى رَمى بواحدة، وهكذا حتى تنتهي، فهذا لا بأس به؛ لأن في هذا حاجة، وخاصة لكثير النسيان.

قوله: «والفتح على إمامه» ، أي: وللمصلِّي الفتحُ على إمامه، أي: تنبيهه إذا أخطأ.

وقوله: «على إمامه» يعني: لا على غيره فلا تفتح على إنسان يقرأ حولك إذا أخطأ، ووجه ذلك:

1 ـ أنه لا ارتباط بينك وبينه؛ بخلاف الإمام.

2 ـ أنه يوجب انشغال الإنسان بالاستماع إلى غير مَنْ يُسَنُّ الاستماع إليه، فيوجب أن تتابعه، وأنت غير مأمور بهذا.

والاقتصار على الإباحة؛ التي هي ظاهر كلام المؤلِّف؛ فيه نظر، وذلك أن الفتح على الإمام ينقسم إلى قسمين:

1 ـ فتح واجب.

2 ـ فتح مستحب.

فأما الفتحُ الواجب، فهو الفتح عليه فيما يُبطل الصَّلاة تعمُّده، فلو زاد ركعةً كان الفتح عليه واجباً، لأن تعمُّد زيادة الرَّكعة مبطلٌ للصَّلاة، ولو لَحَنَ لَحْناً يُحيل المعنى في الفاتحة لوجب الفتحُ عليه؛ لأن اللَّحْنَ المحيل للمعنى في الفاتحة مبطلٌ للصَّلاةِ، مثل لو قال الإمام: (أهدنا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم * صِرَاطَ اللَّذِيْنَ أَنْـعَـمْتُ عَـلَـيْـهِمْ) فيجب الفتح فيقول: {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} ولو قال: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} لوجب الفتح عليه؛ لأنه أسقط آية، وإذا أسقط آية من الفاتحة بطلت صلاتُه، فصار الفتح على الإمام فيما يبطل الصلاة تعمُّده واجباً.

وأما الفتح المستحبُّ فهو فيما يفوت كمالاً، فلو نسيَ الإمامُ أن يقرأ سورة مع الفاتحة، فالتنبيه هنا سُنَّة. وكذلك لو أسرَّ فيما يجهر فيه أو جهر فيما يُسر فيه.

ودليل هذا الحكم: قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا بشرٌ مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني»[(477)] فأمر بتذكيره.

وصَلَّى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم صلاةً؛ فقرأ فيها؛ فَلُبِسَ عليه، فلما انصرفَ، قال لأُبيٍّ: «أَصلَّيتَ معنا؟» قال: نعم، قال: «فما منعكَ؟»[(478)]. أي: ما منعك أن تفتحَ عَليَّ، وهذا يدلُّ على أن الفتح على الإِمام أمرٌ مطلوب.

قوله: «ولبس الثَّوبِ» أي: أن المصلِّي له لُبْسُ الثوب، وكلام المؤلِّف هنا يحتاج إلى تفصيل:

فإن كان يترتَّب على لُبْسِهِ صحَّة الصَّلاة فلُبْسُهُ حينئذٍ واجب، مثل أن يكون عُرياناً ليس معه ثياب؛ لأن العُريان يصلِّي على حسب حاله، وفي أثناء الصلاة جِيء إليه بثوب، فَلُبْسُ الثوب هنا واجب.

ولا نقول: أبطلْ صلاتك، والبسْ الثوبَ؛ لأن ما سَبَقَ من الصَّلاةِ مأذون فيه شرعاً لا يمكن إبطاله، بل يبني عليه، ولهذا لما أخبرَ جبريلُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بأن في نعليه قَذَراً خلعهما واستمرَّ[(479)]، وكذلك هنا نقول: لُبْسُ هذا الثوب واجب؛ لأنه لا يتمُّ الواجب إلاَّ به وهو ستر العورة.

أما إذا كان لا يتوقَّفُ على لُبْسِهِ صحَّة الصلاة، فالمؤلِّف يقول: «له ذلك»، ولكن هل يفعل هذا؟ أو نقول: لا تفعله إلاَّ لحاجة؟

الجواب: نقول: لا تفعله إلاَّ لحاجة، ومِن الحاجة أن يَبْرُدَ الإنسانُ في صلاتِه بعد أن شرع فيها، والثوب حوله؛ فله أن يأخذه ويلبسه؛ لأن هذه حاجة، بل قد يكون مشروعاً له أن يَلْبَسَهُ إذا كان لُبْسُ الثوب يؤدِّي إلى الاطمئنان في صلاته والراحة فيها.

قوله: «ولَفُّ العِمَامة» أي: له لَفُّ العِمَامة لو انحلَّت ولا حَرَجَ عليه، ولكن هل هذا على سبيل الإباحة؟

الجواب: إنْ كان انحلالها يشغله فلفُّها حينئذٍ مشروع، لأن في ذلك إزالة لما يشغله، وإنْ كان لا يشغله فالأمر مباح وليس بمشروع.

ودليل ذلك: حديث وائل بن حُجْر «أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم صَلَّى فَرَفَعَ يديه عند تكبيرة الإِحرام، ثم التحفَ بثوبه، ثم وَضَعَ يده اليُمنى على اليُسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رَفَعَهما، ثم كبَّر فركع»[(480)] وهذا الحديث في «صحيح مسلم»، وفيه دليل على أنه لا بأس للمصلِّي إذا كان عليه مشلح مثلاً وأراد أن يكفَّ بعضه على بعض، ولا يدخل هذا في قوله: «لا أكفُّ شعراً ولا ثوباً»[(481)] لأن كلَّ شيء بحسبه، ومن هنا يتبيَّن أن كَفَّ الغُترة في حال الصَّلاةِ إلى الخلف لا بأس به، لأنه من اللبس المعتاد، فما كففتها كفًّا أخرجها عن ما يعتاده الناس فيها، وكذلك لو لفَّها على رقبته فإنه لا بأس به أيضاً؛ ولو كَفّ أحد طرفي غترته حول رقبته، وسدلَ الأخرى، فإنه لا بأس به أيضاً؛ لأن كلَّ هذه من الألبسة المعتادة، فلا تُعَدُّ كفاً خارجاً عن العادة، ولهذا التحفَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بردائه كما سبق، والالتحاف كفُّ بعضه على بعض.

 

قوله: «وقتل حية وعقرب» أي: له قَتْلُ حَيَّة، واللام هنا للإباحة، ولكن الإباحة هنا لبيان رَفْعِ الحرج، فلا ينافي أن يكون ذلك مستحبًّا ومشروعاً، فللمصلِّي أن يقتل الحيَّةَ، بل يُسَنُّ له ذلك؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ به فقال: «اقتلوا الأسْودَين في الصَّلاةِ: الحيَّةَ والعقربَ»[(482)].

وفي «صحيح مسلم» أن رجلاً سأل ابنَ عمر: ما يقتل الرجُلُ من الدَّوابِّ وهو مُحرم؟ قال: حدثتني إحدى نسوة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يأمر بقتل الكلبِ العقورِ، والفأرةِ، والعقربِ، والحُديَّا، والغُرابِ، والحيَّةِ، قال: وفي الصلاة أيضاً[(483)].

وعلى هذا؛ فيُسنُّ أن يقتل الحيَّةَ، فإن هاجمته وَجَبَ أن يقتلها دفاعاً عن نفسه، وله أيضاً قَتْل العقرب وهي أكثر لسعاً مِن لَدْغِ الحيَّة. فالحيَّة أحياناً لا تلدغ، فأحياناً تمرُّ على قدم الإنسان ولا تلدغه. لكن العقرب إذا أحسَّت بالجلد البشري لسعته.

قوله: «وقمل» أي: وله قتل قَمْلٍ في الصلاة. القملة: حشرة صغيرة تتولَّد داخل الثياب والشعر وتقرص الجلد وتمتصُّ الدَّم، وتشغل الإنسان، فله أن يقتلها، فإن أشغلته كان قتلها مستحبًّا، لكن إذا قتلها وتلوَّثت يدُه بالدَّم فهل يكون نجساً؟

الجواب: ليس بنجس؛ لأنه مما لا نَفْسَ له سائلة، كالدَّم الذي يكون في الذُّباب فلا يضرُّ، ولا ينجس.

مسألة: إذا قال قائل: هل له أن يتحكَّك إذا أصابته حِكَّة؟

فالجواب: له ذلك؛ لأنه إذا لم يفعل انشغل انشغالاً عظيماً، فله أن يَحُكَّ، وإذا انتقلت الحِكَّة مِن الأذن إلى الأخرى إلى الرقبة، فهل له أن يتنقَّل معها؟

الجواب: له ذلك، وإن أمكن الصبر على هذه الحِكَّة فليصبرْ، لكن لو انشغل قلبُه بذلك فليحكَّها، لإزالة ما يمنعه مِن الخشوع ومن المعلوم أن الحكّة إذا حكّها الإنسان بردت وسكنت عليه.

 

فَإِنْ أَطَالَ الفِعْلَ عُرْفاً مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلاَ تَفْرِيقٍ بَطُلَتْ وَلَوْ سَهْوا........

قوله: «فإن أطال الفعل عرفاً» «عُرفاً»: منصوبة بنزع الخافض، أي: إطالة في العرف.

والعرف: بمعنى العادة، وهو ما اعتاده النَّاسُ وألفوه.

قوله: «من غير ضرورة» : أي: من غير أن يكون مضطراً إلى الإطالة، مثل أن يهاجمه سَبُعٌ فإن لم يعالجه ويدافعه أكله، أو حيَّة إن لم يدافعها لدغته، أو عقرب كذلك، فهذا الفعل ضرورة فلا تبطل به الصلاة.

قوله: «ولا تفريق» : يعني: ليس مفرَّقاً؛ بأن يكون متوالياً في ركعة واحدة مثلاً، بخلاف ما لو تحرَّك حركة في الأُولى، وحركة في الثانية، وحركة في الثالثة، وحركة في الرابعة، فمجموعها كثير، وكلُّ واحدة على انفرادها قليل، فهنا لا تبطل الصَّلاة، لكن إذا كان متوالياً وكَثُرَ فإنه يبطل الصلاة.

فشروط بُطلان الصلاة بالحركة ثلاثة:

1 ـ أن تكون طويلة عُرفاً.

2 ـ ألا تكون لضرورة.

3 ـ أن تكون متوالية، أي: بغير تفريق.

فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة في الفعل صار مبطلاً للصَّلاة، لأنه حركة في غير جِنْسِ الصَّلاة، وهي منافية لها كالكلام، لأن الذي ينافي الصَّلاة يبطلها.

وعُلم من كلام المؤلِّف: أنه لو كانت الحركة قصيرة، فإن الصَّلاةَ لا تبطل، ولكن ما الميزان لقصر الحركة، أو طولها؟

الجواب: أفاد المؤلِّف: أن الميزان العُرف. والحقيقة: أن العُرف فيه شيء من الغموض، ولا يكاد ينضبط؛ لأن الأعراف تختلف باختلاف البُلدان، وباختلاف الأفهام، وقد يرى بعضُ الناس هذا كثيراً، وقد يراه آخرون قليلاً، ولكن أقربُ شيء أن يقال: إننا إذا رأينا هذا الشخص يتحرَّك ويغلب على ظَنِّنا أنه ليس في صلاة لكثرة حركته، فينبغي أن يكون هذا هو الميزان، أن تكون الحركة بحيث مَن رأى فاعلها ظَنَّ أنه ليس في صلاة؛ لأن هذا هو الذي يُنافي الصلاة.

أما الشيء الذي لا ينافيها، وإنما هو حركة يسيرة، فلا تبطل الصلاة به.

وقَدَّرَ بعض العلماء الحركة الكثيرة بثلاث حركات[(484)]، ولكن هذا التقدير ليس بصحيح؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فَتَحَ البابَ لعائشة، وكان البابُ في القِبْلة، فتقدَّم ورَجَعَ[(485)]. وفي صلاة الكسوف تقدَّم ورَجَعَ وتأخَّر[(486)]، وحين صُنع له المِنبرُ؛ صار يصلِّي عليه، فيصعد عند القيام والرُّكوع، وينزل للأرض عند السجود[(487)].

وعن أبي قتادة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يُصلِّي وهو حامل أُمَامَة بنتَ زينبَ بنتِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا قام حملها، وإذا سَجَدَ وضعها[(488)].

وكلُّ هذه أفعال أكثر من ثلاث حركات.

وقوله: «من غير ضرورة» عُلم أنه إذا كَثُرت الأفعال للضَّرورة لم تبطل الصلاة، ولا بأس به.

ودليل ذلك: قوله تعالى: {{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ *}{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}} [البقرة: 238 ـ 239] رجالاً: أي: راجلين، يعني: صَلُّوا وأنتم تمشون. أو رُكباناً: أي: على الرَّواحل.

ومعلوم أن الماشي يتحرَّك كثيراً، فلو فُرض أنه لما شَرَع في صلاته أحسَّ بأن سَبْعاً وراءه يريده، وليس معه ما يُدافع به فهرب وهو يُصلِّي فصلاتُه صحيحة؛ لأنه في ضرورة، ولا حرج عليه إذا انصرف إلى غير القبلة.

وقوله: «ولا تفريق» أي: أنه يُشترط في الفعل الكثير أن يكون متوالياً عُرفاً، فإن فرَّق لم تبطل الصَّلاة، فلو تحرَّك ثلاث مرَّات في الركعة الأولى، وثلاثاً في الثانية، وثلاثاً في الثالثة، وثلاثاً في الرابعة، لو جمعت لكانت كثيرة، ولما تفرَّقت كانت يسيرة باعتبار كلِّ رَكعة وحدها، فهذا لا يبطل الصلاة أيضاً.

قوله: «ولو سهواً» أي: أن الصلاة تبطل بهذا الفعل، ولو كان الفعل سهواً، فلو فرضنا أن شخصاً نسيَ أنه في صلاة؛ فصار يتحرَّك: يكتب، ويعدُّ الدراهم، ويتسوَّك، ويفعل أفعالاً كثيرة. فإن الصَّلاةَ تبطل؛ لأن هذه الأفعال مغيِّرة لهيئة الصلاة، فاستوى فيها حال الذِّكْر وحال السهو.

و«لو» هنا إشارة خلاف؛ لأن بعضَ أهل العلم[(489)] يقول: إذا وَقَعَ هذا الفعل مِن الإنسان سهواً فإن صلاته لا تبطل، بناءً على القاعدة العامة المعروفة وهي: «أنَّ فِعْلَ المحظور على وجه السَّهو لا يلحق فيه إثم ولا إفساد»، لكن الذين قالوا: إنه يؤثِّر؛ قالوا: إن هذا يُغيِّر هيئة الصلاة، ويخرجها عن كونها صلاة، وليس مجرد فِعْلٍ لا يؤثِّرُ، وهذا مما أستخيرُ الله فيه؛ أيهما أرجح.

والحركة التي ليست مِن جِنْسِ الصَّلاة تنقسم إلى خمسة أقسام:

1 ـ واجبة.

2 ـ مندوبة.

3 ـ مباحة.

4 ـ مكروهة.

5 ـ محرَّمة.

والذي يبطل الصلاة منها هو المُحرَّم.

فالحركة الواجبة : هي التي يتوقَّف عليها صحَّةُ الصَّلاة، هذا هو الضَّابطُ لها، وصورها كثيرة منها: لو أن رَجُلاً ابتدأ الصَّلاةَ إلى غير القِبْلة بعد أن اجتهد، ثم جاءه شخصٌ وقال له: القِبْلة على يمينك، فهنا الحركة واجبة، فيجب أن يتحرَّك إلى جهة اليمين، ولهذا لمَّا جاء رَجُلٌ إلى أهل قُباء وهم يصلُّون إلى بيت المقدس، وأخبرهم بأن القِبْلة حُوِّلت إلى الكعبة، تَحوَّلوا في نفس الصلاة وبَنَوا على صلاتهم[(490)].

ولو ذَكَرَ أن في غُترته نجاسة وهو يُصلِّي وَجَبَ عليه خَلْعُها؛ لإزالة النجاسة، ويمضي في صلاته.

وإنْ كانت في ثوبه، وأمكن نزعه بدون كشف العورة؛ نَزَعَهُ ومضى في صلاته، وإن كان لا يمكنه نَزْعه إلا بكشف العورة؛ قَطَعَ صلاته، وغسل ثوبه، أو أبدله بغيره، ثم استأنف الصلاة.

ولو ذَكَرَ أنَّه على غير وُضوء؛ فالصَّلاة لم تنعقد؛ فيجب أن يذهب ويتوضأ، ويستأنفها مِن جديد.

ولو صَلَّى إلى يسار الإمام ـ وهو واحد ـ فانتقاله إلى اليمين واجب على قول مَن يرى أن الصلاة لا تصحُّ عن يسار الإمام[(491)] مع خلوِ يمينه، والمسألة خلافية، وستأتي إن شاء الله[(492)].

والحركة المندوبة «المستحبَّة» : هي التي يتوقَّف عليها كمال الصلاة. ولها صور عديدة منها:

لو أنه لم يستر أحد عاتقيه؛ فهنا الحركة لستر أحد العاتقين مستحبَّة، لأن الصحيح أنه ليس بواجب.

ولو تبيَّن له أنه متقدم على جيرانه في الصفِّ فتأخُّره سُنَّة.

ولو تقلَّص الصفُّ حتى صار بينه وبين جاره فرجة، فالحركة هنا سُنَّة.

ولو صَفَّ إلى جنبيه رجلان، فتقدُّم الإمام هنا سُنَّة.

والحركة المباحة : هي الحركة اليسيرة للحاجة، أو الكثيرة للضرورة.

مثال الحركة اليسيرة: رَجُلٌ يُصلِّي في الظِّلِّ فأحسَّ ببرودة فتقدَّم، أو تأخَّر، أو تيامن، أو تياسر مِن أجل الشمس، فهذه مباحة، وقد نقول: إنها سُنَّة، فإن قال: إنِّي إذا كنت في الشمس تَمَّ خشوعي، وإذا كنت في الظلال تعبت مِن البرد؛ فهنا الحركة سُنَّة، لكن إذا كان لمجرد الدفء فقط فهي من المباحة.

والحركة المكروهة : هي اليسيرة لغير حاجة، ولا يتوقَّف عليها كمال الصَّلاة، كما يوجد في كثير من الناس الآن؛ كالنظر إلى الساعة، وأخذِ القلم، وزَرِّ الأزرار، ومسحِ المرآة[(493)]، وغير ذلك.

والحركة المحرَّمة : هي الكثيرة المتوالية لغير ضرورة.

 

وَيُبَاحُ قِرَاءَةُ أَوَاخِرِ السُّوَرِ، وَأَوْسَاطِهَا.

قوله: «ويباح قراءة أواخر السُّور، وأوساطها» أي: أنه ليس بممنوع، وقد يكون سُنَّة، أما في النَّفْلِ فقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى: {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} ...} [البقرة: 136] ، وفي الثانية: {...{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}} [آل عمران: 64] [(494)].

يقرأ بهما أحياناً، ويقرأ أحياناً بـ{{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *} ...} في الأُولى و{{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}...} في الثانية[(495)].

أمَّا في الفريضة، فلم يُنقل عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ مِن أوساط السُّور، لكن قرأ من أوائلها، وأواخرها، كما فَرَّقَ سورة «الأعراف» في ركعتين[(496)].

وكما فَرَّقَ سورة «المؤمنون» في ركعتين لمَّا أصابته سَعْلة[(497)]. وأمَّا أن يقرأ مِن وَسَطِ السُّورة فهذا لم يَرِدْ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في الفَرْضِ، ولهذا كرهه بعضُ أهل العلم بالنسبة للفرائض[(498)]، ولكن الصحيح: أنه مباح.

وعلى هذا فنقول: يجوز أن يقرأ أواخر السُّور، وأواسطها، وأوائلها في الفرض والنَّفْلِ.

والدليل على ذلك:

أولاً: عموم قوله تعالى: {{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}} [المزمل: 20] .

وقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ ما تيسر معك من القرآن»[(499)].

ثانياً: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ في النَّفْلِ من أواسط السُّور[(500)]، وما ثَبَتَ في النَّفْلِ ثَبَتَ في الفرض؛ إلا بدليل.

ولكن القول بالإباحة لا يساوي أن يقرأ الإنسان سورة كاملة في كلِّ ركعة؛ لأن هذا هو الأصل. ولهذا قال الرَّسولُ عليه الصَّلاة والسَّلام لمعاذ: «فلولا صليت بهم بـ{{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}}، {{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *}}، {{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *}}»[(501)] مما يدل على أن الأكمل والأفضل أن يقرأ بسورة كاملة، والأفضل شيء والمباح شيء آخر.

 

وَإِذَا نَابَهُ شَيْءٌ سَبَّحَ رَجُلٌ، وَصَفَّقَتْ امْرَأَةٌ بِبَطْنِ كَفِّهَا عَلَى ظَهْرِ الأُخْرَى.

قوله: «وإذا نابه» : الضمير يعود على المُصلِّي لقرينة السياق. ومعنى «نابه»: أي: عرض له.

قوله: «شيء» : نكرة في سياق الشرط فتعمُّ أيَّ شيء يكون، سواء كان هذا الشيء مما يتعلَّق بالصلاة، أم مما يتعلَّق بأمرٍ خارج، كما لو استأذن عليه أحدٌ، أو ما أشبه ذلك.

فالذي يتعلَّق بالصلاة مثل: لو أخطأ إمامه فقام إلى خامسة في الرباعية، أو رابعة في الثلاثية، أو ثالثة في الثنائية فهنا نابه شيء متعلِّق بالصلاة.

ومثال المتعلِّق بغير الصلاة: لو استأذن عليه شخص، بأن قَرَعَ عليه الباب وهو يُصلِّي، فإنه يُسبِّحُ الرَّجُلُ وتُصفِّقُ المرأةُ.

قوله: «سبّح رجل» أي: قال: «سبحان الله»، فإنْ انتبه المُنبَّه بمرَّة واحدة، لم يعده مرَّة أخرى، لأنه ذِكْر مشروع لسبب فيزول بزوال السبب، وإنْ لم ينتبه بأول مرَّة كرَّره؛ فيسبِّحُ ثانية وثالثة حتى ينتبه المُنبَّه.

قوله: «رجل» المراد به هنا الذَّكر، ولا يُشترط البلوغ حتى وإن كان مراهقاً فإنه يُسبِّح.

قوله: «وصَفَّقت امرأة» أي: بيديها، والتفريق في الحكم بين الرجال والنساء ظاهر، لأن المرأة لا ينبغي لها أن تظهر صوتها عند الرجال؛ لا سيَّما وهم في صلاة، فلو سَبَّحت المرأة فربما يقع في قلب الإنسان فتنة؛ لا سيَّما إذا كان صوت المرأة جميلاً، وقد أخبر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنَّ الشيطان يجري مِن ابن آدم مجرى الدَّم»[(502)]، وأنه: «ما تَرَكَ بعدَه فتنة أضرَّ على الرِّجَال من النساء»[(503)].

وقوله: «وصَفَّقت امرأة» . ظاهر كلامه العموم، سواء كانت امرأة مع نساء لا رِجَال معهن، أم مع رِجَال فإنها لا تُسبِّح وإنما تُصفّق.

وقال بعض العلماء: إذا لم يكن معها رِجَال فإنَّها تُسبِّح كالرِّجَال؛ وذلك لأن التسبيح ذِكْرٌ مشروع جنسه في الصَّلاة، بخلاف التصفيق؛ فإنه فِعْلٌ غير مشروع جنسه في الصلاة، ولجأت إليه المرأة فيما إذا كانت مع رِجَال؛ لأن ذلك أصون لها وأبعد عن الفتنة.

ودليل هذه المسألة قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «من رَابَهُ شيءٌ في صلاته فَلْيُسبِّحْ، فإنه إذا سَبَّحَ التُفِتَ إليه، وإنما التصفيق للنساء»[(504)] وفي لفظ مسلم: «إنما التصفيح للنساء»[(505)].

وإذا نظرنا إلى عموم الحديث قلنا: إن ظاهره لا فَرْقَ بين أن يكون مع المرأة رجال أو لا. وإذا تأملنا قلنا: بل ظاهر الحديث أنّ هذا فيما إذا كانت المرأة مع الرِّجَال؛ لأنه قال: «فَلْيُسَبِّحِ الرِّجال وليُصَفِّحِ النساء»[(506)]، فالمسألة مسألة اجتماع رِجَال ونساء، فوظيفة الرِّجَال التسبيح، ووظيفة النساء التصفيق، والمسألة محتملة، فمَن نَظَرَ إلى ظاهر العموم قال: تُصفِّق، ومن نَظَرَ إلى ظاهر السياق قال: هذا فيما إذا كان معها رِجَال؛ ولا سيَّما إذا أُخذ بالتعليل الذي ذكرنا أن التسبيح ذِكْر مشروع جِنْسه في الصَّلاةِ بخلاف التَّصفيق.

فإن قيل: لماذا خُصَّ التنبيه بالتسبيح دون غيره من الذِّكْرِ؟

فالجواب: أن التسبيح يكون فيما إذا حَدَثَ للإمام نقصٌ صادرٌ عن نسيان أو خطأ، فناسب أن يكون التنبيه بالتسبيح؛ الذي هو تنزيه الله عن كلِّ نقص.

قوله: «ببطن كفِّها على ظهر الأخرى» أي: تضرب بطن كفِّها على ظهر الأخرى.

وقال بعض العلماء: بظهر كفِّها على بطن الأُخرى.

وقال بعض العلماء[(507)]: ببطن كفِّها على بطن الأُخرى، كما هو المعروف عند النساء الآن.

وعلى كُلٍّ؛ فالأمر واسع، سواء كان التَّصفيقُ بالظَّهر على البطن، أم بالبطن على الظَّهر، أم بالبطن على البطن.

المهمُّ ألا تسبِّحَ بحضرة الرِّجَال...

مسألة: لو فُرض أن المأموم سَبَّح، ولكن الإمام لم ينتبه، وسَبَّح ثانية، ولم ينتبه، وربما سَبَّح به فقام؛ وسَبَّح به فجلس؛ فماذا يصنع؟

الجواب: قال بعض العلماء: يخبره بالخَلَلِ الذي في صلاته بالنُّطْقِ، فيقول: اركعْ... اجلسْ... قُمْ...، ثم اختلف القائلون بأنه يقول هذا، هل تبطل الصَّلاةُ بذلك أم لا[(508)]؟

فقال بعضهم: لا تبطل؛ لأن هذا كلام لمصلحة الصَّلاة، وليس كلام آدميين، يعني لم يقصد به التَّخاطب مع الآدميين، بل قَصَدَ به إصلاح الصَّلاة.

واستدلُّوا لذلك: بأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لمَّا قال له ذو اليدين: «بلى قد نسيتَ... قال: أكما يقول ذو اليدين؟»[(509)] وهذا كلامٌ يُخاطب به الآدميين؛ لكنه كلام لمصلحة الصَّلاة.

القول الثاني: أن الصَّلاةَ تبطل إذا تكلَّم؛ لعموم قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يصلحُ فيها شيءٌ مِن كلامِ النَّاسِ»[(510)]، ولأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمرنا بالتَّسبيحِ[(511)] ولو كان الخطابُ لمصلحة الصَّلاةِ لا يضرُّ لكان يأمر به؛ لأنه أقربُ إلى الفهم وحصول المقصود من التسبيح، فلما عَدَلَ عنه عُلِمَ أن ذلك ليس بجائز؛ لأن المصلحةَ تقتضيه لولا أنه ممتنع، ولا شَكَّ أن هذا الدليل قويٌّ، وأنَّ الصَّلاةَ تبطلُ إذا نبَّه بالكلام، ولكن نحتاج إلى الجواب عما استدلَّ به القائلون بأن الصَّلاةَ لا تبطل؛ لأن الكلام لمصلحة الصَّلاةِ.

والجواب عن ذلك: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم حين تكلَّم لم يكن يعلم أنه في صلاة، بل كان يظنُّ أنَّ الصَّلاةَ تمَّت، ولهذا قال: «لم أنسَ ولم تُقصرْ» ولما قالوا: صدق ذو اليدين، أو قالوا: نعم، لم يتكلَّم بعدُ، بل تقدَّم وصَلَّى ما تَرَكَ. وفَرْقٌ بين شخص يعلَمُ أنه في صلاة، ولكن يتكلَّم لمصلحة الصَّلاةِ، وشخص لم يتيقَّن أنه في صلاة، بل كان ظنُّه أنه ليس في صلاة، وأنَّ صلاتَه تمَّت، وحينئذٍ فلا يتمُّ الاستدلال بهذا الحديث.

ولكن يبقى النَّظرُ؛ لو قال قائل: إذا لم نقل بأنّه يُنبَّه بالكلام فسيكون ألعوبة، يُقال: سُبحان الله فيجلس، سبحان الله فيقوم، سبحان الله فيجلس، سبحان الله فيقوم، فلا بُدَّ مِن كلام؟

فربَّما يُقال في هذه الحال: إذا دعت الضَّرورة يتكلَّم المُنبِّه، ثم يستأنف الصَّلاة، فنقول: تكلَّم لمصلحة الصلاة، فإنك إذا تكلَّمتَ الآن أصلحت صلاة الجماعة كلَّها وفسدت صلاتُك، واستأنف، فيكون لمصلحة الجميع، ومصلحة الجميع مقدَّمة على مصلحة الفرد، حتى لو بقيتَ مع الإمام سوف تبطل صلاتك، أو يؤدي الأمر إلى أن تفارق إمامك.

مسألة: هل يمكن أن يُنبَّه بغير ذلك، أي: بغير التسبيح؟

الجواب: نعم؛ يجوز أن يُنبَّه بالنَّحْنَحَةِ؛ لأنَّ عليَّ بن أبي طالب كان له مدخلان مِن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واحدٌ بالليل والثاني بالنهار، فإذا دخل عليه وهو يُصلِّي تَنَحْنَحَ له[(512)]. فإذاً؛ هذا طريق آخر للتنبيه.

وأيضاً: يجوز أن يُنبَّه بالجهر بالقراءة، والجهر بالقراءة جائز، فإذا استأذن عليك أحدٌ أو ناداك وأنت تُصلِّي؛ فرفعت صوتك بما تقول فهذا فيه تنبيه، لكن أفضل شيء هو التسبيح؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ به.

مسألة: هل للمُصلِّي أن يُنبِّه غير إمامه إذا أخطأ في شيء، كما لو كان الذي بجانبك يكثِرُ الحركة ويشغلك.

الجواب: نعم؛ لك أن تُنبِّهَه، لأن هذا مِن إصلاح صلاته وصلاتك، بل حتى لو فُرض أنه لإصلاح صلاة أخيه فلا بأس.

والدليل على هذا: سبب الحديث، وهو قوله عليه الصَّلاةُ والسلام: «إذا نابَكم شيء» فإنَّ سببه أنَّ معاويةَ بن الحكم رضي الله عنه جاء والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُصلِّي فصَلَّى، فعطس رَجلٌ مِن القوم فقال: الحمد لله. فقال له معاوية: يرحمك الله، فرمَاهُ النَّاسُ بأبصارهم ـ أي: جعلوا ينظرون إليه منكرين قوله ـ فقال: واثُكلَ أُمَّيَاه.. فجعلوا يضربون على أفخاذهم يسكتونه، فسكتَ فلما سَلَّم النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم دعاه، وقال له: «إن هذه الصَّلاةَ لا يصلحُ فيها شيءٌ مِن كلام النَّاسِ، إنَّما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»[(513)].

وقال للصَّحابة: «إذا نَابَكم شيءٌ في صلاتكم فليسبِّح الرِّجال ولتُصفق النساء»[(514)].

وهذه المسألة تتعلَّق بصلاة غيرهم، ولكنها في الواقع تتعلَّق بصلاتهم من وجه آخر، وهو أنه قد يكون في ذلك تشويش عليهم، فلهذا لم ينههم النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن إنكارهم لِمَا صَنَعَ معاوية.

 

وَيَبْصُقُ فِي الصَّلاَةِ عَنْ يَسَارِهِ، وَفِي المَسْجِدِ فِي ثَوْبِهِ.

قوله: «ويبصق في الصلاة عن يساره» يبصق: تجوز بالزاي «يبزق» وتجوز بالسين «يبسق»؛ لأنه هذه الأحرف الثلاثة تتناوب في كثير من الكلمات، وذلك لتقارب مخارجها.

وقوله: «يبصق في الصلاة عن يساره» أي: إذا احتاج المُصلِّي للبصاق، فإنه يبصق عن يساره، ولا يبصق عن يمينه ولا أمام وجهه.

أما كونه لا يبصق قِبَلَ وجهِهِ، فلأن الله سبحانه وتعالى قِبَلَ وجهِهِ، ما من إنسان يستقبل بيتَ الله ليُصلِّي إلا استقبله الله بوجهه، في أيِّ مكان؛ لأن الله تعالى بكلِّ شيء محيط، كما قال تعالى: {{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *}} [البقرة] ، وليس من الأدب أن تبصُق بين يديك، والله تعالى قِبَلَ وجهك.

ولو أنك فعلت هذا أمام عامَّة النَّاس لعُدَّ هذا سوء أدب، فكيف بين ملك الملوك عَزَّ وجلَّ جَبَّار السماوات والأرض؟!

ولهذا لما رأى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلاً يؤمُّ قوماً، فبصقَ في القِبْلة؛ ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين فَرَغَ: «لا يُصلِّي لكم»، فأراد بعدَ ذلك أن يصلِّي لهم، فمنعوه؛ وأخبروه بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرَ ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «نعم، إنك آذيت اللَّهَ ورسولَه»[(515)].

أما عن اليمين فقد علَّلَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك «بأن عن يمينه مَلَكاً»[(516)] فلا تبصق عن اليمين؛ لأن عن يمينك مَلَكاً، ولا أمام وجهك؛ لأن الله قِبَلَ وجهِكَ[(517)]. إذاً؛ بقي اليسار، فتبصق عن اليسار؛ لأمر النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك[(518)].

فإن قال قائل في هذا الحديث إشكالان:

الإشكال الأول: كون الله قِبَلَ وَجْهِ المُصلِّي، كيف يكون ذلك، ونحن نؤمن، ونعلم بأن الله تعالى فوق عرشه؟

الجواب على ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أنه يجب على الإنسان التَّسليم، وعدم الإتيان بـ«لِمَ» أو «كيف» في صفات الله أبداً، قل: آمنت وصَدَّقت، آمنت بأن الله على عرشه فوق سماواته، وبأنه قِبَلَ وجه المصلِّي، وليس عندي سوى ذلك، هكذا جاءنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الطريق تزيل إشكالات كثيرة، وتَسْلَم بها من تقديرات يقدِّرها الشيطان، أو جنوده في ذهنك.

الوجه الثاني: أنَّ النصوص جمعت بينهما، وهذه ربَّما تكون متفرِّعة مِن التي قبلها، والنصوص لا تجمع بين متناقضين؛ لأن الجَمْعَ بين المتناقضين محال، ومدلول النصوص ليس بمحال.

الوجه الثالث: أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لا يُقاس بخلقه، فهبْ أنَّ هذا الأمر ممتنعٌ بالنسبة للمخلوق ـ أي: ممتنع أن يكون المخلوق على المنارة، وأنت في الأرض، وهو قِبَلَ وجهِكَ ـ لكن ليس ممتنعاً بالنسبة للخالق؛ لأن الله ليس كمثله شيء حتى يُقاس بخلقه.

الوجه الرابع: أنه لا مُنافاة بين العلوِّ وقِبَلَ الوجه، حتى في المخلوق، ألم ترَ إلى الشمس عند غروبها أو شروقها؟ تكون قِبَلَ وَجْهِ مستقبلها وهي في السماء، فإذا كان هذا غير ممتنع في حَقِّ المخلوق فما بالك في حَقِّ الخالق؟

وأهمُّ هذه الأجوبة عندي، وأعظمها، وأشدُّها قدراً: الجواب الأول؛ أن نقِفَ في باب الصفات موقف المُسَلِّم لا المعترض، فنؤمن بأن الله فوق كُلِّ شيء، وبأنه قِبَلَ وَجْهِ المُصلِّي، ولا نقول: «كيف»، ولا «لِمَ»، وهذا يريح المُسلم من كُلِّ ما يورده الشيطان وجنوده على القلب مِن الإشكالات.

يقول لك: هذا كيف يمكن؟ إذاً؛ يلزم أن تقول بالحلول، أن الله في الأرض، ثم يورد عليك هذا الإشكال، فتقول: أنا أؤمن بأنَّ الله فوقَ كلِّ شيء، وأنه قِبَلَ وَجْهِ المُصلِّي كما جاءت به النُّصوص، ولا أتعدى هذا.

وأما الإشكال الثاني في الحديث: وهو أن البُصاق عن اليمين: عَلَّله النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «بأنَّ على يمينه مَلَكاً» وهذا التَّعليل يُشكل عليه؛ أن على يساره مَلَكاً أيضاً، كما قال تعالى: {{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}} [ق: 17] فهذا مَلَكٌ وهذا مَلَكٌ، فما الجواب عن هذا؟

الجواب عن هذا: أن نقول: هناك طريقة ثانية أرشد إليها الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام. قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: «أو يفعل هكذا»: وأخذ طرفَ رِدائه، فبزقَ فيه، وردَّ بعضَه على بعض[(519)] وفي هذه الحال لا يكون بصق عن يمينه، ولا عن شماله، ولا قِبَلَ وجهه.

وطريقة ثالثة: وهي أن يبصق تحت قدمِه؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «ولكن عن يساره، أو تحت قدمه اليُسرى»[(520)] لكن هذه الطريقة لا تَتَأتَّى في المسجد؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «البُصاق في المسجد خطيئة»[(521)]، وكذلك البَصْق على اليسار لا يَتَأتَّى في المسجد؛ إلا أن يكون على طَرَفِ المسجد، بحيث إذا بصقَ عن يساره وقع البُصاق خارج المسجد.

ولكن إذا أتينا بالصِّفةِ الأُولى، وهي أن يتفل عن يساره، فهذا أمر لا بُدَّ منه؛ لأنه إما أن يتفل عن يساره، أو يمينه، أو قِبَلَ وَجْهِهِ، ولا يمكن مِن ورائه إلا إذا انحرف عن القِبْلة، وهذا شيء لا يمكن.

فنقول: إن الْمَلَكَ الذي عن اليمين مرتبته أعلى من المَلَكِ الذي عن اليسار، حتى إنّه جاء في بعض الآثار أنَّ الله أعطاه سُلطة على المَلَكِ الذي عن اليسار، بحيث لا يكتب مَلَكُ اليسار ما عَمِلَهُ العبدُ من السيئات إلا بعد إذن الْمَلَكِ الذي عن يمينه، فيقول الْمَلَكُ: انتظرْ لعله يتوب، فلا تكتب عليه[(522)].

فإنْ صَحَّ هذا الأثر فهو واضح، وإنْ لم يصحَّ فلا شكَّ أنَّ مَن كان عن اليمين أعلى مرتبةً ممن كان عن اليسار. وكلُّهم ملائكة كِرام كما قال تعالى: {{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ *}} [الانفطار] .

قوله: «وفي المسجد في ثوبه» أي: تتعيَّن الطريقة الثانية إذا كان الإنسانُ في المسجد، وهي أن يبصقَ في ثوبه، فلا يبصق في المسجد، لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «البُصَاق في المسجد خطيئة» لكن هذه الخطيئة إذا فَعَلَها كفارتُها دفنُها، وعلى هذا فنقول: لا تبصق في المسجد عن يسارك، ولكن ابصقْ في ثوبك.

ولا يبصق تحت قدمِه في المسجد، وهي الطريقة الثَّالثة؛ لأن البُصاق في المسجد خطيئة؛ لكونه يلوِّث المسجد.

وفي الحديث دليل على استعمال المروءة والأدب، حيث وصف النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم البُصاق في الثوب بأن «يحكَّ بعضه ببعض» من أجل إذهاب صورة البُصاق، لأن وجود صورة البُصاق في الثوب تتقزَّز النفس منه، ويؤدي ذلك إلى كراهة الرَّجُل.

فأنت لو رأيت شخصاً ـ مثلاً ـ المخاطُ والأذى والقذُر في ثوبه فستكره ذلك الرَّجل لا الثوب، فلهذا ينبغي للإنسان أن يزيل عن ثيابه الأذى والوسخ، ومن ثم كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يأمر عائشة فتتَّزر فيباشرها وهي حائض[(523)]. لئلا يرى المحلَّ المتلوِّث بالدَّم، فإذا رآه تقزَّزت نفسه، واشمأزت، وربَّما يؤدِّي ذلك إلى كراهتها، وهذه نقطة ينبغي للإِنسان أن ينتبه لها، ومن ثم قال العلماء: ينبغي للإنسان أن ينظر في المرآة[(524)]. ولا أدري هل نحن ننظر في المرآة أم لا؟... مِن الناس مَن يُفْرِط في النَّظر إلى المرآة ويبالغ ويغلو، كلَّما أراد أن يخرج نَظَرَ في المرآة، وأسرف في هذا، وهذا ليس بطيب؛ لأنه إسراف. ومِن الناس مَن يُفرِّط فتمضي المدَّة ما نَظَرَ في المرآة أبداً، والاعتدال خير، لا تفرط، ولا سيما إذا وُجِدَ سببٌ تخشى أن يكون شيء قد تلوَّث منك، إما الثوب، أو طرف الوجه، أو ما أشبه ذلك، كما لو أصيب الإنسان برُعاف قد تكون قطرات مِن الدَّم في أعلى ثوبه لا يراها فيحتاج إلى النَّظرِ في المرآة.

 

وَتُسَنُّ صَلاَتُهُ إلَى سُتْرَةٍ قَائِمَةٍ كَمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ،......................

قوله: «وتسن صلاته إلى سُترة» أي: يُسَنُّ أن يُصلِّي إلى سُترة وسيأتي وصفها.

وإذا عَبَّرَ الفقهاءُ ـ رحمهم الله ـ بكلمة «تُسَنُّ» فالمعنى: أنَّ مَن فَعَلَها فله أجر، ومَن تَرَكَها فليس عليه إثم. هذا حكم السُّنَّة عند الفقهاء.

ودليل هذه السُّنيَّة: أمْرُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وفِعْلُه.

أما أمْرُه فإن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا صَلَّى أحدُكم فَلْيَسْتَتِرْ، ولو بسهم»[(525)].

وأما فِعْلُه فقد كان النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تُرْكَزُ له العَنَزة في أسفاره فيُصلِّي إليها[(526)].

والحكمة مِن السُّترة:

أولاً: تَمْنَعُ نقصان صلاة المرء، أو بطلانها إذا مَرَّ أحدٌ مِن ورائها.

ثانياً: أنَّها تحجُب نَظَرَ المصلِّي، ولا سيما إذا كانت شاخصة، أي: لها جِرْمٌ فإنها تُعين المصلِّي على حضور قلبه، وحَجْبِ بَصَرِه.

ثالثاً: أن فيها امتثالاً لأمر النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم واتباعاً لهديه، وكلُّ ما كان امتثالاً لأمر الله ورسوله، أو اتباعاً لهدي الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام فإنَّه خير.

وقوله: «تُسَنُّ صلاتُه إلى سُتْرَة» ظاهره: أنَّه سواء كان في سَفَرٍ أم في حَضَرٍ، وسواء خشي مارًّا أم لم يخشَ مارًّا، لعموم الأدلة في ذلك.

وقال بعض أهل العلم: إنه إذا لم يخشَ مارًّا فلا تُسَنُّ السُّتْرة[(527)]. ولكن الصحيح أن سُنيَّتها عامة، سواء خشي المارَّ أم لا.

وعُلم من كلامه: أنَّها ليست بواجبة، وأنَّ الإنسان لو صَلَّى إلى غير سُترة فإنه لا يأثم، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم[(528)]؛ لأنها من مكمِّلات الصَّلاة، ولا تتوقَّفُ عليها صحَّة الصَّلاة، وليست داخل الصَّلاة ولا مِن ماهيَّتها حتى نقول: إنَّ فقدَها مفسدٌ، ولكنها شيء يُراد به كمال الصَّلاة، فلم تكن واجبة، وهذه هي القرينة التي أخرجت الأمر بها من الوجوب إلى الندب.

واستدلَّ الجمهور بما يلي:

1 ـ حديث أبي سعيد الخدري: «إذا صَلَّى أحدُكم إلى شيءٍ يستُره من النَّاسِ؛ فأراد أحدٌ أن يجتازَ بين يديه؛ فَلْيَدْفَعْهُ»[(529)] فإن قوله: «إذا صَلَّى أحدُكم إلى شيء يستره» يدلُّ على أن المُصلِّي قد يُصلِّي إلى شيء يستره وقد لا يُصلِّي، لأن مثل هذه الصيغة لا تدلُّ على أن كلَّ الناس يصلون إلى سُتْرة، بل تدلُّ على أن بعضاً يُصلِّي إلى سُتْرة والبعض الآخر لا يُصلِّي إليها.

2 ـ حديث ابن عباس: «أنَّه أتى في مِنَى والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يصلِّي فيها بأصحابه إلى غير جدار»[(530)].

3 ـ حديث ابن عباس «صَلَّى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في فضاء ليس بين يديه شيء»[(531)] وكلمة «شيء» عامة تشمل كلَّ شيء، وهذا الحديث فيه مقال قريب، لكن يؤيِّده حديث أبي سعيد، وحديث ابن عباس السابقان.

4 ـ أن الأصل براءة الذِّمَّة.

القول الثاني: أن السُّتْرة واجبة[(532)]؛ للأمر بها. وأجابوا عن حديث ابن عباس: «يُصلِّي في فضاء إلى غير شيء» بأنه ضعيف[(533)]، وعن حديثه: «يُصلِّي إلى غير جدار» بأن نفي الجدار لا يستلزم نفي غيره، وحديث أبي سعيد يدلُّ على أن الإنسان قد يُصلِّي إلى سُترة وإلى غير سترة، لكن دلَّت الأدلَّة على الأمر بأنه يُصلِّي إلى سُترة.

وأدلَّة القائلين بأن السُّتْرة سُنَّة وهم الجمهور[(534)] أقوى، وهو الأرجح، ولو لم يكن فيها إلاَّ أن الأصل براءة الذِّمَّة فلا تُشغل الذِّمَّة بواجب، ولا يحكم بالعقاب إلا بدليل واضح لكفى.

وأجاب الجمهور عن قول ابن عباس: «إلى غير جدار» أن ابن عباس أرادَ أن يستدلَّ به على أن الحِمار لا يقطع الصَّلاةُ، فقال: «إلى غير جدار» أي: إلى غير شيء يستره.

أما المَأموم فلا يُسَنُّ له اتِّخاذ السُّترة؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يصلّون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يتخذ أحدٌ منهم سترة.

ولكن هل يجوز المرور بين أيديهم؟

فيه قولان لأهل العلم[(535)]:

القول الأول: أنه لا يجوز أن يمرَّ بين أيديهم.

واستدلُّوا: بعموم الأدلة: «لو يعلم المار بين يدي المصلِّي ماذا عليه؛ لكان أن يقفَ أربعين خيراً له من أن يمرَّ بين يديه»[(536)] قالوا: وهذا عام.

وعللوا: أن الإشغال الذي يكون للإمام والمنفرد بالمرور بين أيديهما حاصل بالمرور بين يدي المأموم، وربَّما يكثر المارة فيشعر المأموم بأنه منفصل عن إمامه، لأن الناس يمرُّون حتى يكونوا كالجدار بين يديه، ولا سيما في المساجد الكبيرة كالمسجد الحرام، والمسجد النبوي، وعلى هذا فلا يجوز لأحد المرور بين يدي المأمومين.

القول الثاني: أنه لا بأس بالمرور بين أيدي المأمومين[(537)].

واستدلُّوا: بفعل ابن عباس رضي الله عنهما، حينما جاء والنبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام يُصلِّي بالناس بمِنَى، وهو راكبٌ على حِمار أتان ـ أي: أنثى ـ فدخل في الصفِّ وأرسل الأتان ترتع، وقد مرَّت بين يدي بعض الصف، قال: ولم يُنكر ذلك عليَّ أحد[(538)]، لا النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا أحد من الصَّحابة، وهذا الإقرار يخصص عموم حديث: «لو يعلم المار بين يدي المصلِّي ماذا عليه».

فالصَّحيح: أن الإنسان لا يأثم، ولكن إذا وَجَدَ مندوحة عن المرور بين يدي المأمومين فهو أفضل، لأن الإِشغال بلا شَكٍّ حاصل، وتوقِّي إشغال المصلِّين أمرٌ مطلوب؛ لأن ذلك مِن كمال صلاتهم، وكما تحب أنت ألاّ يشغلك أحدٌ عن صلاتك فينبغي أن تحبَ ألا تشغلَ أحداً عن صلاته؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»[(539)].

قوله: «قائمة» يعني: منصوبة.

قوله: «كمُؤْخِرَة الرَّحْلِ» تشبيه لها كما جاء في الحديث عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ[(540)]. و«مُؤْخِرَة الرَّحْل»: هي: خشبة توضع فوق الرَّحل إذا رَكِبَ الراكبُ استند عليها، وهي حوالي ثلثي ذراع، أو ثلاثة أرباع ذراع، ورَحْلُ البعير هو: ما يشدُّ على ظهره للركوب عليه.

 

فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَاخِصاً فَإِلَى خَطٍّ ...............

قوله: «فإن لم يجد شاخصاً» أي:شيئاً قائماً يكون له شخص.

قوله: «فإلى خطٍّ» أي: فيُصلِّي إلى خطٍّ، والخطُّ له أثرٌ بالأرض، لأنَّ الأرض فيما سَبَقَ مفروشة بالرَّمْلِ أو بالحصباء، وإذا خطَّ الإنسانُ صار له أثرٌ بيِّنٌ، لكن أرض المساجد الآن مفروشة بالقماش، فهل نقول: إن الخط الذي هو خطُّ التلوين يجزئ عن الخطِّ الذي له أثرٌ؟

قال بعض أهل العلم: يجزئ كلُّ ما اعتقده سُتْرة[(541)]، وظاهره: حتى الخط الملوَّن، لكن في النفس مِن هذا شيء.

فالظاهر: أن هذه الخطوط الملونة لا تكفي، لكن لو فُرض أن فيه خيطاً بارزاً في طرف الحصير، أو في طرف الفراش لصحَّ أن يكون سُتْرة، لأنه بارز.

والدليل على ذلك أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «...فمَنْ لم يجدْ فَلْيَخطَّ خطًّا»[(542)]. وهذا الحديث قال عنه الحافظ ابن حجر في «بلوغ المرام»: «ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن»[(543)] لأن ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ قال: إنه مضطرب، والمضطربُ من أقسام الحديث الضعيف. والحسن حُجَّة؛ لأنه يوجب غلبةَ الظَّنِّ حسب التعريف المعروف، وهو: ما رواه عدل خفيف الضبط بسند متَّصلٍ، وسَلِمَ من الشذوذ والعِلَّة القادحة.

وعلى هذا؛ فيكون الحديث حُجَّة، فإذا لم تجد شاخصاً فخُطَّ خطًّا. ولكن كيف أخطُّ؟ هل أخطُّ خطًّا مقوَّساً كالهلال أو ممتدًّا كالعصا[(544)]؟

الجواب: يكفي أيُّ خط، ولهذا قال المؤلِّفُ: «فإلى خطٍّ» ولم يقيِّد، وكذلك في الحديث: «فليخطَّ خطًّا» وهذا الخطُّ يكون علامةً على المصلِّي ومفيداً له.

 

وَتَبْطُلُ بِمُرُورِ كَلْبٍ أَسْوَدَ بَهِيمٍ فَقَطْ ..............

قوله: «وتبطل» الضَّمير يعود على الصَّلاة، وهو شاملٌ للفريضة والنافلة، والبطلان أحياناً يُطلق على ما لم ينعقد، وأحياناً يطلق على ما انعقدَ ثم فَسَدَ، والثاني هو الأكثر، أي: أنَّ العلماء يطلقون البطلان على ما انعقدَ ثم فَسَدَ، وربَّما يطلقونه على ما لم ينعقد، كما لو قيل: لو تَرَكَ تكبيرةَ الإحرام بطلت صلاتُه، فهذا بطلان ما لم ينعقد، وكما لو قيل: يبطل البيع إذا كان الثمن مجهولاً، هذا بطلان ما لم ينعقد، وقول المؤلِّف هنا: «تبطل بمرور...» مِن بطلان ما انعقد.

وقوله: «بمرور كلب» : أي: عبور الكلب من يمين المصلِّي إلى يساره، أو من يساره إلى يمينه، وأما صعود الكلب بين يدي المصلِّي فلا يبطلها، ولو فرضنا أنَّ كلباً أمامَك فإن صلاتك لا تبطل.

وقوله: «بمرور كلب» الكلب: حيوان معروف.

قوله: «أسود» أي: دون الأحمر، والأبيض، والأزرق. أو أيّ لون غير الأسود.

قوله: «بهيم» أي: خالص لا يخالط سواده لون آخر، ومنه ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: «تحشرون يوم القيامة حُفاةً عُراةً غرلاً»[(545)] وزاد في حديث عبد الله بن أُنيس: «بُهماً»[(546)] يعني: ليس معكم شيء، فبَهيم يعني: لم يخالط سواده لون آخر؛ إلا أن بعض أهل العلم قال: إذا كان فوق عينيه نقطتان بيضاوان لم يخرج عن كونه بهيماً[(547)].

قوله: «فقط» : أي: لا غير، وهذه الكلمة ـ أعني «فقط» ـ قال النحويون في إعرابها: «الفاء» زائدة لتحسين اللفظ، و«قط» اسم بمعنى حسب، وهي مبنية على السكون، وبُنيت لأنها أشبهت الحرف بالوضع، لأنها على حرفين.

قال ابن مالك في أسباب بناء الاسم:

كالشبه الوضعي في اسمي جئتنا.

ولماذا فقَّط المسألة؟ فقَّطَها لأمرين:

أولاً: ليخرج الكلب الأحمر والأبيض وما أشبه ذلك، وقد سُئل النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم كما في حديث أبي ذر ـ: ما بالُ الكلبِ الأسود، من الكلبِ الأحمر، من الكلبِ الأصفر؟ قال: «الكلبُ الأسودُ شيطان»[(548)].

والصحيح: أنه شيطان كلاب، لا شيطان جِنٍّ، والشيطان ليس خاصًّا بالجن قال الله تعالى: {{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}} [الأنعام: 112] فالشيطان كما يكون في الجِنِّ يكون في الإِنس، ويكون في الحيوان، فمعنى شيطان في الحديث، أي: شيطان الكلاب، لأنه أخبثها ولذلك يُقتل على كُلِّ حال، ولا يحلُّ صيده بخلاف غيره.

ثانياً: ليخرج المرأة والحمار.

وهذا هو المشهور من المذهب؛ أن الصَّلاة لا تبطل إلا بمرور الكلب الأسود البهيم فقط، فلا تبطل بمرور غيره[(549)].

والخلاصة: أن بطلان الصَّلاةِ بذلك له أربع شروط:

1 ـ المرور.

2 ـ أن يكون المارُّ كلباً.

3 ـ أن يكون أسود.

4 ـ أن يكون بهيماً.

فإن اختلَّ شرطٌ واحدٌ فلا بُطلان.

وأما المرأة والحمار؛ فلا تبطل الصَّلاةُ بمرورهما على ما أفاده كلام المؤلِّف، وهو المذهب[(550)].

والدَّليل على أنَّ الكلب الأسود يُبطل الصَّلاةَ، حديث أبي ذرٍّ، أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قامَ أحدُكم يُصلِّي، فإنه يَسْتُرُهُ إذا كان بين يديه مثلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فإذا لم يكن بين يديه مثلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فإنه يقطعُ صلاتَهُ: الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ»[(551)] وفي بعض هذه الأحاديث الإطلاق كحديث عبد الله بن مُغَفَّل[(552)]، وحديث أبي هريرة[(553)].

وقوله: «يقطع» أي: يبطل؛ لأن قَطْعَ الشيء فَصْلُ بعضِه عن بعض، تقول: قطعتُ السلك، أي: فصلت بعضَه عن بعض، فإذا مرَّ مَن يقطع الصَّلاة لم يمكن أن يبني آخرها على أوَّلها، فهذا هو الدليل. وهذا الدليل يقتضي أن الذي يقطعُ الصَّلاة ثلاثة، وليس الكلب الأسود البهيم فقط. لكنهم قالوا: إن هذا مخصَّصٌ بأدلة تخرجُ الحِمَار، وتخرجُ المرأةَ.

أما الحِمار فخصَّصوه، بحديث ابن عباس حين جاء والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يصلِّي بالناس بمِنى، فمرَّ بين يدي بعض الصَّفِّ وهو راكبٌ على حِمار أتان، وأرسل الحِمارَ ترتع، ولم يُنكر عليه أحدٌ[(554)]. قالوا: فهذا ناسخ لحديث عبد الله بن مغفَّل وأبي هريرة، لأنه في آخر حياة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وفي هذا نَظَرٌ من وجهين:

أولاً: أن النسخ هنا غير تامِّ الشُّروط؛ لأنه لم يكن هذا الفِعل في آخر لحظة مِن حياته صلّى الله عليه وسلّم، إذ مِن الجائز أن يكون حديث أبي هريرة، وعبد الله بن مغفَّل، وأبي ذرٍّ بعد حجَّة الوداع، ومِن شروط النسخ أن نعلم تأخُّر الناسخ.

ثانياً: أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يقل: إنه مَرَّ بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بل بين يدي بعض الصَّفِّ، ونحن نقول بموجب ذلك، أي: أن المأموم لا يقطع صلاتَه شيء؛ لا الكلب ولا غيره؛ لأن سُترة الإِمام سُترة له.

وأما المرأة؛ فقالوا: عندنا دليلان على أن المرأة لا تقطع الصَّلاةَ.

الدليل الأول: حديث عائشة رضي الله عنها لما قيل لها: إن المرأة تقطعُ الصَّلاةَ ـ فغضبت وقالت: «قد شَبَّهْتُمُونا بالحمير والكلاب! لقد كنت أنام بين يدي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم معترضة وهو يُصلِّي بالليل»[(555)].

فلو كانت تقطع صلاته ما استمرَّ في صلاته.

والجواب: أنَّ هذا الحديث ليس فيه دليل؛ لأن هذا ليس بمرور، والنبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: «فلا يدع أحداً يمر»[(556)]، وفَرْقٌ بين المرور والاضطجاع، ونحن نوافقكم على أن المرأة لو اضطجعت بين يدي المصلِّي لم تقطع صلاته.

الدليل الثاني: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يُصلِّي في بيت أُمِّ سَلَمة، فجاء عبدُ الله بن أبي سلمة أو عُمرُ بن أبي سلمة؛ يريد أن يتجاوز بين يدي الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام فَمَنَعَهُ، فجاءت زينبُ بنت أبي سَلَمة وهي طفلة صغيرة، فَمَنَعَها فلم تمتنع وعَبَرَت، فلما سَلَّمَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «هُنَّ أغلب»[(557)] ولم يستأنف الصلاة.

ويُجاب عن هذا بجوابين:

أحدهما: أن هذا الحديث ضعيف، والضعيف لا تقوم به حُجَّة.

والثاني: أن البنت صغيرة، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «المرأة»[(558)]. والمرأة هي الكبيرة البالغة، ونحن نوافقكم على أن الصغيرة لا تقطع الصَّلاةَ.

وعلى هذا فيكون القول الرَّاجحُ في هذه المسألة: أن الصَّلاة تبطل بمرور المرأة والحِمار والكلب الأسود، لثبوت ذلك عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ولا مقاوم لهذا الحديث يعارضه حتى نقول: إنه منسوخٌ أو مخصَّصٌ، بل تبطل الصَّلاة، ويجب أن يستأنفها، ولا يجوز أن يستمرَّ؛ حتى لو كانت الصلاة نَفْلاً؛ لأنه لو استمرَّ لاستمرَّ في عبادة فاسدة، والاستمرار في العبادات الفاسدة محرَّم، ونوع مِن الاستهزاء بالله عزّ وجل. إذ كيف يتقرَّب إلى الله بما لا يرضاه.

ومِن قواعد أهل العلم: «كلُّ عقد فاسد، وكلُّ شرط فاسد، وكلُّ عبادة فاسدة، فإنه يحرم المضيُّ فيها». ولهذا لما شَرَطَ أهلُ بريرة الولاء لهم قام النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم فخطب الناس وقال منكراً عليهم: «ما بالُ أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله»[(559)].

 

وَلَهُ التَّعَوُّذُ عِنْدَ آيَةِ وَعِيدٍ، وَالسُّؤَالُ عِنْدَ آيَةِ رَحْمَةٍ، وَلَوْ فِي فَرْضٍ.

قوله: «وله التعوُّذ» أي: للمصلِّي أن يتعوَّذ بالله. والتعوُّذ هو الاعتصام بالله تعالى من كلِّ مكروه.

قوله: «عند آية وعيد» أي: إذا مَرَّ بآية وَعيد، فله أن يقول: أعوذ بالله من ذلك، وظاهر كلام المؤلِّف أنه لا فَرْقَ بين الإِمام والمأموم والمنفرد.

أما المنفرد والإِمام فمُسَلَّم أن لهما أن يتعوَّذا عند آية الوعيد، ويسألا عند آية الرحمة.

وأما المأموم فغير مُسلَّم على الإِطلاق، بل في ذلك تفصيل وهو: إن أدَّى ذلك إلى عدم الإنصات للإِمام فإنه يُنهى عنه، وإن لم يؤدِّ إلى عدم الإِنصات فإن له ذلك.

مثال الأول: لو كانت آيةُ الوعيد في أثناء قراءة الإِمام، فإن المأموم إذا تعوَّذ في هذه الحال والإِمام لم يسكت انشغل بتعوُّذه عن الإِنصات للإِمام، وقد نهى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم المأمومَ أن يقرأ والإِمامُ يقرأ؛ إلاَّ بأمِّ القرآن[(560)].

ولهذا لو دخلتَ في صلاة جهرية والإِمامُ يقرأ فلا تستفتح، بل كبِّرْ، واستعذْ بالله من الشيطان الرجيم، واقرأ الفاتحة، فصار ظاهر كلام المؤلِّف فيه تفصيل بالنسبة للمأموم.

وقوله: «عند آية وعيد» أي: كلُّ ما يدلُّ على الوعيد، سواء كان بذِكْرِ النَّارِ، أم بذِكْرِ شيء مِن أنواع العذاب فيها، أم بذِكْرِ أحوال المجرمين، وما أشبه ذلك.

قوله: «والسؤال عند آية رحمة» أي: وللمصلِّي أن يسأل الرحمة إذا مَرَّ بآية رحمة. مثاله: مرَّ ذكر الجنة يقول: اللَّهُمَّ إنِّي أسألك الجنة، وله أن يسأله من فَضْله، ولو مرَّ ثناء على الأنبياء أو الأولياء أو ما أشبه ذلك فله أن يقول: أسأل الله من فضله، أو أسأل الله أن يلحقني بهم، أو ما أشبه ذلك.

قوله: «ولو في فرض» هذا إشارة خلاف: هل له ذلك في الفرض، أو ليس له ذلك[(561)]؟

والصحيح: ما قاله المؤلِّف أنَّ له ذلك: لأن هذا لا يعدو أن يكون دعاء، والصَّلاةُ لا بأس بالدُّعاء فيها فله أن يتعوَّذ عند آية الوعيد، ويسأل عند آية الرحمة، ولو كان في الفرض.

والدليل: حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه صَلَّى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فقرأ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بالبقرة، والنساء، وآل عمران، لا يمرُّ بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية وعيد إلا تعوَّذ[(562)]. وهذا فِعْلُ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والأصل أنه أسوة لنا، وأن ما فَعَلَه فلنا أن نتأسَّى به، إلا ما دَلَّ عليه الدليل، فإذا قال قائل: هذا في النَّفْلِ فما دليلكم على جوازه في الفرض؟.

فالجواب: أن ما ثَبَتَ في النَّفْل ثَبَتَ في الفرض إلا بدليل، وهنا لا دليل على الفَرْقِ بين الفرض وبين النفل.

والراجح في حكم هذه المسألة أن نقول:

أما في النفل ـ ولا سيما في صلاة الليل ـ فإنه يُسَنُّ له أن يتعوَّذ عند آية الوعيد، ويسأل عند آية الرحمة؛ اقتداءً برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولأن ذلك أحضرُ للقلب وأبلغُ في التدبر، وصلاة الليل يُسَنُّ فيها التطويل، وكثرة القراءة والركوع والسُّجود، وما أشبه ذلك.

وأما في صلاة الفرض فليس بسُنَّة وإنْ كان جائزاً.

فإن قال قائل: ما دليلك على هذا التفريق، وأنت تقول: إنَّ ما ثبت في النَّفْلِ ثَبَتَ في الفرض، فليكن سُنَّة في الفرض كما هو في النفل.

فالجواب: الدليل على هذا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي في كلِّ يوم وليلة ثلاث صلوات، كلَّها جهر فيها بالقراءة، ويقرأ آيات فيها وعيد وآيات فيها رحمة، ولم ينقل الصَّحابةُ الذين نقلوا صفة صلاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يفعل ذلك في الفَرْض، ولو كان سُنَّة لفَعَلَهُ ولو فَعَلَهُ لنُقل، فلمَّا لم ينقل علمنا أنه لم يفعله، ولما لم يفعله علمنا أنه ليس بسُنَّة، والصَّحابةُ رضي الله عنهم حريصون على تتبُّع حركات النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وسكناته حتى إنهم كانوا يستدلُّون على قراءته في السرِّية باضطراب لحيته[(563)]، ولمَّا سكت بين التكبير والقراءة سأله أبو هريرة ماذا يقول[(564)]؟ ولو كان يسكت عند آية الوعيد مِن أجل أن يتعوَّذ، أو آية الرحمة من أجل أن يسأل لنقلوا ذلك بلا شَكٍّ.

فإذا قال قائل: إذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا لا تمنعونه في صلاة الفرض كما مَنَعَهُ بعضُ أهل العلم؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»[(565)]؟

فالجواب على هذه أن نقول: تَرْكُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم له لا يدلُّ على تحريمه؛ لأنه أعطانا عليه الصَّلاة والسَّلام قاعدة: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء مِن كلام الناس، إنَّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»[(566)]. والدعاء ليس من كلام الناس، فلا يبطل الصَّلاة، فيكون الأصل فيه الجواز، لكننا لا نندب الإِنسان أن يفعل ذلك في صلاة الفريضة لما تقدم تقريره.

مسألة: لو قرأ القارئ: {{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى *}} [القيامة] ؟ فهذه ليست آية وعيد ولا آية رحمة فله أن يقول: بلى، أو «سبحانك فبلى»، لأنه وَرَدَ في حديث عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام[(567)]، ونصَّ الإِمام أحمد عليه، قال الإِمام أحمد: إذا قرأ: {{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى *}} [القيامة] في الصلاة وغير الصلاة، قال: سبحانك فبلى، في فَرْضٍ ونَفْلٍ.

وإذا قرأ: {{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ *}} [التين] فيقول: «سبحانك فبلى»[(568)].

ولو قرأ: {{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ *}} [الملك] .

فهنا لا يقول: يأتي به الله؛ لأنَّ هذا إنَّما جاء في سياق التهديد والوعيد، فاللهُ أَمَرَ الرسولَ صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهؤلاء المكذِّبين: {{أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}} [الملك: 30] والعامَّة نسمعُهم يقولون: يأتي به اللهُ، وهذا لا يصلح.

وفيه آيات كثيرة؛ كقوله في سورة النمل: {{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}} [النحل: 60] ؟ فهل يصحُّ أن يقول: لا؟

الجواب: نعم، يصحُّ أن يقول: لا إلـه مع الله.

 

فصل

في أركان الصَّلاة

 

أركانها:.................

قوله: «أركانها» لمَّا انتهى المؤلِّف ـ رحمه الله ـ من صفة الصَّلاةِ على وَجْهٍ كامل، حتى بيَّن ما يُكرهُ فيها، ويُباح، ويَحرم، وما يُسَنُّ لها خارجاً عنها: كالسُّترة، وما أشبهها، ذَكَرَ أركانَها.

والأَولى لطالب العِلْم أن يتصوَّر هيئةَ الصَّلاةِ كاملة، حتى يتبيَّن له ما هو الرُّكن، وما هو الواجب، وما هي السُّنَّة.

والأركانُ جَمْعُ رُكن، والرُّكنُ في اللُّغة: جانبُ الشيء الأقوى، ولهذا نُسمِّي الزَّاوية رُكناً؛ لأنَّها أقوى جانب في الجدار؛ لكونها معضودة بالجدار الذي إلى جانبها.

وأمَّا في الاصطلاح؛ فأركان العبادة: ما تترَّكب منه العبادة، أي: ماهيَّة العبادة التي تتركَّب منها، ولا تصحُّ بدونها، لأن العبادات كلَّها تتركَّب مِن أشياء قولية وفِعْلية، ومِن هذه الأشياء المركَّبة ما لا تصحُّ بدونه في كلِّ حال، وهي الأركان، ومنها ما لا تصحُّ بدونه في بعض الأحوال، وهي الواجبات، ومنها ما تصحُّ بدونه في كلِّ حال، وهي المسنونات.

فإن قال قائل: ما الدليلُ على هذا التفصيل في الصَّلاةِ مِن كونها مركَّبة مِن أركان وواجبات، وسُنَنٍ. فنحن نقرأ القرآنَ والسُّنَّةَ فلا نَجِدُ هذا؟

فالجواب: أنَّ العلماء ـ رحمهم الله ـ تتبَّعوا النصوصَ واستخلصوا منها هذه الأحكام، ورأوا أنَّ النصوصَ تدلُّ عليها، فصنَّفوها مِن أجلِ تقريب العِلْمِ لطالب العِلْمِ، ولا شَكَّ أن في هذا تقريباً للعِلْمِ، ولو كانت هذه الأحكام منثورة ما فرَّق الطالبُ المبتدئ بين الذي تَصِحُّ به العبادة والذي لا تصحُّ.

 

الْقِيَامُ ............

قوله: «القيام» هذا الرُّكن الأول، والدليل قوله تعالى: {{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}} [البقرة: 238] ومِن السُّنَّة قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين: «صَلِّ قائماً، فإنْ لم تستطعْ فقاعداً، فإنْ لم تستطعْ فعلى جَنْبٍ»[(569)].

وبدأ المؤلِّفُ بالقيام؛ لأنه سابق على جميع الأركان، قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: «إذا قُمْتَ إلى الصَّلاةِ فأسبغِ الوضوءَ، ثم استقبلِ القِبْلَةَ فكبّر»[(570)].

والقائمُ إلى الصَّلاةِ سيقوم في الصَّلاةِ، ولأنَّ الترتيبَ الطبيعيَّ في الصَّلاةِ هو هذا؛ أن تبدأ فتقوم، ثم تكبِّر، ولو كبَّرت للإِحرام وأنت غير قائم ما صحَّت صلاتك إنْ كانت فريضةً.

فإن قال قائل: كيف تجعلون القيامَ رُكناً، وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «صلاةُ القاعدِ على النصفِ مِن صلاةِ القائم»[(571)] وهذا يدلُّ على أنَّ في صلاة القاعد أجراً، ولو كان القيامُ رُكناً لما كان في تَرْكِهِ أجْرٌ؟

فالجواب: أنَّ الصَّلاةَ منها ما هو فَرْض ومنها ما هو نَفْل، فيُحمل حديث تفضيل صلاة القائم على صلاة القاعد على النَّفل، كما دلَّ عليه حديث عِمران، ويُقال: إنَّ القيام ليس رُكناً في النَّافلة، وإنما هو سُنّة، ويؤيِّدُ هذا: فِعْلُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان يُصلِّي النَّافلةَ على راحلتِه في السَّفَر[(572)]، ولو كان القيامُ رُكناً فيها لم يُصلِّ على الراحلة، بل نَزَلَ وصَلَّى على الأرض، ولهذا لا يُصلِّي عليها الفريضة؛ لأنه لو صَلَّى الفريضةَ لفاتَ رُكن القيام.

مسألة: ويجب القيامُ ولو معتمداً، فلو قال قائل: أنا لو قمتُ معتمداً على عصا أو على عمود، أو على جدار أمكن ذلك، وإنْ لم أعتمد لم أستطع، فلا تَقُلُّني رِجْلاي؟ فنقول: يجب عليك القيامُ ولو معتمداً؛ لعموم الأدلة.

فإذا قال: ما حَدُّه؟ أي: هل يلزم أنْ أنتصبَ، أو يجوز وأنا حاني الظَّهر بعض الشيء؟

فالجواب: إنْ حَنَيْتَ ظهركَ إلى حَدِّ الرُّكوع؛ فلستَ بقائمٍ؛ فلا يصحُّ، إلا مع العجز، وإن حَنَيْتَهُ قليلاً أجزأ.

فإن قال قائل: إذا كان قادراً على القيام، ولكنه يخافُ على نفسِه إذا قام، فهل يسقطُ عنه القيامُ: فالجواب: نعم؛ لقوله تعالى: {{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}} [البقرة: 238 ـ 239] ففي هذه الحال يسقط عنه الرُّكوعُ والسجودُ، وهما رُكنان أوكد مِن القيام، فسقوط القيام مِن باب أَولى.

مسألة: إذا قُدِّرَ أنه مُنحني الظَّهْرِ فإنه يقف ولو كراكع، ولا يسقط عنه القيامُ؛ لأن هذا هو قيامه، لأن القيام في الحقيقة يعتمد على انتصاب الظَّهرِ وانتصابِ الرجلين، فإذا فاتَ أحدُ الانتصابين وَجَبَ الآخر.

مسألة: إذا قال قائل: أنتم قلتم يجب القيامُ ولو معتمداً، فهل يجوزُ أن يَعتمدَ؟

الجواب: إذا كان لا يتمكَّن من القيام إلا بالاعتماد جاز له أن يَعتمدَ، وإن كان يتمكَّن بدون اعتماد لم يَجُزْ أن يعتمدَ؛ إلا إذا كان اعتماداً خفيفاً فلا بأس به.

والضابط: أنه إنْ كان بحيث لو أُزيل ما استند إليه سَقَطَ؛ فهذا غير خفيف، وإن كان لو أُزيلَ لم يَسقط؛ فهو خفيف.

فإنْ قال إنسان: هذا غير منضبط؛ لأن الواحد إذا انتبه لم يسقط بإزالة ما استندَ إليه، وإنْ لم ينتبه سَقَطَ ولو كان اعتمادُه خفيفاً، فما الجواب؟

فالجواب: أن الضابط كون ما اعتمدَ عليه حاملاً له، فإن كان حاملاً له لم يصحَّ قيامه، وإلا صحَّ.

على أن بعض العلماء[(573)]، قال: إنَّ عمومَ قوله تعالى: {{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}} [البقرة: 238] . وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صَلِّ قائماً»[(574)] يشمَلُ حتى المعتمدَ على شيء يسقط لو أُزيلَ، بمعنى أنه يجوز أن تعتمدَ، لكن فقهاءنا ـ رحمهم الله ـ قالوا: لا يجوز الاعتماد على شيء اعتماداً قويًّا بحيث يَسقط لو أُزيل.

وعلَّلوا ذلك: بأنه يُزيل مشقَّة القيام؛ لأن هذا كمستلقٍ على الجدار الذي اعتمدَ عليه.

 

وَالتَّحْرِيمَةُ ..........

قوله: «والتحريمة» أي: تكبيرة الإِحرام، وهذا هو الرُّكن الثاني وسبق في أول صفة الصلاة بيان شروطها[(575)].

والتحريمة رُكنٌ مِن أركان الصَّلاةِ، وليس شيء من التكبيرات رُكناً سوى تكبيرة الإِحرام؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم للمسيء في صلاته: «استقبلْ القِبلةَ وكبِّر»[(576)] ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تحريمُها التكبير...»[(577)] فلا تنعقد الصَّلاةُ بدون التكبير.

 

وَالْفَاتِحَةُ ..........

قوله: «والفاتحة» أي: قراءة الفاتحة، وهذا هو الرُّكن الثالثُ، وهو رُكنٌ في الفَرْضِ والنَّفْل.

والفاتحة: هي السُّورة التي افتُتِحَ بها القرآنُ الكريم، وقد تكلَّمنا عليها في أول صِفة الصَّلاة. وقراءتُها رُكنٌ في حَقِّ كُلِّ مصلٍّ؛ لا يُستثنى أحدٌ إلا المسبوق إذا وَجَدَ الإِمامَ راكعاً، أو أدرك مِن قيام الإِمام ما لم يتمكَّن معه من قراءة الفاتحة.

والدليل على ذلك: قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحة الكتاب»[(578)].

فقوله: «لا صلاة» نفيٌ، والأصل في النَّفي أن يكون نفياً للوجود، فإنْ لم يمكن فهو نفيٌ للصحَّة، ونفيُ الصحَّة نفيٌ للوجود الشرعي، فإنْ لم يمكن فلنفي الكمال، فهذه مراتب النفي، فمثلاً:

إذا قلت: لا واجبَ الوجود إلا الله، فهذا نفيٌ للوجود، إذ لا يوجد شيء واجب الوجود إلا ربّ العالمين، وكذلك لا خالق إلا الله.

وإذا قلت: لا صلاةَ بغير وُضُوء، فهذا نفيٌ للصحَّة؛ لأن الصَّلاةَ قد تُفعل بلا وُضُوء.

وإذا قلت: لا صلاةَ بحضرَة طعام، فهو نفيٌ للكمال؛ لأن الصلاة تصحُّ مع حَضْرة الطعام.

فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاةَ لِمَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» إذا نزَّلناه على هذه المراتب الثلاث وجدنا أنه قد يوجد مَن يُصلِّي ولا يقرأ الفاتحة، وعلى هذا فلا يكون نفياً للوجود.

فإذا وُجِدَ مَن يُصلِّي ولم يقرأ الفاتحةَ فإن الصَّلاةَ لا تَصِحُّ؛ لأن المرتبة الثانية هي نفيُ الصحَّة، وعلى هذا فلا تصحُّ الصَّلاة، والحديث عامٌّ لم يُستثنَ منه شيء، والأصل في النصوص العامة أن تبقى على عمومها، فلا تخصَّصُ إلا بدليل شرعيٍّ، إما نصٌّ، أو إجماعٌ، أو قياس صحيح، ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة بالنسبة لعموم قوله: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحة الكتاب».

فإن قال قائل: يوجد دليل يخصِّصُ هذا العموم وهو قوله تعالى: {{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *}} [الأعراف] قال الإِمام أحمد: «أجمعوا على أنَّ هذا في الصَّلاة».

فالجواب: أن هذه الآية عامَّة تشمَلُ الإنصاتَ في كلِّ مَنْ يُقرأُ عنده القرآنُ، وتخصَّص بالفاتحة، فإنه لا يسكت إذا قرأ إمامه، ويدلُّ لهذا ما رواه أهل السُّنن من حديث عُبادة بن الصَّامت رضي الله عنه قال: صَلَّى بنا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بعضَ الصَّلوات التي يُجهر فيها بالقراءة، فالتبستْ عليه القراءةُ، فلما انصرفَ؛ أقبل علينا بوجهه وقال: «هل تقرؤون إذا جهرتُ بالقراءة؟» فقال بعضُنا: إنا نصنعُ ذلك، قال: «فلا، وأنا أقول: ما لي يُنازِعُنِي القرآنُ، فلا تقرؤوا بشيءٍ مِن القرآن إذا جهرتُ؛ إلا بأمِّ القرآن»[(579)]. وهذا نصٌّ في محلِّ النزاع؛ فيكون فاصلاً بين المتنازعين؛ لأنه جاء في صلاة جهرية فيؤخذ به.

وأما قول الإمام أحمد رحمه الله: «أجمعوا على أنَّها في الصَّلاةِ» فالظاهر لي ـ والله أعلم ـ، أن مراده رحمه الله لو قرأ قارئ ليس إماماً لي فإنه لا يجب عليَّ الاستماع له، بل لي أن أقومَ وأنصرف، أو أشتغل بما أنا مشتغل به.

مثال ذلك: رَجُلٌ يُصلِّي إلى جَنْبِكَ في الصَّفِّ، وهو يقرأ القرآن، لا يلزمك أن تُنصتَ له، فلك أن تتشاغل بغير الاستماع لقراءته، أو أن تقوم وتنصرف، بخلاف الذي في الصَّلاة؛ فإنه مأمور بالإِنصات تبعاً لإِمامه.

هذا الذي ذَكَرْناه ـ وهو أن قراءة الفاتحة رُكنٌ في حَقِّ كلِّ مصلٍّ: الإِمام، والمأموم، والمنفرد. ولا يستثنى منها إلاَّ مسألة واحدة، وهي المسبوق إذا أدرك إمامه راكعاً، أو قائماً ولم يتمكَّن من قراءة الفاتحة ـ هذا هو الذي دَلَّت عليه الأدلةُ الشرعية.

فإذا قال قائل: ما الدليل على استثناء هذه الصُّورة؟

فالجواب: الدليل على ذلك حديث أبي بَكْرة الثَّابت في «صحيح البخاري» حيث أدركَ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم وهو راكعٌ، فأسرعَ وركعَ قبل أن يَصِلَ إلى الصَّفِّ، ثم دخلَ في الصَّفِّ، فلما انصرفَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم مِن الصَّلاةِ سأل مَنِ الفاعل؟ فقال أبو بَكْرة: أنا، فقال: «زادكَ اللهُ حرصاً ولا تَعُدْ»[(580)]، ولم يأمره بقضاء الرَّكعة التي أدركَ ركوعها، دون قراءتها، ولو كان لم يدركها لكانت قد فاتته، ولأمره النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بقضائها، كما أمَرَ المسيءَ في صلاتِهِ أن يعيدَها، فلما لم يأمره بقضائها عُلِمَ أنه قد أدرك الركعة، وسقطت عنه قراءة الفاتحة، فهذا دليل من النصِّ.

والمعنى يقتضي ذلك: لأن هذا المأموم لم يدرك القيام الذي هو محلُّ القراءة، فإذا سقط القيامُ سَقَطَ الذِّكْرُ الواجبُ فيه وهو القراءة. كما يسقطُ غَسْلُ اليد إذا قُطعت مِن فوق المرفق. إنَّ فَقْدَ المحلِّ يستلزمُ سقوط الحال.

وقال بعض العلماء[(581)]: إنَّ قراءة الفاتحة ليست رُكناً مطلقاً. واستدلَّ بعموم قوله تعالى: {{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}} [المزمل: 20] .

وعموم قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي هريرة في قصةِ المسيءِ في صلاتِه: «ثم اقرأ ما تيسَّرَ معك مِن القرآن»[(582)]: ووجه الاستدلال مِن هذا الحديث: أنه في بيان الواجب، والحاجة داعية إلى بيان السُّورة المعيَّنة، ولو كانت الفاتحة واجبة لعيَّنها؛ لأن هذا الرَّجُل لم يعرف شيئاً، فهو بحاجة إلى بيانها، فلما لم يعينها في مقام الحاجة عُلِمَ أنَّها ليست بواجبة، وهذه حجَّة قويَّة. ولكن يُجاب عنه: بأن هذا مجملٌ، أي: قوله: «ما تيسَّر»، وقد بيّنت النصوص أنه لا بُدَّ مِن قراءة الفاتحة، فيحمل هذا المجمل المطلق على المبين المقيَّد، وهو قراءة الفاتحة، ثم إنَّ الغالبَ أن أيسر ما يكون من القرآن قراءة الفاتحة، لأنها تُقرأ كثيراً في الصلوات الجهرية فيسمعها كلُّ أحد، وهي تُكرَّرُ في كلِّ صلاة جهرية مرَّتين، بخلاف غيرها من القرآن، على أنَّه جاء في رواية أبي داود: «ثم اقرأ بأمِّ القرآن، وبما شاء الله»[(583)].

وقال بعض أهل العلم[(584)]: قراءة الفاتحة رُكنٌ في حقِّ غير المأموم، أما في حَقِّ المأموم فإنها ليست برُكن، لا في الصلاة السرِّيَّة، ولا في الصَّلاة الجهريَّة، وعلى هذا؛ فلو كَبَّرَ المأموم ووقف صامتاً حتى رَكَعَ الإِمام ورَكَعَ معه فصلاتُه صحيحة.

واحتجَّ هؤلاء: بقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كان له إمامٌ فقراءةُ الإِمامِ له قراءة»[(585)]، ولكن هذا الحديث لا يصحُّ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، لأنه مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف، فلا تقوم به الحُجَّةُ.

وقال بعض أهل العلم[(586)]: إنَّ قراءة الفاتحة رُكن في حَقِّ كُلِّ مصلٍّ؛ إلاّ في حَقِّ المأموم في الصلاة الجهرية.

واحتجَّ هؤلاء بما يلي:

1 ـ حديث أبي هريرة أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «لما نهاهم عن القراءة مع الإِمام قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهرُ فيه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم»[(587)]، فهذا دليل على أن الأمر بقراءة الفاتحة منسوخٌ، فعلى هذا؛ تكون قراءة الفاتحة ليست واجبة على المأموم إذا كان الإِمامُ يَجهر في صلاتِه.

2 ـ أن القراءة إذا كان الإِنسان يستمع لها قراءة له حُكماً، بدليل: أنه يُسَنُّ للمستمع المنصت إذا سَجَدَ القارئ أن يسجدَ معه، وهذا دليل على أنه كالتالي حكماً.

فالمنصت المتابع للقارئ له حُكمه؛ لقوله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: {{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا}} [يونس: 89] والدَّاعي موسى وحده لقوله: {{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأََهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ *}} [يونس] . فالدَّاعي موسى، وهارون كان يؤمِّنُ، وجعلهما الله عزّ وجل داعيين. إذاً؛ فالمنصت للقراءة قارئ حكماً.

3 ـ أنَّه لا فائدة مِن جهر الإمام بالقراءة إذا لم تَسقطْ عن المأموم، وكيف يقرأ وإمامُه قد قرأ؟ ثم كيف يقرأ وإمامُه يَجهرُ بالقراءة؟ فهذا عَبَثٌ من الحكم؛ لأنه إذا قلنا لإِمام: اقرأ بعد الفاتحة، ثم قرأ المأمومُ الفاتحةَ صار جَهْرُ الإِمام فيما يقرأ فيه لغواً لا فائدة منه، وهذه أدلَّة لا شَكَّ أنها قوية؛ لولا النصُّ الذي أشرنا إليه أولاً، وهو أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم انفتل مِن صلاة الفجر فقال: «لا تقرؤوا خلف إمامكم إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمَن لم يقرأ بها»[(588)]، ولكن كيف نجيب عن هذه الأدلَّة؟

نجيب عنها: بأنها عامَّة، والأمر بقراءة الفاتحة أخصُّ منها، وإذا كان أخصَّ وجب تقديم الأخصِّ.

وأما القول بأن قراءة الإِمام إذا كان المأموم يستمع لها قراءة للمأموم؛ فنعم نحن نقول بذلك، لكن فيما عدا الفاتحة؛ ولهذا يعتبر المأموم الذي يستمع إلى قراءة ما بعد الفاتحة قارئاً لها، لكن وَرَدَ في قراءة الفاتحة نصٌّ.

وأما قولهم: إنَّه لا فائدة مِن جَهْرِ الإِمام إذا ألزمنا المأموم بالقراءة، فنقول: هذا قياس في مقابلة النصِّ، والقياس في مقابلة النصِّ مُطَّرَح.

مسألة: ثم إذا قلنا بوجوب قراءة الفاتحة، فهل تجب في كُلِّ رَكعة، أو يكفي أن يقرأها في ركعة واحدة؟

في هذا خِلاف بين العلماء[(589)]، فمنهم مَن قال: إذا قرأها في رَكعة واحدة أجزأ؛ لعموم قوله: «لا صلاةَ لمَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»[(590)]، ولم يقل في كُلِّ رَكعة، والإِنسان إذا قرأها في ركعة فقد قرأها، فتجزئ.

ولكن الصحيح أنها في كُلِّ رَكعة.

ودليل ذلك ما يلي:

1 ـ أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال للمسيء في صلاته: «ثم افعلْ ذلك في صلاتِك كلِّها»[(591)].

2 ـ أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم واظبَ على قراءتها في كُلِّ ركعة، وقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»[(592)].

وعلى هذا؛ فيكون القول الرَّاجح في هذه المسألة: أنَّ قراءة الفاتحة رُكنٌ في كُلِّ ركعة، وعلى كُلِّ مُصَلٍّ، ولا يُستثنى منها إلا ما ذكرنا فيما دَلَّ عليه حديث أبي بَكْرة رضي الله عنه[(593)].

 

وَالرُّكُوعُ، والاعْتِدَالُ عَنْهُ، ..............

قوله: «والركوع» هذا هو الرُّكن الرابع، والرُّكوع أن يَحْنِي ظهرَه وسبق تفصيله في صفة الصَّلاة، ودليل كونه رُكناً:

1 ـ قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}} [الحج: 77] فأمر الله بالرُّكوع. ومِن المعلوم أنه لا يُشرع لنا أن نركع ركوعاً مجرَّداً، وإذا لم يُشرع لنا الرُّكوع المجرَّد وجب حَمْلُ الآية على الرُّكوع الذي في الصلاة.

2 ـ قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم للمسيء في صلاته: «ثم اركعْ حتى تطمئنَّ راكعاً»[(594)].

3 ـ مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه في كُلِّ صلاة، وقوله: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»[(595)].

4 ـ إجماع العلماء على أنَّ الرُّكوع رُكنٌ لا بُدَّ منه[(596)].

قوله: «والاعتدال عنه» هذا هو الرُّكن الخامس. لو قال المؤلِّفُ: «الرفع منه» لكان أنسب؛ لأنه أسبق مِن الاعتدال، ولموافقة الحديث: «ثم ارفعْ حتى تعتدلَ قائماً»[(597)]، لكنه ـ رحمه الله ـ عَدَلَ عن ذلك خوفاً مِن أن يُظَنَّ بأن المراد بذلك مجرَّد الرَّفْعِ، ولأن الاعتدال يلزم من الرفع، ولأن لفظ «الصحيحين»: «ثم ارفعْ حتى تعتدلَ قائماً» (597) .

ودليل ذلك: حديث أبي هريرة في قِصَّة المسيء في صلاته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثم ارفعْ حتى تعتدلَ قائماً»[(598)] فأمر بالرَّفْعِ إلى الاعتدال، وهو القيام التام.

ويُستثنى من هذا: الرُّكوع الثاني وما بعده في صلاة الكسوف، فإنه سُنَّة، ولهذا لو صَلَّى صلاةَ الكسوف كالصَّلاة المعتادة فصلاتُه صحيحة.

وصلاةُ الكسوف في كلِّ رَكعة ركوعان، الرُّكوع الأول رُكن، والرُّكوع الثاني سُنَّة، لو تَرَكَه الإِنسانُ فصلاتُه صحيحة.

ويُستثنى أيضاً: العاجز، فلو كان في الإِنسان مَرَضٌ في صُلبه لا يستطيع النُّهوض لم يلزمه النهوض، ولو كان الإِنسان أحدب مقوَّس الظَّهر لا يستطيع الاعتدال لم يلزمه ذلك، ولكن ينوي أنه رَفْعٌ ويقول: سَمِعَ الله لمن حمده.

 

وَالسُّجُودُ عَلَى الأَْعْضَاءِ السَّبْعَةِ، وَالاعْتِدَالُ عَنْهُ، ..........

قوله: «والسجود على الأعضاء السبعة» هذا هو الركن السادس من أركان الصَّلاة ودليله.

1 ـ قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}} [الحج: 77] .

2 ـ قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم للمسيء في صلاته: «ثم اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجداً»[(599)].

3 ـ مواظبة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم عليه.

ولكن لا يكفي مجرَّد السُّجود، بل لا بُدَّ أن يكون على الأعضاء السَّبعة، وهي: الجبهة مع الأنف، والكَفَّان، والرُّكبتان، وأطراف القدمين.

ودليل هذا حديث عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أُمرنا أنْ نسجدَ على سبعة أعضاء، الجَبْهة وأشار بيده إلى أنفه، والكفَّين، والرُّكبتين، وأطراف القدمين»[(600)].

قوله: «والاعتدال عنه» . هذا هو الرُّكنُ السَّابعُ مِن أركان الصَّلاةِ. قال في «الرَّوض»[(601)]: إنَّ قول الماتن «الاعتدال عنه» يُغني عنه قوله: «والجلوس بين السَّجدتين»، يعني: لأنه لا يتصور جلوس بين السَّجدتين إلا باعتدال مِن السُّجود، لكن قد يقول قائل: إنَّ الاعتدالَ رُكنٌ بنفسِه، والجلوس رُكنٌ بنفسه، لأنه قد يعتدلُ لسماعِ صوت مزعج، أي: يقوم بغير نِيَّةٍ ثم يجلس، فهنا حصل اعتدالٌ بدون نِيَّةٍ ثم بعدَه جلوس، وعلى هذا؛ يلزمه أن يرجعَ للسُّجود ثم يقوم بنيَّةٍ، ومثله: ما لو سَقَطَ الإِنسانُ على الأرض مِن القيام بدون نِيَّةٍ فلا نجعله سُجوداً؛ لأن هذه الحركة بين القيام والسُّجود لم تكن بنيَّةٍ، وعليه: يلزمه أن يقومَ ثم يسجدَ.

فالظاهر: أنَّ الأَولى إبقاء كلام الماتن على ما هو عليه، فيكون الاعتدال والجلوس كلاهما رُكنٌ، حتى ينوي الإِنسان بالاعتدال بأنه قام مِن السُّجود مِن أجل الجلوس.

 

وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الكُلِّ، ............

قوله: «والجلوس بين السجدتين» هذا هو الرُّكنُ الثامنُ مِن أركان الصَّلاة، ودليله قولُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم للمسيء في صلاتِه: «ثم ارفعْ ـ يعني: من السجود ـ حتى تطمئنَّ جالساً»[(602)] فهذا دليلٌ على أنه لا بُدَّ منه.

وقوله: «الجلوس» لم يُبيِّن كيفيَّته، فيجزئ على أيِّ كيفيّة كان، ما لم يخرج عن مُسمَّى الجلوس، وقد سَبَقَ لنا كيفيَّته المشروعة والمكروهة في باب صفة الصلاة؛ فأغنى عن إعادته.

قوله: «والطمأنينة في الكُلِّ» هذا هو الرُّكن التَّاسع مِن أركان الصَّلاة وهو الطمأنينة في كلِّ ما سَبَقَ مِن الأركان الفعلية.

ودليله: أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمَّا عَلَّمَ المسيءَ صلاته كان يقول له في كُلِّ رُكن: «حتى تطمئنَّ»[(603)] فلا بُدَّ من استقرارٍ وطمأنينة، ولكن ما حَدُّ الاطمئنان الذي هو رُكن؟

قال بعض أهل العلم[(604)]: السكون وإن قَلَّ، حتى وإن لم يتمكَّن من الذِّكْرِ الواجب.

وقال بعض أهل العلم (604) : السُّكون بقَدْرِ الذِّكْرِ الواجب.

فعلى هذا القول يطمئنُّ في الرُّكوع بِقَدْرِ ما يقول: «سبحان ربِّي العظيم» مرَّة واحدة، وفي الاعتدال منه بقَدْرِ ما يقول: «ربَّنا ولك الحمدُ»، وفي السُّجود بقَدْرِ ما يقول: «سبحان رَبِّي الأعلى»، وفي الجلوس بقَدْرِ ما يقول: «رَبِّي اغفِر لي» وهكذا.

فإذا قال إنسان: هل يظهر فَرْقٌ بين القولين، بين قولنا: السُّكون وإنْ قَلَّ، وبين قولنا: السُّكون بقَدْرِ الذِّكْرِ الواجب؟

فالجواب: نعم؛ لأنه لو سَكَنَ سكوناً قليلاً دون قَدْرِ الذِّكْرِ الواجب، ونسيَ أن يقول الذِّكْر الواجب ثم استمرَّ في صلاته، فعلى القول بأن الطمأنينة هي السُّكون وإنْ قَلَّ، تكون صلاتُه صحيحة، لكن يجب عليه سجود السَّهو لترك الواجب، وعلى القول بأنه لا بُدَّ أن يكون بقدر الذِّكْرِ الواجب تكون غير صحيحة؛ لأنه لم يأتِ بالرُّكنِ حيث لم يستقرَّ بقَدْرِ الذِّكْرِ الواجب.

ولهذا فَصَّلَ بعضُ الفقهاء فقال: بقَدْرِ الذِّكْرِ الواجب لذاكره، والسكون وإنْ قَلَّ لمن نسيه.

وعَلَّلوا: أنه إذا كان ناسياً القول الواجب سَقَطَ عنه، ووجب عليه سجود السَّهو، وإنْ كان ذاكراً لهذا القول بطلت صلاتُه بتعمُّد تَرْكِهِ، فيكون بطلان الصَّلاة مِن أجل تَرْكِ الواجب، ولكونه لم يطمئنَّ الطمأنينة الواجبة.

فإذا جاءنا رَجُلان يسألان، أحدهما يقول: أنا اطمأننت بقَدْرِ قولي: «سبحان رَبِّي العظيم» في الركوع، فصلاتُه صحيحة على القولين.

والثاني يقول: اطمأننت في الرُّكوع بقَدْرِ أن أقول: «سبحان رَبِّي» فقط ثم رفعتُ، على القول بأنها السُّكون وإنْ قَلَّ يكون قد أدَّى الركن، فصلاتُه صحيحة، وعلى القول الثاني لم يُؤدِّ الرُّكن، فصلاتُه غير صحيحة.

والأصحُّ: أنَّ الطُّمأنينة بقَدْرِ القول الواجب في الرُّكن، وهي مأخوذة من اطمأنَّ إذا تمهَّل واستقرَّ، فكيف يُقال لشخص لمَّا رَفَعَ من الرُّكوعِ قال: سَمِعَ الله لمن حَمِدَه، ثم كَبَّرَ للسُّجود، كيف يقال: هذا مطمئنٌ؟ كيف يُقال لشخص لمَّا رَفَعَ مِن السُّجود قال: الله أكبر، ثم سَجَدَ السَّجدة الثانية، يعني: سَكَنَ لحظة، هذا مطمئنٌ؟

والحكمة مِن الطمأنينة: أنَّ الصلاةَ عبادة، يناجي الإِنسانُ فيها رَبَّه، فإذا لم يطمئنَّ فيها صارت كأنها لَعِبٌ.

فهل نحن متعبَّدون بأن نأتي بحركات مجرَّدة؟ لا والله، ولو كانت الصلاة مجرَّد حركات وأقوال لخرجنا منها بمجرد إبراء الذِّمَّة فقط، أما أن تعطي القلبَ حياةً ونوراً؛ فهذا لا يمكن أن يحصُلَ بصلاة ليس فيها طُمأنينة، والنبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام قال: «الصَّلاةُ نورٌ»[(605)] نورٌ في القلب، والوجه، والقبر، فهي على اسمها، هي كلُّها نور، فهل نحن إذا انصرفنا مِن صلاتنا على هذا الوجه نَجِدُ نوراً في قلوبنا؟

إذا لم نَجِدْ؛ فالصَّلاةُ فيها نقصٌ بلا شَكٍّ.

ولهذا يُذكَرُ عن بعض السَّلفِ قال: «مَنْ لم تَنْهَه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر لم تزده مِن الله إلا بُعداً»، لأنه لو صَلَّى الصَّلاةَ الكاملة للزم أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر، لأن الله يقول: {{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}} [العنكبوت: 45] فهذا خَبَرٌ مِن الله مؤكَّد بـ«إِنَّ».

فإذا صَلَّيت صلاةً لا تَجِدُ قلبَك منتهياً عن الفحشاء والمنكر، فاعْلَمْ أنك لم تُصلِّ إلا صلاة تبرأ بها الذِّمَّة فقط، وكم تشاهدون الإِنسان يدخل في صلاته ويخرج منها كما هو لا يَجِدُ أثراً؟ وإذا مَنَّ اللهُ عليه يوماً من الأيام، وصار قلبُه حاضراً واطمأنَّ وتمهَّل وتدبَّر ما يقول ويفعل؛ خَرَجَ على خلاف ما دَخَلَ، ووَجَدَ أثراً وطعماً يتطعَّمه، ولو بعد حين، يتذكَّر تلك الصَّلاة التي كان فيها حاضر القلب مطمئناً.

الحاصل: أنَّ الطُّمأنينة لا بُدَّ منها، فهي والخشوع روح الصَّلاةِ في الحقيقة.

 

وَالتَّشَهُّدُ الأخِيرُ،............

قوله: «والتشهد الأخير» هذا هو الرُّكنُ العاشر من أركان الصلاة.

ودليل ذلك: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كُنَّا نقول قبل أن يُفْرَضَ علينا التشهُّدُ: السَّلامُ على الله مِن عباده، السَّلامُ على جبرائيل وميكائيل، السَّلامُ على فلان وفلان»[(606)]. والشاهدُ مِن هذا الحديث قوله: «قبل أن يُفْرَضَ علينا التشهُّدُ».

فإن قال قائل: يَرِدُ علينا التشهُّد الأول: فإنه مِن التشهُّد، ومع ذلك تَرَكَه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وجَبَرَه بسجود السهو، وهذا حكم الواجبات، أفلا يكون التشهُّدُ الأخير مثله؟

فالجواب: لا، لأنَّ الأصلَ أن التشهُّدين كلاهما فَرْضٌ، وخَرَجَ التشهُّدُ الأول بالسُّنَّة، حيث إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جَبَرَه لمَّا تَرَكَه بسجود السَّهو، فيبقى التشهُّد الأَخير على فرضيته رُكناً.

 

وَجِلْسَتُهُ، وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِيْهِ، وَالتَّرْتِيبُ، وَالتَّسْلِيمُ .

قوله: «وجِلسته» هذا هو الرُّكن الحادي عشر مِن أركان الصَّلاةِ أي: أن جلسة التشهُّدِ الأخير رُكن، فلو فُرِضَ أنه قام من السُّجود قائماً وقرأ التشهُّد فإنَّه لا يجزئه، لأنه تَرَكَ رُكناً وهو الجِلسة، فلا بُدَّ أن يجلس، وأن يكون التشهُّد أيضاً في الجِلسة لقوله: «وجِلسته» فأضاف الجِلسة إلى التشهُّدِ؛ ليفهم منه أنَّ التشهُّدَ: لا بُدَّ أن يكون في نفس الجِلسة.

قوله: «والصلاة على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فيه» أي: في التشهُّدِ الأخير، وهذا هو الرُّكن الثاني عشر مِن أركان الصلاة.

ودليل ذلك: أنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم سألوا النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا رسولَ الله؛ عُلِّمْنَا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ»[(607)]، والأمر يقتضي الوجوب، والأصلُ في الوجوب أنَّه فَرْضٌ إذا تُرِكَ بطلت العبادة، هكذا قرَّرَ الفقهاءُ رحمهم الله دليل هذه المسألة[(608)].

ولكن إذا تأملت هذا الحديث لم يتبيَّن لك منه أنَّ الصَّلاة على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم رُكنٌ، لأنَّ الصحابة إنَّما طلبوا معرفة الكيفية؛ كيف نُصلِّي؟ فأرشدهم النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إليها، ولهذا نقول: إن الأمر في قوله: «قولوا» ليس للوجوب، ولكن للإِرشاد والتعليم، فإنْ وُجِدَ دليل غير هذا يأمر بالصلاة على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في الصَّلاة فعليه الاعتماد، وإنْ لم يوجد إلا هذا فإنه لا يدلُّ على الوجوب، فضلاً عن أن يَدلَّ على أنها رُكن؛ ولهذا اختلفَ العلماء في هذه المسألة على أقوال[(609)]:

القول الأول: أنها رُكنٌ، وهو المشهور مِن المذهب، فلا تصحُّ الصلاة بدونها.

القول الثاني: أنها واجب، وليست برُكن، فتُجبر بسجود السَّهو عند النسيان.

قالوا: لأن قوله: «قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمَّدِ» محتمل للإِيجاب وللإِرشاد، ولا يمكن أن نجعله رُكناً لا تصحُّ الصلاة إلا به مع هذا الاحتمال.

القول الثالث: أنَّ الصَّلاةَ على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم سُنَّة، وليست بواجب ولا رُكن، وهو رواية عن الإمام أحمد، وأن الإِنسان لو تعمَّد تَرْكها فصلاتُه صحيحة، لأن الأدلَّة التي استدلَّ بها الموجبون، أو الذين جعلوها رُكناً ليست ظاهرة على ما ذهبوا إليه، والأصل براءة الذِّمة.

وهذا القول أرجح الأقوال إذا لم يكن سوى هذا الدليل الذي استدلَّ به الفقهاء رحمهم الله، فإنه لا يمكن أن نبطلَ العبادة ونفسدها بدليل يحتمل أن يكون المراد به الإِيجاب، أو الإِرشاد.

قوله: «والصلاة على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فيه» ، أي: أنَّ الصَّلاةَ على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم هي الرُّكن دون الصَّلاةِ على آله. وهذا مِن الغرائب! لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمَّد وعلى آل محمد...»[(610)] فكيف نُشَطِّرُ الحديث، ونجعل كلمة منه رُكناً، والبقية غير رُكن! فمقتضى الاستدلال أن نجعل الجميع إما رُكناً، أو واجباً، أو سُنَّة.

فإنْ قالوا: جعلنا الصَّلاةَ على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم رُكناً دون الآل، لأن العطف فيها يدلُّ على التبعيَّة.

قلنا: وإذا دَلَّ على التبعيَّة فالتابع حكمه حكم المتبوع.

فإنْ قالوا: إنَّ الصَّحابة سألوا عن الصَّلاة عليه دون آله؛ فكان الحُكمُ للصَّلاةِ عليه دون آله.

قلنا: لكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أجابهم بكيفيَّة ما سألوا عنه على هذا الوجه، فاقتضى أن يكون حُكم الجميع سواء.

قوله: «والترتيب» هذا هو الرُّكن الثالث عشر مِن أركان الصَّلاة، يعني: الترتيب بين أركان الصَّلاة: قيام، ثم رُكوع، ثم رَفْع منه، ثم سُجود، ثم قعود، ثم سُجود.

ودليل ذلك:

1 ـ أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَّمَ المسيءَ في صلاته الصَّلاةَ بقوله: «ثم... ثم... ثم...»[(611)].

«ثم» تدلُّ على الترتيب.

2 ـ أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم واظبَ على هذا الترتيب إلى أن تُوفِّيَ صلّى الله عليه وسلّم ولم يُخِلَّ به يوماً مِن الأيام وقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»[(612)].

3 ـ أنَّ هذا هو ظاهر قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}} [الحج: 77] فبدأ بالرُّكوع، وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم حين أقبل على الصَّفا: «أبدأُ بما بدأ الله به»[(613)]، فتكون الآية دالَّة على أنَّ الرُّكوعَ مقدَّمٌ على السُّجودِ، وإنما عَبَّرَنا بـ«ظاهر»؛ لأن «الواو» لا تستلزم الترتيب، أي: ليس كل ما جاء معطوفاً بالواو فهو للترتيب، إذ قد يكون لغير الترتيب.

قوله: «والتسليم» هذا هو الرُّكنُ الرابع عشر مِن أركان الصَّلاة، أي: أن يقول: «السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله»، والمؤلِّف أطلقَ التَّسليمَ، فهل نقول إنَّ «ال» للجنس فيصدق بالتسليمة الواحدة، وبالاقتصار على «السلام» أو نقولُ: إن «ال» للعهد، والمراد بالتسليم ما سَبَقَ في صفة الصَّلاة، أي: أن يقول عن يمينه: «السَّلام عليكم ورحمة الله»، وعن يساره: «السلام عليكم ورحمة الله»؟ كلامُه محتمل.

ولهذا اختلفَ الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في التسليم.

والمشهور من المذهب: أنَّ كلتا التسليمتين رُكنٌ في الفَرْضِ وفي النَّفْلِ[(614)].

وقيل: إنَّ الثانية سُنَّة في النَّفْل دون الفَرْض.

وقيل: سُنَّة في الفَرْضِ وفي النَّفْلِ.

وقيل: إنَّ التَّسليمَ ليس مقصوداً بذاته، وأنه إذا فَعَلَ ما ينافي الصَّلاة فقد انتهت الصَّلاة[(615)].

وهذه العبارة التي عَبَّرَ بها المؤلِّف هي التي عَبَّرتْ بها عائشةُ رضي الله عنها بقولها: «وكان يختِمُ الصَّلاةَ بالتَّسليم»[(616)] فنقول في الحديث كما قلنا في كلام المؤلِّف: هل المراد بالتَّسليمِ التَّسليمُ المعهودُ، فيتضمن التسليمتين، أو مطلق التَّسليم، يعني: الجنس، فيجزي بواحدة؟

والأقرب: أنَّ التَّسليمتين كلتاهما رُكنٌ؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم واظبَ عليهما وقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»[(617)] ولأنَّ مِن عادة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم العدل، فإذا سَلَّمَ على اليمين سَلَّمَ على اليسار، وإذا سَلَّمَ على اليمين فقط مع إمكان التَّسليم على اليسار: لم يتحقَّق ذلك. ولذلك كان يُسلِّمُ عن يمينه ويساره، حتى يكون لليمين حظٌّ من التَّسليم، ولليسار حَظٌّ من التَّسليم.

لكن الفقهاء استثنوا صلاةَ الجِنازة، فقالوا: ليس فيها إلا تسليمة واحدة فقط، ولم يقولوا: إن الثانية سُنَّة.

واستدلُّوا على ذلك: بأن الذين وصفوا صلاةَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم على الجنائز لم يذكروا التَّسليمتين[(618)]، وبأنَّ صلاةَ الجنازة ليس فيها رُكوع، ولا سُجود، ولا قُعود، ولا انتقال، بل هي مبنيَّة على التَّخفيف، ولهذا ليس فيها دُعاء استفتاح فَخُفِّفَت بتسليمة واحدة.

وقوله: «التسليم» هل يكتفي بقوله: «السَّلامُ عليكم» أو لا بُدَّ من التَّسليم الكامل.

الجواب: المشهور مِن[(619)] المذهب، أنه لا يكتفي بقوله: «السَّلامُ عليكم» يعني: لو اقتصرَ عليها لم يجزئ، وقيل: يجزئ؛ لأن ما زَادَ على ذلك ليس إلا فَضْلَة؛ إذ إن التَّسليم يصدق بقول المسلِّم: «السَّلامُ عليكم»[(620)].

 

وَوَاجِبَاتُهَا:..........

قوله: «واجباتها» ، أي: واجبات الصلاة، وهل يعني أن الأركان غير واجبة؟

الجواب: لا يعني أن الأركان غير واجبة، بل الأركان واجبة وأوكد من الواجبات، لكن تختلف عنها في أن الأركان لا تسقط بالسَّهْوِ، والواجبات تسقط بالسَّهْوِ، ويجبرها سُجودُ السَّهْوِ، بخلاف الأركان؛ ولهذا من نسيَ رُكناً لم تصحَّ صلاته إلا به، ومن نسيَ واجباً أجزأَ عنه سُجودُ السَّهْوِ، فإنْ تَرَكَه جهلاً فلا شيء عليه، فلو قام عن التشهُّدِ الأول لا يدري أنه واجب فصلاتُه صحيحة، وليس عليه سُجود السَّهْوِ؛ وذلك لأنه لم يكن تَرْكه إيَّاه عن نسيان.

وقيل: عليه سُجود السَّهْوِ بترك الواجب جهلاً؛ قياساً على النسيان؛ لعدم المؤاخذة في كُلٍّ منهما.

 

التَّكْبِيرُ غَيْرِ التَّحْرِيمَةِ، وَالتَّسْمِيعُ، وَالتَّحْمِيدُ، ..........

قوله: «التكبير غير التحريمة» أي: قول «اللهُ أكبر» إلا التحريمة، هذا هو الواجب الأول؛ لأن التحريمة سَبَقَ أنَّها رُكنٌ فيدخل بذلك التكبير للركوع وللسجود وللرَّفْعِ منهما، وللقيام مِن التشهُّدِ الأول، فكلُّ التكبيرات واجبة وتسقط بالسَّهْوِ، ويُستثنى ما يلي:

1 ـ التكبيرات الزوائد في صلاة العيد، والاستسقاء فإنها سُنَّة.

2 ـ تكبيرات الجِنازة فإنَّها أركان.

3 ـ تكبيرة الركوع لمن أدرك الإِمام راكعاً فإنَّها سُنَّة.

والدليل على أن التكبيرات مِن الواجبات:

أولاً: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كَبَّرَ الإِمامُ فكبِّروا، وإذا قال: سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه فقولوا: ربَّنا ولك الحمدُ»[(621)]، وهذا يدلُّ على أنه لا بُدَّ مِن وجود هذا الذِّكْرِ، إذ الأمر للوجوب.

ثانياً: مواظبة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم عليه إلى أن مات، ما تَرَكَ التكبيرَ يوماً من الدَّهر وقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»[(622)].

ثالثاً: أنه شِعار الانتقال من رُكن إلى آخر، لأن الانتقال لا شَكَّ أنه انتقال مِن هيئة إلى هيئة، فلا بُدَّ مِن شعار يدلُّ عليه.

قوله: «والتسميع، والتحميد» ، أي: قول الإِمام والمنفرد: «سَمِعَ اللهُ لمن حَمِدَه»، والتحميد: للإِمام، والمأموم، والمنفرد، وهذان هما الواجب: الثاني والثالث.

والدليل على ذلك:

أولاً: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم واظبَ على ذلك، فلم يدعْ قول: «سَمِعَ اللهُ لمن حَمِدَه» بأيِّ حالٍ من الأحوال.

ثانياً: أنه شعار الانتقال من الرُّكوع إلى القيام.

ثالثاً: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قال سَمِعَ اللهُ لمن حَمِدَه فقولوا: ربَّنَا ولك الحمد» فعلى هذا يكون للتحميد ثلاثة أدلَّة، وللتسميع دليلان فقط.

ولم يُبيِّن المؤلِّف محلَّ التكبير والتسميع والتحميد، لكن الفقهاء نصُّوا على أن محلَّ ذلك: ما بين الرُّكنين في الانتقال[(623)]، فما كان للرُّكوع فما بين القيام والركوع، وما كان للسُّجود فما بين القيام والسجود وهكذا بقية الانتقالات. وقالوا رحمهم الله: لو بدأ به قَبْلَه أو كمَّله بعدَه لم يجزئ[(624)]؛ لأنه أتى بذكر في غير موضعه، لأن الموضع ما بين الرُّكنين، فإن بدأ به قبلُ؛ فقد أتى بأوله في غير موضعه، وإن كمَّله بعدُ؛ فقد أتى بآخره في غير موضعه، ولكن هل يُشترط استيعابُ ما بين الرُّكنين؟

الجواب: لا يشترط، والمشترط أن يكون هذا الذِّكْر بين الرُّكنين، وبينهما فَرْقٌ؛ لأننا لو قلنا: يُشترطُ الاستيعاب؛ لقلنا مِن حين ما تَشرع في الهوي إلى السُّجود ابدأْ بالتكبير، ولا ينتهي إلا إذا وضعت جبهتك على الأرض، فلو أنهيته قبل ذلك لم يصحَّ، لكننا لا نقول: بأنه يشترط، بل نقول: إنه لا بُدَّ أن يكون بين الرُّكنين، فلو بدأَ به قبلُ أو كَمَّله بعدُ لم يجزئ.

القول الثاني[(625)] في هذه المسألة: أنه يُعفى عن السَّبْق أو التأخّر بشرط أن يكون لموضع الانتقال حظٌّ من هذا الذِّكْر، أي: لو بدأ بالتكبير قبل الهوي وكمَّله في حال الهوي أجزأ، ولو بدأ به في أثناء الهوي وأكمله بعد الوصول إلى السُّجود أجزأ، وهذا القول أصحُّ، وهو الذي لا يَسَعُ الناس العمل إلا به، لأن القول الأول فيه مشقَّة، وقد قال الله تعالى: {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 77] وقال: {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185] ولو أننا أخذنا بالقول الأول لوجدنا أن كثيراً من الناس اليوم لا تصحُّ صلاتُهم.

وبعضُ الأئمة يَجتهدُ اجتهاداً خاطئاً، ولا يبدأ بالتكبير إلا إذا وَصَلَ للرُّكن الذي يليه، ويقول: لو شرعت بالتكبير قبل أن أَصِلَ للرُّكوع مثلاً لسابقني الناسُ؛ فأسدُّ الباب عليهم حتى لا يسبقوني، لكن هذا اجتهادٌ خاطئ، لأنه مخالفٌ للسُّنَّة، فلم يكن الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم يفعل هذا، وهو أدرى منك بمصالح الخَلْقِ صلّى الله عليه وسلّم، وأحرصُ منك عليها، فعليك أيُّها الإِمام أن تفعل ما تُؤمرُ به، وعلى المأمومين أن يفعلوا ما يؤمرون به.

 

وَتَسْبِيحَتَا الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، .........

قوله: «وتسبيحتا الركوع والسجود» هذان هما الواجبان الرابع والخامس.

«تسبيحتا الركوع»: كيف ننطِقُ بها؟

الجواب: ننطِقُ بها بحذف الألف فتبقى التاء مفتوحة، فلو قال لك السامعُ: عطفتَ منصوباً على مرفوع. فقل: أنا لم أعطف منصوباً على مرفوع، وإنَّما عَطفتُ مرفوعاً على مرفوع، لأنَّ المُثنَّى يُرفع بالألف «تسبيحتا» اثنتان.

فإذا قال: أين الألف؟ فقل: الألف سقطت، لأنَّها حرفُ لين ساكن، جاء بعدَه حرفٌ ساكن، وهو همزة الوصل مِن كلمة «الركوع»، فالتقى ساكنان، فحُذِفَ حرفُ اللين، قال ابنُ مالك في الكافية:

إنْ ساكنان التقيا اكسرْ ما سَبَق

وإنْ يكن ليناً فحذفُه استحق

والألف لين فيُحذف نُطْقاً، فيقال: تسبيحة الركوع، ولا يحذف خطًّا، بل تكتب «تسبيحتا» وإنما أتيت بهذا لأنتقل إلى مسألة يخطئ فيها بعض القراء، وهي قوله تعالى: {{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ}} [النحل: 15] فينطق بالألف مع الوصل، وهذا خطأ فنقول: «وقالَ الحمد لله».

فإذا قال قائل: إذا قلتم: «وقالَ الحمد لله»، أوهم السَّامع أن يكون القائل واحداً وهو سليمان؛ لأنه أقرب مذكور؟

فنقول: إذا توهَّم هذا إنسان فالخطأ ليس مِن القارئ، بل الخطأ مِن وهم السامع، والقارئ ليس مسؤولاً عنه، بل عليه أن يقرأ حسب ما تقتضيه اللغة العربية؛ لأن القرآن نَزَلَ بها.

وقوله: «وتسبيحتا الركوع والسجود» .

لم يبيِّن المؤلِّف ـ رحمه الله ـ هاتين التَّسبيحتين، لكنه بيّنهما فيما سَبَقَ[(626)]، حيث ذَكَرَ أنه يقول في الرُّكوع: «سبحان رَبِّي العظيم»، وفي السُّجود: «سبحان رَبِّي الأعلى». إذاً؛ فقول المصلِّي في ركوعه: «سبحان رَبِّي العظيم» واجب، وفي سجوده: «سبحان رَبِّي الأعلى» واجب.

والدليل على هذا: أنه: لما نَزَلَ قول الله تعالى: {{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ *}} [الواقعة] قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «اجعلوها في ركوعكم»[(627)] وهذا بيانٌ مِن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لموضع هذا التسبيح، ومِن المعلوم أن بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم للقرآن يجب علينا أن نَرْجِعَ إليه؛ لأن أعلم الخَلْقِ بكلام الله هو رسول الله، ولهذا كان تفسير القرآن بالسُّنَّة هو المرتبة الثانية، فالقرآن نُفسِّرُه أولاً بالقرآن مثل: {{الْقَارِعَةُ *مَا الْقَارِعَةُ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ *يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ *}} ويُفسَّر بعد ذلك بسُنَّة رسول الله؛ لأنها تبيِّنه مثل هذه الآية: {{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ *}} [الواقعة] حيث قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «اجعلوها في ركوعكم».

وهذا بيان لموضع هذا التَّسبيح وقد يُبيِّنُ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم المعنى، مثل قوله تعالى: {{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}} [يونس: 26] فالحُسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وَجْهِ الله عزّ وجل، هكذا فسَّرها النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم[(628)].

وأما تسبيحة السُّجود فهي أيضاً مفسَّرة بقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «اجعلوها في سجودكم»[(629)] حين نَزَلَ قوله تعالى: {{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}} [الأعلى] .

 

وَسُؤَالُ المَغْفِرَةِ مَرَّةً مَرَّةً، .........

قوله: «وسؤال المغفرة مرَّة مرَّة» هذا هو الواجب السادس من واجبات الصلاة، أي: سؤال المُصلِّي المغفرة مرَّة مرَّة، ولم يُبيِّنُ المؤلِّف ـ رحمه الله ـ متى يكون هذا السُّؤال، ولكن سَبَقَ في صفة الصلاة بأن قول: «ربِّ اغفِرْ لي» يكون بين السَّجدتين[(630)].

والمغفرة: هي سَتْرُ الذَّنْبِ والتجاوز عنه، مأخوذة من المِغْفَر الذي يُوضع على الرأس عند القتال لتوقِّي السِّهام، وفي هذا المِغفر سَتْر ووقاية، فالمغفرة ليست مجرَّد سَتْر الذُّنوب، ولا هي العفو عنها فقط، بل هي: السَّتر مع العفو، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى إذا خلا بعبده يوم القيامة وقرَّره بذنوبه: «قد سترتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لك اليوم»[(631)].

ولم يبيِّن بأيِّ صيغة يكون سؤال المغفرة، هل يقول: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي، أو يقول: أستغفر الله، أو يقول: ربِّ اغفِرْ لي.

لكن بيَّن المؤلِّف ـ رحمه الله ـ في صفة الصلاة أنه يقول: «ربِّ اغفِرْ لي»[(632)]. وعليه؛ فيُحمل كلامُه هنا على كلامه هناك، ويكون سؤال المغفرة بلفظ: «ربِّ اغفِرْ لي» فلو قال: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي، فإنه لا يجزئه، وهذا بناءً على أننا أحلنا هذا الكلام على ما سَبَقَ، لكن يمكن أن يُقال: إنه لا يلزم أن نُحيل هذا الكلام على ما سَبَقَ، فيكون المراد بذلك سؤال المغفرة بأي صفة، فلو قال: «اللَّهُمَّ اغفِرْ لي» لأجزأ، وهذا هو الصحيح. والمذهب[(633)]: أنه لا بُدَّ أن يقول: «ربِّ اغفِرْ لي» فلو قال: «اللَّهُمَّ اغفِرْ لي» ما أجزأ.

وقوله: «مرَّة مرَّة» أي: مرَّة في كُلِّ جِلسة، مرَّة في الجِلسة الأولى، ومرَّة في الجِلسة الثانية، وهكذا.

 

وَيُسَنُّ ثَلاَثاً، وَالتَّشَهُدُ الأَوَّلُ، وَجَلْسَتُهُ..........

قوله: «ويُسَنُّ ثلاثاً» أي: يُسَنُّ أن يُكَرِّرَ سؤال المغفرة ثلاث مرات.

والدليل على أنه يُسَنُّ ثلاثاً: حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: حين ذَكَرَ أنه صَلَّى مع النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فلما جَلَسَ بين السَّجدتين جَعَلَ يقول: «ربِّ اغفِرْ لي، ربِّ اغفِرْ لي»[(634)] وكان دُعاء النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم غالباً التكرار ثلاثاً.

قوله: «والتشهد الأول، وجلسته» هذان هما الواجب السابع والثامن من واجبات الصلاة.

فالتشهُّد الأول هو: «التحياتُ لله، والصَّلواتُ، والطيباتُ، السَّلامُ عليك أيُّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، السَّلامُ علينا وعلى عِبادِ الله الصالحين، أشهدُ أنْ لا إله إلا الله؛ وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه».

والدليل على وجوبه: حديث عبد الله بن مسعود: «كنا نقول قبل أن يُفرَضَ علينا التشهُّدُ»[(635)].

فإن قال قائل: لقد استدللتم بهذا الحديث على رُكنيَّة التشهُّدِ الأخير، فما بالكم هنا تستدلُّون به على أنَّ التشهُّد الأول واجب لا رُكن؟

فالجواب عنه: أن نقول: إنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما نسيَ التشهُّدَ الأول لم يَعُدْ إليه وجَبَرَه بسجود السَّهو[(636)]، ولو كان رُكناً لم ينجبر بسجودِ السَّهوِ.

والدليل على أن الأركان لا تنجبر بسجود السَّهو: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لما سَلَّم مِن ركعتين مِن صلاة الظُّهر أو العصر أتمَّها وأتى بما تَرَكَ وسَجَدَ للسَّهو[(637)]، فدلَّ هذا على أنَّ الأركان لا تسقط بالسَّهو، ولا بُدَّ مِن الإِتيان بها، وعلى هذا فنقول: لمَّا سَقَطَ التشهُّدُ الأول بالسَّهو دَلَّ ذلك على أنَّه واجبٌ تصحُّ الصَّلاةُ بدونه مع السَّهو، ولا تصحُّ بدونه مع العمد.

وقوله: «وجلسته» بفتح الجيم، ولا يصحُّ أن نقول «وجِلسته» بكسر الجيم ـ لأنَّك لو قلت: «وجِلسته» بكسر الجيم، لزم أن تكون هيئة الجلوس واجبة وهي الافتراش، والافتراش ليس واجباً، بل هو سُنَّة، والواجب هو الجلوس على أيِّ صفة.

قال ابن مالك رحمه الله في الألفية:

وفَعْلَة لمرَّة كجَلسة

وفِعْلة لهيئة كجِلسة

إذا أُريد الصفة والكيفية قيل: فِعْلَة بكسر الفاء، وإذا أُريد المرَّة قيل: فَعْلَة، بفتحها.

والمراد هنا: الجلوس وليس الهيئة، فلو جَلَسَ للتشهُّدِ الأول متربِّعاً أجزأ.

وقوله: «جَلسته» هل يمكن التشهُّد بدون جلوس؟

الجواب: يمكن أن يتشهَّد وهو قائم، أو يتشهَّد وهو ساجد، فلا بُدَّ أن يكون التشهُّدُ كُلُّه في حال الجلوس.

 

وَمَا عَدَا الشَّرَائِط، وَالأَْرْكَانِ، وَالْوَاجِبَاتِ المَذْكُورَة سُنَّةٌ .......

قوله: «وما عدا الشرائط، والأركان، والواجبات المذكورة سُنَّة» فالواجبات ثمانية سبقت أدلتُها، ولكن في بعضها خلاف، فالتشهُّدُ الأول قيل: إنه سُنَّة[(638)].

واستُدِلَّ لذلك بسقوطه بالسَّهو.

والتكبيرات غير تكبيرة الإِحرام، والتسميع، والتحميد: قيل أيضاً: إنها سُنَّة[(639)].

واستُدِلَّ لذلك: بأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يذكرها للمسيء في صلاته[(640)].

أما تكبيرة الإِحرام فبالاتفاق أنها رُكنٌ[(641)]، ولكن الأقرب: أن التسميع، والتحميد، والتكبيرات غير ما استُثني واجبة، وسبقت الأدلَّة في ذلك[(642)].

أما التشهُّد الأول فنقول: إن عَدَمَ رجوع الرسول صلّى الله عليه وسلّم إليه لا يمنع الوجوب، لكنه يمنع القول بالرُّكنية، بل قد يقال: إنَّ سجودَه للسَّهو لتركه يدلُّ على الوجوب، لأن الأصل مَنْعُ الزيادة في الصَّلاةِ، وسُجود السَّهو قبل السَّلام زيادة في الصَّلاة، ولا ينتهك هذا المَنْع إلا لفعل واجب، فإذا وَجَبَ سجود السَّهو لتركه دَلَّ ذلك على وجوبه، وإلا لكان وجودُه وعدمه سواء.

وفي قوله: «الشرائط» فَعائل جَمْعُ فَعيلَة، كصحائف جَمْعُ صحيفة، فكأن المؤلِّف ـ رحمه الله ـ عَبَّرَ بالشرائط التي واحدها شريطة.

ما يجب للصَّلاة قبلها، وتتوقَّفُ عليها صحَّتها، كاستقبال القبلة، والطهارة، وسَتْر العورة، وما أشبه ذلك[(643)].

وقوله: «والأركان» سبقت أيضاً، والفَرْقُ بينها وبين الشرائط: أن الشرائط خارج الصلاة، والأركان في نفس الصلاة، فهي ماهيَّة الصلاة[(644)].

وقوله: «والواجبات» بالكسر؛ لأنها جَمْعُ مؤنَّث سالم، وجَمْعُ المؤنث السالم نصبه يكون بالكسر.

قوله: «المذكورة» بالنصب؛ لأنها صفة لمنصوب.

واعلم أنَّ «عدا» إذا اقترنت بها «ما» وَجَبَ نصب ما بعدها؛ لأنَّها تتعيَّن أن تكون فِعْلاً، وإنْ لم تقترن بها «ما» جاز فيما بعدها وجهان:

1 ـ الجر على أنها حرف جر.

2 ـ النصب على أنَّها فِعْل.

قوله: «سُنَّة» السُّنَّة في اصطلاح الفقهاء: هي ما أُمِرَ به لا على سبيل الإِلزام بالفعل. فتجتمع هي والواجب في أن كلًّا منهما مأمور به، وتنفصل عن الواجب أن: الواجب على سبيل الإِلزام، والسنَّة على غير سبيل الإِلزام.

فإن قال قائل: أيُّها أفضل الواجب أم السُّنَّة؟

قلنا: الأفضل الواجب بدليل السمع والعقل:

فالدليل السمعي: قوله سبحانه وتعالى في الحديث القُدسي: «ما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه»[(645)] وهذا صريح.

والدليل العقلي: أن إيجاب الله له على العباد يدلُّ على تأكُّده، وأنه لا يستقيم الدِّين إلا به، وعَدَم إلزام الله العباد بالسُّنَّة يَدلُّ على أنها ليست كتأكُّد الواجب، وما كان أوكد ففعله أحبّ إلى الله بلا شَكٍّ، ولولا محبَّة الله له ما ألزم به العباد، ومِن العجيب أن الشيطان يُخفِّفُ على الإِنسان أن يتصدَّق بالعشرة مِن ماله، ويُثقل عليه أن يؤدِّي درهماً واحداً زكاة عن ماله، فتجدُ الناسَ في باب الزَّكاة أشِحَّاء بُخلاء يلتمسون الرُّخص لعلهم يجدون عالماً يقول: ليس عليكم زَكاة في هذا. لكن في باب الصَّدقَة لا يهمُّه أن يتصدَّق بأكثر من الزَّكاة، فيجيء الشخص ويقول: ما تقول في الدَّيْنِ إذا كان على مُعْسِرٍ، هل فيه زكاة؟

فإذا قلت: نعم فيه زكاة؛ لأنه مالك تملِكُ أن تسقطه، وتملِكُ أن تطالب به، ولو متَّ لوُرِثَ عنك، فعليك الزكاة فيه، ولو كان على شخص مُعْسِرٍ، وهذا هو المشهور من مذهب الإِمام أحمد[(646)]، فيقول: عندي في هذه الفتوى نَظَرٌ، وهو عامي.

ثم يذهب إلى عالم آخر ويقول: ما تقول في دَيْنٍ على مُعْسِرٍ هل فيه زكاة؟

قال: لا، الدَّيْنُ الذي على مُعْسِرٍ كالمعدوم؛ لأنه لا يمكنك شرعاً أن تُطالب به، ولا أن تُطالب الشخص، قال تعالى: {{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}} قال: هذا هو الراجح، لأنه وافق هواه.

حتى في الصَّلاة الفريضة؛ يأتي الشيطان فيلعب على الإِنسان بالوساوس، ويفتح عليه كلَّ باب، فإذا جاءت النافلةُ خَشَعَ خشوعاً عجيباً، وهذا مِن الشيطان؛ لأنك إذا كنت تعطي النافلةَ شيئاً فأعطِ الفريضةَ أشياء؛ لأنها أحبُّ إلى الله، وهي رأس مالك في الحقيقة.

 

فَمَنْ تَرَكَ شَرْطاً لِغَيْرِ عُذْرٍ غَيْرَ النِّيَّةِ فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُط بِحَالٍ، ...........

قوله: «فمن ترك شَرْطاً لغير عُذر غير النية فإنها لا تسقط بحال» أي: مَن تَرَكَ شرطاً لغير عُذر بطلت صلاتُه، ولعُذر لم تبطل.

مثال ذلك: صَلَّى عُرياناً وهو قادر على السَّتر، نقول: تَرَكَ شرطاً لغير عُذر فتبطل صلاتُه. صَلَّى إلى غير القِبْلة، وهو يعلم القِبْلة تبطل صلاتُه، لأنه تَرَكَ شرطاً لغير عُذر. تَرَكَ الوُضُوء وصَلَّى، فصلاتُه باطلة، لأنه تَرَكَ الشرطَ مِن غير عُذر، أما إذا تَرَكَه لعُذر صحَّت الصلاة. فلو صَلَّى بغير وُضُوء ولا تيمُّم ـ لعدم القدرة عليهما ـ صحَّت صلاته.

والمؤلِّف ـ رحمه الله ـ استثنى «النية» لأن النية محلُّها القلب، ولا يمكن العجز عنها، لكن في الحقيقة يمكن النسيان فيها، مثل أن يأتي الإِنسان ليصلِّي الظُّهر، ثم يغيب عن خاطره نيةُ الظهر، وينوي العصر، وهذا يقع كثيراً، فهل تصحُّ صلاته أم لا؟

الجواب: لا تصحُّ؛ لأنه عَيَّنَ خِلاف فَرْضِ الوقت، فلا تصحُّ، لأن النيَّة لا تسقط بحال.

بقي أن يُقال: لو صَلَّى الإِنسان قبل الوقت، وهو يظنُّ أن الوقت قد دخل، فما حكم صلاته؟

الجواب: صلاته لا تجزئه عن الفرض، ويجب عليه إعادة الصلاة بعد دخول الوقت، وهذا مما يُستدرك على المؤلِّف؛ لأن ظاهر قوله: «لغير عذر» أن هذه الصورة التي ذكرت تصحُّ فيها الصلاة، مع أن الصلاة لا تصحُّ، فكلام المؤلِّف فيه شيء مِن الاستدراك على حسب التفصيل الذي ذكرنا.

 

أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَ رُكْنٍ أَوْ وَاجِبٍ بَطُلَتْ صَلاَتُه..........

قوله: «أو تعمد ترك ركن، أو واجب بطلت صلاته» ، مثال تَرْكِ الرُّكن: أن يتعمَّد تَرْكَ الركوع، ويسجد مِن القراءة إلى السُّجود فصلاته باطلة.

ولو أنه ندم وهو ساجد، ثم قام وأتى بالرُّكوع فلا ينفعه؛ لأنه بمجرد تَرْكه تبطل الصلاة، وعليه أن يعيد الصلاة من جديد.

ومثال تَرْكِ الواجب: لو تَرَكَ التشهُّد الأول متعمِّداً حتى قام، ثم ندم ورجع، فتبطل صلاته وإنْ رَجَعَ، لأنّه تعمَّد تَرْكه، وإذا تعمَّد تَرْكَ واجب بطلت صلاته.

 

 بِخِلاَفِ البَاقِي،...........

قوله: «بخلاف الباقي» أي: بعد الشروط، والأركان، والواجبات، فإن الصلاة لا تبطل بتَرْكه، ولو كان عمداً؛ لأنها سُنَنٌ مكمِّلة للصلاة، إن وُجِدَت صارت الصلاة أكمل، وإن عُدِمَت نقصت الصلاة، ولكنه نقص كمال، لا نقص وجوب.

 

وَمَا عَدَا ذلِكَ سُنَنٌ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ لاَ يُشْرَعُ السُّجُودُ لِتَرْكِهِ، وإنْ سَجَدَ فَلاَ بَأْسَ ...............

قوله: «وما عدا ذلك سُنن أقوال وأفعال» أي: ما عدا أركان الصلاة وواجباتها، وكلمة «ما» هنا بمعنى الذي، أي: والذي عدا ذلك. ومعنى «عدا»: أي: جاوز ذلك.

سُنن أقوال: أي: يُسَنُّ قولها.

وأفعال: أي: يُسَنُّ فِعْلها.

والسُّنَّة عند الفقهاء ـ رحمهم الله ـ غير السُّنَّة في اصطلاح الصحابة والتابعين، لأن السُّنَّة في اصطلاح الصحابة والتابعين تعني الطريقة، وقد تكون واجبة، وقد تكون مستحبَّة، فقول أنس بن مالك مثلاً: «مِن السُّنَّة إذا تزوَّج البكرَ على الثيب أقام عندها سبعاً، ثم قَسَمَ»[(647)]، السُّنَّة هنا الواجبة.

وما وَرَدَ عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال: «من السُّنَّة وَضْعُ اليد على اليد في الصلاة»[(648)]، وَوَرَدَ عن عليٍّ نحوه[(649)]، فهذا يعني به السُّنَّة المستحبَّة، لكن عند الفقهاء إذا قالوا: سُنَّة؛ فإنما يعنون السُّنَّة المستحبَّة فقط؛ من أجل التبيين والتوضيح والتفريق للناس بين الواجب الذي لا بُدَّ منه، وبين المستحب الذي يمكن تركه.

فمثلاً: الاستفتاح: سُنَّة، البسملة: سُنَّة، التعوذ: سُنَّة، قول آمين: سُنَّة، الزيادة على قراءة الفاتحة: سُنَّة، الزيادة على تسبيح الركوع والسجود: سُنَّة، وهذه سنن قولية، والجهر بالقراءة في موضعه: سُنَّة فعلية؛ لأن الجهر صفة للقراءة، وكذلك تطويل القراءة يُعتبر سُنَّة فِعْلية، أما المطول أو المجهور به فإنه قولي، الإِسرار بالقراءة في موضعه: سنة فعلية.

قوله: «لا يُشرع السجود لتركه، وإن سجد فلا بأس» كلمة «لا يُشرع» تشمَل الواجب والمستحب، فالواجب يُقال له: مشروع، والمستحبُّ يُقال له: مشروع، لأن كلًّا منهما مطلوب من الإنسان ومشروع أن يفعله.

فقوله: «لا يُشرع السجود لتركه» ، أي: لا يجب ولا يُسَنّ.

مثال ذلك:

رَجُلٌ نسيَ أن يقرأ البسملةَ في الفاتحة، فإذا قلنا بالقول الصحيح[(650)] أنها ليست من الفاتحة، وإنها سُنَّة فهل يسجد للسهو؟

نقول: لا يُشرع له أن يسجد للسهو، لأن هذا سُنَّة إنْ جاء به فهو أكمل، وإن لم يأتِ به فلا حَرَجَ، وعلى هذا فلا يُشرع السُّجود لتركه.

مثال آخر: رَجُلٌ تَرَكَ رَفْعَ اليدين عند الركوع، هل يُشرع أن يسجد للسهو؟

الجواب: لا يُشرع أن يسجد؛ لأنه سُنَّة، وعلى هذا؛ فكل سُنَّة يتركها المُصلِّي، فإنَّ السُّجودَ لها غير مشروع، لا على سبيل الوجوب، ولا على سبيل الاستحباب.

هذا تقرير كلام المؤلِّف ـ رحمه الله ـ.

وعُلِّلَ ذلك: بأنه تَرْكٌ لا تبطل به الصلاةُ، فلا يجب به السجود، وإذا لم يجب فلا دليل على مشروعيته، فلا يكون السُّجود له مشروعاً، لا على سبيل الوجوب، ولا على سبيل الاستحباب.

وقوله: «وإن سجد فلا بأس» أي: أنه لو سَجَدَ لِتَرْكِ سُنَّة فلا نقول: إن صلاتك تبطل؛ لأنك زدت زيادة غير مشروعة، ونفيُ المشروعية في كلام المؤلِّف ليس نفيًّا مطلقاً، وإلا لكان السجودُ بدعة، وكان مبطلاً للصلاة، كما قال بعض الفقهاء[(651)] قال: إنه إذا سَجَدَ لِتَرْكِ السُّنَّة فصلاتُه باطلة؛ لأننا إذا قلنا: لا يشرع؛ صار بدعة، وكل بدعة ضلالة، فإذا سَجَدَ فقد أتى بزيادة غير مشروعة فتبطل الصلاةُ، لكن المذهب: أن السجود لا بأس به، إلا أنه غير مشروع.

والقول الثاني (651) : أنَّ سجودَ السَّهو مشروع لترك المسنون، سواء كان مِن سُنَنِ الأقوال أم الأفعال؛ لعموم حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا نسيَ أحدُكم فَلْيَسْجدْ سجدتين»[(652)]، ولأنه إذا طُلب منه السجود انتبه لفعله حتى لا يتكرَّر منه السُّجود في كلِّ صلاة؛ لأن الغالب نسيان تلك السُّنَن؛ خصوصاً مَنْ لم يُواظب عليها.

وهذا الذي ذكره المؤلف ـ مِن كونه لا يُشرع السجود لتركه، وأنه إنْ سجد فلا بأس به ـ يدلُّ على قاعدة مفيدة وهي: أنَّ الشيء قد يكون جائزاً، وليس بمشروع، أي: يكون جائزاً أن تتعبَّد به، وليس بمشروع أن تتعبَّد به، وقد ذكرنا لهذا أمثلة فيما سبق يحضرنا منها:

أولاً: فِعْلُ العبادة عن الغير، كما لو تصدَّقَ إنسان لشخص ميت، فإن هذا جائز؛ لكن ليس بمشروع، أي: أننا لا نأمر الناس بأن يتصدَّقوا عن أمواتهم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمرْ به، ولم يفعله هو بنفسه حتى يكون مشروعاً، فهو لم يقل للأمة: تصدَّقوا عن أمواتكم، أو صوموا عنهم، أو صلُّوا عنهم، أو ما أشبه ذلك، ولم يفعله هو بنفسه، غاية ما هنالك أنه أَمَرَ من مات له ميت وعليه صيام أن يصوم عنه[(653)] لكن هذا في الواجب، وفَرْقٌ بين الواجب وغير الواجب.

ومنها: الرَّجُل الذي أمَّرَهُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على سريَّة بعثها؛ فكان يقرأ ويختم لهم بـ{{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}} فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك[(654)] ولكنه لم يقل للأمة: إذا قرأتم في صلاتكم فاختموا بـ{{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}} ولم يكن هو أيضاً يفعله عليه الصلاة والسلام، فدلَّ هذا على أنه ليس بمشروع، لكنه جائز لا بأس به.

ومنها أيضاً: الوِصال إلى السَّحر للصائم، فإنه جائز، أي: يجوز ألا يفطر إلا في آخر الليل، أقرَّه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السَّحر»[(655)] لكنه ليس بمشروع، أي: لا نقول للناس: الأفضل أن يمسكوا حتى يكون السَّحَر، بل نقول: الأفضل أن يبادروا بالفِطر.

وهذه المسألة التي ذكرها المؤلِّف رحمه الله أنه إذا تَرَكَ سُنَّة قولية أو فِعْلِيَّة في الصلاة؛ لم يُشرع له السُّجود، وإن سجد فلا بأس.

وعندي في ذلك تفصيل، وهو: أن الإِنسان إذا تَرَكَ شيئاً من الأقوال أو الأفعال المستحبَّة نسياناً، وكان من عادته أن يفعله فإنه يُشرع أن يسجد جَبْراً لهذا النقص الذي هو نَقْصُ كمال، لا نقص واجب؛ لعموم قوله في الحديث: «لكلِّ سهو سجدتان»[(656)]، وفي «صحيح مسلم»: «إذا نسيَ أحدُكم، فَلْيَسْجُدْ سَجدتين»[(657)] فإن هذا عام، أما إذا تَرَكَ سُنَّة ليس من عادته أن يفعلها، فهذا لا يُسَنُّ له السُّجود، لأنه لم يطرأ على باله أن يفعلها.

مسألة: مِن جملة المسنونات في الصلاة الخشوع، وليس الخشوع الذي هو البكاء، ولكن الخشوع حضور القلب وسكون الأطراف، أي: أن يكون قلبك حاضراً مستحضراً ما يقول وما يفعل في صلاته، ومستحضراً أنه بين يدي الله عزّ وجل، وأنه يناجي رَبَّه، ولا شَكَّ أنه مِن كمال الصلاة، وأن الصلاة بدونه كالجسد بلا روح.

وذهب بعضُ أهل العلم، إلى أن الخشوع في الصلاة واجب، وأنه إذا غَلَبَ الوسواسُ على أكثر الصَّلاةِ فإنَّها لا تصحُّ، وهذه قد تُشْكِلُ في بادئ الأمر ويقال: لو قلنا بهذا القول لأوجبنا على الناس غالباً كلَّما صلُّوا أن يعيدوا صلاتهم، وإذا صَلُّوا المعادة وحصل وسواس أعادوا وهلم جَرَّا! لكن عندي أن هذا ليس بوارد؛ لأن الإِنسان إذا أُمِرَ أن يعيد صلاةً مرَّة واحدة فإنه في المستقبل سوف يخشع ولا يفكِّرُ في شيء، فالقول بأنه من الواجبات، وأنه إذا غَلَبَ الوسواسُ على أكثر الصلاة بطلت الصلاة؛ لا شَكَّ أنه قولٌ وجيه، لأن الخشوع لُبُّ الصلاة وروحها، إلا أنه يعكِّرُ على وجاهته ما أخبر به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بأن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر وله ضُرَاطٌ ـ من شِدَّة وَقْعِ الأذان عليه ـ ثم إذا فَرَغَ الأذان حضر، وإذا حضر دَخَلَ على الإِنسان في صلاته، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لِمَا لم يكن يذكر، حتى لا يدري كم صَلَّى[(658)]. فهذا الحديث نصٌّ بأن الوسواس وإنْ كَثُرَ لا يبطل الصلاة، وكذلك عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها؛ ما لم تعمل أو تتكلَّم»[(659)] فإنه يشمَل مَنْ كَثُرَ وسواسه في صلاته.

وعلى كُلِّ حال؛ ينبغي للإِنسان أن يحاول بقَدْرِ ما يستطيع حضور قلبه في الصلاة، ولا شَكَّ أن الشيطان سوف يهاجمه مهاجمة كبيرة، لأنه أقسم بعزَّةِ الله أن يغوي جميع الناس إلا عباد الله المخلصين، لكن كلما هاجمك استعذْ بالله من الشيطان الرجيم، كما أَمَرَ بذلك النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم[(660)] ولا تزال تعوِّد نفسك على حضور القلب في الصلاة حتى يكون عادة لك.

 

 

 

 

 

المصدر : موقع الشيخ ابن عثيمين

 

البحث عن:

 

 

الصفحة الرئيسية         -          من نحن         -          المنتدى         -          اتصل بنا    

Hit Counter

جميع الحقوق محفوظة لموقع أدبني ربي

www.2dbniraby.com